قلنا: وعن كونه كالواقع من جهة غير فاعل الضرر احترازاً ممن يلقي صبياً في النار أو البرد فيميته الله، فضرر الإماتة هو كالواقع من جهة الملقى حيث قد علم أن الله يفعل ذلك بمجرى العادة.
وأما إن كل ظلم قبيح فذلك ضروري في الشاهد، ولا علة لقبحه، إلا كونه ظلماً بدليل أن من علم ذلك علم قبحه ومن جهله جهل قبحه.
فصل
ومحكم السمع يطابق ما ذهبنا إليه، قال تعالى :{ولا تزر وازرة وزر أخرى} {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، {فكلاً أخذنا بذنبه}، {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} الآية: {والوزن يومئذٍ الحق} {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا} {إن الله لا يظلم الناس شيئاً} {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} {يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضراً} الآية {وتوفى كل نفس ما عملت} {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} {بما عملوا} {بما ظلموا} {بما كانوا يفسقون} بما قدمت أيديهم بما قدمت يداك وإن الله ليس بظلام للعبيد} والقرآن مشحون بأمثال هذا مما لا يحتمل التأويل.
فصل في شبههم
أما من جهة العقل فلا شبهة لهم، وأما من جهة السع فتمسكوا بشيء من المتشابه، والأصل فيه على الجملة ما تقدم من أن مذهبهم يقتضي أن لا يوثق بالسمع لا سيما وهذه المسألة لا يؤخذ فيها بالسمع إلاَّ مؤكداً كلنا يجيب تبرعاً عن الآيات التي ذكروها.
فمنها قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها؛ لأن الحمل المعقول إنما يكون في ماله نقل، وذلك لا يصح إلا في الأجسام؛ ولأن الظاهر يقتضي التخفيف عن المحمول من أوزارهم؛ لأن من حمل ثقل غيره فقد خفف عنه والإجماع على خلافه.

وبعد، يقتضي ظاهرها مخالفة الإجماع فهو يقتضي مخالفة العقل والكتاب والسنة، أما العقل فلا شك أنه يقبح أخذ الغير بجرم غيره أو من غير جرم.
وأما الكتاب فقوله: {وماهم بحاملين من خطاياهم من شيء} /218/ وقوله: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها و{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} وسائر ما تقدم ذكره.
وأما السنة فهي في ذلك أكثر من أن تحصى، ولو ادعى في ذلك الضرورة من الدين لأمكن.
إذا ثبت هذا فالمعنى يحملون أوزارهم، ومثل أوزار الذين يضلونهم لأجل إضلالهم إياهم، وذلك لأنهم فعلوا، وتبين ضلالهم وإضلالهم لغيرهم، فأضف أحدها إليهم والثاني إلى الأتباع ليقع التمييز بين ما حملوه لضلالهم وبين ما حملوه لإضلالهم وإضافة المصدر إلى المفعول أكثر من أن يحصى، وعلى مثل هذا حمل قوله: {بإثمي وإثمك} أي بإثمك الذي اختصصت به وبإثمك الذي اكتسبته بقتلي، فأضافه إلى نفسه ليقع التمييز، وهذا في ألسنة الناس كثير يقال حمل إثم هذه البهيمة بقتله لها، أي حمل إثمهما بقتلها، وعلى هذا حمل قوله عليه السلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) أي ومثل وزر من عمل بها؛ لأجل الإغواء، ولولا هذا لسقط وزر الذي عملها؛ لأن الذي قد سنها قد حمله.
ومنها قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} قالوا: فبين أنه يصيب الظالم وغيره.
والجواب: هذا التفسير فاسد من جهة اللفظ ومن جهة محكم الكتاب والسنة، ومن جهة العقل.

أما من جهة اللفظ فإنهم بنوا على أن قوله: {لا تصيبن} نعت للفتنة وليس كذلك ولا هو خبر لها أيضاً؛ لأن نون التأكيد لا تدخل في النعت ولا في الخبر، وإنما تدخل عند النحاة في ستة مواضع في الأمر نحو: اضربن والنهي نحو لا تضربن، وفي المستقبل مع الأمر نحو: {لتركبن طبقاً عن طبق}. وفي الاستفهام نحو: {هل يذهبن كيده ما يغيظ} وفي جواب القسم نحو: {وتالله لأكيدن أصنامكم}. وفي أما للفرق بينها وبين التخيير نحو: {فإما يذهبن}
وأما من جهة المعنى فهو أن الآية تحذير ولا معنى للتحذير إلا إذا أمكن الاحتراز مما حذر منه، وإذا كانت الفتنة تصيب الظالم وغيره والمتقي وغيره كان الأمر بالإبقاء لا معنى له؛ لأنه يكون التقدير: اتقوا فتنة تصيبكم سواء اتقيتم أم لا.
وأما من جهة العقل فهو ما تقدم، وكذلك من جهة الكتاب والسنة، وقد قال تعالى: {قل أرأيتكم إن آتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون}.
إذا ثبت هذا فالمعنى على ما قاله بعض النحاة أنها جزاء فيه طرف من النهي أو القسم كما يقول: انزل من الدابة لا نطرحنك ولا يطرحك، فهو جواب /220/ الأمر بلفظ النهي، أي انزل فإن تنزل لا يطرحنك وعلى مثل هذا حمل قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده} ويجوز أن يكون الكلام متضمناً معنى كي، أي اتقوا فتنة كي لا تصيبن الذين ظلموا وادخلوا مساكنكم كي لا يحطمنكم، فتكون الآية دليلاً لنا عليهم.
ومنها قوله: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} فوبخها بذنب غيرها.
والجواب: لا تعلق بظاهرها؛ لأن أصل السؤال للإستفهام وهو مستحيل في حقه تعالى؛ ولأن الظاهر يقتضي أن لها ذنباً، والمعنى أنه تعالى وبخ الظالم لها ووجه السؤال إلى المظلوم للقطع على أنه ليس له جرم ومبالغة في تأنيب الظالم، كما يقول العرب للمظلوم: لماذا ضربك زيد ولأي جرم شتمك إذا كانوا لا يعرفون له ذنباً، أي لا ذنب لك يقتضي ما فعل بك.

ومثل هذا قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} وأورده تعالى تقريعاً للقائل بهذه المقالة.
ومنها قوله تعالى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا}.
والجواب: أن الظاهر متروك؛ لأنه لو تيقن موسى أن الله يفعل ذلك لما كان للإستخبار معنى، فدل على أنه غير متيقن لما يدعى المخالف بيقينه والاستفهام عندنا استهفام استنكار وتبعيد، كأنه قال: لست تهلكنا بما فعل السفهاء منا كما قال تعالى: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} أي لسنا نطعم، وقوله: {أنؤمن لبشرين مثلنا} ونحوه.
ومنها قوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} فبين أنه يعذب الجلود التي لم تعص.
والجواب: أن المعذب هو الجملة التي عصت لأنفس الجلد والجلود بمنزلة ما نزيده فيهم من تعظيم الخلقة وتشويهها والمعذب هو الجملة لا هذه الزوائد.
وقيل: إن المراد بالتبديل إعادة الجلود، وسمى الإعادة تبديلاً كما قال تعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنيتن} ولم يرد أنه بدل أصلهما وإنما المراد أنه أعاد من جناتهم التي كانت قبل خراب السد هاتين الجنتين.
ومنها قوله: {يا نساء النبي} إلى قوله: {يضاعف لها العذاب ضعفين}.
والجواب: يقال: ومن أين لكم أنهن لا يستحققن ضعفي ما يستحق غيرهن وجائز اختلاف الحدود باختلاف المصالح واختلاف العذاب باختلاف أحوال العصاة، ولهذا كان حد الحر ضعف حد العيد، ولا يمتنع أن تكون المفسدة في إتيانهن الفاحشة أعظم من غيرهنَّ، ولئن خيانة النبي ليس كخيانة غيره، ولهذا قال تعالى لنبيه /221/: {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} أي وضعف عذاب الحياة.
تنبيه
اعلم أن الظاهر أن الخصوم يستدلون بهذه الشبهة على وقوع التعذيب من غير ذنب، وليس ذلك مذهبهم وإنما مذهبهم الجواز ويوافقون في أنه لا يقع فإذاً لا شبهة لهم.
فصل
قطع أهل الحشو على أن أطفال المشركين يعذبون بذنوب آبائهم، والكلام عليهم ما تقدم.

وشبهتهم من جهة العقل هي أن حكمهم كحكم آبائهم في الدنيا في السبي والاسترقاق والمنع من الدفن في مقابر المسلمين، فكذلك في الآخرة.
والجواب: يمنع الجامع وبالمعارضة بكونهم لا يقطعون بسرقة آبائهم ولا يجلدون بزناهم ولا يقادون بقتلهم، والتحقيق أنه إنما فعل بهم ذلك في الدنيا على طريق المحنة كالأمراض التي تصيبهم عبرة لآبائهم وزجزاً لهم عن الكفر، ولهم في مقابلة ذلك من الأعواض ما يوفى عليه.
قالوا: يجب أن يكون العقاب على أبلغ الوجوه وأبلغ الوجوه أن يرى قرة عينه تعذب.
والجواب: لا نسلم أنه يقع على أبلغ الوجوه؛ لأن المعاقب يستحق قدراً من العقاب في كل وقت، ولا يصح الزيادة عليه، ولهذا يكن عذاب الجاحد للربوبية أعظم من عذاب الجاحد للنبوة.
وبعد، فيجب أن يعذب الأنبياء والمؤمنون بذنوب آبائهم؛ لأن ذلك أبلغ في غم آبائهم.
وبعد، فكل في الآخرة مشغول بنفسه كما حكى الله تعالى.
وشبهتهم من جهة السمع ما رووه عن خديجة أنها سألت النبي عليه السلام عن أطفال كانوا لها في الجاهليَّة، فقال: لو شئت لأسمعتك صغارهم في النار.
والجواب: لا نسلم صحة هذا الخبر عنه عليه السلام وإن صح فأحادي.
وبعد، فهو معارض بدلالة العقل ومحكم القرآن، وبقوله عليه السلام: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستقض، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم)).
وفي الحديث أنه عليه السلام سئل عن أولاد المشركين، فقال: هم خدم أهل الجنة، والمروي أنه عليه السلام نهى في بعض الغزوات عن قتل الأطفال، فقيل: أو ليسوا أولاد المشركين؟ قال: أوليس أحباركم أولاد المشركين ـ يعي نفسه ـ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها إما شاكراً وإما كفوراً.
وبعد، فالطفل قد يستعمل في البالغ لقريب عهده بالطفولة كما قال:
عرضت لعامرٍ والخيل تردي .... بأطفال الحروب مشمرات
/222/

فصل [في ذكر بعض ما يلزمهم]
يقال: إذا كان الثواب والعقل إنما هو لأجل اختيار الله ابتدأ لا لأجل طاعة ولا معصية فما معنى الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية؟، وما معنى الجزاء والحساب ونصب المووازين ونشر الصحف وإرسال الرسل.
حكي أن مجبراً قص فقال: يغفر الله يوم القيامة لجميع مذنبي أمة محمد ثم ينادي يا عبادي أبمثل هذا يؤتى إن كان لكم عنا في الطاعة فما بالكم لم تأتوني بالمعاصي لأغفر لكم. فقال: معتزلي هذا أغر بالمعاصي، فقال: نعم رغماً لكم.
واحتضر مجبر وعليه دين فجمع أولاده وقال: قد علمت أني من إحدى القبضتين فاحتفظوا بمالكم ولا تقضوا شيئاً من ديوني، فإن كنت من أهل الجنة لم يضرني وإن كنت ن أهل النار لم ينفعني شيء.
وقال عدلي لمجبر: ما تقول في مشرك مات طفله حال الشرك ثم أسلم هو؟ فقال المجبر: المشرك الذي أسلم في الجنة، وولده في النار.
وقال عدلي لمجبر: إذا كانت ذنوب المسلمين تحمل على الكفار فهي إذاً أول ما يُفعل لأنه يزداد بها غم الكفار.

القول في القضاء والقدر
القضاء يستعمل في اللغة بمعنى الخلق نحو: {قضاهن سبع سماوات} وبمعنى الأمر نحو: {وقضا ربك ألا تبعدوا إلا إياه} وبمعنى الإعلام نحو: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن} ونحو: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع} وبمعنى الفراغ نحو: {فلما قضى موسى الأجل} ونحو: {فلما قضى ولوا إلى قومهم}، وأما القدر فلم يرد إلاَّ بمعنى الكتابة والعلم نحو قوله:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر.. في الصحف الأولى التي كان شطر.. أمرك هذا فاجتنب منه النتر، أي علم وكتب. وكقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} أي بعلم فإذا أرادوا به التقدير فق دورد بمعنى الخلق نحو: {وقدر فيها أقواتها} وبمعنى الكتابة أيضاً والعلم نحو: {قدرناها من الغابرين}.
فصل
واتفق أهل القبلة على إثبات القضاء والقدر في جميع أفعال العباد بمعنى العلم والكتابة، واتفقوا على بقية بمعنى الأمر، واختلفوا في هل قضا أفعال العباد وقدرها بمعنى خلقها فأنكره أهل العدل.
وقال به أهل الجبر.
لنا: ما تقدم في مسألة خلق الأفعال.

وبعد، فقد وقع الإجماع على وجوب الرضى بقضاء الله، ووقع الإجماع على قبح الرضى بالمعاصي، وأخبر الله عن نفسه أنه لا يرضى الكفر، وجاء في الحديث: ((من لم يشكر نعمائي ويصبر على بلائي ويرضى بقضائي فليتخذ رباً سواي)).
وبعد، فوقع الإجماع أيضاً على أن قضاء الله حق لقوله تعالى /223/: {والله يقضي بالحق} ووقع الإجماع على أن الكفر باطل كما قال تعالى: {وزهق الباطل} فلو كانت المعاصي بقضائه لكانت حقاً.
وبعد، فإذا جاز القضى بالمعاصي بمعنى الخلق جاز أيضاً القضاء بها، بمعنى الأمر؛ لأنه ليس الأمر بالكفر بأبلغ من فعله في الكافر ومنعه من الإيمان.
وبعد، فقد قال تعالى: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً}، فلو كانت المعاصي من القدر لكانت أمر الله، والمخالف لا يقول بذلك.
فصل [في بيان من القدرية]
اتفق الناس على أنه اسم ذم لما ورد الأثر بذمهم ولعنهم والنهي عن مجالستهم وتشبيههم بالمجوس، وعندنا أنهم المعنيون به وعندهم أنا المعنيون به.
ودليلنا اللغة، والمعنى والآثار.
أما اللغة فهو أن الاسم إنما يشتقه أهل اللغة لمن أثبت الشيء لا لمن نفاه، والخصوم أثبتوا القدر بالمعنى المختلف فيه، ونحن ننفيه وهم أحق بهذا الاسم، كما أن الموحد من أثبت الواحد، والثنوي من أثبت الثاني، والمجسم من أثبت التجسيم، والمجبر من أثبت الجبر، والعدلي من أثبت العدل، وأشباه هذا كثير، فكذلك القدري لمن اثبت القدر، ولو كان اسماً لمن نفاه لكان المسلمون ثنوية؛ لأنهم ينفون الثاني.
فإن قالوا: أنتم القدريّة لأنكم تثبتون القدر على أفعالكم، فالاسم من القدرة.

قلنا: لو كان كذلك لكنتم أيضاً قدرية؛ لأنكم تثبتون القدرة لله تعالى، وأكثرهم يثبت القدرة للعباد، وإن زعم أنها موجبة، وكان يلزم أن يكون الله قدرياً؛ لأنه اثبت القدرة لنفسه.
على أن اسم المشتق من إثبات القدرة قُدَري ـ بضم القاف ـ والخبر ورد بفتحها.
وبعد، فهم يلهجون بالقدر في كل قضية، وقد جرت عادت أهل اللغة بأن من أكثر اللهج بشيء سمي به كما يقال تمري لبني لمن أكثر اللهج بذلك.
وأما من جهة المعنى فهو أن النبي عليه السلام ذمهم ونهى عن مجالستهم وحكم بأنهم شهود إبليس وخصماء الرحمن وشبههم بالمجوس فسبيلنا أن ينظر في معاني هذه الأطراف، أما الذم فوجدناهم أحق به؛ لأنهم أضافوا إلى الله تعالى كل قبيح من ظلم وعبث وسفهٍ وتكليف ما لا يطاق والإضلال عن الدين ونحو ذلك مما لو نسبته لأحدهم لأنف منه ونفاه عن نفسه.
ونحن نقول: إن الله عدل حكيم متنزه عن كل نقص في الذات والفعل منعم على كل الخلق، له الحجة على المكلفين.
على أنا قد بينا فساد مذهبهم ولا ذم في المذهب أبلغ من فساده.
وأما النهي عن المجالسة فنظرنا فوجدنا في مجالستهم من المفسدة ما لا يخفى، أما أولاً فلأنهم يغرون بالمعاصي ويسهلونها بقولهم ما قدره الله كان وما لم يقدره لم يكن، فلا وجه للصبر عن المعصية والتحفظ /224/ منها.
وأما ثانياً فلأنهم يؤيسون من رحمة الله وعدله لتجويزهم أنه يعذب من غير ذنب، وأنه خلق خلقاً للنار، فلا تنفعهم الطاعة، وآخرين للجنة فلا تضرهم المعصية، فلا تسكن نفس مطيع بطاعة ولا تخاف نفس عاصٍ من معصية.
وأما ثالثاً فلأنهم أساءوا الثناء على الله تعالى بقولهم: كل قبيح وفساد من قبله وأحسنوا الثناء على العصاة بقولهم: لا حيلة لهم.
وأما كونهم شهود إبليس وخصماء الرحمن فلأن الله تعالى إذا قال لإبليس ما منعك أن تسجد ولم كفرت فتقول: أنت: يا رب منعتني من السجود، وقضيت علي بالكفر، فهو منسوب إليك ونسبته إليّ كذب لا صحة له ولاحجة لك عليّ.

فإذا قال الله تعالى: {من شاهدك على هذا فلا يجد غير أهل هذه المقالة}.
حكى الحاكم رحمه الله أنه كان في البصرة نصراني فكتب كتاباً قال فيه شهود أهل هذا الكتاب المسمون يشهدون أن فلاناً النصراني فعل الله فيه الكفر وقضاه عليه ومنعه من الإيمان، وأنه أتى في ما أتى من قبل الله تعالى، ثم كان يأتي المجبرة فيأخذ خطوطهم بذلك ويقول: اكتبوا حتى تشهدوا لي يوم القيامة، فكانوا يكتبون وأهل العدل يسخرون منهم
ويحكى أيضاً أن مجبراً سمع قارئاً يقرأ: {فقال ما منعك أن تسجد} فقال: هو والله منعه، ولو قال إبليس منعه لكان صادقاً، وقد أخطأ إبليس الحجَّة، ولو كنت حاضراً لقلت منعته.
وأما شبهتهم بالمجوس فمن وجوه: منها أن المجوس يقولون: أحد الإلهين يقدر على الخير ولا يقدر على الشر، والآخر بالعكس، والمجبرة يقولون: الكافر يقدر على الكفر ولا يقدر على الإيمان والمؤمن بالعكس.
ومنها أن المجوس يعلقون المدح والذم بما لا اختيار في فعله ولا تركه.
يحكى أنهم يرمون بالبقرة من شاهق ويقولون: انزلي لا تنزلين فإذا وقعت على الأرض قالوا: عصت فأكلوا لحمها، وكذلك مذهب الخصوم في الكافر والمؤمن.
ومنها أن المجوس علقوا هذه الأحكام من مدح وذم وأمر ونهي بما لا يعقل وهو الطبع، والمخالفون علقوا ذلك بما لا يعقل وهو الكسب.
ومنها أن المجوس علقوا ينكحون أمهاتهم وأخواتهم ويفعلون القبائح ويقولون كل ذلك إرادة الله منا، وهو من الله، وكذلك قول المخالفين في المعاصي.
قالوا: بل أنتم المجوس لأنكم تضيفون الشرور إلى الشيطان وتنفونها عن الله، فكذلك مذهب المجوس.
قلنا: الشرور التي أضافتها المجوس إلى الشيطان هي الأمراض والمصائب والصور التي تنفر عنها النفوس وكل هذا نحن نضيفه إلى الله.

34 / 75
ع
En
A+
A-