ولهم أن يجيبوا فيقولوا: لو يصح أن يوقعه من حيث القدرة فإما من حيث الحكمة فلا، وله أن يقول: لست أنازع في صحة وقوعه من حيث القدرة لكن من حيث الدواعي التي يسمون فقدها حكمة، فمتى قلتم باستحالته من حيث الحكمة فقد حصل المطلوب وصار الحال في استحالته من جهة الحكمة التي هي فقد دواعي القبيح كاستحالته من دون آلة إذا كان مما يحتاج إليها. وأما ما يقوله المتأخرون من أصحابنا أن أبا الحسين قد ناقض حيث قال: يصح ويستحيل فهو غير سديد؛ لأنه إنما يكون مناقضاً إذا قال بالاستحالة والصحة من وجه واحد، فأما مع اختلاف الوجه فلا مناقضة بل لا بد من الرجوع إلى ما قاله.
شبهة النظام والأسواري: أنه تعالى لو قدر على القبيح لوجب أن يوقعه.
والجواب: من أين يلزم أن من قدر على شيء وجب أن يوقعه أليس أحدنا يقدر على السعي في السوق ولا يفعله والله يقدر على إقامة القيمة الآن ولا يفعله.
قالوا: اتصافه بالقدرة على القبيح نقص. قلنا: بل مدح؛ لأن من ترك القبيح مع القدرة خير ممن ترك القبيح مع عدم القدرة، ولهذا يصح التمدح على أنه معارض بالأنبياء والملائكة.
قالوا: القول بأنه قادر على القبيح مع القول بامتناعه لأجل العدل أو فقد الداعي متناقض.
قلنا: هو كالقول بالقدرة /179/ على الفعل الذي يحتاج إلى الآلة مع القول بتعذره عند عدمها.
قالوا: فقوله: أنه قادر على المستحيل لو لم يكن مستحيلاً كما قلتم تقدر على القبيح وإن استحال أن لا يكون عدلاً حكيماً.
قلنا: أتلزموننا المعنى فصحيح إذ لا بد من القول بأن المستحيل لو لم يكن مستحيلاً لكان الله قادراً عليه أو تلزموننا التسمية فغير صحيح كيف يقول هو قادر على شيء لم تثبت القدرة عليه بخلاف القبيح، فإن القدرة عليه ثابتة وامتناعه هو لأجل الحكمة وفقد الداعي.
قالوا: لو قدر على القبيح لصح أن يوقعه لأن هذا حكم القادر، ولو صح أن يوقعه وقدرنا وقوعه لكان إما أن يدل على الجهل والحاجة وهو محال في حق العالم الغني لذاته وإما أن لا يدل وهو محال لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً.
قلنا: يصح أن يوقعه من جهة القدرة بمعنى أنه لو كان غير حكيم أو كان له داع إليه لوقع منه ويستحيل وقوعه من جهة الحكمة عندنا، ومن جهة فقد الداعي عند أبي الحسين وقولهم لو قدرنا وقوعه لكان إما أن يدل أو لا يدل فهو غير صحيح؛ لأنا قد منعنا في مسألة نفي الثاني من صحة تقدير وقوعه ومنعناه أيضاً على مقتضى عبارة أبي الحسين؛ لأن ما يستحيل لا يصح تقديره. وأما الجمهور فالتزموا صحة تقديره وامتنعوا من الجواب بلا أو بنعم وعلله الشيخ أبو علي بكلام حاصله أن كل كلامين تعلق الثاني بالأول على تقدير وجود الأول لا يخلوا إما أن يكون أحدهما هو الآخر كقوله: إن كان زيد فاعل للظلم فهو ظالم أو يكون أحدهما موجباً للآخر كقولك إن كان في قلب زيد علم فهو عالم وإن كان عالماً ففي قلبه علم، أو يكون أحدهما مصححاً للآخر نحو: إن كان الجوهر متحيزاً احتمل العرض وإن كان زيد عالماً كان حياً، وإما أن لا يكون أحدهما هو الآخر ولا موجباً له ولا مصححاً إن كان من القسم الأول وجب على المسئول أن يجيب بلا أو بنعم، وإن كان من القسم الثاني صح الامتناع من الجواب بأحد الأمرين إذا دل الدليل على فسادهما كمسألتنا هذه، فإنا إذا قدرنا وقوع الظلم منه تعالى ففاسد أن يدل على الجهل والحاجة؛ لأنه عالم لذاته غني لذاته وفاسد أن لا يدل لأنه يعود بالبعض على دلالته في الشاهد، فكان لنا أن نمتنع لأن الظلم ليس هو الجهل والحاجة، ولا يصححهما ولا يصححانه في حق الباري ولا يوجبهما ولا يوجبانه من حيث أن المصحح للظلم في حق الباري هو كونه قادراً فقط.
واعترضه أبو الحسين بما معناه أن الخصم لم يلزمكم العبارة حتى تمتنعوا من إطلاقها وتستدلوا على فسادها وإنما ألزمكم المعنى وهو أنا إذا قدرنا وقوع الظلم من الباري /180/ فهل كان ذلك الظلم يولد العلم بالجهل والحاجة أم لا، وليس يخرج النظر عن كونه مولداً لهذا العلم أو لا يكون.
والأقرب والله أعلم أن يفصل الكلام فيقال إن كان السائل يقدر الوقوع مطلقاً بأن يقول لو وقع الظلم من فاعل ما، هل كان يدل على الجهل والحاجة أو لا يدل، فإنه لا يصح الامتناع هنا من الجواب بأحد الأمرين لما ذكره أبو الحسين.
وإن قيد السائل كلامه بما يحيل كلا الوصفين عند ذلك التقدير صح الامتناع من الجواب بأحدهما لفظاً ومعنى، وعاد على ذلك التقدير والقيد بالنقض كأن يقول: لو وقع الظلم من حكيم هل كان يدل على الجهل والحاجة أم لا، فيكون لنا أن نقول لا يدل ولا لا يدل لأن قولك في السؤال حكيم يحيل الجهل والحاجة؛ لأن معهما لا يكون حكيماً وأنت فرضته في السؤال حكماً، وقولك وقوع الظلم يمنع قولنا لا يدل؛ لأن كل ظلم يدل على جهل فاعله وحاجته فصار الحال في هذا كالحال في قول القائل لو قدرنا اجتماع الضدين في المحل هل كانا يتنافيان أم لا، فإنا نقول لهذا السائل: لا يصح القول بأنهما يتنافيان؛ لأنه يعود على تقدير اجتماعهما في المحل بالنقض وأنت فرضتهما مجتمعين، ولا يصح القول بأنهما لا يتنافيان؛ لأنه يعود على كونهما ضدين بالنقض، وأنت فرضتهما ضدين، فكل سؤال هذا حاله فإنه يعود على التقدير والقيد بالنقض وإذا زال التقدير والقيد زال الإشكال من أصله. وهذا أقصى ما يمكن ذكره في هذه المسألة، وإن كان بعض شيوخنا قد ذكر أن قووع الظلم من جهته تعالى لا يدل على الجهل والحاجة قال: لأن شر دلالته على ذلك أن يصح الجهل والحاجة على فاعله ويلزمه أن لا يجد دليلاً على أن الله لا يفعل القيبح. ومتى قال إنه حكيم وصوارفه متوفرة. قيل له: إذا كانت الحكمة والصوارف تصرف عن القبيح لا محالة كان وقوعه دليلاً على زوال تلك الصوارف، فيلزم دلالته على الجهل عن القبيح لا محالة كان وقوعه دليلاً على زوال تلك الصوراف، فيلزم دلالته على الجهل والحاجة.
شبهة: قال النظام والأسواري: العلم في الأصل دلالة على الجهل والحاجة كما أن الخبر الصدق بالجهل والحاجة دليل على ذلك، فإذا قدر تعالى على الظلم وجب أن يقدر على خبر صدق بأنه جاهل محتاج.
والجواب منع الحاجة، والفرق بأن معنى كون الخبر صدقاً هو أن مخبره على ما هو به، فالقائل بأن الله تعالى يقدر على خبر صدق /181/ بأنه جاهل يحتاج قاتل، فإنه يقدر على أن يجعل ذاته جاهلة محتاجة، وذلك مستحيل، فكذلك ما في معناه وليس معنى وقوع الظلم هو أنه جاهل محتاج حتى تكون القدرة على أحدهما قدرة على الآخر.
فإن قيل: فإذا كان الظلم في الأصل دليلاً على الجهل والحاجة فالقول بأنه قادر عليه قول بأنه يقدر على أن يدلنا على جهله وحاجته.
قلنا: نرجع في جواز هذا الكلام إلى التفصيل المتقدم فنقول: إن إردتم أن الظلم دليل على الجهل والحاجة عند زوال حكمة فاعله وصوارفه عنه فهو مجاب إليه، فالله قادر على ما لو زالت حكمته وصوارفه عنه لدل على جهله وحاجته، وذلك مستحيل وإن أردتم أن الظلم يدل على ثبوت الحكمة والصوارف فغير لازم أن يدل كما تقدم لأنه يصير المعنى أنه قادر على ما لو قدر وقوعه على الوجه المستحيل لكان دليلاً غير دليل. وأما شبهة المجبرة في القول بأنه لا يقدر عليه متفرداً فهي مبنية على فاسد أصولهم من أن القبيح إنما يقبح للنهي وسلف إبطاله.
فصل في بيان ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى أنه لا يفعل ما يقدر عليه
منها قولنا:سبوح قدوس، فإن من فائدته تنزيهه تعالى عن فعل القبيح الذي يقدر عليه. ومنها قولنا: ظاهر معناه لا يفعل ما يقدر عليه من القبيح، ولا خلاف أنه مجاز في حقه تعالى؛ لأنه في الأصل من طهارة البدن، ثم استعمل في المتنزه عن فعل القبيح، ولا يشبهه قولنا نضيف ونقي؛ لأنهما من صفات المحال. ومنها قولنا: تارك معناه في اللغة الذي لا يفعل الفعل مع القدرة عليه. ومنها قولنا: غافر، وغفور وغفار، كلها تفيد أنه لا يفعل العقاب، ومثله قولنا مكفر لأنه يفيد ترك العقوبة لأجل الثواب ويقتضيه قولنا محيط أي لا يفعل الثواب لأجل المعصية المحيطة له. ومنها قولنا: حليم، معناه لا يعاجل بالعقوبة، وأما قولنا صبور، فلا يصح إجراؤه عليه؛ لأنه يفيد احتمال المكاره وإجازة بعضهم بمعنى حليم، وليس يصح لأن استعماله في الحليم مجاز، فإن ورد به سمع أقر حيث ورد وإلا منع رأساً. وأظهر من ذلك قولنا وقور ورزين؛ لأنهما يفيدان ملازمته لمكانه ومعارفته طريقه القلق مع مشقة في ذلك وداع إلى خلافه.
القول في أن الله تعالى عدل حكيم
ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى عدل حكيم، ولم يسمع عن أحد من أهل الجبر هذا القول ولا ذكرت هذه المسألة في شيء من كتبهم الكلامية، وإن كانوا لو سئلوا عن ذلك /182/ لما وسعهم إنكاره.
نعم قد وافقوا في المنع من إطلاق القول بأنه تعالى ظالم جائر وفاعل للقبيح، وأثبتوا المعنى وأفاقوا إليه كل قبيح وجعلوا يحتالون للمنع من إطلاق العبارة بما لا محصول له ولا طائل فيه.
لنا أنا نعلم بالضرورة في الشاهد أن من كان عالماً بقبح القبيح وغنياً عن فعله وعالماً باستغنائه عنه فإنه لا يفعله ولا علة لكونه لا يفعله، وهذه ثلاثة أصول.
أما أنه لا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف، فلأن العلم بذلك يدور مع العلم باجتماعها ثبوتاً وانتفاء، ولو كان المؤثر غيرها لجاز أن يفعل أحدنا القبيح مع اجتماعها، وأن يستمر الحال في أن لا يفعله مع زوالها أو بعضها، وخلافه معلوم، ألا ترى أن الظلمة لا يغصبون الأموال إلا لاعتقادهم أنهم يحتاجون إليها أو لجهلهم بكون ذلك ظلماً إما بأن يعتقدون أن المغصوب عليه يستحق أن يغصب عليه أو بأنهم يدفعون بذلك ضرراً عن الرعية ويدخرونه لما ينوب الجميع.
يزيده وضوحاً: أن العاقل لو خير فيما أتيح له الإخبار عنه بين أن يصدق ويأخذ درهماً وبين أن يكذب ويأخذ درهماً مثله، فإنه يختار الصدق لا محالة.
فإن قيل: إنما يختار الكذب لأنه يستحق الذم عليه والعقوبة.
قلنا: نفرض الكلام في كافر دني لا يعلم استحقاق العقاب ولا يتضرر بالذم، فثبت أنه لا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف وهي وإن كانت أوصافاً كثيرة فجائز أن تتركب العلة من مجموع أوصاف إذا كانت كاشفة كما أن علة قبح الظلم هو كونه ضررا عارياً عن جلب نفع أو دفع ضرر إلى آخرها. يوضحه: أن الخصم يعلل وجود الفعل بقدرة العبد وإرادته وقدرة الله وإرادته.
واعلم أن مثال الصدق والكذب إنما يستقيم في القبائح التي تكون في المقدور من الحسن ما سد مسدها، فأما ما ليس كذلك فيكفي فيه اجتماع هذه الأوصاف، وذلك كان يعلم الله أن المكلف لا يلتطف إلا ببعثه كاذب أو فاسق، وكإثابة من لا يستحق الثواب، وإما أن هذه الأوصاف قد اجتمعت في حق الباري تعالى على أبلغ الوجوه فتقدم في مسألة عالم غني، أنه يستحيل عليه الجهل والحاجة، وأما أنه يجب أن لا يفعل القبح فلأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً.
فإن قيل: كما أن احدنا لا يفعل القبيح لاجتماع هذه الأوصاف فهو لا يفعل الحسن إلا لجلب نفع أو دفع ضرر، وهو مستحيل في حقه تعالى، وإذا لم يصح الجمع بين /183/ الشاهد والغائب في الوجه الذي لأجله يفعل الحسن لم يصح الجمع بينهما في الوجه الذي لأجله يترك القبيح.
قلنا: دل الدليل على اتفاق الغائب والشاهد في الوجه الذي لأجله يترك القبيح فيجب اشتراكهما في ترك القبيح ولم يشتركا في الوجه الثاني لأجله فعل الحسن وهو الجلب والدفع، وبعد فأحدنا كما يفعل الحسن لجلب نفع أو دفع ضرر فقد يفعله لحسنه ولكونه إحساناً لولا هذا لم يكن لأحد على أحد نعمة لأنه يكون قد قصد بما فعله نفع نفسه أو الدفع عنها، بل قد يذم إذا لم يقصد ذلك، فيقال: فعله رياء وسمعه أو لنفع نفسه، وبعد، فكل عاقل يستحسن بكمال عقله إنقاذ الغريق وإرشاد الضال والإحسان إلى الغير بالصدقة ونحوها، واعترضه المجبرة بما تقدم من أصل الفلاسفة في المشهورات، وهو أن هذا الاستحسان لم يكن للعقل بل لسبب خارج من رقة طباع أو تأديب شرعي أو محبة التسالم أو نحو ذلك.
وأجاب أصحابنا بأنا نفرض الكلام في رجل خاسي القلب لا يعرف الله ولا الدار الآخرة، ولا شيئاً من الشرعيات، فإنه يستحسن بكمال عقله ذلك. واعرضه الرازي بأنه وإن عري عن هذه الأسباب فهو يتخيل حصولها، وذلك لأن الضلال والغرض يلازمان رقة الطبع غالباً، وكذلك الصدقة وحسن الأخلاق يلازم التأديب الشرعي.
وبالجملة فكل شيء مما يقضي به العقل عندكم يلازم سبباً مما ذكرناه في الغالب، فإذا رأى أحدنا رجلاً يتردى أو يغرق ظن أن رقة الطبع حاصلة فحينئذ يستحسن الإرشاد والإنقاذ، وصار الحال فيه كالحال في الحبْل المبَرقَش المشبه للحيَّة فإن الإنسان لما رأى الضرر يلازم البرقشة في الحية والحنش وتوهم أن الحبل المبرقش حيّة نفر طبعه وإن لم يكن هناك ضرر.
ويمكن الجواب بأن يقال أول ما في هذا أنا قلنا أن العاقل المتعرّي عن الأسباب التي ذكرتم يعلم بكمال عقله حسن هذه الأشياء وقبح غيرها، وأنت قلت بظن ذلك وبين العلم الضروري والظن فرقان. وبعد فهذا العاقل يستحسن الإنقاذ والإرشاد، وإن لم يكن هناك عرق وضلال، وكلامك مبني على أنه لا يظن حصول رقة الطبع إلا عند ووقع الضلال والغرق كما أنه لا يظن الضرر إلا عند رؤية الحبل المبرقش. وبعد فرقة الطبع أمر موجود من النفس فمتى حصل علم حصوله ومتى فقد علم فقده ولا يصح أن يظن حصوله كما لا يصح أن يقول القائل أظن أبي اشتهى وهو لا يشتهي، فكذلك لا يقول أظن أني أرحم /184/ وهو لا يرحم، وبعد فإنما يكون ذلك ملازماً لرقة الطبع غالباً في حق من يكون أغلب أحواله الرحمة ورقة الطبع ونحن فرضنا الكلام في رجل خاسي القلب الدهر كله فكيف يظن حصول ما لا يعتاده أو يعقل عليه الأمر في حقه. وبعد فقياسه على الحبل المبرقش يفسد ما قاله؛ لأن العاقل إذا رآه فإنما يظن الأذية والضرر في وقت يسير حتى يراه رؤية معقولة، فإذا علم أنه حبل زال الخوف والنفرة وإن كانت البرقشة باقية، فكان يلزم أن لا يستحسن العاقل الإنقاذ والإرشاد إلا في وقت يسير ثم يزول، ومعلوم أن هذا الاستحسان لا يزول.
فصل فيما يلزم المجبرة في هذه المسألة
يقال لهم: أليس يجو ان يفعل الله ما هو قبيح في الشاهد ولا يقبح فلا بد من قولهم بلا أو فيقال فليجز أن يخبر عن الشيء لا على ما هو به، ولا يقبح منه وقد التزمه العطوي.