/172/ والحسن: هو ما إذا فعله المتمكن من العلم بصفته لم يستحق الذم بوجه. قلنا: المتمكن مع العلم بصفة لتخرج أفعال غير المكلفين وأفعال الساهي والنائم، فإنها لا توصف بالحسن وإن وصفت بالقبح والفرق أن القبيح يقبح لوقوعه على وجه، فمتى وقع عليه قبح من أي فاعل كان والحسن إنما يحسن لحصول غرض فيه وتعريه عن سائر وجوه القبح، هذا ما يقوله الجمهور، فأما الشيخان فعندهما أن الحسن أيضاً إنما يحسن لوقوعه على وجه من كونه جلب نفع أو دفع ضرر، إما للنفس أو للغير. واعترضه الجمهور بأنه يلزم حسن الكذب الذي فيه جلب نفع أو دفع ضرر.
ويمكن الجواب بأنهما يشترطان تعرية عن وجوه القبح كما يشترطان في قبح القبيح صدوره عن قصد.
فصل
وينقسم الحسن إلى واجب ومندوب أو ما في حكمه، ومكروه ومباح.
فالواجب في اللغة: هو التساقط، ومنه فإذا وجبت جنوبها وهو الثالث أيضاً.
وفي الاصطلاح: هو ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه، ويدخل في ذلك ما يكون استحقاق الذم على الإخلال به عارضاً.
قلنا: على بعض الوجوه لتدخل الواجبات المخيرة وفرض الكفاية، والواجب الموسع والمضيق الذي تركه صغيرة، فإنه إنما يستحق الذم على الإخلال بهذه على بعض الوجوه، ولا ينتقض بما يستحق الذم بالإخلال به على كل الوجوه لعدم التنافي. قلنا: ويدخل في ذلك ما يستحق الذم على الإخلال به في حالة عارضة أردنا به بعض المخطورات والمباحات، فإنه يجب عند الاضطرار ويستحق الذم بتركه، إلا أن هذه الحالة عارضة وهو غير واجب في ما عداها، وإن كان قد استحق الذم على الإخلال به على بعض الوجوه لما كان وجوبه عارضاً والأصل خلافه، وينقسم إلى عقلي كقضاء الدين ودفع الضرر عن النفس ونحو ذلك، وشرعي كالصلاة والنية ونحو ذلك.
وينقسم إلى: مخير، وهو الواجب الذي يقوم مخالفه في الصورة مقامه كرد الوديعة بالنفس وبالغلام وكالكفارات الثلاث.
ومعين، وهو ما لا يقوم مخالفه في الصورة مقامه كمعرفة الله تعالى وكالصلاة.
وينقسم إلى: موسع، وهو: ما يجوز تأخيره عن أول أوقات وجوبه، كقضاء الدين قبل المطالبة والصلاة في أول الوقت.
ومضيق، وهو الذي لا يجوز تأخيره كقضاء الدين بعد المطالبة والصلاة في آخر الوقت.
والمندوب، هو ما كلفنا فعله ولم نذم على تركه بحال. وقلنا: بحال احترازاً من الواجب المخير، وفروض الكفايات وسائر ما احترزنا منه في حقيقة الواجب، فإنا كلفنا فعله ولم نذم بتركه في بعض الأحوال لكنا نذم في بعضها بخلاف المندوب، فإنا لا نذم بتركه أصلاً /173/ وأما ذم الفقهاء لتارك النوافل أجمع، فليس بذم على الحقيقة وإنما هو استنقاص له من حيث يستدل على استهانته بالخير وقصور همته.
والذي في حكم المندوب هو التفضل الصادر من جهة الله تعالى، فإنه لا يوصف بشيء من هذه الأوصاف مع أنه حسن.
والمكروه ما كلفنا تركه ولم نذم على فعله بحال. وقلنا: احترازاً من الصغائر وسائر ما تقدم ذكره في حقيقة القبيح، فإنا كلفنا تركه ولم نذم على فعله في بعض الأحوال لكنا نذم في بعضها بخلاف المكروه، فإنا لا نذم عليه أصلاً.
والمباح: هو ما لم نكلف بفعله ولا بتركه مع حسنه، وقلنا: مع حسنه احترازاً من الفعل اليسير فإنه ليس بحسن.
فصل في الوجه الذي لأجله وجب الواجب وقبح القبيح وحسن الحسن
اعلم أولاً أن العلم بالقبح فرع على العلم بوجه القبح جملة أو تفصيلاً فلا يعلم وجه قبح الظلم مثلاً إلا من علم كونه ظلماً؛ لأنه هو الوجه في قبحه وسواء علم التفصيل وهو أن كونه ظلماً هو الوجه في القبح أو لم يعلم أنه الوجه لكنه قد علمه.
إذا ثبت هذا فقد عرفت انقسام الأفعال إلى عقلي وشرعي، فأما العقليات فتجب لوجوه يقع عليها من نحو كونها قضاء دين أو رد وديعة أو شكر منعم أو دفع ضرر ويقبح لوجوه يقع عليها من نحو كونها ظلماً وعبثاً وجلب ضرر ومفسدة ونحو ذلك، وتحسن لحصول غرضٍ فيها وتعريها عن سائر وجوه القبح بحسب الخلاف المتقدم.
وأما الشرعيات فيحسن عند غير أبي علي لكونها مصالح وإلطافاً في العقليات العمليات احترازاً من نحو المعرفة، فما كان لطفاً في واجب فهو واجب كالفرائض وما كان لطفاً في مندوب فهو مندوب كالنوافل بحسب خلاف في النوافل سيأتي في باب التكليف ويقبح عند غير أبي علي لكونها مفاسد في العقليات العمليات. وقال أبو علي: يجب لمنعها من القبيح، ويقبح لمنعها من الواجب.
واعلم أن معنى كون هذه المحسنات والمقبحات شرعية أنا علمنا حسنها وقبحها بالشرع، وليس المراد أن الشرع جعلها حسنة أو قبيحة، فإن ذلك عندنا غير واقف على اختيار مختار لولا هذا لما حسن التكليف. ومن هنا قال أصحابنا إن العلم بأصول المحسنات والمقبحات ضروري أرادوا بذلك أنا نعلم بالضرورة قبح كل مفسدة في الدين وحسن كل مصلحة فيه في الدين على الجملة، فإذا كان في الأفعال ما هو مصلحة وفيها ما هو مفسدة ولم تقف عقولنا على العلم بذلك وقد علمنا بدليل العقل أن الله لا يأمر إلا بالمصلحة ولا ينهى إلا عن المفسدة، فمتى عرفنا ذلك بالشرع ألحقناه بالجملة المقررة ولم يكن من جهة /174/ الشرع إلا التعريف فقط كما نعلم بالضرورة وجوب دفع الضرر عن النفس، فمتى عرفنا الطبيب أن في بعض المأكولات ضرراً وجب علينا اجتنابه، ولم يكن منه إلا التعريف، وبمثل هذا نجيب على البراهمة حيث قالوا: إن جاء الأنبياء بما يوافق العقل ففي العقل عنهم غنية وإن جاءوا بما يخالفه وجب رده، فقلنا: جاء الأنبياء بتعريف المصالح والمفاسد التي لم يفق العقل على معرفتها، وقد تقرر في العقل حسن المصالح وقبح المفاسد وهذا واضح كما ترى، ولا نلتفت إلى ما يشنع به أهل الزيع من قولهم أن المعتزلة تزعم أنه يعرف بالعقل وجوب الصلاة فإن المعتزلة إنما قالوا يعلم بالعقل حسن حسَن كل مصلحة وقبح كل مفسدة، فإما أن الصلاة مصلحة والخمر مفسدة فلا يعلم بالعقل.
فصل
وذهب البغداديون من شيوخنا إلى أن القبيح يقبح لعينه، وقال ابن الأحشد: يقبح القبيح للإرادة. وقالت الأشعرية: إنما يحسن الفعل ويجب للأمر، ويقبح للنهي. وقالت الجهمية: لكوننا مملوكين مربوبين. وقالت الفلاسفة وبعض أهل الجبر: لا قبيح ولا حسن إلا من جهة الاستخلاء والنفرة.
لنا أن العلم بالوجوب وبالقبيح بدور مع العلم بالوجوه التي تقع عليها الأفعال العقلية ثبوتاً وانتفاء مع زوال ما هو أولى من ذلك، وكذلك العلم بالحسن يدور مع العلم بحصول الغرض وزوال وجوه القبح، وسيتضح عن قريب ويبطل قول البغداديين أنا وجدنا كثيراً من الأفعال يقبح في حالة دون حالة ولو قبح لعينه لقبح في كل حال؛ لأنه عين واحدة كالسجدة تحسن إذا كانت لله وتقبح إذا كانت للشيطان، وكذلك الخبر بأن زيداً في الدار يحسن إذا كان فيها ويقبح إذا لم يكن فيها، وهو خبر واحد.
شبهتهم: أن الجهل لا يقع غير جهل.
والجواب: لا نسلمه بل يجوز أن يقع غير جهل، فإنه لو اعتقد أن زيداً في الدار وليس فهيا كان جهلاً ولو اعتقد هذا الاعتقاد بعينه وهو فيها مع سكون النفس لكان علماً، وكذلك لو بقي الاعتقاد حتى نشاهده فيها فإنه يصير علماً.
ومن هنا قال أصحابنا أن العلم من جنس الجهل. وبعد فلو سلمنا أن الجهل لا يصير غير جهل لما سلمنا في سائر القبائح، ويبطل قول ابن الأخشيد أنه يعلم القبيح من لا يعلم الإرادة بل من لا يثبتها. وبعد فالإرادة مما يقبح ويحسن، فكان يجب أن يحتاج إلى أداة، وبعد فما ذكره دور لأن الإرادة إنما تقبح لقبح المراد، فكيف يقبح المراد لقبح الإرادة.
شبهته: إن الكذب إنما يكون كذباً بإرادة الإخبار عن الشيء لا على ما هو به.
والجواب: أنا لا نسلمه بل يكون الخبر كذباً إذا لم يطابق سواء أراد أم لا، بل يكون كاذباً وإن اعتقد المطابقة /175/ وأراد الإخبار عنها، وبعد فلو سلمنا ذلك في الكذب لما سلمناه في غير الكذب من القبائح. ويبطل قول أهل الاستحلاء ما نعلمه من قبح الظلم والكذب والعبث وإن استحلته النفوس ووجوب رد الوديعة وقضاء الدين ودفع الضرر بالقصد ونحوه، وإن نفرت عنه النفوس وما نعلمه من حسن تحمل المشاق في الأسفار مع النفرة، ويبطل قول أهل الجبر أنه يعلم هذا الوجوب والقبح من لا يعلم أنا مأمورون ومنهيون أو مملوكون مربوبون كالملحدة والبراهمة والجاهلية والعلم بالقبح فرع على العلم بوجه القبح جملة أو تفصيلاً، وبعد فلو قبح فعل منا لأنا مملوكون مربوبون لوجب أن لا يحسن منا فعل قط لاستمرار علة القبح، وبعد فيلزم أن لا يجب علينا معرفة النبوة بل لا يمكن لأنه إنما يجب علينا معرفتها إذا علمنا أنا مأمورون منهيون ومملوكون مربوبون، ونحن لا نعلم أنا مأمورون إلا بعد العلم بالنبوة وهو محض الدور وإذا لم يمكن العلم بالنبوة لم يمكن العلم بوجوب واجب قط، وبعد فكان يلزم لو أمرنا الله بالظلم والكذب وسب نفسه وقتل من أحسن إلينا أن يحب ذلك ولو نهى عن عبادته وعن العدل والصدق وحسن الأخلاق أن يقبح وفي التزام هذا من الشناعة ما لا يخفى، وبعد فيلزم أن لا يوصف فعل الله بحسن ولا قبح لفقد الأمر والنهي، وبعد فيلزم في من أرتد أن ينتفي عنه العلم بقبح الظلم والكذب ووجوب قضاء الدين ورد الوديعة كما انتفى عنه العلم بقبح شرب الخمر ووجوب الصلاة، وبعد فلو أثر أمره تعالى ونهيه في القبح لأثر أمرنا ونهينا لأن صيغ الأمر والنهي تتماثل، فإن قالوا: الفرق أن الخالق يحب طاعته، قيل لهم: بالعقل علمتم وجوب طاعة الخالق فقد أبطلتم مذهبكم في أن العقل لا يقضي بوجوب أم بالأمر فيعود الإلزام لأنكم إنما توزعتم في الفرق بين أمره وبين أمر عباده فما لم يجعلوا الفرق عقلياً
فالإلزام باق ولا يتقلب علينا هذا؛ لأنا نجعل أمره تعالى دليلاً على الوجوب لا مؤثراً فيه، وصح ذلك في أمره دن أمرنا؛ لأنه تعالى حكيم لا يأمر إلا بحسن، فلذلك لم يدل أمرنا على الوجوب ولا نهينا على القبح، وأما نهي صاحب الدار عن دخولها فهو إنما يكشف عن عدم الرضى والدخول مع عدم الرضى ظلم، فلذلك قبح الدخول لا لأجل النهي.
شبهتهم أنه يقبح من الله تعالى فعل الظن ولا يقبح منا.
والجواب: لم تكن العلة في قبحه منه تعالى هي أنه ظن حتى يقبح منا لذلك بل قبح منه لأنه يكون عبثاً لا فائدة فيه من حيث لا حكم للظن أي لا يقتضي حسن فعل ولا وجوبه إلا إذا صدر عن إمارة ينظر فيها فاعل الظن والنظر /176/ في الإمارة يستحيل عليه تعالى.
شبهةقالوا: أليس يحسن منه تعالى تكليف من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن ويقبح من أ؛دنا طلب هذا التكليف إذا علم من نفسه أنه لا يؤمن.
والجواب: أول ما في هذا أنهما أمران متغائران، فالذي حسن منه تعالى هو التكليف والذي قبح من أحدنا هو طلبه والتكليف غير طلبه، وبعد فإنما قبح من أحدنا هذا الطلب لأنه يستجلب به الضرر على نفسه.
شبهة: قالوا: الإماتة بالإحراق والغرق وإهلاك الأموال يحسن منه تعالى ويقبح من المخلوقين.
والجواب: أنه يحسن منه تعالى لعلة مفقودة فينا، وهو علمه بأن فيه مصلحة واعتباراً مع كونه تعالى يضمن في مقابلته من الأعواض ما لو خير المؤلم لاختاره، وبهذين الوجهين يخرج عن كونه ظلماً وعبثاً بخلاف ما إذا صدر من احدنا.
فصل
عندنا أنه يعلم بالعقل وجوب كثير من الواجبات كقضاء الدين ورد الوديعة ونحوه وقبح كثير من المقبحات وحسن كثير من المحسنات، وقال أهل الجبر: لا نعلم شيئاً من ذلك إلاَّ بالشرع وبنوا ذلك على ما أصله الفلاسفة من أن هذه القضايا تسمى المشهورات أي لا عمدة لها إلا الشهرة التي لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإنا إنما نحكم بها لأحد الأسباب الخمسة المتقدم ذكرها، وأن الإنسان لو خلى وعقله المجرد لما قضى بها، ونحن قد أبطلنا هذه القاعدة في صدر الكتاب وأوضحنا أنه لا فرق بينها وبين البديهيات في كونها ضرورية، وبينا ما أراده الفلاسفة بذلك من هدم قواعد الدين، ويختص هذا المكان أن يقال لهم هل يحكمون بوجوب معرفة الله تعالى وقبح الجهل به وقبح إضافة صفات النقص إليه.
فإن قالوا: لا يقضى بشيء من ذلك طوينا عنهم الكلام واكتفينا بذلك في معرفة عنادهم ولزمهم تصويب أهل الشرك والجحود وأن لا يحكموا بشيء من أنواع الكفر.
وإن قالوا: يقضى بوجوب معرفة الله تعالى وقبح الجهل به وغير ذلك من أنواع الكفر.
قيل لهم: أبالعقل عرفتم وجوب معرفة الله تعالى وقبح الجهل به فهو الذي نقول، أم بالشرع علمتم ذلك، فأي شرع ثبت لكم قبل معرفته حتى استدللتم به على وجوبها، وبعد فهب أن الشرع متقدم على معرفة الله لكن إذا قال النبي لكم إن معرفة الله تعالى واجبة فاعرفوه، فماذا تعلمون وجوب امتثال أمر النبي أبالعقل فهو المطلوب أم بالشرع فأي شرع ثبت قبل الأنبياء.
فصل
عند الجمهور أن الله تعالى قادر على ما(1) فعله لكان قبيحاً ويصح أن يقع منه لولا العدل والحكمة.
وقال أبو الهذيل وأبو الحسين: يقدر عليه ويستحيل منه لفقد الداعي. وقال النظام والجاحظ والأسواري: لا يوصف بالقدرة عليه. وقالت المجبرة /176/: لا يقدر عليه منفرداً بل يوجده والعبد يكتسبه.
__________
(1) . لو. ظن
قلنا: إنه ما من فعل إلا وكما صح أن يقع على الوجه فيحسن يصح أن يقع على وجه فيقبح، فإذا قدر القادر على إيقاعه على أحدهما قدر على إيقاعه على الآخر ولا تأثير لاختلاف وجوه الأفعال في قدرة القادر، بيان هذا أنه كما تقدر أن يقول زيد في الدار وهو فيها تقدر أن تقول ذلك القول بعينه وهو ليس فيها، والأول صدق والثاني كذب، وكما يقدر أن يظهر المعجز والمدعي صادق بقدر أن يظهر، وهو كاذب إذ لا تأثير لكذب المدعي ولا لصدقه في قدرة القادر، وكما تقدر أن تقول العالم ليس بقديم تقدر أن تقوله بحذف ليس وكما تقدر أن تعاقب مع الاستحقاق تقدر مع عدمه.
واعترضه أبو الحسين بأن قال: أليس لا تتعلق قدرة القادر باختصاص الفعل بوقت معين ومع ذلك فإذا انقضى الوقت خرج الفعل عن تعلقه بالقادر فكذلك لا تتعلق قدرة القادر بالقبح، ومع ذلك إذا اختص الفعل بوجه دون وجه خرج عن تعلقه بالقادر.
ويمكن الجواب بأن الوجه الذي لأجله خرج الفعل عن تعلقه بالقادر إذا انقضى وقته غير حاصل في الفعل إذا اختلف وجهه وإذا لم يكن جامع بين الموضعين بطلت المقايسة. على أنا إنما أوجبنا اختصاص الفعل بوقته في حق القادر بقدره، ونحن فرضنا المسألة في القادر لذاته، وهو تعالى كما يصح أن يوقع الفعل في وقته يصح أن يوقعه في غيره لا سيما المبتدأ النافي، فكذلك إذا صح أن يوقعه على وجه صح أن يوقعه على غيره.
فإن قال: قد قام دليل على اختصاص الفعل بوجه دون وجه وهو استحالة الفعل دون داع.
قيل له: إن عدم الداعي إنما يدل على استمرار عدم الوقوع لا على استحالة الوقوع كما أن ثبوت الداعي إنما يدل على استمرار الوقوع لا على وجوبه.
دليل قد تمدح تعالى بأنه لا يظلم الناس شيئاً، ومعنى ذلك أنه لا يفعل الظلم ولا يتم التمدح بترك الفعل إلا بأن يكون قادراً عليه، والأصح منه التمدح بأنه لا يجمع بين الضدين.
قالوا: تمدحه تعالى بنفي القدرة على الظلم، قلنا: إذاً يكون تمدحاً راجعاً إلى ذاته فيكون إثبات القدرة على الظلم نقصاً فيلزم أن تكون الملائكة والأنبياء على صفة نقص لقدرتهم على القبيح، ويلزم أيضاً أن يكون نفي القدرة على الجمع بين الضدين مدحاً، وهذا الدليل كما يستدل به الشيوخ يستدل به أبو الحسين أيضاً، لأنه وإن نفى الصحة فلأمر يرجع إلى فقد الدواعي لا إلى فقد القدرة، ألا ترى أن أحدنا كلما قويت صوارفه عن القبيح وبعد عنه لنزاهته وفرط حكمته كان مدحه أكمل، فكذلك الباري /178/ إذا استحال عليه دواعي القبيح من الجهل والحاجة كان مدحه أكمل. والأقرب والله تعالى أعلم أن الخلاف بين الجمهور وبين أبي الحسين إنما هو في عبارة، لأن أبا الحسين يقول باستحالة الوقوع من حيث الدواعي لا من حيث القدرة وسائر الشيوخ لا بد أن يقولوا باستحالة الوقوع من حيث العدل والحكمة لا من حيث القدرة، إذ لو جوزوا الوقوع مع العدل لم يبق دليل على أن الله تعالى لا يفعله، وإذا كان كذلك فالاستدلال بالعدل والحكمة موافق للاستدلال بفقد الدواعي؛ لأن معنى كونه عدلاً حكيماً أنه عالم بقبح القبائح، وغني عن فعلها، ومعنى فقد الدواعي إلى القبيح هو فقد الجهل به والحاجة إليه؛ لأنهما اللذان يدعوان إليه، ولا فرق بين قولنا أن الله ليس بجاهل ولا محتاج وبين قولنا أنه عالم غني قادر لا فرق بين كلام أبي الحسني وبني كلام الجمهور، ويمكن أن ترجح عبارة أبي الحسين بأن يقال للجمهور أتقولون أنه يصح منه فعل القبيح مع علمه بقبحه وغناه عنه أم تقولون لا يصح. إن قلتم يصح بطل استدلالكم على أن كل عالم بقبح القبيح وغني عنه لا يفعله وإن قلتم لا يصح فهو مطلوب أبي الحسين.