ومنها: قوله: {وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائه أن يكون القرآن هو الفاعل لذلك، وعند الخصم أن المتولي لذلك هو الله، ولا فائدة في القرآن والمعنى أنه كثر طغيانهم عند سماعه وازدادوا عتواً وكفراً وتكبراً عن اتباع الحق، لا يقال ما زادتك موعظتي إلا إصراراً، وكقوله تعالى: {فلم يزدهم دعائي إلا فراراً}، أي ما أرادوا عنده إلا فراراً ونحوه، {فما زادهم إلا نفوراً}، وكقوله تعالى: {رب إنهن أظللن كثيراً من الناس} أي ضل عندهن، وأشباه ذلك.
ومنها قوله: {فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم}
والجواب: من أين لهم أن الله الذي أعقبهم نفاقاً وهو المتنازع، وعندنا أن الضمير في قوله: {فاعقبهم} عائد إلى التولي والإعراض والبخل؛ لأنه أقرب المذكورين؛ ولأن في إضافته إلى الله نقضاً لمحكم الكتاب وأدلة العقل.
ومنها: قوله: {أضحك وأبكي} والضحك والبكاء قد يقعان معصية.
والجواب: أما البكاء فهو من فعل الله، ولا يصح كونه معصية، ولهذا لا يذم العقلاء، ولا أهل الشرع من بدرة البكاء، وكذلك الضحك حيث يقع من دون اختيار، وحيث يقع بالاختيار، فقد تكون طاعة، وقد يكون معصية، والمراد بقوله: {أضحك وأبكى} أنه فعل ما عنده يقع الضحك كما يقول أضحكني زيد /212/ أي فعل ما لأجله ضحكت، وليس في الآية أنه خلق الضحك، ويجوز أن يكون المراد خلقه خلقه يتمكن معها من الضحك، ولهذا يختص بذلك من بين سائر الحيوانات.
ومنها قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} لأن المراد أنعمت عليهم بالإيمان.
والجواب: هب أنه كذلك، فلسنا نمنع القول بأن الله أنعم بالإيمان، ولكن بمعنى أن الله قدر عليه ولطف فيه، ووفق فيه، ويجوز أن يكون المراد: الذين أنعمت عليهم بالنصر الذي آتيتهم وحسن الثناء عليهم وإنجاز ما وعدتهم ونحو ذلك.
القول في المتولدات
المتولد، هو الفعل الموجود بواسطة موجبة، كالعلم الحاصل بواسطة النظر والألم الحاصل بواسطة التفريق والمبتدأ، يقابله وهما يرفان، فإن المسبب والسبب في اغلب الأحوال ويفارقان المباشر والمتعدي مفارقة الأعم للأخص؛ لأن المباشر هو الموجود في محل القدرة عليه والمتعدي، هو الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، فكل متعد متولد ولا عكس، وكل مباشر مبتدأ بحسب الخلاف بين الشيوخ، ولا عكس، والحاصل أنه يعتبر في المباشر والمتعدي محل القدرة، فلا يصح إطلاقهما على أفعاله تعالى؛ لأنها كلها مخترعة.
فصل
والأسباب المولدة ثلاثة، وهي الاعتماد والكون والنظر، والمسببات ستة، فالاعتماد يولد ثلاثة اعتماداً مثله، وكوناً وصوتاً، والكون يولد الألم وما هو من جنسه، والتأليف والنظر يولد العلم، وكلما كان سبباً صح أن يكون مسبباً إلاَّ النظر، وكلما يصح من الله تعالى متولداً يصح منه مبتدأ، وكذلك من الواحد منا إلاَّ في الألم والتأليف والصوت فإنا لا نفعلها إلاَّ متولدة.
فصل
وقد ذهب أبو علي إلى أن الله تعالى لا يفعل بسبب، ويبطله ما نعلم أن كثيراً من أفعاله تعالى واقع بحسب غيره كسير السفينة وحركة الرحى عند قوة الريح، والماء ونحو ذلك.
وبالجملة فالأسباب تولد لما هي عليه، إلا لأحوال الفاعلين فلا يختلف باختلافهم، ألا ترى أن الاعتماد يولد لاختصاصه بالجهة، فمتى وجد ولد لا محالة إذا لم يكن مانع، ولا يقف توليده على اختيار مختار، وكذلك التفريق يولد الألم في بدن الحي لا محالة إذا انتفت الصحة، فإذا ولدت هذه الأسباب وهي من فعلنا ولدت وهي من فعل الله أيضاً لولا ذلك لجاز أن يولد إذا فعلها زيد، ولا يولد إذا فعلها عمرو، ويولد في المشرق دون المغرب، وخلافه معلوم.
شبهة: إنه كان يلزم أن يكون الله تعالى محتاجاً إلى السبب.
والجواب: لا نسلمه؛ لأن كل جنس يصح منه تعالى متولداً يصح منه ابتداء، فأما عين ما يوجد متولداً فهو وإن كان لا يصح عند أصحابنا إيجاده مبتدأ، فلذلك لا تقتضى الحاجة إلى السبب؛ لأنه أمر يرجع إلى الفعل نفسه، وهو أنه كأن يكون له في الوجود وجهان، فيؤدي إلى صحة مقدور بين قادرين، وصار الحال في احتياج الفعل المعين عندهم إلى سبب واستحالته من دونه كالحال في احتياج الغرض المعين إلى محل معين، واستحالة وجوده من دونه في أن ذلك لا يقتضي وصف الباري تعالى بالحاجة في الموضعين.
فصل
كل شيء يتولد عن فعل العبد فهو فعله عند جمهور أصحابنا. وقال الجاحظ: ما عدا الإرادة واقع بطبع المحل، وبه قال النظام ومعمر في ما يتعدى محل القدرة، إلا أن النظام يجعله بواسطة محل الطبع.
وقال ثمامة: ما عدا الإرادة حدث لا محدث له، وقال أهل الجبر: جميع المتولدات مما يتفرد الله به.
لنا: ما تقدم من وقوع أسبابها على قصودنا، ودواعينا، وحصولها بحسب قدرنا وآلاتنا وبحسب ما نفعله من الأسباب في الكمية والمطابقة، ويتعلق الأمر بها والنهي عنها والمدح والذم عليها ونحو ذلك مما تقدم ذكره، وليس خروجها عن الاختيار عند وقوع أسبابها يخرجها عن كونها فعلاً لنا كما أن خروج المبتدآت بوقوعها عن الاختيار لا يخرجها عن كونها فعّلا لنا.
ويبطل قول من علقها بالطبع أن الطبع غير معقول، إلا أن يريدوا به السبب فيقع الخلاف في غاية، وبعد فيلزمهم في المعجزات أن تكون بطبع المحل فلا تقع ثقة بالنبوة، وكذلك كان يلزم مثله في أصول النعم.
شبهتهم: إن المراد والمسبب يجبان عند حصول الإرادة والسبب ولا يتعلقان بالاختيار كالمعلولات.
والجواب: لا نسلم وجوب(1) المراد عند الإرادة؛ لأنه إن جعل إيجابها إيجاب العلل لم يصح؛ لأن العلل إنما توجب الصفات والأحكام دون الذوات، ولأنه كان إذا تزايدت الإرادة تزايد وجود المراد، ولأنه كان يلزم إذا قارنت أول حروف الخبر أن لا يقع الكلام بها خبراً لأن ما يقضى ن العلل فلأنا ننزله، ولأنه كان يجب اختصاصها بما هي علة فيه، وذلك لا يصح إلا بعد وجوده، فكيف يجعل علة فيه، ووجوده سابق لاختصاصها به، ولأن محل الإرادة غير محل المراد، فكيف يؤثر في غير محلها، ولأنه كان يجب وجود المعزوم عليه عند وجود العزم؛ لأنه أراده، وكان لا يصح النهي عن المراد بعد حصول الإرادة، ولا أن يرجع المريد عما أراده. وأن جعل إيجاب الأسباب فباطل أيضاً لأنه يصح تعلق الإرادة بفعل الغير، ولا يكون سبباً فيه، ولأنه كان إذا اشترك جماعة في إرادة شيء كان معذوراً لكلهم، ولأنه كان يلزم في الضعيف إذا أراد المشي أن يقع لأن قدرة السبب كافية في وقوع /214/ المسبب وإلا بطل كونه مسبباً؛ ولأنه كان يلزم إذا خلق الله في أحدنا إرادة دخول النار مع علمه بما فيها من المضرة أن يدخلها، ولأنه قد يريد أحدنا ما هو متولد عن أحد الأسباب المذكورة، والشيء لا يكون مسبباً عن سببين؛ ولأنه إذا وجب وجود المراد عند وجود الإرادة لم يكن أحدهما بأن يكون سبباً في الآخر أولى من العكس، ولأنه كان يجب إذا أراد أحدنا الكتابة وسائر الأفعال المحكمة أن يقع وإن لم يكن عالماً وكله باطل.
وأما قولهم: يجب المسبب عند السبب فغير مسلم أيضاً على الإطلاق؛ لأنه يجوز أن يعرض عارض يمنع من وقوع المسبب وإن وقع السبب، وأما قياسهم ذلك على العلل فغير صحيح؛ لأن الأدلة فصلت بين المعلول والمسبب، فإن المسبب ذات موجودة كوجود السبب وحادثة كحدوثه، فأمكن تعليقها بالقادر بخلاف المعلول، فإنه ليس بذات، وأيضاً فالعلل لا تقف في الإيجاب على شرط بخلاف الأسباب.
فصل
__________
(1) . في نسخة: وجود.
وأما الكلام على المجبرة فجميع ما تقدم في خلق الأفعال متوجه عليهم هاهنا؛ لأن أكثر ما كلفناه فعلاً وتركاً من المتولدات كالصلوات والزكوات والحج وقضاء الدين ورد الوديعة والظلم والكذب والجلب والدفع والأدعية والصناعات والكتابات ونحو ذلك، ويلزمهم أن يكون الله هو المتفرد بسب نفسه وقتل الأنبياء وجميع الأكاذيب؛ لأن كل فعل ذلك متولد عن الاعتمادات.
والذي يختص هذا المكان من شبههم أن قالوا: كان يلزم أن يكون العاجز فاعلاً بل الميت، بل المعدوم بأن يرمي ثم يعدم قبل الإصابة.
والجواب: أتريدون بكونه فاعلاً أنه حال الموت والعجز مستعمل قدرته في الأحداث فغير لازم، أم تريدون أنه وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه فهو صحيح فما يلزم منه. يزيده وضحوحاً: أنه يستحق الذم على الإصابة الحاصلة حال الموت أو العجز، ويصح أن يتوب من الإصابة قبل وقوعها لكونها كالواقعة بوقوع سببها وكل ذلك لا يصح في ما ليس بفعل الإنسان.
قالوا: فهذا يقتضي أن يكون قد استحق العقاب في حال موته وإن لم يستحقه في حال حياته، وهذا شنيع من القول.
قلنا: أما على قول شيخنا أبي هاشم ـ وهو الصحيح ـ فاستحقاق الذم على المسبب هو في حال وقوع السبب؛ لأن المسبب حينئذ يكون في حكم الواقع، ولهذا صحت التوبة عنه، ومتى منع من وقوعه مانع زال استحقاق الذم /215/ لأن استمرار استحقاق الذم مشروط بوقوعه، وأما على قول شيخنا أبو علي قيل وهو أحد قولي أبي هاشم فالذم يستحق حال وقوع المسبب، وإن كان مثبتاً لأنه فعله وقد كان يمكنه أن يحترز منه بأن لا يوجد سببه وليس في ذلك إلا الشنيع وهو متروك للأدلة وهاهنا وجه قوي وهو أن المسبب إن كان صغيراً لم يستحق عليه الذم رأساً وإن كبيراً فسببه كبير.
فصل في ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه فاعلاً
منها الموجد والمحدث والمكون والمثيب، كلها سواء. ومنها: المخترع والمبتدع والمنشي والمبدئ والمديء، كلها تفيد الإيقاع لا بمثال ولا احتذاء. ومنها: الصانع، ولا يستعمل إلاَّ مضافاً، نحو: صانع العالم؛ لأن إطلاقه يوهم الاحتراف والتكسب.
ومنها: الخالق؛ لأنه يفيد إيقاع الفعل مقدراً بحسب المصلحة من غير زيادة ولا نقص، ومثله الباري والمقدر والمدبر، وقيل: المدبر مجاز في حقه تعالى؛ لأنه يفيد النظر في عواقب الأمور.
ومنها: المجمل والمنعم والمفضل، أي فاعل الجميل والنعمة والإحسان، ومثله الموسع والمنان، ومنع شيوخنا من الحنّان؛ لأنه يفيد رقة القلب من حنين الناقة على ولدها، وأجازوا حنَان ـ بالتخفيف ـ بمعنى الرحمة كما قال تعالى: {وحناناً من لدنا} أي ورحمة منا.
ومنها: الجواد معناه المكثر من فعل العطايا، وأما السخي فمنعه شيوخنا؛ لأنه مأخوذ من اللين، يقال: أرض سخاويّة، أي ليّنة ولم يحصل عرف ينقله عن أصله إلى من أكثر العطاء، ولهذا لو أعطى الرجل عطاء جزلاً لا على سهولة لم يوصف بالسخاء.
ومنها: العدل والعادل والحكيم والمحكم معناه فاعل العدل والحكمة. ومنها: المبديء والمعيد، معناه الذي أنشأ الخلق أولاً وثانياً، والفاطر كالمبتدئ.
وأما الأسماء الجارية عليه تعالى من طريق الاشتقاق فمنها: المحيي المميت، أي فاعل الموت والحياة عند من يجعله معنى، أو سببه عند من لا يجعله معنى. ومنها: المقدر والمقوي والمعلم والمكلِّف والدال والدليل عند من يجيز إطلاقه. ومنها: المنور، أي فاعل النور، وقد يراد به ناصب الأدلة.
وأما وصفه تعالى بأنه نور في قوله: {الله نور السماوات} فمجاز، ومعناه: المنور أو الهادي لأهل السماوات والأرض، ومنها الهادي والمرشد، وأما المضل فإطلاقه يوهم الخطأ فلا بد من تقييده فيقال: أضل الكفار، بمعنى أهلكهم أو عذبهم أو /216/ سماهم كذلك. ومنها: اللطيف واللاطف والعاصم والموفق والمصلح والمسدد كله بمعنى فاعل اللطف وبالعكس الخاذل والمسلط ونحو ذلك.
ومنها الخيّر أي فاعل الخير، نقيض الشريرن وقد أجاز إطلاقه أبو علي ومنعه أبو هاشم. قال: لأنه صار بالعرف اسماً لمن يستحق الثواب كقولنا: فاضل وصالح، وقد امتنعا بالإجماع، فلذلك خير.
ومنها: الكريم، أي فاعل الكرم، وإن استعمل بمعنى المتنزه عمَّا لا تنبغي الصفات، ومنها: البر الرحيم الراحم الرحمن الرؤوف، أي فاعل الرحمة، وهي النعمة، وليس المراد رقة القلب؛ لأن الأصل هو النعمة، ولهذا لو حصلت رقة القلب في الشاهد ولا نعمة لم تسم رحمة.
ومنها: الرازق والرازق والوهاب، فإذا أكثر من ذلك فهو الباسط، وإن قدره بمعنى بحسب المصلحة فهو القابض، فإذا أخبر عن نفسه بإيصاله فهو الكفيل والكافل والمتكفل.
ومنها الغياث، أي فاعل الغوث. ومنها: المؤمن، أي فاعل الأمان من العقاب، أو مصدق أنبيائه بالمعجزات، ومثله المهيمن أي المصدّق والشاهد كما قال تعالى ومهيمناً عليه أي شاهداً، قال الشاعر:
إن الكتاب مهيمن لنبيئنا .... والحق يعرفه ذوو الألباب
وأما السلام فمعناه المسلم من الآفات والعقاب والمحن، وهو مجاز من باب تسمية الفاعل باسم فعله.
ومنها: الطالب والمدرك، معناه يطلب الحق من الظالم فلا يفوته ما طلب، والمراد بالطّلب هنا والإدراك فعل ما معه يصل المظلوم إلى حقه، ومنها: المثيب والمعاقب، أي فاعل الثواب والعقوبة والدال على أنه يفعلهما، ومنها المجيد والماجد، قال الزجاج: معناه الفعّال، وقيل: هو مثل جواد.
ومنها: الحميد، قيل: كثير الحمد لعباده على فعل الخير مثل شكور، وقيل: حميد بمعنى محمود، وأما قولنا أبٍ فصحيح بمعنى المانع بمعنى الممتنع وعلى الأول حُمل قوله تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} أي يمنع من إطفائه، ومنها: الحفيظ والحافظ والراعي والحارس والكافي والوديع كله يفيد دفع المكاره عن عباده، وإن كان لا بد من تقييد فمما يوهم الخطأ منها كالحارس والداعي، فإنه يفيد نوع احتراف.
ومنها: المتكلم أي فاعل الكلام والمبين فاعل البيان، ولا يجري عليه في هذا القبيل ما يفيد التكلم بآلة نحو الفصيح والناطق والصائح والخطيب والقاض، ونحو ذلك.
وأما العامل فلا يجوز إجراؤه عليه تعالى، وما ورد منها فمجاز يقر حيث ورد؛ لأنها إنما تستعمل في من يجهل عواقب الأمور، وكذلك الشاكر والشكور /217/ لا يجري عليه تعالى؛ لأنه إنما يستعمل في مقابلة نعمه واستعماله حيث ورد مجاز من باب تسمية الشيء باسم مقابله، فسمى الجزاء على الشكر شكر، كما سمى الجزاء على السيئة سيئة.
القول في أن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا بذنبه ولا يثيبه إلا بعلمه
اعلم أولاً أن الثواب هو المنافع المستحقة المفعولة على وجه الإجلال والتعظيم.
وقلنا: المستحقة احترازاً من التفضل، وقلنا على وجه الإجلال والتعظيم احترازاً من العوض فإنَّه يستحق لا على هذا الوجه، ولهذا يصل إلى المثاب والمعاقب والمكلف وغيره.
والعقاب هو المضار المستحقة على وجه الاستخفاف والإهانة.
قلنا: المستحقة احترازاً من الظلم وما ينزل بالمرء لطفاً أو لجلب نفعٍ أو دفع ضرر.
وقلنا: على وجه الاستحقاق والإهانة احترازاً من حد التأنيب.
فصل
ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى لا يثيت أحداً إلا بعمله ولا يعاقب أحداً إلا بذنبه.
وقال أهل الجبر: يجوز أن يعذب الأنبياء بذنوب الفراعنة ويثيب الفراعنة بطاعة الأنبياء.
ومنهم من قال: إذا كان يوم القيامة حملت ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى وأعطوا طاعات الملائكة.
لنا: أن إثابة من لا يستحق تضمن تعظيم من لا يستحق التعظيم لما تقدم من أن الثواب لا يتميز عن العوض إلا بذلك وتعظم من لا يستحق التعظيم قبيح بالضرورة، ولهذا فإن العقلاء يستقبحون قيام الملك في وجه الرجل الدني الوضيع لما كان لا يستحق ذلك ويستقبحون تعظيم الأجانب كتعظيم الأبوين وتعظيم الأبوين كتعظيم الخالق جل ذكره.
ومن هنا: قبحت العبادة للأصنام من حيث كان تعظيم من لا يستحق.
وبعد، فلو حسن الثواب لا بعمل لقبح التكليف وصار عبثاً.
وأما عقاب من لا يستحق فلأنه محض الظلم وكل ظلم قبيح إما أنه ظلم؛ فلأن الظلم هو الضرر الصادر عن عالم أو متمكن من العلم بصفته عارياً عن استحقاق وجلب نفع ودفع ضرر، والظن لهما وعن كونه كالواقع من جهة المضرور، وعن كونه كالواقع من جهته غير فاعل الضرر.
قلنا: الضرر جنس، وقلنا: الصادر عن عالم أو متمكن من العلم بصفته احترازاً من الضرر الصادر من غير المكلفين والساهي والنائم، فإنه لا يوصف بأنه ظلم وإن وصف بالقبح.
قلنا: عارياً عن استحقاق احترازاً من عقاب العصاة.
قلنا: وجلب نفع احترازاً من تحمل مشاق الأسفار ونحوها طلباً للربح والرئاسة ويدخل فيه أنواع التاديبات والالطاف ونحو ذلك.
قلنا: دفع ضرر احترازاً من الفصد والحجامة، قلنا: وعن الظن لهما؛ لأنه لا فرق في حسن إنزال الضرر بين العلم بجلب النفع ودفع الضرر وبين /218/ الظن لذلك ولا يكفي ظن الاستحقاق في حسن الضرر كما ستعرف.
قلنا: وعن كونه كالواقع من جهة المضرور احترازاً من عدوان الظالم والسبع إذا عدا علينا فقتلناه دفعاً عن أنفسنا، فالضرر كالواقع من جهة نفسه.