فصل في الكلام على الثنوية في النور والظلمة
يقال: إن النور والظلمة جمسان عند كثير من الناس، وعرضان عند آخرين، والأجسام والأعراض محدثة. وبعد فلو كانا قديمين لم يكن أحدهما ثان، يكون نوراً والثاني ظلمة، أولى من عكسه، ومن أن لا /167/ يكونا نورين جميعاً، ولا كان أحدهما بأن يكون فاعلاً للخير أولى من الشر، وكذلك في المدح وألزم لا سيما وهما قادران للذات.
ويقال للديصانية: إذا كانا قديمين فلم كان النور قادراً عالماً دون الظلمة، وهلا كان بالعكس وكيف يصح الفعل من غير حي ولا قادر. ويقال للمرقيونية في إثبات الثالث: لِم كان بأن يمنزج أولى من أحدهما أو من يكون ممزوحاً، وهل وقع الامتزاج على جهة الوجوب فكان يجب حصوله لم يزل ولا يحتاج إلى مازج أو على جهة الاختيار، فليس من مذهب الخصم، ولو قال به لقيل له فهلا صح من الإله الواحد أن يفعل الخير والشر باختياره ولا حاجة إلى إثبات ثان وثالث. على أنه يكون قد صدر الخير والشر من غيرهما وهو الثالث.
ويقال للمجوس في حدوث اهرمن: أما القول بانه من عفونه فباطل؛ لأن العفونة جسم، وكل جسم محدث، ولأن الجسم لا يتولد من الجسم، ولأن العفونة من القاذورات، ومما يعدونه شرطاً، فهلا كان الشرور كلها قديمة ولا يحتاج إلى إثبات ثان يخلقها أو كانت هذه العفونة محدثة فيجب تقدم اهرمن عليها فيكون محدثاً لها، ولأنه كان يجب أن يتولد من كل عفونة أهرمن ولأنه إذا كان أهرمن محدثاً فكيف يكون إلهاً دون غيره من المحدثات، وكيف صح منه فعل الأجسام.
وأما القول بأنه حدث من فكرة الله تعالى أو من شكه فباطل لأن الفكرة والشك إنما يجوزان على من يجهل، ولأنه كان يجب في كل فكرة وشك مثله لأن الفكر يتماثل إذا اتحد متعلقه ولأنه إذا حدث من فكرة يزدان لزم كون يزدان محدثاً للشرور، ولأن هذه الفكرة الردية من قبيل الشرور وفي ذلك حصول الشر من غير أهرمن.
فصل في شبهة الثنوية
زعموا أن كل ما تنفر عنه النفووس من الآلام والقاذورات والحيوانات قبيح، وكلما تستلذه النفوس حسن والفاعل الواحد لا يفعل الخير والشر.
والجواب: لا نسلم أن كل ما تنفر عنه النفوس قبيح، دليله تحمل المشاق في الأسفار والفصد والحجامة وبالجملة جميع ما كلفناه من المحسنات لا بد فيه من النفرة، وكذلك جميع ما كلفنا تركه لا بد فيه من لذة، وبعد فأفعال الباري تعالى كلها حكمة ولا عبرة بالمرئي والمنظر ولا باللذة وعدمها، وبعد فلا نسلم أن الفاعل الواحد لا يفعل الخير والشر بل يجب في من قدر على الشي أن يقدر على جنس ضده إذا كان له ضد، وقد يفعل الضدين دفعة واحدة، كما إذا قتل بيمينه وأنقذ الغريق بيساره، ويقال لهم: قد وجدنا النور يتعذر معه على أحدنا أن يختفي من عدوه، وهذا شر، والظلمة يتمكن معها من الاختفاء وهو خير ووجدنا إدامة النظر إلى النور يضر بالنضر وهذا شر وإدامة النظر إلى الخضرة /168/ يزيد فيه، وهذا خير ووجدنا أحدنا يسيء ويحسن ويصدق ويكذب ويعلم ويجهل ويفعل القبيح ويتوب ونحو ذلك، وهو فاعل واحد. ومتى ومتى قالوا أنهما أجبراه على ذلك. قلنا: ولم كانا بأن يجبرا بعض الناس أولى من البعض الآخر، وفي بعض الأوقات أولى من بعض.
فصل في الكلام على الصابئين
اعلم أن كلامهم وكلام الباطنية في السابق والتالي وكلام المنجمين وكلام الفلاسفة في العقول والأفلاك متقارب؛ لأن كلهم فلاسفة، وإن اختلفت عباراتهم وتفاصيلهم، وكلهم متفقون على أن للكواكب تأثير، لكن اختص الصابئون بعبادتها فكل ما تقدم على الفلاسفة والباطنية وارد هنا من أن الأفلاك مسخرة غير حية، ولا قادرة وأن الطبع غير معقول وأنه لا طريق إلى العقول، وأن كل ما سوى الله محدث.
فصل في الكلام على النصارى
أما قولهم بأنه أحد ثلاثة فهو من أظهر الأقوال تناقضاً وإحالة لأن كون الشيء واحداً يمنع من تعدده وكونه متعدداً يمنع من اتحاده، ولهذا قال بعض الشعراء:
قل للذي يحسب من جهله .... أن النصارى يعرفون الحساب
لو صح ذا ما جعلوا واحداً .... ثلاثة وهو خلاف الصواب
ولعلهم أرادوا ما يقوله أهل الجبر من أنه ذات تختص بمعان هي الكلمة والعلم والحياة لكن اختصوا بإطلاق لفظ التثليث والأبوة ونحوه، وأما قولهم بالاتحاد فيبطله على سبيل الجملة من وجوه منها أنهما إما أن يتحدا على سبيل الوجوب، فيلزم قدم المسيح أو كونه إلهاً حالة العدم او على جهة الجواز فيحتاج إلى فاعل أو علة، واحتياجه إلى ذلك باطل؛ لأنه لا يصح أن يكون شيء من صفات الباري بالفاعل لأن في ذلك حدوثه، وأما العلة فهي إن كانت قديمة لزم الاتحاد، لم يزل وإن كانت محدثة لم يحل، إما أن يكون حاله فيلزم كون القديم مجلاً للحوادث أو غير حالة، فلا يكون لها اختصاص بأقنوم الابن دون سائر الأقانيم؛ لأن الكل قديم. وبعد فعندهم أن الناسوت محدث واللاهوت قديم، فهل صار المحدث بالاتحاد قديماً أو صار القديم محدثاً أو كل واحد منهما باق على حقيقته، والأول والثاني باطلان بالاتفاق والثالث يبطل معنى الاتحاد، وبعد فالكلمة التي اتحدت بالابن إما أن تفارق الأب فيلزم جواز البعض عليه أو لا يفارقه فيلزم قيام صفة بموصوفين، وبعد فالاتحاد إما أن يكون صفة كمال فيلزم حصوله لم يزل وفيه قدم الناسوت أولا بكون صفة كمال فيمتنع ثبوته. وبعد فكيف اختص أقنوم الابن دون أقنوب الأب وروح القدس بأن اتخذث بالناسوت مع أن بعض الأقانيم لا تنفصل عن بعض. وبعد فعندهم أن المسيح /169/ صلب، وقيل: فإن كان المصلوب هو اللاهوت فكيف يصح الموت عليه، وإن كان المصلوب هو الناسوت فكيف يصلب مصاحب الإله ومجاوره، وكيف يصح في من قهر أن يكون إلهاً، ولقد أحسن القائل:
عجباً للمسيح بين النصارى .... وإلى أي والد نسبوه
إن حكمنا بصحة الصلب والقتل .... عليه فأين كان أبوه
ولئن كان راضياً بأذاهم .... فاحمدوهم لأجل ما فعلوه
ولئن كان ساخطاً لأذاهم .... فاعبدوه لأنهم غلبوه
والكلام عليهم على جهة التفصيل هو ان يقال إن أردتم بالاتحاد أن ذاتهما صارت واحدة فهو مستحيل؛ لأن فيه انقلاب المحدث قديماً أو القديم محدثاً أو خروج الموصوف عن صفة ذاته أو حصوله على صفتين للنفس أكثر من صفة للنفس. على أنهم يجعلون الإيجاد بالفاعل ولا اختيار لفاعل في أن يجعل الشيئين شيئاً واحداً، وإن أرادوا بالاتحاد الامتزاج أو الادراع فباطل؛ لأن ذلك إنما يعقل في الأجسام، ولأن محاورة الشيئين لا يصيرهما شيئاً واحداً، ومتى سماه أهل اللغة بذلك فهو لأنهم اعتقدوا صحته والتسمية تتبع اعتقاداتهم، فهم مصيبون في التسمية مخطئون في الاعتقاد كتسميتهم الأصنام آلهة لاعتقادهم أنها تستحق العبادة. وإن أرادوا بالاتحاد في المشيئة فإما أن يعنوا بذلك أن إرادتهما واحدة أو أن مرادهما واحد والأول باطل لأن إرادة الباري لا تختص بالأجسام، وإن اختصت فهي مع جميع الأجسام على سواء، فلا يكون للمسيح مزية في ذلك، وكذلك إرادة المسيح مع الباري تعالى ومع سائر الأحياء على سواء، فليس بأن يوجب له أولى من غيره، ولأنه لو جاز أن يتحدا في المشيئة لجاز أن يتحدا في العلم وغير ذلك من الصفات، ولأن الإرادة إما أن توجب صفة واحدة فلا يصح اختصاصه بموصوفين فيبطل الاتحاد أو توجب صفتين وهو محال وإلا وجب أن توجب ما لا يتناهى من الصفات لفقد الحاضر والثاني باطل؛ لأن الباري تعالى قد يريد ما لا يريده المسيح ولا يخطر له على بال، وكذلك يريد المسيح ما لا يريده الله من المباحات والمكروهات والصغائر، ولأنه كان يلزم إذا أردنا ما أراده الباري تعالى أن يكون قد اتحد بنا وبالجملة، فكل حيَّيْن يصح أن يختلفا في الإرادة.
فصل في شبهة النصارى
تعلقوا من جهة العقل بظهور المعجز عليه من الإبراء والإحياء ونحو ذلك، قالوا: ومثل هذه الأشياء لا يفعله إلا الإله.
والجواب: أنه ما من نبي إلا قد ظهر عليه من المعجزات ما لا يفعله إلا الله تعالى، أو يكون في الحكم كأنه من فعله، ونحن نسلم أن الفاعل للأحياء والأبراء إله، وهو الله تعالى فعله به معجزة /170/ لعيسى، فلا تبقى شبهة تقتضي كون المسيح إلهاً وأما كونه من غير أب فآدم عليه السلام كذلك، وكثير من الحيوانات يوجده الله لا على جهة التناسل وبعضها شيء من غير أب.
ومن جهة السمع، تعلقوا بقوله تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}.
والجواب: أن العرب تسمي الرسول كلمة ولساناً يقال هذا لسان فلان وكلمته أي المبلغ عنه، وقيل: معناه ألقا إليها قوله كن فكان.
وبعد فالكلام عرض محدث بعدم في الوقت الثاني وأما قوله تعالى: {وروح منه}، فالروح عندنا هو النفس، وهو أجسام رقيقة بإرادة وهو من فعل الله تعالى.
يوضحه قوله تعالى: {ونفخنا فيه من روحنا}، ونحوها، والنفخ إنما يكون في الأجسام، ووكذلك يوصف الروح بأنه يقبض ويرسل، وذلك يدل على أنه جسم ويجوز ان يكون الله تعالى سماه روحاً لأنه هدى به إلى الحق، وقد سمى الهداية روحاً في قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} أي هداية، ويجوز أن يريد بالروح هنا الوحي كما قال تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء}، ويجوز أن يريد بالروح الرسول كما قال تعالى: {نزله روح القدس}، وتعلقوا بجزازيف(1) يسندوها إلى الكتب المنزلة.
__________
(1) . أي كذوبات.
قالوا: قال عيسى في الإنجيل: أنا وأبي واحد، ومن رآني فقد رأى أبي. وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقال: أنا وأبي واحد، فمن أطاعني فقد أطاعه.
والجواب: إن في هذه الألفاظ من الركة والسماحة ما يشهد بكونها كذباً وافتراء على الله، ولنا في إبطالها طريقان: أحدهما أن أهل الكتب قد بدلوا وغيروا كما حكى الله عنهم، وبطل التواتر في نقلهم، والثانية: أن هذه الألفاظ عربية وكتبهم أعجمية وهم فسروها على فاسد أصولهم، ولسنا نقبل تفسيرهم؛ لأنهم عندنا غير مصدقين، ومن الجائز أن يكون هناك قرائن تشعر بالمراد، وأن هذا كغيره من المتشابه وكتابنا العزيز مشحون بإبطال مذهب النصارى.
الكلام في العدل
العدل في اللغة: مصدر عدل، ويستعمل في الفاعل مبالغة إذا أكثر من فعل العدل، فيقال: رجل عدل، كما يقال صوم ورضى، ومنه أنه عمل غير صالح.
وفي اصطلاح الفقهاء: من كان ظاهره السلامة في فعل الطاعات واجتناب المقبحات.
وفي اصطلاح المتكلمين فقد يراد به الفعل، وقد يراد به الفاعل، وقد يراد به هذا العلم المخصوص الذي باين به أهل الحق من سواهم، فإذا أريد به الفعل فهو عند قاضي القضاة /171/ كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به الغير أو ليضره وهذا بناء على أصله في أن ابتداء خلق العالم عدل، وأن العدل لا يكون مقصوراً على الحقوق وهو منتقض بترك الظلم، فإنه عدل، وليس بفعل، وعند الجمهور هو إنصاف الغير بفعل ما يجب له أو يستحق عليه، وبترك ما لا يستحق عليه مع القدرة واحترزوا بقولهم مع القدرة من الضعيف إذا ترك ظلم السلطان، فإن ذلك لا يسمى عدلاً، وأرادوا بقولهم مع القدرة أي مع الاختيار، وكون القادر غير ملجأ إلى الترك، ولم يريدوا بقولهم مع القدرة أي مع كونه قادراً؛ لأن من ليس بقادر قد خرج عن الحد بذكرا لترك؛ لأن من لا يقدر على الشيء لا يسمى تاركاً له، وإن استعمل في الفاعل فهو الذي لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب مع العلم والاختيار.
قلنا: مع العلم والاختيار احترازاً من غير المكلفين والساهي والنائم، فإنهم وإن لم يفعلوا القبيح ولا أخلوا بالواجب إذ لا واجب عليهم، فليسوا عدولاً، لفقد العلم، وكذلك الممنوع من فعل القبيح، والإخلال بالواجب لا يكون عدلاً لفقد الاختيار، وهذا أحسن من قولهم في الحد وأفعاله كلها حسنة؛ لأن ذلك يبطل فائدة قولهم لا يفعل القبيح، وهي أم المسائل.
فصل
مر في هذه الجملة ذكرا لفعل والواجب والحسن والقبيح فاقتضى ذلك بيان معاني هذه الألفاظ فالفعل هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه، وقلنا كان لأن حال وجوده يخرج عن تعلقه بالقادر، بل في الأفعال ما يجوز وجوده حال عجز فاعله أو موته كالمسببات المتراجية، وتنقسم إلى قبيح وحسن، ولا قبيح ولا حسن، فالذي ليس بقبيح ولا حسن هو ما ليس له صفة زائدة على كونه فعلاً كانخفاض الرمل عند السير وانتثار التراب عند الجلد ونحو ذلك من الأفعال اليسيرة.
والقبيح: هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه لا في حالة عارضة. قلنا على بعض الوجوه ليدخل الصغائر والقبائح الواقعة من الساهي والنائم عند غير أبي هاشم، فإنه يشترط في القبيح القصد ولتدخل القبائح الواقعة من الصبيان وسائر من لا عقل له عند غير أبي الحسين فإنه يشترط في القبيح العلم أو التمكن منه، وكذلك القبائح الواقعة من الملجأ والمكره عند من يقول بقبحها، فإن كل هذه قبائح، ولا يستحق الذم عليها إلاَّ على بعض الوجوه، وقلنا إلا في حالة عارضة احترازاً من تناول الميتة وشرب الخمر عند الاضطرار المفرط، فإنه واجب، ومع ذلك فإنه يستحق الذم عليه على بعض الوجوه إلا أن الخمر حالة وجوده حالة عارضة، وأصله القبح لدخوله في حقيقة القبيح ولا يخرج من الحد ما استحق الذم عليه على كل الوجوه؛ لأنه قد استحق على بعض الوجوه وزيادة.