طريقة آخرى في إبطال الكسب على تقدير كونه مفعولاً، يقال لهم: أليس الله هو الذي أوجد الفعل وجعله كسباً للعبد فلا بد من بلى، فيقال: ما وجه تعليقه بالعبد وكلا الوجهين من قبله تعالى، ويقال لهم: هل الفعل الذي قبح من العبد كالظلم، هل قبح من جهة كونه خلقاً فقط فيلزم أن يقبح من الباري لو تفرد به الكسب في حقه تعالى أو يقبح من الجهتين جميعاً، فيلزم أن لا يقبح فعل قط؛ لأنه لم يجتمع لفاعل كونه خالقاً مكتسباً، ويقال لهم: هل يصح أن يتفرد الله بعفل الكفر والإيمان، فإن قالوا: لا، قيل لهم: فهل يصح أن يتفرد بهما العبد، فإن قالوا: لا، قيل: فإذا كان من فعل الله ومن فعل العبد بحيث لا يصح أن يتفرد أحدهما عن الآخر بالفعل فقد أثبتوا معنى الشركة وأحوجوا الله في فعل الإيمان إلى أن يكتسبه العبد كما أحوجوا العبد في أن يكتسبه إلى أن يخلقه الله، ويقال لهم: أليس إذا خلق الله الفعل وجب أن يصير العبد مكتسباً حتى لا يقف كونه مكتسباً له على اختياره فلا بد من بلى، فيقال: فأذن الله الذي أدخله في كونه مكتسباً جبراً كما أدخله في كونه طويل القامة جبراً، فعلام يتوجه المدح والذم، وما الثمرة في ذكر الكسب، ويقال: أليس أمر الله ناجح بشرط الاستطاعة حتى إذا لم يكن استطاعه لم يتوجه على تاركه ذم، فلا بد من بلى، فيقال: أليس معنى الاستطاعة عندكم أن يخلق فيه الحجج وقدرته وإرادته، فلا بد من بلى، فيقال: فيجب أن يكون أمراً بالإيمان بشرط خلق الإيمان، فلا يتوجه على الكافر لوم. ويقال: أليس يحتاجون إلى الله في كسب الإيمان فلا بد من بلى، فيال: أليس وجه الحاجة هو أنه لو لم يخلقه /199/ لاستحال أن يكتسبوه، فلا بد من بلى، فيقال: قد أحوجتم الله إلى أنفسكم في خلق الإيمان لهذا الوجه بعينه؛ لأن عندكم أنكم لو لم تكتسبوه لاستحال أن يخلقه فيكم.
فصل في شبههم في أن الله خالق لأفعال العباد
أشفها ما تقوّل عليه الرازي في مصنفاته.
وحاصله أن العبد حال إيقاع الفعل لما أن لا يصح منه الترك فهو المطلوب بالخبر، وأما أن يصح منه الترك فلا يكون الفعل أولى بالووقع من الترك، إلا لمرجح وداع وإلا كان قد وقع أحد الجائرين لا لمرجح، وذلك يقدح في حدوث العالم، قال: وذلك المرجح لا يصح ان يكون من فعل العبد وإلا احتاج في وقوعه إلى مرجح آخر، وإذا كان من فعل الله فوقوع الفعل عنده إما على سبيل الوجوب وهو المطلوب؛ لأن ذلك الداعي حينئذ يكون شيئاً، وفاعل السبب والمسبب واحد، وأما على سبيل الجوار بمعنى أنه يصح أن يقع، وأن لا يقع مع وجود الداعي، فيحتاج في وجوده إلى مرجح آخر ويتسلسل.
والجواب: أول ما في هذا أنه لازم له في فعل الباري تعالى، فيقال: حال ما أوجد الله الفعل هل كان يصح الترك أم لا، إن قال: لا، لزم أن يكون تعالى مجبوراً على فعله، وإن قال: يصح، قيل: فليس الفعل أولى من الترك، إلا لداع، وإذا كان كذلك فوقوع الفعل عند ذلك الداعي إما على سبيل الوجوب فيلزم حصول العالم لم يزل، وأن لا يكون مختاراً في وجوده؛ لأن الداعي قد صار موجباً له، والداعي ليس بفعل الله تعالى حتى يقول فاعل السبب والمسبب واحد، وإن كان على سبيل الجواز إحتاج إلى داع آخر وتسلسل، فما أجاب فهو جوابنا.
واعلم أن هذا شيء أورده الفلاسفة في حدوث العالم، وتحقيق الجواب عليه وعليهم أن يقول أما أفعال الساهي والنائم فلا تتوجه فيها هذه الشبهة على أصل الجمهور؛ لأنها لا تحتاج إلى داع، ومتى قيل فما المخصص للفعل على الترك مع أن نسبة القادرية إليهما على سواء. قلنا: يجوز أن يكون المخصص هو القادر به، وإن كانت معهما على سواء كما سيتضح، ويجوز أن يكون المخصص هو القصد؛ لأن الصحيح خلاف ما يقوله أصحابنا في إحتياجه إلى العلم، بل إنما يحتاج إلى الاعتقاد أو الظن، وذلك صحيح في حق الساهي والنائم، وأما أفعال العالم المميز لفعله، فمسلم أنها لا توجد إلاَّ لداع، لكن من سلم له أن الداعي هو المؤثر في الفعل وأن وقوع الفعل عنده على جهة الإيجاب أو ليس صريح مذهب خصومه أن المؤثر في الفعل هو القادر وأن وقوع الفعل عند الداعي على جهة الجواز، ولو أطلقوا لفظ الوجوب فإنما هو وجوب /200/ استمرار لا وجوب تأثير، وكيف والدواعي من قبيل الاعتقادات والظنون التي لا تأثير لها في الإيجاد، وقوله: أنه إذا كان على سبيل الجواز افتقر إلى مرجح آخر غير مسلم، ولا صحيح؛ لأن أحدنا متى دعاه الداعي إلى الأكل وعنده رغيفان مستويان، وليس له إلا أحد أحدهما، فإنه يأخذ أحدهما لا لمرجح مع استواء الداعي إليهما ومع جواز أن يأخذ الآخر، وكذلك الملجأ إلى الهرب إذا عنّ له طريقان، وكذلك العطشان إذا حصل له كوزان على سواء، وكذلك من بين يديه طبق تمر فإنه يأخذ واحدة واحدة من دون مرجح لها على ما يساويها.
وقد أجاب الرازي بهذا على الفلاسفة في أول كتاب الأربعين، فما باله صادر عليه هنا وحرره شبهة لو صحت لبطل الصانع.
ومتى قيل فقد يرجح الفعل على الترك لا لأمر. قلنا: بل يرجح الأمر وهو الداعي، ومتى استوى الداعي إليهما كان المخصص هو القادر بقصده، واختاره بدليل أنه لو سئل عن ذلك فقيل: لم خصصت هذا الرغيف مع مساواته للآخر لقال: اخترت ذلك ، ولسنا نعني بأن يكون تأثير القادر على جهة الاختيار إلا هذا، وبهذا تقع التفرقة بين المختار والموجب، فالمطالب لنا بمخصص وراء القادر مطالب لنا بإبطال معنى القادر، وإدخاله في حد الموجب، ولسنا نسلمه، ولا بد للرازي من النزول على مثل هذا الجواب، وإلا بطل عليه كون الباري مختاراً، وهو قد يزل عليه، ولكنه كثير التخلبط.
شبهة: قالوا: لو كان العبد محدثاً لأفعاله لوجب أن يعلم تفاصيل ما أحدثه ليصح منه إيجاد قدر دون قدر كالقديم تعالى.
والجواب: لم قلتم أنه يحتاج في إيجاب قدر وأن قدر إلى أن يعلم تفاصيل ما أحدث، وهلا كفى أن يقصد إلى إيجاد جملة أفعال لغرض من الأغراض، ثم يأخذ في تلك الأفعال حتى يتم غرضه، ثم يقتصر على ذلك القدر من ذلك الجنس، وإن لم يعلم كميته، فإذا قصد أن يصلي ركعتين مثلاً فقد قصد أن يوجد من الحركات والسكنات والأقوال ونحو ذلك القدر الذي تكون الصلاة معه ركعتين، وكذلك إذا كان غرضه الحج قصد إلى أن يوجد من الخطا القدر الذي به يصل إليها(1)، ولا يحتاج أن يعلم كمية تلك الخطا، وكذلك الباني يقصد أن يوجد من التأليفات ما به يصير المبني بيتاً وجميع الأفعال تجري على هذا المنوال، وهذا يعلمه كل عاقل، بل الصبي إذا تناول الكوز، فإنما يقصد أن يشرب القدر الذي معه يحصل الري ولا يتعرض للعلم بكمية حركات الفم، ولا يمكنه ما يأخذ من قطرة ولا بد للخصوم من الاعتراف بهذا.
__________
(1) . في نسخة: إليه.
يوضحه أنهم أجمعوا على أن من استأجر غيره على حياطة قميض بأجرة معلومة، فإن الإجارة صحيحة والعمل معلوم، ولو كان كما ذكروه لكان العمل غير معلوم، والإجارة فاسدة. وبعد، فالسؤال لازم لهم في الكسب /201/ فيقال يلزم أن يكون أحدنا عالماً بتفاصيل ما كسبه وجوابهم جوابنا، وبعد فقد قال بعض أصحابنا: إن أحدنا يعلم تفاصيل ما أحدثه أي يعلم أعيانها وإن لم يعلم كميتها؛ لأن العلم بكميتها أمر زائد على ذلك، ألا ترى أن الرجل يدخل نادي قومه وجامع بلده فيعرف أعيان من فيه وإن لم يعلم كميتهم، وكذلك في من يضيف قوماً ومن يبصر أساطين المسجد.
وأما قياسهم للواحد منا على القديم تعالى فغير صحيح؛ لأنه عكس الصواب من حيث لا يعلم معنى المحدث في الغائب إلا من علم في الشاهد ولا يعلمه في الشاهد إلا من علم أن لنا أفعالاً، ولأنه لم تكن العلة في علمه تعالى بتفاصيل ما أحدث هي كونه أحدث بل كونه عالماً لذاته، ألا ترى أنه تعالى يعلم تفاصيل المعدومات، وليست بمحدثة، ويعلم تفاصيل المعاني القائمة بذاته عندهم، وليست محدثة.
شبهة: قالوا: نحن نفرق بالضرورة ين الحركة الاختيارية والاضطرارية في تعلق الأولى بناء دون الثانية، فلو تعلقت إحداهما بنا من جهة الحدوث لوجب مثله في الثانية، بل كان يجب أن تحدث الأجسام لأن الحدوث متماثل، بقي أن يتعلق من جهة الكسب والمحدث هو والله تعالى، والجواب أنهم كانوا أولاً يجعلون الكسب هو بنفس هذه التفرقة، وهم الآن جعلوها دليلاً على الكسب، وهذه مناقضة، وبعد فإنما تدل هذه التفرقة على تعلق الكسب بناء من حيث يقف على قصودنا، فيجب أن تدل على تعلق الحدوث بنا كذلك. وبعد فهذه التفرقة ثابتة في المتعديات، فلجعلوها كسباً لنا. وبعد فقد أبطلنا الكسب بما لا مزيد عليه، فليكن هذا دليلاً لنا؛ لأنه لم يبق للتفرقة معنى إلا أنها تتعلق بنا من جهة الحدوث، وأما قولهم إن الحدوث متماثل، فكان يجب أن يتعلق بنا جميع المقدورات، فهو باطل؛ لأن الأشياء وإن اشتركت في الحدوث لم تشترك في الحاجة إلى محدث معين، وكيف يصح لهم هذا وهو محل النزاع، وبعد فكان يلزم مثله في المعلولات المتماثلة أن يستند إلى علة واحدة ولا يحتاج كل معلول إلى علة للوجه الذي ذكروه، وبعد فعند كثير منهم ومنا أن الوجود هو ذات الموجود، فلا يكون تماثلاً لاختلاف الذوات، وبعد فالتماثل الحقيقي إنما يعقل بين الذوات وليس يلزم من القدرة على إيجاد ذات القدرة على إيجاد سائر الذوات، ولا من القدرة على إيجاد الذات على وجه القدرة على إيجادها على وجه آخر. وبعد فالذي يعلم به كون المقدور مقدوراً هو وقوفه على القصد والداعي، فما حصل فيه هذا الوجه علمنا أنه مقدور لنا، وإلا كان مقدوراً للباري.
شبهة: قالوا: لو قدر أحدنا /202/ على إحداث أفعاله لقدر على إعادتها كالقديم تعالى.
والجواب يقال: أثبتوا أن العلة في قدرته تعالى على الإعادة هي قدرته على الإحداث ولا سبيل إلى ذلك، والفرق عندنا أنه قادر لذاته، وأحدنا قادر بقدرة والقدرة لا تتعلق على التفصيل إلا بمقدور واحد، وبعد فالسؤال لهم في الكسب، وبعد فهم قاسوا الشاهد على الغائب، وهو عكس الصواب، وبعد فليس من قدر على إيجاد شيء قدر على إعادته، فإن في أفاعال الباري تعالى ما يستحيل إعادته وهو ما لا يبقى في المتولدات، أما ما لا يبقى فلأنه لو صحت إعادته لانقلب باقياً لأنه يصير له في الوجود وقتان، وإذا صحا مع تحلل وقت عدم صحا على جهة التوالي من حيث أنه إذا تعدى في الوجود الوقت الأول إلى الثالث والرابع وما بعدهما صح تعديه إلى الوقت الثاني، ولا تصح الإشارة إلى أمر يحيل ذلك إلا وجوده في الأول، والوجود لا يحيل الوجود، ولو سلمنا أنه يحيل لما كان بأن يحيله في الوقت الثاني أولى من الثالث، وما بعده، فيلزم أن يستحيل أبداً، وفي ذلك ما نريد من استحالة إعادته، وأما المسبب فلأنه لو أعيد لكان إما أن يعاد مبتدأ أو مسبباً، والأول باطل؛ لأنه يكون له في الوجود وجهان، والوجهان في الفعل كالفعلين في صحة تعلق أحدهما بقادر، والآخر بقادر آخر، وفي ذلك صحة مقدور بين قادرين، وهو محال، والثاني باطل لأنه إن أعيد بسببه الأول لم يصح لأن من حق السبب أن يكون له في كل وقت مسبب آخر، واما إن يقاد بسبب آخر فيؤدي صحة حصوله سببين إلى صحة تعلقه بقادرين لجواز أن يتعلق أحد السببين بقادر والآخر بقادر آخر، هذا ما ذكره مشائخنا رحمهم الله تعالى في المبتدأ أو المسبب، وهو يمكن أن يعترض، أما المبتدأ فلقائل أن يقول: إن الذي أحال وجوده في الوقت الثاني هو لزوم أن يتغلب باقياً، وهذا المحيل غير حاصل في الوقت الثالث، وما بعده، فلذلك صح من القادر إعادته في الوقت الثالث، أو ما بعده، واستحال في الوقت الثاني، وكلما يتعلق بالقادر إنما يتبع ما يصح دون ما يستحيل.
وأما المسبب فلقائل أن يقول أيضاً يصح إعادته مبتدأ، ويصح إعادته لسبب آخر، ولا يلزم من صحة حصوله على وجهين أو عن سببين صحة تعلقه بقادرين، بل يكون الوجهان والسببان متعلقان بقادر واحد وما يتعلق بالقادر لا يصح أن يتعلق بغيره وصار الحال فيه كالكلام فإنه يصح أن يقع أمراً ويقع خبراً وإنما يتعلق الوجهان بقادر واحد، ولم يلزم من ذلك صحة تعلقه بقادرين /203/ كذلك هذا، وليس وقوعه على وجهين أو عن شيئين بأبلغ من الفعلين المتغائرين فإذا كانا مما يتعلق بقادر استحال تعلقهما بغيره.
شبهة قالوا: لو تعلقت بنا هذه لأفعال على الحدوث لتعلقت بناء على سائر الصفات من نحو كونها شيئاً وعرضاً وحسناً وقبيحاً.
والجواب: منع الجامع ولزوم مثله في أفعال القديم تعالى وفي الفرق بأن وجودها ليس مما إذا صح وجب فلذلك احتاج إلى مؤثر وليس كذلك سائر ما ذكروه، فإنه مما إذا صح وجب فلم يحتج إلى الفاعل ولهذا لا يؤثر الفاعل إلا في الحدوث وتوابعه(1) على أنه ليس للشيء بكونه شيئاً حال ولا بكونه جسماً وعرضاً بخلاف كونه موجوداً.
شبهة قالوا: لو صح أن يحدث أحدنا فعله لصح منه في الثاني مثل ما فعله في الأول، ومعلوم أن من كتب حرفاً لا يمكنه أن يكتب مثله في كل وجه.
والجواب: لم وجب ذلك فإن قاسوه على القديم تعالى منعنا الجامع على أن احدنا إذا قال يا أمكنه أن يأتي بمثلها في الثاني، وكذلك يفعل مثل الإرادة والاعتقاد والحركة، وكذلك الكاتب الماهر يساوي حروفه حتى يلتبس على الناظر، وإن امتنع ذلك لجواز أن يتغير حال العلم أو يحمل من المداد أقل أو أكثر مما حمله أوّلاً أو لفقد العلم بكمية أجزاء ما أوجده من التأليفات أولاً وثانياً. على أن السؤال وارد عليهم في الكسب.
شبهة، قالوا: لو أحدث أحدنا لسمي خالقاً كالقديم.
__________
(1) . توابع الحدوث: صفات الأفعال.
والجواب: منع الجامع، وبعد فالخلق هو التقدير بحسب المصلحة، فما لم تكن أفعالنا كذلك فالسؤال ساقط فيه، وما كان كذلك فإنما لم يوصف أحدنا بأنه خالق على الإطلاق لوقوع الإجماع على أن هذا اللفظ لا يطلق إلا على الله تعالى من حيث قد صار بالعرف اسماً لمن يوجد أفعاله بحسب المصلحة من غير زيادة ولا نقصان، وليس ذلك إلا القديم تعالى، فأما مع التنفيذ فيصح، ولهذا قال تعالى: {وتخلقون إفكاً}، و{إذ تخلق من الطين} ونحو ذلك مما ورد في اللغة، وأما قوله تعالى: {هل من خالق غير الله يرزقكم فهو على ظاهره؛ لأنا لا نثبت خالقاً يرزق غير الله، فأما الخالق الذي يقدر فعله بحسب الغرض فالقرآن واللغة مشحونان به.
فصل في شبههم السمعية
قد تعلقوا بالمتشابه الذي ذم الله تعالى متبعيه. ولنا في بيان كونه متشابهاً وجوه جملية ووجوه تختص كل آية الأول من الجملية أن يقول وقع الإجماع على أن أكثر القرآن محكم وأقله المتشابه ونحن قد بينا أنه ما يكاد توجد آية من كتاب الله تعالى ألا ومذهبهم يقتضي صرفها عن ظاهرها حتى الآيات /204/ التي يتمسكون بها فإذا أورد التسير المحتمل للتأويل يخالف بظاهره الكثير الذي لا يحتمل التأويل حكمنا بكون المتشابه هو القليل ولا بد لهم من الاعتراف بهذا، ولكنهم يدعون أن الكثير معهم.
الوجه الثاني:أن يقول عدواً أن جميع السمعيات تدل بظواهرها على قولكم وأنه لا دليل لنا إلا من جهة السمع لعقل فقد أجمعنا نحن وأنتم على أنه إذا تعارض السمع والعقل عمل على العقل لأنه لا يحتمل التأويل، وقد ذكره الرازي في الأربعين والمحصول والنهاية، وعللة بأنهما إذا تعارضا لم يخل إما أن يعمل عليهما جميعاً وهو محال لأن فيه اعتقاد المتناقصات، وإما أن يطرحهما جميعاً وهو محال؛ لأن فيه إلغاء الأدلة وأما أن يعمل على السمع ويطرح العقل وهو محال؛ لأن السمع يحتمل التأويل والعقل لا يحتمله فلا يعترض بما يحتمل على ما لا يحتمل وأما أن تعمل على العقل ويتأول السمع وهو المطلوب.
وهذا الذي ذكره صحيح، ولولا ذلك لوجب أن يقضى بأن الله تعالى جسم للآيات التي تدل بظواهرها على ذلك ويترك دليل العقل وهو محال وإذا كان كذلك وجب أن يتأوّل ما يقتضي ظاهره أن يكون الله تعالى ظالماً كاذباً غائباً كما تأولنا ما يقتضي أن يكون جسماً.
الوجه الثالث: أن يقول عدو أنه ليس لمخالفكم دليل قط فإن له أن يمنعكم من الاستدلال بالسمعيات رأسا فيقول إذا كان إذا كان القول ما قلتم من أن الله الفاعل لكل شيء ولا يقبح منه قبيح فما أنكرتم أن هذه السمعيات من الأكاذيب التي فعلها في الأنبياء وأنه لم يصدق نبي قط، وأن كل معجز يظهر عليه فإنما يظهر على كاذب وأكثر ما في ذلك أن يكون قبيحاً في الشاهد وتلبيساً، فهو لا يقبح من الباري تعالى عندكم، وإذا كان كذلك فكيف وثقتم بالسمعيات، وكيف تسكن نفس المسترشد المستفيد لا سيما وقد اصلتم في كتب المنطق أن السمعيات إنما تفيد الظن، وهذه وجوه عامة في كل ما يوردونه من السمعيات في هذه المسألة وغيرها. إذا ثبت هذا فقد تعلقوا بآيات منها قوله تعالى: {خالق كل شيء}.