فصل
وكل علم حسن عند أبي هاشم وأبي الهذيل، وخالفه أبو القاسم في العلم إذا قصد به وجه قبيح كالعلم بالسحر، للعمل به، والعلم بالشبهة للتلبيس، والعلم إذا كان فيه مفسدة كالعلم بأعيان الصغائر والعلم بما معه تمكن من معارضة القرآن.
قال أبو هاشم: الذي يقبح هو القصد في الأول والتمكين في الثاني. واعترضه ابن متويه بأنه لا يمتنع أن يعلم الله من حال بعض المكلفين أنه إذا حصل له علم ما فسد عنده. ويمكن الجواب بأن العقلاء يستحسنون الإقدام على كل علم على الإطلاق، فلو كان فيها ما هو قبيح لدل عليه الشرع.
فصل
ويصح أن يعلم المعلوم الواحد بعلوم كثيرة خلافاً لأبي علي، وكأنه بناء على أصله في امتناع تسكير الساكر، وجمع المجتمع ونحوه.
لنا: صحة اجتماع المتماثلات والمختلفات في المحل الواحد، ومتى علمه بعلوم فهو كمن علمه بعلم واحد؛ لأن سكون النفس لا يتزايد، فأما الجلاء فالمرجع به إلى كثرة الطرق لا كثرة العلوم، ولهذا قد يكون العلم الواحد أجلا من العلوم الكثيرة كالضروري مع المكتسبات.
وأما قولهم فلان أعلم من فلان فمعناه في أحد قولي أبي علي كثرة علومه كقولهم أقدر، وفي القول الثاني كثرة المعلومات.
وقال أبو هاشم: معناه أنه يعلم ما يعلمه الآخر، وما لا يعلمه.
فصل
وليس يجب إذا علم أحدنا الشيء أن يعلم أنه عالم به بل الظن في ذلك يقوم مقام العلم خلافاً لأبي علي، وجعل ذلك وجهاً في أن أحدنا لا يقطع أنه من أهل الثواب.
فصل
والعقل عندنا مجموع علوم ضرورية يصح بوجه التكليف على من احتضرها على بعض الوجوه، وسميت عقلاً تشبيهاً بالمعنى اللغوي لما كانت تمنع صاحبها من ارتكاب القبائح، ويستعمل القول أيضاً في عرف اللغة بمعنى الوقار، وشدة التثبت وكثرة التحارب، وعلى هذا يقال: فلان لا عقل له، وفلان أعقل من فلان. وهذه العلوم كثيرة:
منها: العلم بأحوال أنفسنا على الجملة، نحو كوننا مريدين ومشتهين، ونحو ذلك.
ومنها: العلم بالبداية، نحو أن الكل أكثر من الجزء. ومنها: العلم بالمحسوسات، نحو: إن الشمس منيرة، وأن الكافور أبيض، ويدخل فيه الخبر؛ لأنا إنما نعلم أن النار محرقة بعد مشاهدة ذلك،و يدخل أيضاً العلم بالأمور الجلية قريبة العهد؛ لأن الله تعالى يحدد فينا العلم بها من حال المشاهدة، ويدخل فيه أيضاً العلم بتعلق الفعل بفاعله، فلا وجه لعد هذه أقساماً مستقلة.
ومنها: العلم بمخبر الأخبار المتواترة عند غير أبي هاشم، نحو: إن في الدنيا مكة، وإن في الملوك كسرى. وهذا وإن استند إلى المشاهدة فليس يدخل في تسميتها؛ لأن المشاهد هنا هم المخبرون بخلاف الخبرة والتجربة.
ومنها: العلم بأن الشيء لا يخلو من نفي وإثبات، نحو: إن زيداً إما في الدار أو ليس فيها.
ومنها: العلم بقصد المخاطب فيما يتجلى إذا عرفت ذاته ضرورة.
ومنها: العلم بأنه لا فيل بحضرتنا، والعلم بأنه لو كان لرأيناه.
ومنها: العلم بوجوب بعض الأفعال كرد الوديعة وشكر المنعم، وقبح بعضها كالظلم والكذب، وحسن بعضها كإرشاد الضال وإنقاذ الغريق وحسن الأخلاق. والذي يدل على أن هذه العلوم هي العقل أنا نعلم في من اختص بها أنه عاقل وإن جهلنا كل أمر، ويعلم في من فقدها أو بعضها أنه ليس بعاقل، وإن علمنا كل أمر.
وبعد فالعقل إما أن يكون ضداً لهذه العلوم فلا يصح مجامعته لها، أو مخالفاً فيصح انفصاله عنها ويجب، وأن لا ينفيه أضدادها، وكله محال، وإما أن يكون مثلاً لها، وهو المطلوب.
وبعد فلو كان غيراً لها لوجب أن نجد من أنفسنا حالاً أو حكماً يستدل به عليه، ونحن لا نجد من أنفسنا، سواء كوننا عالمين بهذه العلوم.
وقد ذهب جمهور أهل الخبر إلى أن العقل قوة يمكن معها إدراك المعقولات، ويبطله أن القوة هي القدرة والقدرة يصح وجودها، ولا عقل.
وبعد /16/ فكثير من المعقولات غير مدرك، وما كان منها مدركاً فالعقل زائداً على إدراكه، ولهذا قد يدركه من لا عقل له.
وبعد فتحديد العقل بالمعقولات إحالة، فإن كل من لا يعلم العقل لا يعلم المعقول.
وذهبت الطرفية إلى أنه القلب، ويبطله لزوم أن يكون كل ذي قلب غافلاً.
وذهبت الفلاسفة إلى أنه جوهر بسيط، هذا ما حكا أصحابنا عنهم، وهو كما حكوه، إلا أنهم أرادوا بذلك العقل الفعال الذي يؤثر في النفوس المؤثرة في الأجسام، وهو الملك عندهم، وسيأتي تحقيق قولهم وإبطاله.
وأما العقل بالمعنى الذي يريده المتكلمون فقد حكاه الغزالي عنه فيه قريباً مما يقوله أصحابنا، وهو التصورات والتصديقات الحاصلة بالفطرة، أي بالضرورة، إلا أنهم لا يسمونه علوماً؛ لأن العلم عندهم ما كان إكتسابياً، وهو اصطلاح مجرد.
وذهب أبو الحسين إلى أن القلب إذا كان مبنياً بنية مخصوصة جرى مع المعقولات مجرى العين الصحيحة مع المرئيات، فكما يجب في الحر منا أن يرى إذا صحت عينه واعتدلت كذلك يجب إذا صحت بنية قلبه واعتدلت، وأدرك المدركات وزال اللبس أن يعلمه، وإذا علمها وجب أن يعلم ما يتفرع عنها من كثير من صفاتها وأحكامها نحو أن الشيء لا يخلو من النفي والإثبات وقبح بعضها ووجوب بعضها مما يعده الجمهور من علوم العقل، ويمكن أن يقال له مع ما تقدم أن بنية قلب النائم صحيحة معتدلة، وهو لا يعقل.
وبعد فقياسه للقلب على العين بعيد؛ لأن العين حاسة يدرك بها، ويمكن استعمالها في المدرك ضرباً من الاستعمال، والقلب ليس كذلك.
وبعد، فقوله إذا اعتدلت بنية قلبه وأدرك المدركات وجب أن يعرفها وما يتفرع عنها لا ينافي ما يقوله الجمهور، لكنهم يجعلون تلك المعرفة من علوم العقل.
فصل
زعم أهل السفسطة والعنود أنه لا يصح العلم بشيء، وانه لا حقيقة لشيء، وأن ما يشاهده العقلاء حال اليقظة كما يشاهدونه حال النوم.
ومنهم فرقة تسمى الآدرية؛ لأنهم يقولون في كل شيء لا يدري، والكلام مع الكل يقع على جهة بيان أنهم كاذبون على أنفسهم لا على جهة المناظرة؛ لأنه كيف يصح مناظرة من ينكر الضروريات التي لا يدخلها شك، فيقال لهم: أتعلمون أنه لا حقيقة لشيء، فقد تركتم مذهبكم أم لا تعلمون، فلم قلتم أنه لا حقيقة لشيء؟ ولم لا تجوزون خلاف ما ذهبتم إليه؟ وإذا جوزتم /17/ فهل تعلمون ذلك الجواز أم لا؟
ويقال لهم: بماذا تجنبون ما يضر وتتبعون ما ينفع، وكيف ميزتم بين ذلك؟
فإن قالوا: بظن ذلك، قيل لهم: وهل تعلمون أنكم تظنون؟ وهل تعلمون الفصل بين العلم والظن، وما يتعلق الظن أم لا.
فإن قالوا: نعم تركوا مذهبهم.
وإن قالوا لا، عاد السؤال.
ويقال لهم: إنكم إذا سئلتم عن الشيء قلتم لا ندري، أفتعلمون أنكم لا تدرون أن قولكم لا ندري يطابق مذهبكم، وهل تعلمون الفصل بين لا ونعم.
شبهتهم: ما يقع من الغلط في المناظر ويتخيلها العقلاء على خلاف حقيقتها كالسراب يظنه العاقل ماء، وكحبة العنب يرى في الماء، كالإجاصة وكالشجرة ترى على الشط منكسة، وكالشط يراه راكب السفينة كأنه سائر، ونحو ذلك.
والجواب: أن هذه شبهة إنما يتأتى على القول بأن للأشياء حقائق يقع اللبس في بعضها، فإما على قولهم فلا يصح، وعندنا أن ذلك اللبس لأمر يرجع إلى الأشعة ومحاولة بعض أجزاء المرئيات لبعض، ثم نقول لهم وهل تعلمون أن العنبة أصغر من الإجّاصة وأ نالسراب ليس بماء، ونحو ذلك مما عدوه.
فإن قالوا: نعم، بطل مذهبهم، وإن قالوا لا سقطت شبهتهم.
القول في وجوب معرفة الله
ذهب الجمهور إلى أنه يجب على كل عاقل أن يعلم الله تعالى على الجملة وما يجب له، ويستحيل عليه وما يحسن منه ويقبح.
وقال أبو علي الأسواري والجاحظ وغيرهما: المعارف ضرورية، فلا يجب. وجوزه السيد المؤيد بالله في حق الأنبياء والأولياء.
وقال قوم: التقليد جائز في حق كل عاقل، فلا تجب المعرفة.
وقال أبو إسحاق بن عياش وأبو القاسم الكعبي: يجوز للعوام تقليد المحق، وروي عن القاسم عليه السلام جواز تقليد المحق مطلقاً.
وقال قوم: يكفي الظن بصانع العالم ولا حاجة إلى العلم.
والكلام على أهل المعارف: هو أن يقول أن هذه المعارف تحصل بحسب أنظارنا في الكمية والمطابقة على طريقة مستمرة، فيجب أن يكون منتبه عنها، ولا يلزم مثله في اللون الحاصل عند الضرب؛ لأنه لون الدم انزعج بدليل أنه لو ضرب الجماد لما حصل لون.
وبعد فالمبتدأ منها يحصل بحسب قصودنا ودواعينا، وينبغي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الحال، ولا يرد العلم بمخبر الأخبار المتواترة؛ لأنه يحصل باختيار الله تعالى لا باختيار المخبرين، وإلا وجب حصوله عند كل خبر بأن يختاروه، وأن لا يحصل عند خبر الكثرة بأن لا يختاروه.
وبعد، فكان يلزم في من لا يعرف الله تعالى أن يكون /18/ معذوراً، والتزام هذا كفر، ولا يقال العقلاء كلهم يعرفونه، لكن فيهم من جحده؛ لأن الجحود إنما يكون مع التواطي، وهو متعذر في حق الكثرة.
وبعد، فلو كان العلم بالله ضرورياً لكان بديهياً لتعذر ما عداه من الضروريات، فكان يجب أن يشترك العقلاء فيه؛ لأنه من كمال العقل، وأن بعد المخالف فيه مكابر كالسوفسطائي وخلافه معلوم، لا سيما وفي المخالفين من يدعي كون الباري جسماً ضرورياً، فإن إثبات خالق لا نظير له مكابرة.
وبعد فقد مدح الله تعالى العلماء في غير موضع من القرآن وأمر بالمعرفة في قوله: {فاعلم انه لا إله إلا الله}، وكل ذلك يقتضي أن المعرفة من فعلنا.
وأم ما قاله المؤيد بالله فقد أبطله الجمهور بأن المعرفة لطف، فلا يجوز أن يخص الله بها بعض المكلفين دون بعض، فكان يجب أن يفعلها في الجميع ويقبح التكليف باكتسابها، وله أن يقول مسلم: أن المعرفة لطف لجميع المكلفين، لكن ما أنكرتم أن يعلم الله من حال بعضهم أن لطفه في المعرفة الضرورية، ويعلم من حال الاخر أن لطفه في الاكتسابية.
فالأولى في إبطال قوله رحمه الله تعالى ما تقدم من أنها لو كانت ضرورية، لكانت بديهية، فكان يجب اشتراك العقلاء فيها من حيث يعد في كمال العقل لا من حيث اللطف، وأيضاً فتجويزه لذلك في حق الأنبياء والصالحين يقتضي أنهم قد عرفوا الله بالاكتساب قبل حصول المعرفة الضرورية؛ لأنهم إنما يكونون أنبياء وصالحين إذا عرفوا الله، ومتى قدرنا أنهم عرفوه استدلالاً بعد ما ذكره رحمه الله تعالى.
شبهة أهل المعارف: إن المعرفة لو كانت من فعلنا لجاز أن يختار أحدنا الجهل بدلاً منها، في ثاني حال النظر؛ لأن من قدر على الشيء قدر على جنس ضده إذا كان له ضد.
والجواب: إنه معارض بما تعدونه نظرياً من العلوم. والتحقيق: أن العلم قد صار واجب الوجود لوجود سببه، والجهل إنما يقع مبتدأ باختيار الفاعل.
قالوا: لو كلف المعرفة لوجب أن يعرف صفة ما كلفه واحدنا حال النظر لا يعرف صفة المعرفة، إذ لو علمها لما كلف النظر؛ لأنها هي المطلوب.
قلنا: هو يعلم ماهية المعرفة تصوراً، وإن كانت معدومة، وهي مكلف تلك الماهية المتصورة في ذنه، على أن معرفة سببها الموصل إليها يقوم مقام معرفتها، وعلى أنهم معارضون بما يعدونه نظرياً من العلوم.
قالوا: لا مشقة في العرفة، فكيف يكلف بها.
قلنا: المشقة في سببها.
قالوا: وكيف يجب العلم بالشيء قبل العلم بصفة من أوجبه؟
قلنا: العقليات تجب لوجوه يقع علها، فلا يحتاج إلى العلم بالموجب.
قالوا: لو كلف أحدنا /19/ بالمعرفة لنهى عن الجهل، ولو عرف الجهل لعرف المجهول.
قلنا: ليس منهياً عن جهل معين وإنما هو منهي عن كل اعتقاد لا يأمن كونه جهلاً.
والكلام على أهل التقليد هو أن المقلد لا يأمن في ما يعتقده أن يكون جهلاً، والأقدام على ما يؤمن كونه جهلاً قبيح كالإقدام على الجهل.
وبعد فإما أن يقلد الجاهل وهو ظاهر البطلان، أو العالم فذلك العالم إما أن يعتقد مذهبه ضرورة وهو باطل بما تقدم أو تقليداً فيلزم التسلسل، أو دلالة فيبطل التقليد.
وبعد فإما أن يخير والتقليد مع تجويز الخطأ فيلزم صحة تقليد سائر الملل الكفرية أو لا فرق بينها وبين ملة الإسلام عند المقلد في جواز الخطأ، وإما أن يشترطوا في جواز التقليد أن لا يجوز الخطأ على من قلده، فهو باطل؛ لأنه كيف يعلم أنه لا يجوز عليه الخطأ وقد دخل في هذا إبطال ما حكى عن القاسم عليه السلام؛ لأن المقلد كيف يعلم المحق حتَّى يقلده.
وبعد، فلو جاز التقليد لكان أحق الناس بأن يقلده الأنبياء، فيكون(1) إظهار المعجز عبثاً.
وبعد، فإما أن يقلد أرباب المذاهب وفيه اعتقاد المتضادات أو واحداً منهم، ولا مخصص.
فإن قالوا: بالكثرة.
قلنا: هي لا تدل على الحق بدليل: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك..} الآية، {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} {ولكن أكثرهم لا يؤمنون}، {وقليل ما هم}، {وقليل من عبادي الشكور}، {وما آمن معه إلا قليل}، ونحو ذلك، ولأن الكثرة قد تعود قلة والعكس.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عليكم بالسواد الأعظم)) فأحادي، ومحمول على اتباع الإجماع؛ لأنه لا سواد أعظم منه، ومحمول أيضاً على اتباعه في الشرعيات.
فإن قالوا: نقلد الأزهد.
قلنا: في كل فرقة لا زهاد.
__________
(1) . يقال: لم يكونوا أنبياء إلا بإظهار المعجز، فلا يكون عبثاً.
وبعد فقد ذم الله التقليد في عدة آيات نحو: {إنا وجدنا آباءنا على أمة}، ونحو: {إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبَعوا..} الآية، ونحو: {فهم على آثارهم يهرعون}، ونحو: {اتخذوا أحبارهم..} الآية، ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تكونوا أمّعَةً تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا ألا إن الأمّعة المحقّب دينه الرجال))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم وأئمة مضلون وجدال منافق)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((لن تهلك أمة إلا من قبل علماء السوء))، ونحو ذلك كثير.
ويقال لأهل التقليد: هل يجب شكر المنعم فلا بد من قولهم بلى.
فيقال: وكيف يجب شكر من لا يعرفه.
ويقال لهم أيضاً: هل يجب الاعتراف بالنبوءات والشرائع، وله تجب /20/ العبادات، فلا بد من قولهم بلى.
فيقال: إذا لم يعرف المعبود وحكمته فكيف تعرف وجوب العبادات ونبوة الأنبياء.
شبهتهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يدعو الناس إلا إلى الإقرار بالشهادة، ولم يكن يأمرهم بطلب الدقائق(1)، وحل الشبه وكثير مما يذكره اهل الأصول، ولهذا قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها حقنوا مني دماءهم وحسابهم على الله)).
والجواب: إنما اقتصر على ذلك في القتال؛ لأن الإكراه لا يتصور في باب العقائد، فإما الحث على النظر والعلم بالله تعالى فمما لا يخفى نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي: ((وماذا صنعت في رأس العلم))؟ قال: وما رأس العلم. قال: ((أن تعرف الله حق معرفته..)) الخبر. وقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: ((تفكر ساعة خير من عبادة سنة))، وبالجملة فإن الكتاب والسنة مشحونان بالحث على النظر والذم على تركه.
__________
(1) . في نسخة: العلم الدقيق.
قالوا: لو كلف العوام والنساء بهذه الأصول والاستدلال عليها بالأدلة الغامضة ودفع الشبه مع علمنا أنهم لم يفعلو ذلك لوجب أن يقضى بكونهم كفاراً، ويجري عليهم أحكام الكفرة، ومعلوم خلافه.
قلنا: لم ندع أنهم كلفوا ما كلفه المبرزون في العلم، وإنما كلفوا جملة يسيرة يسهل اكتسابها وأدلتها مقررة في عقولهم، وعجزهم عن التعبير عنها لا يدل على أنهم غير عالمين بها، فإن كثيراً من العقلاء يعلم ما لا تحسن العبارة عنه، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عاقلاً عن العقل ما هو لما درى كيف يجيبك، ومتى عددت العلوم المذكورة لقال أما هذه فأنا أعلمها. يزيده وضوحاً: أن الذي يذكره العالم للمتعلمين في هذا الفن إنما هو التنبيه على وجوه الاستدلال، وعلى ما هو مقرر في عقولهم.
قالوا: قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا..}، فأخبر تعالى أن الإقرار كاف في ذلك.
قلنا: رأس الاستقامة العلم بالله تعالى وإلا لزم في الكافر والمنافق مثله إذا أقر باللسان.
قالوا: قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} ولم يشترط الاستدلال.
قلنا: معرفة صحة القول وحسنه يقف على معرفة الله تعالى.
قالوا: قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: ((بني الإسلام على خمس)) ولم يذكر غيرها.
قلنا: شهادة أن لا إله إلا الله وسائر الخمس تقف على معرفة الله؛ لأنه كيف يشهد أنه لا إله إلا الله ولم يعرفه.
والكلام على أهل الظن هو أن التكليف بالظن مع إمكان العلم قبيح في باب الأصول؛ لأن كون الباري تعالى مرئياً أو غير مرئي مثلاً أمر ثابت في نفس الأمر لا يحصل بحسب الظن /21/ ولهذا يخالف الفروع، لأن المصلحة فيها بجواز أن يحصل بحسب الظن.
وبعد فإما أن يكلفوا الظن كيف كان أو الظن الصائب المطابق لأقوى الإمارات.
إن قالوا: بالأول. فهو ظاهر السقوط، وإلا لزم إصابة من ينفي الصانع، وينكر النبوات ويشرك بالله.
وإن قالوا: بالثاني. قلنا: وكيف يعلم أن ظنه صائب مطابق.