قال: لأنه ليس بأعظم من غيره من القبائح، وقالت النجّاريّة: الكذب قبيح، والله تعالى غير موصوف بالقدرة على ما يقبح، ولأنه يدل على الجهل والحاجة ويبطل الأول ما تقدم من أنه قادر على القبحيح وأيضاً فكل كذب في العالم إنما يكون متولداً عن الاعتماد، وعندهم أن المتولدات ينفرد الله بها. ويبطل الثاني أن الكذب كغيره من القبائح، فإما أن يجوزوا الجميع أو يمنعوا الجميع. وقالت الأشعرية: إنما لم يجز الكذب عليه، لأنه صادق لذاته، حتى لو كان الكلام فعلاً له لما قبح منه.
ويمكن أن يقال لهم: إن الخصم ألزمكم على مذهبكم أن لا يكون صادقاً، فدلو أولاً على أنه صادق حتى يمكنكم القول بأنه صادق لذاته، وبعد فاتفقنا نحن وأنتم على أن الكلام الذي سمعناه من محمد عليه السلام فعل ويزعمون أنه حكاية أو عبارة فما يؤمنكم أن هذا الذي سمعناه كذب وأن كلام الله القائم بذاته خبراً عن كون المؤمنين في النار والكفار في الجنة عكس ما سمعناه من محمد، وبعد فعندكم أنه آمر لذاته ومع ذلك يجوز أن يأمر ببعض الأشياء وينهى عن بعض، فهلا جاز أن يكون صادقاً لذاته، ومع ذلك يكون صادقاً في بعض الأشياء دون بعض. وبعد فعندكم أن كلام الله تعالى معنى قائم بذاته يوجب كونه متكلماً ومعلوم أن الخبر نوع الكلام النفسي ومع كونه ثاتباً لمعنى يمتنع أن يكون ثابتاً للذات.
يوضحه: أن قولنا صادق مشتق من الصدق، فيجب كون الصدق معنى كما هو أصلهم في إثبات المعاني، وإذا كان كذلك وكان الخبر بكون زيد في الدار معنىً قديم صح ثبوت ذلك المعنى وزيد ليس في الدار كما يثبت، وزيد فيها إذ لا تأثير لدخول زيد الدار وخروجه في تغيير المعنى القديم /185/، وبعد فما أنكرتم أن ذلك المعنى القديم كذب وليس بصدق.
فإن قالوا: إنه تعالى عالم بكل شيء، فلا يجوز أن يخالف كلامه علمه.

قلنا: ولِم لا يجوز وقد جاز ذلك في الشاهد، أليس أحدنا يقول في نفسي كلام هو أن زيداً في الدار وهو يعلم أنه ليس فيها. وبعد فكثير منكم يذهب إلى حسن الكذب الذي فيه نفع ومصلحة كالحلف في الوعيد، فهلا كان المعنى القائم بذاته كذباً حسناً لنفع فيه وصلاح لا تعلمونه أو ليكون كذباً من وجه دون وجه كما أنه أمر من وجه ونهي من وجه.
وعلى الجملة فنحن نلزمهم الكذب في الكلام الذي عبارة عن المعنى النفسي، فلا نثبت دلالته على المعنى النفسي. إلزام يقال لهم: إذا صح أن يفعل الظلم صح أن يأمر به وكل وجه يذكرونه في المنع من الأمر به قائم في المنع من فعله، ولا يقال أليس أمر الله تعالى بالصلاة ولا يفعلها لأنا نقول هذا عكس ما ألزمناهم؛ لأنا ألزمناهم صحة أن يأمر بما يفعله لا صحة أن يفعل ما أمر به.
إلزام يقال: إذا صح ان يفعل القبائح ولا يقبح فهلا جاز أن ينصب الأدلة على الباطل ويكون الحق عكس ما تقتضيه الأدلة، فلا تحصل الثقة بأن ما عليه المسلمون حق وليس تجويزه بأعظم من تجويز أن يضل عن الدين ويخلق اعتقاد الباطل والحيل والجهل بالأدلة وتكذيب الأنبياء ونحو ذلك مما يجوزونه ولا يقبح منه.
إلزام يقال: إذا جاز أن يخلق الضلال والباطل والكفر والكذب، فهلا جاز أن يبعث رسولاً يدعو إلى ذلك ولا يقبح منه، فليس بعثه من يدعو إلى الضلال بأعظم من خلق الضلال، ومتى جاز ذلك فكيف يمكن القطع بأن الأنبياء دعوا إلى الحق.
إلزام يقال: إذا كان لا يقبح منه قبيح فهلا جاز ان يظهر المعجز على الكذابين ولا يظهره على الصادق فلا يوثق بصدق نبي ولا كذب متنب وقولهم إن المعجز موضوع للتصديق كلام فارغ؛ لأنه إنما يثبت ذلك إذا ثبت أن المدعي صادق وأن الله حكيم، والسائل ألزمهم كذب جميع الأنبياء وإن ظهر عليهم المعجز.
تنبيه: وكما يلزمهم جميع هذه الإلزمات فإنه يلزمهم أن لا يحتالوا للانفصال عنها، وأن لا يستنكروا إلزامها ويتكلفوا الجواب عنها؛ لأنه لا يتصور فيها قبح عندهم لو صدرت منه تعالى.

القول في خلق الأفعال
ذهب أهل العدل إلى أن أفعال العباد منهم، وقال أهل الجبر: هي من الله تعالى، واختلفوا فقال جهم: هم لها كالظروف وإضافتها إليهم كإضافة ألوانهم وكإضافة حركة الشجرة إليها، وسوى في ذلك بين المباشر والمتعدي.
وقال ضرار هي من الله حدوثاً ومن العبد /186/ اكتساباً ولم يفرق بين المباشر والمتعدي، وبه قال الأشعري في المباشر، فأما المتعدي فالله مستفرد به عنده. وقال المدعون للتحقيق منهم: الفعل يقع بقدرة العبد، ولكنها موجبة، ففاعلها هو فاعل الفعل؛ لأن فاعل السبب هو فاعل المسبب.
والأقرب أن هذه الأقوال تعود إلى قول جهم في التحقيق لأن أهل الكسب لا بد أن جعلوا العباد كالظروف لها في الحدوث، وأما الكسب فهو إما أن لا يكون فعلاً فذكره هنا باطلة وهذيان؛ لأن كلامنا في الأفعال، وإما أن يكون فعلاً فهو إما أن يتفرد الله به وهو مذهب جهم، وإما أن يحتاج إلى كسب آخر فيعود السؤال، وكذلك المثبتون للقدرة الموجبة لا بد أن يجعلوا العباد كالظروف لأفعالهم؛ لأنه لا اختيار لهم في السبب ولا في المسبب، ويصير الحال فيه كالحال في الشجرة التي يوجد الله فيها اعتماداً يوجب الحركة، فإن ذلك لا يخرج الشجرة عن كونها كالظرف للحركة الموجبة عن الاعتماد، فظهر لك أن المجبرة كلهم جهمية في التحقيق.
فصل
وقد اختلف أصحابنا في تفضل الكلام عليهم، فقال أبو الحسين: العلم بأنا محدثون لأفعالنا ضروري لا مجال للشك فيه؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن الأمر بها والنهي عنها والترغيب والترهيب والمدح والذم، ويعللون ذلك بكونه فعله، وكل ذلك فرع على أنهم محدثون لها، ومحال أن يعلم الفرع ضرورة والأصل استدلالاً.

يوضحهه أنهم يطلبون الفاعل طلب المضطر إلى أنه فعل ويعجبون الناس من كونه فعل، قال: بل هذا العلم حاصل للصبيان المراهقين، قال: والمجبرة يعلمون ذلك، ولكن جحده علمائهم ميلاً إلى الهوى وتعصباً للأسلاف وطلباً للرئاسة وتقرباً إلى السلطان، وليست شبههم أكثر ولا أدق من شبه السوفسطائية، فلم يدل ذلك إلى أنهم غير جاحدين للضرورة. على أنه يمكن صرف خلاف الجميع إلى أنهم علموا ولم يعلموا أنهم علموا، فإنه لا يمتنع أن يطري شبهة في العلم بالعلم لا في العلم نفسه. يزيده وضوحاً أنك إذا حكيت مذهبهم هذا لعوامهم الذين لا يعرفون كيفية أقوالهم لأنكروه ولنزّهوهم عن هذه المقالة، بل نجد علماءهم معتزلة في المعاملات فلا يذمون إلا من ظلمهم ولا يحمدون إلا من أحسن إليهم حتى لو رميت أحد منهم بحجر فشجه لذمك ولم يذم، ولم يذم الحجر ولوثب إليك وثبة مضطر إلى أنك الذي /187/ جرحته، ولو أخذت عليه دانقاً لما سهّل فيه ولخصك من بين الناس بطلبه.
وبالجملة فلو جمعت أهل الجبر في صعيد واحد ثم رأوا رجلاً يقتل آخر أو يأخذ ماله واستشهدهم بعض الحكام لشهدوا أنه قاتله، ولما خالجتهم شبهة في ذلك ولو كان الحق ما ذهبوا إليه لكانت شهادتهم بذلك زائرة. وأما ما قاله الرازي في كتبه من أنه شديد التعجب من أبي الحسين حيث جميع بين هذا القول وهو غلو في الاعتزال وبين قوله إن الفعل موقوف على الداعي، وهو غلو في الجبر.
فيمكن الجواب عليه بأن الفعل وإن كان لا يقع إلا لداع فليس الداعي موجباً للفعل فلا يلزمه الجبر.

ثم يقال له: هل يقدر أبو الحسين على أن يقول، وتقدر أنت على أن تتعجب، فإن قال: نعم نقدر على ذلك فقد ترك مذهبه، وهو بأن يتعجب من نفسه أولى. وقيل له: فهل تقدر على أن تترك قوله وتقدر على أن تترك تعجبك أم لا، فإن قال: نعم، أبطل مذهبه، وإن قال بالثاني، قيل له: فأي لوم عليه في قوله وأي فضل لك في تعجبك، وهل هذا إلا بمنزلة من يذم غيره على أنه يشتهي الحامض ويمدح نفسه على أنه يشته الحلو، ويذم الحجر لأنها تهوي ويمدح الدخان لأنه يتصاعد، وإن قال: لا يقدر أبو الحسين على أن يقول ولا أقدر على أن أتعجب، قيل له: فأنت أبداً تحكي الأكاذيب فتقول قال أبو الحسين وتعجبت وأنت تعلم أن أبا الحسين لم يقل وإنما الذي قال هو الله الذي فعل القول في أبي الحسين كما فعله في الشجرة التي تُؤدِي منها موسى ومن بلغ معه الإلزام إلى هذا الحد، فهو حقيق بأن يرق له ويرحم.
فصل
وقد استدل سائر الشيوخ بوجوه من الأدلة، منها: أن أفعالنا توجد بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الحال تحقيقاً أو تقديراً، فلولا أنها من فعلنا لما وجب فيها ذلك، وهذان أصلان، أما الأول فدليله أن أحدنا متى اعتقد أو ظن أن له في الفعل جلب نفع أو دفع ضرر وهو قارد عليه غير ممنوع منه فإنه يقع منه لا محالة حتى انه لو لم يقع علمنا أنه غير قادر، وبهذه الطريقة علمنا أن العرب عجزوا عن معارضة القرآن، وكذلك إذا توفرت صوارفه بأن يعتقد أو يظن أن في الفعل جلب ضرر أو فوت نفع وهو قادر عليه وغير ملجأ إلى فعله فإنه لا يفعله وهذا معلوم ضرورة.

ويزيد سلامة الحال زوال الموانع وخلوص الداعي من /188/ صارف يساويه أو يزيد عليه وخلوص الصارف من داع يساويه أو يزيد عليه. ويزيده بالتحقيق فعل العالم المميز لفعله، ويزيد بالتقدير فعل الساهي والنائم، فإنه وإن لم يكن لهما داع محقق فهو مقدر بمعنى أنهما لو كانا في حال اليقظة أ والتنبّه لما وجد الفعل ولا انتفى إلا بحسب دواعيهما وصوارفهما المحققة، هذا عند الجمهور، وأما أبو الحسين، فعنده أن داوعيهما وصوارفهما وقصودهما محققة.
قال: لأن الداعي قد يكون ظناً واعتقاداً وهما صحيحان على النائم والساهي، وأبطله الجمهور بأن الداعي أيضاً فعل فإما أن يحتاج إلى داع آخر من فعل أحدنا فيتسلسل أو ينتهي إلى داع ضروري وهو ليس يصح؛ لأن الله تعالى لا يفعل الظن في أحدنا، وكذلك الاعتقاد لو فعله في النائم لكان علماً ضرورياً ومعلوم خلافه، وأما القصد فلا يشبهه في أن من حقه أن يكون من فعل فاعل ولا يصح من الساهي والنام فعل القصد لاحتياجه إلى العلم، وأما فعل الملجأ فإنه يوجده بحسب قصده وداعية لكن وافق ذلك قصد الملجي وداعيه وكذلك سير الدابة وافق قصدها فيه قصد الراكب بدليل أنه لو رام الإقدام بها على السبع أو الحيد لأبت ذلك، وأما نعيم أهل الجنة فلم يوجد بحسب قصودهم ودواعيهم، ولهذا لو دعا أحدهم الداعي إلى أن يبلغ درجة الأنبياء لما حصل له ذلك، وأما اللون الحاصل عند ضرب بدن الحي فإنما هو لون الدم انزعج بالضرب فلا جزم كان انزعاجه فعل الضارب، وقد ذهب البغداديون إلى أنه متولد عن الضرب، ويبطله أنه كان يلزم أن يولد الضرب في الجماد؛ لأن المحل محتمل وهو تولد لا يشرط فلا يتغلب علينا في توليده الألم، وكان يلزم أن يتولد من أول ضربة وأن يتولد في ظاهر البشرة، ومثله الكلام عليهم في بياض القبَّيْطات واللون الحاصل عند خلط الزاج بالعفص والحرارة الحاصلة عند حك أحد الراحتين بالأخرى.

وأما الأصل الثاني وهو أنها لو لم تكن من فعلنا لما وجبت فيها هذه القضية فدليله أنها لو كانت من فعل الله لجرت مجرى الصور والأولوان والأمراض وحركة المرتعش ونحو ذلك مما علمنا أن العلة في تعذره أنه لا يقف على أحوالنا بل يوجد، وإن كرهناه ويعتقد وإن أردناه وكذلك أفعال غيرنا لما لم تكن من فعلنا لم تقف على أحوالنا.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يوجد الله أفعالكم عند قصودكم /188/ ودواعيكم بمجرى العادة. قلنا: كل شيء طريقه العادة يجوز اختلافه، فكنا نجوز وقوعها وانتفاؤها ولا صارف بأن تختلف العادة كما في الصحة والسقم وغيرها، وبعد فلو كان كلك لكنا نجد أنفسنا مدفوعة إليها وخلافه معلوم، وبعد فلو جوزنا أن يكون من فعل غيرنا وإن وجدت بحسب أحوالنا لجوزنا أن تكون من فعل غير الله وإن وجدت بحسب أحواله.
فإن قالوا: الساهي والنائم لا داع لهما ولا قصد، فيجب أن لا تكون أفعالهما منهما.
قلنا: أما أبو الحسين فلا يتوجه إليه هذا، وأما الجمهور فلهما عندهم داع مقدر وقصد، ولا يمتنع قيام التقدير مقام التحقيق في هذه الصور، ألا ترى أنه لا يمكن تقدير وقوف أفعال غيره على أحواله، وبعد فما ذكره عكس وهو غير واجب في الأدلة اتفاقاً، فأكثر ما فيه أن هذه الطريقة لا يتنا ولهما، فنحن نستدل بغيرها فنقول: فعلهما يقف على قدرهما فيقل بقلتها ويكثر بكثرتها، وعلى الأسباب الصادرة منما، ولهذا فإن النائمين يتجاذبان الثوب، فيستبد به أكثرهما قدراً.
طريقة أخرى في هذه المسألة قد ثبت أن العقلاء يستحسنون ويعلمون حسن الأمر والنهي بهذه الأفعال، ويعلقون بها المدح والذم ويعلمون بكمال عقولهم قبح تعليق ذلك بالصور والألوان والطول والقصر ونحوها، فلولا أنها من فعلنا لما تعلق بها شيء ولما وقع فصل بينها وبين الصور.
واعترضوه بأن قالوا: ألستم تحمدون الله على الإيمان وهو من فعلكم.

والجواب: أنا نحمده تعالى على مقدمات الإيمان من الأقدار والتمكين والتوفيق وهو تعالى يحمدنا على فعله كما صرح به في قوله: {فأولئك كان سعيهم مشكوراً}، وقوله: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه}، وصار الحال في حمدنا له تعالى على الإيمان كالحال في الوالد إذا اجتهد في تخريج ولده وحسن تأديبه حتى يبدو صلاحه، فإنه يقال: هذا من أبيه والمراد أنه تقدم من أبيه من العناية والرعاية ما كان سبباً في ذلك.
ومثل هذا يقع الكلام في ذم من وضع غيره في النار محرق ونحو ذلك، فإن الذم لا يقع على الإماتة بل على سببها.
طريقة أخرى، سمعية: وإنما استدللنا بالسمع هنا وإن كان العلم بصحته يقف على العلم بهذه المسألة استظهاراً على الخصوم وإلزاماً لهم لموافقتهم في أنه دلالة، ولأنهم تمسكوا بالمتشابه فتمسكنا بالمحكم ولأنهم كانوا يزعمون /190/ أنه لا دليل لنا في السمع فأريناهم أن لنا في السمعيات أكثر مما لهم، ولا أحسب آية من كتاب الله تكاد تخلو عن الأدلة على صحة مذهبنا في هذه المسألة من أمر أو نهي أو مدح أو ذم أو وعد أو وعيد أو خبر يتضمن إضافة فعل إلى فاعل ونحن نذكر من تفصيل ذلك ما سنح من الآيات. فمنها: قوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت}، ونحوها مما يقتضي نفي الاضطراب والاختلاف من جهة الحكمة؛ لأنه إما أن ينتفي أن التفاوت من جهة الخلقة وهو باطل لحصوله أو من جهة الحكمة وهو المطلوب. ومنها: قوله: {صنع الله الذي أتقن كل شيء}، فإنه ليس المراد بالإتقان الإحكام؛ لأن في أفعاله ما ليس بمحكم بقي أن يكون المراد من جهة الحسن والحكمة. ومنها قوله: {الذي أحسن كل شيء خلقه} ونحوها مما يقتضي حسن خلقه، فإما أن يريد أن كله إحسان وهو باطل اتفاقاً لأن العقاب ليس بإحسان، وكذلك خلق الكافر على أصولهم ليس بإحسان أو أن كله حسن وهو المطلوب.

قال القاضي: معنى {أحسن كل شيء} في اللغة كمعنى أحسن في كل شيء، وقولهم: مراده بقوله: أحسن، أي علم باطل لأنه لم يرد أحسن في اللغة بمعنى علم، وإن ورد مضارعها كما في وذر ودع فرد مضارعها دون ماضيها. على أنا قد قدمنا أنه لا يجوز إجراؤه على الله لإيهامه الخطأ. ومنها: قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً} ونحوها مما يقتضي نفي العبث، وعلى أصلهم أن كل باطل يقع في العالم فهو خلقه. ومنها: قوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ونحوها مما يقتضي أنا مختارون في أفعالنا. ومنها قوله: {وتخلقون إفكاً}، ونحوها مما يدل على أنهم المقدرون لأفعالهم. ومنها قوله: {بما تعملون} {بما تصنعون} {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}، {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم}، {يوم تجد كل نفس ما عملت}، {وقدمنا إلى ما عملوا}، {ومن يعمل سوءاً يجز به} ونحو ذلك مما يصرح بأن لنا أعمالاً نجازى عليها، والقرآن مشحون بذلك، ومذهبهم يقتضي صرف أكثر القرآن عن ظواهره ويدخله في قالب الهذيان؛ لأنه يكون التقدير بما يعمل فيكم بما يصنع فيكم. ومنها ما يرد فيه لام العرض نحو: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} {ليذكروا} و{لعلهم يذكرون} {لعلكم تعقلون}، ونحو ذلك، وتقديره عند الخصم، ولقد صرفنا في هذا القرآن لتخلق فيهم الذكر وأشباه ذلك. ومنها ما يتضمن النهي عن الاستهزاء بآيات الله نحو: {ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً} {أن إذا سمعتم آيات الله يُكفَر بها ويُستهزأ بها} ولا استهزأ أبلغ من القول بأنه لا فائدة فيها ولا قدرة على امتثالها ولا معنى لأوامرها ونواهيها، يقول الله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عادٍ /191/ فلا إثم عليه}، ويقول الخصوم لا إثم إلا على ما اضطررنا إليه، ويقول الله: {لا إكراه في الدين} ويقولون: لاختيار فيه، ويقول الله: {قد تبين الرشد من الغي} ويقولون: لا فائدة في التبين لأنه إن خلق فينا الرشد رشدنا وإن خلق فينا الغي غوينا، ويقول الله: {قد

جاءكم الرسول بالحق فآمنوا} ويقولون: لا سبيل للكفار إلى الإيمان و إلى الانتفاع بما جاء به. وعلى كلّ فلا يكاد تخلو آية من كتاب الله إلاَّ ومذهبهم يقتضي صرفها عن ظاهرها وإبطال معناها.
فصل في ذكر بعض ما ألزمهم أصحابنا على القول بأن أفعال العباد من الله
فمن ذلك أنه يلزمهم ارتفاع معرفة الصانع تعالى؛ لأن العلم بمعنى المحدث في الغائب ينبني على العلم بمعناه في الشاهد، ولسنا نعقل من معنى المحدث في الشاهد إلا أن أفعاله توجد بحسب أحواله، وذلك ينبني على أن لنا أفعالاً لأنها لو وجدت بحسب أحوالنا وهي من فعل غيرنا لجاز مثله في كل شيء يفرضونه صانعاً للعالم، ومن ذلك أنه يلزمهم أن لا يصح معرفة شيء باكتساب قط؛ لأن علومنا إذا كانت من فعل الله تعالى فهي ضرورية، وهذا مع كونه محالاً للزوم اشتراك العقلاء فيه، فإنه يلزم الخصوم عليه أن لا يصنفوا الكتب ولا ينصبوا الأدلة، بل كان سبيلهم في كل مسألة أن يقولوا: نحن نعلم ما ذهبنا إليه ضرورة وأن لا يطلبوا من خصومهم الرجوع إلى مذهبهم لأنهم كيف يعلمون ما لم يخلق الله فيهم العلم به.
ومن ذلك يلزمهم أن لا تكون فائدة في إرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي؛ لأن الله تعالى إن خلق الكفر والإيمان وجد أو إن لم يخلقهما فلا سبيل إليهما، وكذلك يلزم قبح مجاهدة الكفار؛ لأن لهم أ نيقولوا أتجاهدوننا لأجل أن الله خلق فينا الكفر أو لأجل أنه لم يخلق فينا الإيمان وكل ذلك بمنزلة مجاهدتنا على صورنا وألواننا، وكذلك يلزم قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجادلة الخصوم، وطلب العلوم ونحو ذلك.

29 / 75
ع
En
A+
A-