والجواب عنها أن ظاهرها متروك بالإجماع لأنه تعالى شيء، ولم يخلق نفسه، وكذلك علمه وقدرته وسائر المعاني القديمة، وإذا سقط تعلقهم بالظاهر فليسوا بالتأويل أحق منا وهو معارض بقوله تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير}، وقوله: {وتخلقون إفكاً وقوله أحسن الخالقين}. ومنها قوله: {أم جعلوا لله شركاء} /205/ خلقوا كخلقه.
والجواب لا يعلق بظاهرها لوجوه أما أولاً فلأنه إنما نفى أن يخلق غيره مثل خلقه وهو متفق عليه، وأما ثانياً فلو كان إثبات الخلق لغيره يقتضي الشركة لكان قد أثبت لنفسه شريكاً بقوله أحسن الخالفين ونحوها مما تقدم، وبعد فهي تعارضه بقوله: {أحسن كل شيء خلقه} فإن ظاهر هذه تدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يحتمل التاويل، على أن ذلك وارد عليهم في الكسب. ومنها قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وقوله: {والذين تدعون من دونه لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء}.
والجواب: لا يعلق لهم بظاهرها؛ لأن ظاهرها إنما ينفي المساوة بين من يخلق ومن لا يخلق وأن الأصنام التي تعبدونها غير حية، ولا خالقه بل هي مخلوقة، وكل ذلك مجاب إليه، وليس في الآية دليل على أن غير الله تعالى لا يفعل، وأما الخلق فقد بينا أنه لا يصح إطلاقه إلاَّ على الله تعالى، فنحن قائلون بمقتضى الآية.
ومنها قوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} وأفعاله العباد من الأشياء.

والجواب: أنه لا تعلق لهم في ظاهرها كما تقدم، وبعد فأصل الخلق هو التقدير، ونحن نقول إن الله تعالى قدر أفعال العباد، وليس يجب أن يكون المقدر من فعل المقدر، الا ترى أنهم يقولون خلقت الأديم أي قدرته، والأديم ليس من فعلهم، وبعد فإذا كان الخلق هو التقدير بحسب المصلحة من غير زيادة ولا نقصان، فقد اقتضى ظاهر الآية على أصلهم أن تكون أفعال العباد كذلك، ومعلوم أن فيها من التفاوت والقبح ما لا يصح معه إطلاق كونها مقدرة بحسب المصلحة. إذا ثبت هذا فالمعنى خلق كل شيء مما يختص بالقدرة عليه لتمكن الجمع بينها وبين ما تقدم ذكره.
ومنها قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}. والجواب: أنه لا تعلق لهم بظاهرها من وجوه، أحدها أنه أضاف العبادة والنحت والعمل إليهم فلو أراد ما ذكروه، لكان قد ناقض، وثانيها أن الآية وردت مورد الإنكار والاحتجاج والتوبيخ ولو لم يكونوا هم الفاعلين للنحث والعبادة لكان لا معنى لتوبيخهم، ولا حجة عليهم بل كانت الحجة لهم فيقولون إذا كنت خلقت فينا العبادة والنحث فأي معنى للإنكار وهلا تركت فعلها والإنكار فيها.

يوضحه أنه لو لم يكن لهم عمل لكان عمل(1) إبراهيم عليه السلام ممهداً لعذرهم بمنزلة من يقول لفاعل القبيح أنت لم تفعله، وإنما فعله غيرك، وثالثها: أن الله تعالى جعل العلة في توبيخهم أن الأصنام مخلوقة فلو كانت أفعالهم مخلوقة لزال معنى هذا التعليل وصار الكلام كله /206/ لا معنى له، إذا ثبت هذا فالمعنى يعبدون أصناماً ينحتونها والله خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها فكيف تعبدون مخلوقاً مثلكم لا يضر ولا ينفع، وقوله: {وما تعملون} أي وما تعملون فيه كما يقال عمل النجار باباً أي عمل في الباب، وكما يقال فلان يعمل الثياب أي يعمل فيها، وقال تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل والمراد يعملون في المحاريب لأن المحاريب أجسام وهي غير مقدورة، ولا مكتسبة وبهذا يستقيم المعنى ويزول التناقض ويوافق العقل ومحكم الكتاب واللغة وتظهر فائدة الكلام وتقوم الحجة على الكفار، يزيده وضوحاً أنهم عبدوا المنحوت لا النحت فدل على أن المراد بقوله ينحتون أي ينحتون فيه وإلا كان التقدير تعبدون نحتكم وهاهنا إلزام لا يجدون عنه انفصالاً فيقال لهم: هل جعل الله آلهة تعبد من دونه، فإن قالوا: نعم، جعلها، قيل فما معنى قوله: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وإن قالوا: لم يجعلها، قلنا: إذا كان خلق الأصنام وخلق نحتها حتى صيرها أصناماً وخلق فيهم عبادتها وتسميتها آلهة واعتقاد استحقاقها للعبادة فكيف يقال لم تجعل آلهة تعبد وهل الجعل أكثر من ذلك ثم إذا لم يجعلها فمن جعلها؟ وأي معنى لهذا الإنكار وكيف يكون جعلها.
ومنها قوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} قالوا: والعجل فعل العجلان.
__________
(1) . قول. ط

والجواب: أن ظاهرها متروك؛ لأنه يقتضي أن الإنسان مخلوق من العجل، وليس كذلك؛ لأن العجل عرض والأجسام جسم؛ ولأن الخصم يتأولها على القلب فيزعم أن التقدير خلق العجل من الإنسان، وهذا مع كونه عدولاً عن الظاهر فهو لا مقتضى له ولا دليل عليه. وللآية عندنا معنيان، أحدهما أن العجل هو الطين الرطب وعليه قول الشاعر:
والنخل تثبت بين الماء والعجل
ومنه قوله تعالى: {من حماءٍ مسنون}، وثانيهما أن عادت العرب إذا أرادت المبالغة في الوصف ذماً كان أو مدحاً قالوا خلق فلان من كذا، أي لكثرة ولعه به واعتياده به كأنه خلق منه، وكأنه لا يعرف شيئاً سواه، فيقولون: فلان مخلوق من الحياء وفلان مخلوق من الكرم مبالغة في الوصف، فأراد الله المبالغة في ذم الإنسان بالعجل كما قال في خلق الإنسان: {عجولاً}.
ويدل على هذا من بعد قوله: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون}. ومنها قوله: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}، وقوله: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار}، وفي ذلك /207/ كونه خلق الهدى والضلال.
والجواب يجوز أن يكون المراد بالجعل الوصف والتسمية كما قال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً، وكقوله: {وجعلوا لله شركاء الجن}، ويجوز أن يكون المراد: جعلناهم كذلك في الآخرة، ويريد بالهدى الثواب، وبالضلال العقاب، ويؤيده قوله: {لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، فإن الهداية بعد الصبر والتقوى هي الثواب، وكذلك في قوله: {أئمة يدعون إلى النار}، يدل عليه سياق الآية، قال تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم..} إلى قوله: {وجعلناهم}، والجعل بعد أن نبذهم في اليم إنما هو في الآخرة، ويصير بمنزلة قوله: يقدم قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وكذلك دعاؤهم إلى النار، ولو كان كما ذكروه من أن المعنى نصبنا هؤلاء للدعاء إلى الهداية وهؤلاء للدعاء إلى الضلال لكان المجيب للكل مطيعاً، وهو باطل.
ومنها قوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم..} الآية.

والجواب: ليس في الآية أن الصرف هو الهزيمة التي ذمهم عليها، ويجوز أن يكون المراد بالصرف التخلية بينهم وبين الكفار وإزالة النصر لأجل الفشل والتنازع، ويجوز أن يكون المراد بالصرف النهي عن قتالهم بعد انهزام المنهزمين، فمعلوم أن النبي عليه وعلى آله السلام وجماعة لم ينهزموا وأنهم إنما كفوا عن القتال بأمر من الله، ويجوز أن يكون المراد بالصرف الأسباب المقتضية للهرب من الخواطر والرهبة ويجوز أن يكون المراد بالصرف إباحة الهرب للذين كانوا أمعنوا في طلب العدو، فإنهم كانوا معذورين بالاتفاق، والضمير وإن كان ظاهر العود إلى الجميع، فلا يمتنع قيام دليل على رجوعه إلى البعض المعذورين في الانهزام وبالجملة فالذم لم يكن على الصرف الذي فعله الله، وإنما هو على سببه وهو الفشل، والتنازع والعصيان وإرادة الدنيا، ونحو ذلك، كما يشهد به قوله: {قل هو من عند أنفسكم}. يزيده وضحوحاً قوله: {ليبتليكم} والابتلاء لا يكون بالمعاصي.
ومنها قوله تعالى: {وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} وفي الأرض الظلم والفساد.
والجواب: إنه قال: {خلق لكم} ولم يقل عليكم، والظلم والفساد علينا لا لنا، فلا تعلق بظاهرها، والمراد خلق لنا ما ننتفع به من الأرزاق وغيرها بدليل أنها وردت مورد المن علينا ولا منّة له بأن يخلق فينا القبيح ويعاقبنا عليه.
ومنها قوله تعالى: {واجعلنا مسلمين لك} فبين أن الإسلام من جهته.

والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائه على تأويلهم أن يكونا وقت السؤال غير مسلمين لاستحالة طلب الحاصل، وإلا كان بمنزلة من يقول: اجعلنا إنسانين، وهو محال /208/ إذا ثبت هذا فلأنه عندنا معان صحيحة فيجوز أن يكون المراد الحكم والتسمية، أي احكم لنا بذلك، وسمنا به وأظهره من حالنا، ويجوز أن يكون المعنى ألطف بنا في الإسلام، ووقفنا للثبات عليه، ويجوز أن يكون المعنى واجعلنا مسلمين بريادة الأمر بذلك والحث عليه كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} أي جعلنا بأمرنا أئمة يهتدى بهم ويقتدى، ومثله: {إني جاعلك للناس إماماً} ويجوز أن يكون المراد بالجعل التعليم كقول المعلم المؤدب جعلت فلاناً شاعراً كاتباً، أي علمته ذلك، ويجوز أن يكون المعنى الدلالة والبيان، كما يقال: جعلت كلام فلان باطلاً أي دللت على ذلك. ومنه {جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا}، ويجوز أن يكون المعنى أحلنا محل المسلمين كما يقال جعلت فلاناً أخاً، أي حللته محل الأخ.
ومنها قوله تعالى: {وقهم السيئات ومن يق السيئات يومئذ فقد رحمته}.
والجواب: المراد بيومئذ يوم القيامة والسيئات يوم القيامة ليست هي المعاصي، وإنما هي العذاب كما تقرر أن السيئة في اللغة تطلق على كل الشرور.
ومنها قوله: {ربنا افرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا} فتبين أن الصبر والثبات فعله.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها؛ لأن الإفراغ لا يعقل في الصبر والثبات أيضاً في الاقدام، ليس على ظاهره، والمراد آتنا من المعونة والإلطاف ما نصير معه ونثبت، على أنه سؤال، والسؤال لا يد على أن المسئول يفعل.
ومنها قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} فصرح بأنه مكره على السجود.

والجواب: لا بد من ترك ظاهرها عندهم؛ لأن السجود كله كرهاً فلا معنى لقوله: طوعاً، وأيضاً فليس المراد السجود الاسطلاحي؛ لأن أكثر الخلق لا يفعله كالشياطين والكفرة والفسقة والمجانين المعنى الانقياد لما يحدثه ويفعله فيهم، وعبر عنه بالسجود كما قال الشاعر:
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
ومنها قوله: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري}.
والجواب: أن شرح الصدر في الحقيقة اتساعه، فالظاهر متروك، وهو في العرف أن تسكن النفس إلى الشيء وتهس(1)، وضيق الصدر بالشيء عكسه، والمراد اشرح لي صدري بالثواب والمعونة والإلطاف.
ومنها: قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائه التناقض، فكأنه قال: رميت وما رميت، والمعنى: وما أصبت إذ رميت، ولكن الله أصاب، وذلك كقولهم: رمت رمتةً من غير رام، أي رب أصابه من غير بصير بالرمي. والقصة أنه عليه السلام أخذ حفنة /209/ من التراب، وكان هو المتولي لرميها إلى الهوى، والله تعالى هو المتولي لتفريقها في أعيان المشركين، وإيصالها إليهم. وقرئت من هذه قوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم}، فإن المراد لم تقتلوهم بحولكم، ولكن الله قتلهم بما خلق لكم من القدرة على ذلك، وأعانكم وأمدكم بملائكته، وألقى الرعب في قلوبهم، ونحو ذلك من الأسباب التي تقتضي حسن إضافة القتل إليه، ولهذا إذا كان من بعض الناس أعانه على قتل غيره من دلالة عليه أو إمساك أو تثبيط قيل ما قتله إلا فلان.
ومنها قوله: {هو الذي يسيركم في البر والبحر}.
والجواب: أما السير في البحر فلا كلام فيه؛ لأن السفن تسير باعتماد الريح، وهو من فعله تعالى، وأما سيرهم في البر فإنما أضافه إلى نفسه لأنه الذي أقدر عليه وأمكن منه بخلق الآلة وزوال الموانع.
ومنها قوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}.
__________
(1) . وتهس: أي وتقبل.

والجواب: لم يبين ما ذلك الفعل وهو عندنا بالإرسال والبعث على الطاعة والترغيب فيها والترهيب من طاعة الشيطان واللطف في جميع ذلك. على أن ظاهرها يبطل مذهب القوم؛ لأن الله جعل فضله سبباً في كونهم لا يتبعون الشيطان، وعند الخصم أن اتباع الشيطان من فعله تعالى.
ومنها: قوله: {كذلك يضرب الله الحق والباطل}.
والجواب: ليس الضرب بمعنى الخلق في اللغة قط، وإنما يستعمل في معانٍ، أحلها: الضرب المؤلم وهو غير مراد بالاتفاق.
وثانيهما الضرب الذي هو أخص من النوع، وليس مراداً أيضاً.
وثالثها ضرب المثل، وهو المراد هنا تقديره: كذلك يضرب الله المثل للحق والباطل.
ومنها قوله: {فأقم وجهلك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها}، قالوا: فالله فطر الناس على الدين، فدل على أنه من فعله.
والجواب: ليس في الظاهر أن الدين فطرته ، ولو كان كذلك لكان يقتضي أن يكون كل الناس فطروا على الدين، وعند الخصوم أن أكثر الخلق فطروا على الكفر، ولأنه لو كان كما قالوا لكان قد بدل خلق الله؛ لأن المبدلين لدين أكثر من أن يحصوا، ولأنه لو كان كما قالوا لكان التقدير: فأقم وجهك للدين، وقد خلقتك كذلك، وهو بمنزلة أن يقول: كن طويلاً، وقد خلقتك كذلك، وإذا سقط تعلقهم بالآية، فالمعنى فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ لأنه تعالى ما أنشأهم وابتدعهم إلا لعبادته، كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، ونظيره قوله عليه السلام: (كل نسمة تولد على الفطر..) الخبر، وقوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهوّدانه ويمجسانه).

وللآية وهذه الأخبار معنى آخر، وهو أن الله /210/ فطر الناس على الخلقة التي يهتدى بها إلى الدين القيم، ويقتضي الإقرار بالربوبية ويشهد له بالوحدانية، فإذا تدبر فيها الإنسان حال كمال عقله اهتدى بذلك إلى الدين القيم، وإذا اتبع الهوى ودين الآباء ووساوس الشيطان ضل عما تشهد به الفطرة من إقامة الدين، وعلى هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى يقول: (إني خلقت عبادي حنفاء فاغتالهم الشيطان عن دينهم)، وفي ذلك وجه آخر وهو أن معنى قوله فطرة الله التي فطر الناس عليها}، أي أمرهم بها من عبادته كما تشهد به الخلقة على أنه تعالى واحد لا ثاني له، وقوله: {لا تبديل لخلق الله} أي لا دليل يدل على خلاف ما تدل عليه الفطرة.
وقريب من هذا قول من جهل الآية على أن المراد بالفطرة الدين، ومعنى أن الله فطره أي ابتدأ شرعه بالأمر به.
ومنها: قوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة}.
والجواب: لا بد للخصم من ترك ظاهرها؛ لأن الشيطان ليس هو الملقى عندهم، والمراد بالجعل هنا الدلالة والبيان كما سلف تمثيله، ومنه قول الشاعر:
جعلنا لهم نهج السبيل فأصبحوا .... على ثنت من أمرهم حيث يمموا
فالله تعالى جعل نسخ ما ألقاه الشيطان فتنة للكفرين، أي امتحاناً وتكذيباً لما توهموه وفرقاً بينهم وبين المؤمنين.
والآية تحتمل وجهاً آخر، وهو أن الله تعالى جعل ذلك فتنة لهم بمعنى أنه خذلهم وخلى بينهم وبين الشيطان، فصار ما ألقاه فتنة لهم حيث لم ينظروا في الحق، ولو نظروا لبطلت فتنة الشيطان وإضلاله.
ومنها: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله..} إلى قوله: {قل كل من عند الله}.

والجواب: إنها معارضة بقوله: {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب}. وبعد فلا بد من ترك ظاهرها؛ لأنه متناقض حيث قال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك}، فكأنه قال: الكل من عند الله والبعض ليس من عنده. وبعد فليس المراد بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية؛ لأن الإصابة لا تقال في فعل الإنسان، وإنما تقال فيما يناله من فعل غيره، فيقال: إصابته نعمة أو نقمة، ولا يقال إصابة صلاة أو زنا. وبعد، فالله تعالى حكى الكلام عن الكفار، ومعلوم من أنهم لم يريدوا الطاعة والمعصية؛ لأنه لم يكن أحد منهم إذا زنا أو شرب الخمر يقول هذا من محمد، وكيف وهو حسن عنده، وكذلك لم يكونوا يطيعون فضلاً عن أن يضيفوا تلك الطاعة إلى الله تعالى. وإذا ثبت هذا فالمراد بالحسنة النعمة والرخاء، وبالسيئة الشدة والمحنة، بالقحط والأمراض والنقص ويصير كقوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}. وقال: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبك سيئة يفرحوا بها، وقال تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا}، وهذا كان حال الكفار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتطيرون به إذا أصابهم ما يكرهون، فبين الله أن الكل من عنده، وإنما سماه سيئة على جهة المجاز تشبيهاً للشيء بما يقابله كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وقال: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاَّ مثلها}. ومنها قوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء}، فتبين أنه الباعث على القتال بالبغضاء، ولا بد أن يكون الحق مع أحد الفريقين.
والجواب: أنه لا فرج لكم في ذلك؛ لأنه لم يقل أن تلك المعاداة معصية وجائز أن يكون الله تعالى أمر اليهود أن تعادي النصارى لأجل التثليث وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، وأمر النصارى بمعاداة اليهود لأجل تكذيب عيسى وغيره من الأنبياء، فتكون المعاداة طاعة في الطرفين.

32 / 75
ع
En
A+
A-