إلزام يقال لهم: أليس في أفعال العباد ما هو ظلم فلا بد من قولهم بلى فيقال: فيجب أن يسمى الله بفعله لذلك الظلم ظالماً كما يسمى بفعله للعدل عادلاً وبفعله للرزق رازقاً ونحو ذلك؛ لأنه لا فرق عند أهل اللغة في المعنى بين قولهم فاعل للظلم وبين قولهم ظالم بدليل أنه يمتنع إثبات أحدهما ونفي الآخر، قالوا: كيف يتفق معناهما وأحدهما مشتق من ظلم، والثاني مشتق من فعل. قلنا: اختلاف الاشتقاق /192/ لا يدل على اختلاف المعنى كالقعود والجلوس. على أنا نلزمهم المساواة بين قولهم ظلم وقولهم فعل الظلم، فإذا لزمهم ظلم لزمهم ظالم، ونرد عليهم السؤال في العادل.
قالوا: كيف يصح ما قلتم ولفظ الظالم قد أطلق على الشاهد، وهو غير فاعل للظلم عندنا، قلنا: إن أهل اللغة أطلقوا هذا الاسم على الشاهد لما اعتقدوه فاعلاً للظلم، وبعد فهب أنهم أخطأوا في الاعتقاد، أليسوا مصيبين بالتسمية، فعلى هذا يصير هذا الاسم حقيقة في الله؛ لأنه فاعل للظلم على الحقيقة كلفظ الإله فإنهم وضعوه على الأصنام، فجعل لله حقيقة لأنه الذي يستحق العبادة، وهذا الاسم موضوع بإزاء استحقاق العبادة، قالوا: الظالم اسم لمن حله الظلم.
قلنا: يلزم مثله في العادل والرازق ويلزم إذا انفرد بفعل الظلم أن لا يكون ظالماً، ويلزم أن يكون الظالم هو المظلوم؛ لأنه الذي حله الظلم، ولو سلمنا أن محله الظالم للزم أن توجه أحكام الظلم من ذم وعقاب إلى نفس المحل كاللسان واليد دون الجملة. قالوا: الظالم اسم لمن جعل الظلم ظلماً له.
قلنا: يلزم مثله في العادل والرازق وأن لا يكون ظلماً له لو انفرد ويلزم لو وقف على الاختيار أن يجعله ظلماً لزيد دون عمر ومع حصول حقيقة الظلم في الحالين كما يصح أن يجعل الكلام أمراً لزيد دون عمرو مع كونه كلاماً في الحالين. وبعد فيعلمه ظالماً من لا يعلم أن الظلم جعل ظلماً له، وبعد فإن أردتم بقولكم جعل الظلم ظلماً له أنه حصله، فذلك عين ما نوزعتم فيه فكيف يدفعون الإلزام بنفس مذهبكم الذي لا يتم إلا بعد اندفاع الإلزام وإن أرتم أنه جعل كسباً له فسيبطل الكسب.
قالوا: الظالم اسم لمن تفرد بالظلم.
قلنا: يلزم مثله في العادل ويلزم أن لا يوجد ظالم قط، ويلزم في الظلم المتولد أن يقتضي كون الله تعالى ظالماً؛ لأنه تفرد به، وبعد فلو تفرد الله بالظلم هل كان تزيد حاله على كونه محدثاً له، قالوا: الظالم اسم لمن لم يجعل الظلم كسباً لغيره.
قلنا: إن أوردتموه بفتح الياء في يجعل لزم أن يكون كل شيءٍ سوى الله تعالى ظالماً؛ لأنه لا شيء يقدر أن يجعل الظلم كسباً لغيره إلا الله، وإن أوردتموه بضم اليا لزم أن لا يوجد ظالم في الدنيا لأنه ما من أحد يجعل هذا الظلم كسباً له إلا وقد جعل ظلم آخر كسباً لغيره، وعلى أي وجه أورتموه فهو احتراز بنفس المذهب الذي وقع الإلزام عليه فكأنكم قلتم اسم الظالم لا يطلق على الله ويلزم أيضاً مثله في العادل والرازق على أنا سنبطل كسبكم هذا.
قالوا: أليس قد فعل الحركة ولم يسم متحركاً وفعل الولد ولم يسم والداً.
قلنا: قد اشتق له من فعل الحركة اسم وهو المحرك /193/ ومن فعل الولد مولداً، ولكن لا يطلق عليه هذا لإيهامه الخطأ فأما المتحرك فهو اسم لمن حلته الحركة فأوجبت له المتحركية والوالد اسم لمن خلق من مائة آخر من جنسه.
واعلم أن أصحابنا ألزموهم هذا الإلزام من حيث العبارة، فأما من جهة المعنى والقوم يلتزمونه إلا أنهم يدعون أنهم لا يكونون مظلمين إلا بإطلاق العبارة وأصحابنا يلزمونهم التظليم باعتقاد المعنى؛ لأنه المعتبر في ذلك بدليل أن معتقداً لو اعتقد أن مع الله ثانياً لم ينجه من التثنية الامتناع من إطلاق العبارة.
يوضحهه أن بعض العجم لو ظن أن لفظ الظالم موضوع للعادل ثم دعا الله به فقال يا ظالم اغفر لي لما كان عليه حرج في إطلاق العبارة لما لم يعتقد معناها، وكذلك لو تواضع أهل إقليم على أن يجعلوا لفظ الظالم اسماً للعادل والعكس لصح ذلك؛ لأن العمدة على المعاني دون العبارات.
إلزام يقال لهم ألستم تحبون أن تحمدوا على الإيمان وفعل الطاعات فلا بد من بلى فيقال إن الله تعالى يقول: {ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب}.
ويقال: أليس الله خلق الكفر في الكافر وأمره بالإيمان، فكأن الله أمره بتغيير ما خلق وعاقبه لأجل أنه وقع ما خلق ولم لا يغبر خلقه.
ويقال لهم: إذا كان الله نفى عن نفسه الظلم والكذب وعندكم أنه لم يدخل شيء من ذلك في الوجود إلا وهو فاعله فأي شيء نفى عن نفسه أمعقول فكيف كان يكون حاله وهل يريد على ما قد أثبتموه أو غير معقول فأي مدح في نفيه وكيف يخاطب بما لا يعقل، وأي معنى لقوله {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}، وما معنى قوله: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا يظلم نفس شيئاً، ونحو ذلك.
ويقال: أليس بعث الله الرسل إلى الكفار ليتركوا الكفر فلا بد من بلى فيقال فكأنه بعثهم لتغيير خلقه ولتجهيله وليقع خلاف ما أراد.
ويقال: إذا قال الكفار للرسل أي فائدة في إرسالكم إلينا بأي شيء كان يجيب الرسل. ويقال: أليس العبد متعبداً يطلب المعونة من الله تعالى فلا بد من بلى. فيقال: فإذا كان الإيمان من فعل الله تعالى فما معنى المعونة وكيف يحتاج الله في فعله إلى معين، ويقال: أليس يستحق أحدنا الشكر بالإحسان إلى غيره فلا بد من بلى؛ لأن ذلك ضروري فيقال: وكيف يشكر على ما لم يفعل ويقال: قد ثبت أن مسيلمة ادعى النبوة وقال له أصحابه صدقت /194/ في أنك نبي أليس كلامهم هذا تصديقاً له، فلا بد من بلى فيقال إذا كان هذا التصديق فعل الله فلم لا يقولون بصدقه وقد صدقه الله وما الفرق بينه وبني من يدعي النبوءة فتنطق الأشجار والأحجار بتصديقه بأن يفعل الله فيها ذلك التصديق.
فإن قالوا: إن محمداً عليه السلام قال: (لا نبي بعدي).
قيل لهم: وما أنكرتم أن هذا من جملة الأكاذيب التي يفعلها في العباد ولم كان محمداً بالتصديق أولى من مسيلمة وقد صدقهما الله على سواء. ويقال: إذا كان الله خلق الكفر في الكافر وقدرته وإرادته الموجبتين له ومنعه من الإيمان فأي نعمة له تعالى عليه وقد التزموا ذلك في نعمة الدين وخلافة معلوم ضرورة من الدين.
قالوا: فأما نعمة الدنيا فلله عليه نعم كثيرة ولا تستقيم لهم الفرق؛ لأن الله إذا كان خلقه لنار وأحياه لها وفعل فيه ما يؤدي إليها فهو بمنزلة من يقرب إليه الطعام المسموم، فأي نعمة عليه والحال هذه ويقال: ليس يخلو إما أن يتفرد الله بالفعل فيتوجه المدح والذم إليه أو يتفرد به العبد فيتوجه إليه أو يشتركان فيه فيتوجه إليهما.
ويقال: إذا ألقي الصائم على قفاه وسكب الماء في حلقه كرهاً أليس لا يأثم فلا بد من بلى. فيقال: إذا تناول الكوز وشرب منه أليس يأثم، فما الفرق بين الموضعين، وما معنى قوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). ويقال: أليس يصح الإكراه على الفعل وكل فعل فالله تعالى فاعله، فكيف يتصور الإكراه ويقال: أليس يصح الندم على الفعل والتوبة عنه، ولهذا قال تعالى: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} فلا بد من بلى، فيقال: كيف يصح الندم على ما يفعل فيه، وهل يصح أن يقول أحدنا يا ندمي على كوني أسود أو قصير القامة. ويقال: قال تعالى: {فألقوا السلم ما كنا نعلم من سوء} أليسوا صادقين في ذلك، فلا بد من بلى، فيقال: ما معنى تكذيب الله لهم بقوله: {بلى}، ولا بد من أن يكون هذا التكذيب كذباً على أصلكم، ويقال: وجدنا كتاب الله تعالى مشحوناً بذكر شهادة الجوارح على العباد بأنهم فعلوا أفصادقة هي في هذه الشهادة أم كاذبة، ولا بد من أحدهما. ويقال: هل في الشاهد قادر أم لا، إن قالوا لا، قيل: فقد كلف الله تعالى العاجز وليس من مذهبكم. وإن قالوا: نعم، قيل: وما طريقكم إلى ذلك، وقد جعلتم الفعل لغيره، فإن قالوا: وقع باختياره. قلنا: إذا كان الاختيار الموجب مخلوقاً فيه كالفعل فأي دلالة لذلك على كونه قادراً، وهل يدل الهويّ /195/ على كون الحجر قادراً لوجوده بحسب الثقل المخلوق فيه.
فصل في ذكر بعض ما جرى من المناظرات
اجتمع أبو العتاهية وثمامة عند المأمون فرفع أبو العتايهة يده مناظراً لثمامة قال: من رفع يدي فقال ثمامة من أمه زانية. قال: شتمني يا أمير المؤمنين. قال ثمامة: تركت مذهبك، فانقطع.
اجتمع عدلي ومجبر فقال العدلي: أليس بعث الله موسى وهارون إلى فرعون، وقال: {وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}، قال: بلى قال: أبعثه ليغير خلق الله أو فعل فرعون إن قلت بالأول فكيف يقدر موسى على التغيير ويقدر فرعون على الإجابة وما معنى قوله: {لعله يتذكر أو يخشى}، وإن قلت بالثاني تركت مذهبك. وقال عدلي لمجبر: أليس الله يقول: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً}، فأخبرني هل الوعد أن كلاهما من الله أو أحدهما من الشيطان فانقطع المجبر.
وناظر مجبرٌ عدلياً، فقال العدلي: لا أدري ما يقول، غير أن الله يقول: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} فلا بد أن يكون الذي أوقدها غير الذي أطفأها.
وقيل لأبي الهذيل من جمع بني الزاني والزانية؟ فقال: أما أهل البصر فيسمونه قواداً وأظن أهل بغداد لا يخالفونهم، فسكت السائل. وقال أبو الهذيل لحفص: هل شيء غير الله وغير ما خلق، فقال: لا، فقال: فعذب الله الكافر على أنه الله أو على أنه خلق، فقال: لا على واحد منهما، فقال: فعلام؟ قال: على أنه عصى، قال: فكونه عصى قسم ثالث، قال: لا، فأعاد السؤال، فانقطع وكان النظام حاضراً فلقن حفصاً حجته فقال: قل لأنه اكتسبها، فقال ذلك فقال: هل الكسب شيء غير الله وغير ما خلق؟ قال: لا، فأعاد السؤال، فانقطع.
وقيل لأبي يعقوب المجبر: من خلق المعاصي؟ قال: الله، قيل: فلم عذب عليها؟ قال: لا أدري.
وروي أنه أتى بعض الولاة بطرَّاز أحول العين وعنده عدلي ومجبر، فقال للمجبر: ما ترى يفعل فيه؟ فقال: يضربه خمسة عشر سوطاً، فقال للعدلي: ما تشير؟ فقال: نضربه ثلاثين سوطاً، خمسة عشر لكونه طرّازاً، وخمسة عشر لكونه أحول العين، فقال المجبر: أتضربه على الحول ولا صنع له فيه، قال: نعم، إذا كانا جميعاً من فعل الله تعالى فالحول والطرّ سواء، فانقطع المجبر.
وقال عدلي لمجبر: هل تملك من مالك وأهلك شيئاً؟ قال: لا، فقال كل الذي تملكه قد جعلته في يدي /196/ قال: نعم، قال: أشهدوا أن نساؤه طوالق وأن عبيده أحرار وماله صدقة للمساكين، فتحولت امرأته عنه، وسألت العلماء فأفتوا بوقوع جميع ذلك عنه فصارت قصته أضحوكة.
وقال أبو محمد المزيّن وكان ظريفاً: إذا أعطيت كتابي يوم القيامة قلت: قد عرفت ما فيه، ولكن هل أسأل عن شيء أثبته باختياري أم عن شيء خلق في أن قالوا عن شيء أثبته باختيارك، قلت: يا رب عبدك الضعيف أخطأ وأساء وعلى عفوك وفضلك توكل، فإن عفوت فبرحمتك، وإن عذبت فبعدلك، وإن قالوا: خلق فيك وقضى عليك، قلت: يا معشر الخلائق العدل الذي كنا نسمع به في الدنيا ليس هاهنا منه قليل ولا كثير.
وقال مجبر لعدلي: أرأيت لو كان لي قطعة من الطين هل لي أن أعمل فيها ما أحببت حتى أعمل فيها جرة صحيحة وأخرى معوجة مكسورة، قال: نعم، ولكن بشرط أن لا تقول: لِم كانت هذه صحيحة وهذه معوجة؛ لأن ذلك فعلك، ثم قال العدلي: إني أسألك، ما تقول في رجل غرس في بستانه خوخاً فقط، ثم قال لغلامه: اذهب فائتني بكل فاكهة، فجاء الغلام وقال: ليس فيه إلا الخوخ، فقال: اذهب فأحرقه، لِم لم يكن فيه سوى الخوخ، أهذا فعل حكيم، فانقطع؟
فصل في إبطال قولهم بالكسب
اعلم أن الكسب والإكساب هو إيقاع الفعل لجلب نفع أو دفع ضرر، ومنه سميت الحِرَف مكاسب والطيور المحضوضة كواسب، وعلى هذا يحمل ما ورد في القرآن؛ لأنه المعقول من الكسب وأما كسب المجبرة فهو من الأسماء التي لا مسمى لها، والحيالات التي ليس لها حقيقة، وإنما التجؤا إلى القول به عند ضيق الخناق ولزوم الأمور الشنيعة من قبح الأمر والنهي والوعد والوعيد وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونحو ذلك.
وسبيلنا أن نبين أولاً أنه غير معقول في نفسه فضلاً عن أن نشتغل بإبطاله فنقول: لم يزل علماء الحق وفرسان الحجاج يطالبونهم بإظهار معنى الكسب، فما حصلوا منه على محصول ونحن نقدم في ذلك طريقة قاطعة فنقول: أخبرونا عن الكسب، أشيء هو أم لا شيء، إن قلتم: لا شيء فهو الذي نريد بأنه غير معقول، وإن قلتم هو شيء؟ قلنا: أقديم هو فما وجه إضافته إلى العبد حتى يمدح ويذم عليه ويثاب ويعاقب، أو محدث، فهل تفرد الله بإحداثه، فما معنى إضافته إلى العبد وأي فرجٍ في ذكره أم تفرد به العبد فقد تركتم مذهبكم، وأثبتم العبد محدثاً لفعل أم أحدثه الله واكتسبه العبد، فيعود السؤال، فإما أن يحتاج إلى كسب آخر فتسلسل، وإما أن يقتصر على الفعل ويبقى الكسب من أول وهلة أنهم قد حققوه بحقائق لا صحة لشيء منها.
فقال الأشعري: الكسب هو وجود الفعل بقدرة الله مقارناً لقدرة العبد لا تأثير لها في ذلك الفعل.
ولنا أن نقول: أول ما في هذا /197/ أنه إذا كان الفعل وقدرة العبد كلاهما من فعل الله ولا تأثير لأحدهما في الآخر فلم كان أحدهما بأن يكون مكتسباً لأجل مقارنته للآخر أولى من العكس، وبعد فإذا كان لا تأثير للقدرة المحدثة في الفعل فما الحكمة في خلقها وجعلها مقارنة له، وهلا كان وجودها كعدمها ومقارنتها كلا مقارنة. وبعد فجميع الأعراض عنده غير نافية، فلم جعل الفعل كسباً لمقارنته للقدرة، ولم يجعله كسباً لمقارنته للكون، وبعد فإذا كان الكسب هو وجود الفعل على هذه الكيفية فهو متعلق بالله، فما وجه إضافته إلى العبد وأي اختيار له فيه. وبعد فكأنه يقول يذم العبد وبلعن على الفعل؛ لأنه خلق فيه مع غيره ولا يذم على اللون لأنه خلق فيه وحده، وهذا في غاية الركة. وقال: الباقلاني: المرجع بالكسب إلى صفة للفعل هي كونه طاعة أو معصية فوجود السجدة مثلاً هو من الله وكونها طاعة أو معصية هو من العبد، وهذا أيضاً ظاهر السقوط لأنا نسأله عن هذه الصفة التي هي كون السجدة طاعة هل هي وجود السجدة فهو الذي نهرب منه أو كونها كسباً، فعنه وقع السؤال، وبعد فإذا صح من أحدنا أن يجعل فعل الله على صفة بها تصير طاعة أو معصية فما الفرق في ذلك بين السجدة واللون، فهلا صح أن يكون اللون طاعة أو معصية بأن يكسبه أحدنا تلك الصفة، وبعد فالذي يعقل ويصح من معنى كون الفعل طاعة هو أن العبد فصد به وجه الله تعالى، وهذا لا يثبت إلا إذا كان فاعل السجدة، وفاعل القصد واحداً حتى لو قصد أحدنا بسجدة عابد الوثن وجه الله لما كانت طاعة، ولو قصد عابد الوثن بسجدة أحدنا التقرب إلى الوثن ما كانت معصية.
والحاصل أن القصد لا يكون قصد إلا إذا كان فاعله وفاعل الفعل واحداً، ولهذا لا يقال أن أحدنا يقصد أن يكون لونه أبيض وإن جاز أن يقال أراد ذلك.
إذا ثبت هذا قلنا: أخبرنا عن القصد الذي صار الفعل طاعة أو معصية هل هو فعل الله فقد أبطلت مذهبك ولم يبق لذكر الكسب فائدة أو هو فعل العبد فقد أثبت العبد فاعلاً لفعل لم يفعله الله أو هو كسب للعبد، وفاعله الله، فيحتاج إلى كسب آخر، ويتسلسل، وبعد فأخبرنا عن هذه الصفة هل تقف على اختيار العبد، فكان يصح أن يوجد الله الفعل ولا يكتسبه العبد بأن لا يختار الكسب ولا يقف على اختياره، فما الفرق بينها وبين الإيجاد، ولم كان إحدى الصفتين بأن يكون كسباً أولى من الأخرى، وبعد فمن أصلنا أنه لا يقدر على صفة للذات من دون معنى، إلا موجد تلك الذات كالكلام، فإنه لا يجعله خبراً إلا الذي أوجده، فكذلك لا يجعل الفعل طاعة إلا الذي أوجده، وبعد، فلو سمى أحدنا مكتسباً لأجل أنه صير /198/ الفعل على صفة لكان أحدنا مكتسباً للجسم إذا صيره على صفة المتحركية، وبعد فكثير من مخققيهم كأبي إسحاق والغزالي والجويني والرازي لا يثبتون الصفات، فما معنى الكسب عند هؤلاء، وقال بعض مشائخهم: الكسب هو ما وقع بقدرة محدثه، فقال لهم أصحابنا: أتريدون بقولكم وقع حدث فهو الذي يقوله أو يريدون الكسب، فعن الكسب سألناكم، وقال بعضهم: الكسب هو ما حله مع القدرة عليه، وهذا متهافت؛ لأن الفعل إنما يخل بعض الفاعل، ولأن إثبات القدرة فرع على إثبات أحدنا قادراً، وذلك فرع على كونه فاعلاً، وإذا كان الله أحدث الفعل فما معنى القدرة عليه، ولأن قولهم عليه يفيد أن القدرة مؤثرة فيه، فيقال: ما تأثير القدرة، هل في الإيجاد، فهو المطلوب أو في الكسب، فعنه وقع السؤال. على أنهم احترزوا بمحل القدرة عن المتولد، وهو جهالة؛ لأن في المتولدات ما يوجد في محل القدرة عليه كالعلم المتولد عن النظر وكالتأليف.