طريقة أخرى يقال لهم: ما أنكرتم أن ثم مضافاً محذوفاً تقديره إلى ثواب ربها ناظرة كما هو سبيل كثير من المتشابه نحو قوله تعالى: {وجاء ربك} وقوله: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} وأشباه ذلكن وهذا مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً، ويمكن مجامعته للأول فتكون رؤيته لشيء من ثواب الله ومنتظره لشيء آخر.
فإن قيل: إن في الانتظار تبعيضاً، ولهذا قيل: إنه يورث الاصفرار.
وقيل: الانتظار الموت الأحمر.
قلنا: إنما يكون كذلك إذا كان المنتظر سلكاً في حصول ما ينتظره وغير مستغن عنه بما عنده، فإذا لم يكن كذلك فالأمر بالعكس، ولهذا قيل المأمول خير من المأكول، وفي السنة العوام رجاه خير من لقاه، وقد قال تعالى: {ويرجون رحمته} ولا معنى للرجاء إلا الانتظار، ولا بد للخصوم من مثل ذلك، فإن الرؤية عندهم غير حاصلة في كل حال.
طريقة أخرى، يقال لهم: ما أنكرتم إن إلى واحدة الآلاء كما قال الشاعر:
أبيضُ لا يرهبُ الهزالَ، ولا .... يَقْطَعُ رِحْماً، وَلا يَخُونُ إلا
أي نعمة، ويكون التقدير نعمة ربها ناظرة.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} ونحو ذلك، فما فيه ذكر الملاقاة، وهذا تمسك فارغ؛ لأن الملاقاة لو أفادت الرؤية لكان كل إنسان يراه لقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، فتبين أن كل أحد يلقاه، ثم قسمهم بعد ذلك بقوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه..} الآية، وكان يجب أن يراه الكفار لقوله تعالى: {فأعقبهم /161/ نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه}، وبعد فقد قال تعالى مخاطباً للجميع واعلموا أنكم ملاقوه، فلو كان اللقاء بمعنى الرؤية لكان كأنه قال: فاعلموا أنكم من أهل الثواب، وقد وقع الاتفاق على أن ليس أحد يعلم هل هو من أهل الثواب إلا الأنبياء ومن أخبروه، وبعد وظاهر الآية متروك اتفاقاً؛ لأن الملاقاة مفاعلة وأصلها في اللغة تقابل الشيئين وتقاربهما بعد مباعدة، وهو مستحيل في حقه تعالى، قالوا: إذا قال القائل لغيره إذا لقيت فلاناً فأقرءه عني السلام علمنا أن معناه إذا رأيته.
قلنا: لم تعلموا ذلك، ولكن ظننتموه لقرينة، وهي أن الملاقاة إنما تكون في أغلب الأحوال مع الرؤية. يوضحه أنه يصح أن تقول للأعمى إذا لقيت فلاناً فأقرءه مني السلام، ولا رؤية هنا.
فإن قيل: فما معنى الآية. قلنا: فيها محذوف تقديره ملاقاة حسابه تعالى وما وعد من ثواب وعقاب، فإن ذلك هو الذي يصح فيه معنى الملاقاة.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
والجواب: إن الظاهر متروك لاقتضائه أن يكون بينهم وبين الله حجاب، وأنه لا يراهم لذلك الحجاب، والحجاب لا يصح إلا على الأجسام، ولأنه لا بد من تقديم محذوف فيها وتقديره عندنا عن رحمة ربهم وعندهم عن رؤية ربهم، وكلامنا أرجح لما تقدم من الأدلة، ولأنه إذا لم يصح أن يكونوا محجوبين عن ذاته لم يصح ان يكونوا محجوبين عن رؤيته؛ لأن رؤيته معنى يخلقه الله فيهم، فلا معنى للحجة، والحاصل أن الرؤية إذا كانت معنى يخلق فيهم فهو إما ان يخلقه الله تعالى فيجب أن يروه ولا تأثير للحجاب، وإما أن لا يخلقه فلا تصح الرؤية، وإن زال الحجاب، وبعد فليس في كونهم محجوبين دليل على أن غيرهم لا يحجب، فإن هذا من الخطابات التي لا مفهوم لها اتفاقاً بين المحققين.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قالوا: الحسنى هي الجنة والزيادة هي الرؤية.
والجواب: إنه لا علقة لهم ظاهرها، وإنما يروون في تفسيرهم جبراً عن أبي بكر رضي الله عنه، وهو آحادي، وغير صحيح عند جمهور أهل الحديث، وكيف يصح هذا ونعم الله على المثابين لا ينفك من زيادة بعد زيادة، فمن أين لهم أن تلك الزيادة هي الرؤية وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: الزيادة غرفة في الجنة من لؤلؤة لها أربعة أبواب، وعن زيد بن ربيع والكلبي وأبي صالح وعلقمة وابن عباس أن الحسنة بالحسنة والتسع زيادة في قوله تعالى: {فله عشر أمثالها} وعن يحيى بن ثابت وابن أبي ليلى: الزيادة انتظارهم لما يزيدهم الله من فضله.
شبهتهم من جهة الأخبار، ما رووه عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البلخي: (سترون /162/ ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فيه(1)).
__________
(1) . لا تظامون: أي لا تشكون فيه.
والجواب: إن هذا آحادي، والمسألة قطعية، وهو مطعون في سنده، فإن جريراً هذا يروى أنه كان يبغض علياً عليه السلام ويأمر بأسراره إلى معاوية، ثم كان من أصحاب معاوية من بعد، وكذلك قيس كان يرى رأي الخوارج، وروي أنه قال مذ سمعت علياً على منبر الكوفة يقول: أتفروا إلى بقية الأحزاب، يعني أهل النهروان، دخل بغضه في قلبي، ومن كان يبغض علياً فعدالته ساقطة ودينه مدخول لقوله عليه السلام لعلي: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، وأيضاً فقد روي أن قيساً خولط في آخر زمانه ونقص عقله، وكان يروي الأخبار وهو كذلك.
وبعد، فظاهر الخبر يقتضي التشبيه لأنا نرى القمر في جهة ومع مقابله ونحوها مما لا يحصى تجوز على الله تعالى. وبعد، فمعناه ستعلمون ربكم، والرؤية بمعنى العلم في اللغة أكثر من أن يحصى، قال تعالى: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه}، وقال: {ألم تر إلى ربك} وقال: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}، ونحو ذلك من الآيات، ومثله قوله عليه السلام: (ليس لعين ترى الله يعصى)، فإن المراد العلم؛ لأنه سواء رأى بعينه أو علم بغيرها، فإنه يجب التغيير أو الانتقال، وهذا يدل على أن المراد الجملة لا العين؛ لأن العين لا يصح أن تغير ولا أن تنتقل. قال الشاعر:
رأيت الله إذ سما نزاراً .... وأسكنهم بمكة قاطنينا
أي علمت، وقال آخر:
أوَما ترى الرحمن أخرج آدماً .... منها إلى الدنيا بذنب واحد
وبعد فهو معارض بما رواه جابر بن عبد الله عنه عليه السلام: (ليس يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة)، وروي أنه عليه السلام سئل هل نرى ربنا في الآخرة، فانتفض وسقط ولصق بالأرض. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها وقد سئلت هل رأى محمد ربه ـ: لقد قفّ شعري يا هذا مما قلت. ثلاث، من قالهن فقد أعظم الفرية على الله.. الخبر.
القول في أن الله واحد لا ثاني له
الواحد يستعمل في معان، فقد يراد به واحد العدد وهذا مستحيل في حقه تعالى، لاقتضائه التناهي والتحديد، وقد يراد به ما لا يقبل التجزي والانقسام أما من كل وجه وهذا المعنى جائز في حقه تعالى، ويكون مدحاً بانضمامه إلى كونه حياً خلافاً لعباد، وأما من بعض الوجوه كالإنسان الواحد والدار الواحد، فإنه لا يقبل التجزي من حيث الإنسانية الدارية وأن قبله من جهة أخرى، وهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى، وقد يراد به المختص بصفات الكمال أو بعضها على حد يقل المشارك له كما يقال فلان وحيد عصره، وقد يراد به واحد القدم والإلهية المستحق للعبادة وهو المنفرد بصفات الكمال على حد يستحيل أن يشاركه فيها مشارك على الوجه الذي استحقها عليه وهو المقصود.
فصل
ذهب المسلمون /163/ إلى أن الله تعالى واحد، وخالفت الثنوية والصائون والنصارى والذام المجبرة، أما الثنوية فاتفقوا على النور والظلمة، وأن كل خير فهو النور بطبعه، وأن كل شر فهو من الظلمة بطبعها، وأن كل واحد منهما لا يقدر على خلاف ما يصدر عنه، وأن العالم ممتزج منهما وأنهما غير متناهين إلا من جهة التلاقي، ثم اختلفوا فقالت المانوية قديمان قادران عالمان مدركان، وقالت الديصانية بذلك في النور فقط، فأما الظلمة فعاجزة جاهلة موات، وقالت المردكية النور يفعل بالقصد والظلمة بالخبط وأثبتت المرفثونية ـ بالثاء ـ امتزج العالم منه، ومن الظلمة قالوا فلما رأى النور تعدى الظلمة على هذا المتوسط بعث إلى هذا العالم الممتزج روحاً، وهو ابنه عيسى ومرقيون هذا لحق بعض أصحاب عيسى عليه السلام، وأخذ عنه وسمت المجوس النور يزدان والظلمة أهرمن، وقال بعض هؤلاء: بحدوث أهرمن قيل من عفونه كانت قديمة، وقيل من فكرة يزدان الردية، وقيل من شكه، وزعموا أن عند حدوث هذا الثاني حصل بينهما حرب، ثم اصطلحا على شروط ستنقضي ويغلب بردان.
وأما الصابؤون فزعموا أن للعالم صانعاً واحداً لكنه خلق الأفلاك حية قادرة عالمة وجعلها إلهه، فعبدوها وعظموها وسموها المليكة وجعلوا بيوت العبادات بعدة الأفلاك السبعة وزعموا أن بيت الله الحرام هو بيت زحل وأنكروا الآخرة، وفيهم قائلون بالتناسخ، وزعموا أن لهم أنبياء، وأنهم على دين شيث.
وأما النصارى اتفقوا على أن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وهو الذات، وقيل الوجود وهو متقارب؛ لأن الوجود عندهم هو الذات، وأقنوم الابن وهو الكلمة، وقيل العلم، وأقنوم روح القدس، وهو الحياة، واتفقوا على أنه لم يزل الأب أباً والابن ابناً، وروح القدس قابضة بينهما، وأن البنوة لا على جهة التناسل بل هي كتولد الحر من النار والضياء من الشمس.
ثم اختلفوا في الأقانيم فقيل: هي الجوهر وهو هي وقيل الجوهر واحد ذو ثلاثة أقانيم، فهي هو وليس هو هي بل غيرها، ثم اختلفوا من وجهٍ، فقال بعضهم: متفقة في الجوهرية مختلفة في الأقنومية.
وقال آخرون: لا نطلق عليها كونها مختلفة، ثم اختلفوا في تغايرها، فقال به الأقل ومنعه جمهورهم، ثم اختلفوا في جواز انفراد بعضها عن بعض واستقلاله، فأجازه الأقل ومنعه جمهورهم، ثم اختلفوا في تسميتها، فقيل: أشخاص، وقيل: أعراض، وقيل صفات.
واتفقوا على اتحاد الكلمة التي يسمونها اللاهوت بجسد عيسى التي يسمونه الناسوت. ثم اختلفوا في كيفية اتحاده فقالت /164/ اليعقوبية: مازجه ممازجة الدهن للسمسم، والنار للحطب، فصار المسيح جوهراً من جوهرين لاهوت وناسوت، وقالت النسطورية: أدزعة وحصل معه على جهة المحاورة كالشمس على الجدار فالمسيح عندهم جوهران على الحقيقة، وحكى عنهم السيد في شرح الأصول أنهما اتحدا في المشيئة، وقالت الملكية(1) اتحدت الكلمة بمعنى الإنسانية المتصورة في الذهن لا بالشخص، وقالت فرقة منهم: معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت على الجسد كالصورة في المرآة.
__________
(1) . الملكانية.
وأما ألزام المجبرة فقد ألزمهم أصحابنا مذهب المجوس وسيأتي إن شاء الله في بيان من القدرية وألزموهم أيضاً مذهب النصارى حيث أثبتوا قدماء مع الله تعالى وسموها صفات، فإن هذا مذهب جمهور النصارى في الأقانيم، حيثوكذلك إذا لم تكن المعاني أغياراً لله كانت هي هو، وذلك هو مذهب النصارى في الأقانيم أيضاً، وكذلك قولهم: ليست بمستقلة مع القول بأنها معاني كقول النصارى في الأقانيم، فإن عندهم أنها لا تستقل بنفسها، ولا يصح انفراد بعضها عن بعض.
وكذلك تسميتهم للمعاني علماً وحياة، وهو مذهب جمهور النصارى في الأقانيم.
يزيده وضوحاً أنه لم يقل أحد من الناس أن لله ثانياً يشاركه في جميع الصفات، وإنما يقولون بالمشاركة في كونهما واجبي الوجود والمجبرة إما أن يجعلوا هذه المعاني جائزة الوجود فيلزم حدوثها؛ لأن هذا هو دليلهم على حدوث العالم، وإما أن يجعلوها واجبة الوجود من ذاتها، وهو نفس مذهب الثنوية، وأما أن يجعلوها واجبة الوجود من غيرها، وهو نفس مذهب الفلاسفة في العقول والأفلاك، وقدم العالم، ومتى قيل أن الثنوية اعتقدوا استحقاق الثاني للعبادة.
قلنا: ليس كذلك، فإن المجوس لا يعبدون أهرمن وكذلك سائر الثنوية لا يعبدون الظلْمَة، وكذلك الفلاسفة لا يقولون باستحقاق العقول والأفلاك للعبادة، وإنما عتب عليهم القول بقدمها، على أن المجبرة متى لم يعترفوا بأن هذه المعاني أعيان لله تعالى لزمهم أن تكون هي هو، فتكون مستحقة للعبادة. وبعد فلم يذمهم الله على مجرد القول باستحقاق العبادة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني} فبين أن هذه المقالة تقتضي جواز الحاجة عليه وهذا لازم للمجبرة كما سلف.
فصل
ودليل أهل الحق أنه لو كان معه قديم ثانٍ لصح بينهما التمانع وصحة التمانع محال، فهذان أصلان، أما الأول وهو أنه كان يصح بينهما التمانع، فلأن اشتراكهما في القدم /165/ يقتضي اشتراكهما في القادرية وفي سائر صفات الذات، ومن حق كل قادرين صحة التمانع بينهما، وذلك ضروري في الشاهد، ولا علة لهذه الصحة إلا كونهما قادرين بدليل أن العلم بها يدور مع العلم بالقادرية ثبوتاً وانتفاء، مع فقد ما هو أولى من القادرية بأن تعلق عليه صحة التمانع، والتمانع هو أن يفعل كل واحد من القادرين ما لأجله يتعذر على الآخر اتحاد مراده كمتجاذبي الحبل، فإن كل واحد منهما يفعل من الاعتماد ما لأجله يتعذر على الآخر، تحصيل الجبل في جهته التي يجذبه إليها.
وأما الأصل الثاني وهو أن صحة التمانع محال فلأنا إذا قدرنا أن أحد القديمين أراد تحريك الجسم يمنة والآخر أراد تحريكه يسرة فإما أن يوجد مرادهما جميعاً وفيه اجتماع الضدين، وإما أن لا يوجد مراد واحد منهما وفيه خروجهما عن كونهما قادرين، وإما أن يوجد مراد أحدهما دون الآخر، وفيه خروج من لم يوجد مراده عن كوه قادراً للذات من حيث أن القادر للذات وجود مراده عند توفر دواعيه وإلا لم يكن قادراً للذات، وكان قادراً بقدرة، وكل قادر بقدرة جسم، وكل جسم محدث، وبعد فجواز المنع على أحدهما يدل على أنه متناهي المقدور وإلا لما منع من اتحاد مراده عند توفر دواعيه.
فإن قيل: أيهما حكمان فلا يختلفان في الإرادة والداعي. قلنا: كلامنا في الصحة لا في الوقوع ومعلوم أن كل حين يصح اختلافهما في الإرادة والداعي والألم ينفصل الحي والواحد من الاثنين، على أنه يعلم صحة التمانع من لا يعلم اتحاد الإرادة، وتعددها بل يعلمه من ينفي المعاني، وبعد فقد يقع التمانع مع زوال الإرادة والداعي كالنائمين يتجاذبان الثوب وكذلك الساهيان، وبعد فلا يمتنع كون كل واحد من الضدين مصلحة على البدل، فتكون إرادة كل واحد منهما حكمة.
فإن قيل: إرادتهما معنى واحد يوجد لا في محل، فيوجب لهما فلا يصح تقدير اختلافهما في الإرادة.
قلنا: باطل لأن هذا المعنى لا يصح أن يكون فعلاً لهما جميعاً لاستحالة مقدور بين قادرين، ولجواز أن يريد أحدهما فعله ولا يريده الآخر، فيعود الإلزام من أصله، وإذا كان من فعل أحدهما استحال أن يؤثر في فعل الآخر، ولهذا لو خلق الله فينا إرادة الأكل مع توفر الصوارف عنه بأن يكون مسموماً لما أكلناه أو خلق فينا إرادة تركه مع توفر الدواعي إليه لما تركناه، ومن هنا قال اصحابنا: إن الإرادة لو خلقت فينا لما أثرت في كون كلامنا أمراً وخبراً.
فإن قيل: لم قام تقدير اختلافهما في الداعي والإرادة مقام الوقوع في الدلالة على صحة التمانع ولم يقم تقدير وقوع الظلم من جهة الله تعالى مقام وقوعه في الدلالة على الجهل والحاجة.
قلنا: الحق أنه لا يصح تقدير وقوع الظلم من الله تعالى /166/ والحاجة مستحيلان عليه تعالى وتقدير وقوع الظلم يتبعه صحة وقوع الجهل والحاجة، وما أدى تقديره إلى تقدير المحال لم يصح تقديره.
والضبط في مثل هذا أن تقدير الموجب المصحح وهو وقوع الظلم مع إحالة المصحح له وهو الجهل والحاجة لا يجوز، ولولا هذا لصح تقدير ثبوت المعلول مع إحالة العلة ولجاز صحة الفعل مع إحالة القادرية، وهذا يؤدي إلى كل جهالة.
فإن قيل: إذا استوت الصحة والوقوع في الدلالة على التمانع فهلا اعتبرتم الوقوع لمساواته للصحة فلا يلزم التمانع.
قلنا: إن باعتبار الصحة يحصل غرضنا من نفي الثاني وفي اعتبار الوقوع إقرار بثبوت الثاني، فكيف يكون قصدنا نفي الثاني ونورد الدليل على وجه يقتضي ثبوت الثاني.
فإن قيل: إن مقدورهما واحد لأنهما قادران للذات فلا يصح التمانع بينهما.
قلنا: إن حكم القادر للذات أن يقدر على جميع أجناس المقدورات لا على جميع أعيانها، فمن أين يجب أن يتحد مقدورهما أليس الباري تعالى قادراً لذاته ولا يجب أن يكون قادراً على أعيان مقدورات العباد. وبعد فقد قال تعالى: {إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} فبين أنه يكون مخلوق أحدهما غير مخلوق الآخر.
ثم إن سلمنا أن مقدورهما واحد لم يقدح في صحة التمانع؛ لأن الحركة يمنة والحركة يسرة ضدان فتعلقهما بكل واحد من القادرين على البدل فمتى أراد أحدهما التحريك يمنة بدلاً من التحريك يسرة وجب أن يوجد مراده، وكذلك إذا أراد الآخر التحريك يسرة بدلاً من التحريك يمنة فهذا تحرير دلالة التمانع من جهة العقل.
وأما من جهة السمع فقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، وقوله: {إذاً لذهب كل إله بما خلق..} الآية، ونحو ذلك.
دليل لو كان مع الله تعالى قديم ثان لما انفصل وجود ذلك الثاني من عدمه؛ لأن باشتراكهما في القدم يجب اشتراكهما في جميع صفات الذات، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر بما يرجع إلى ذاته ولا هما مما يصح عليه المكان فينفصلان بالمكان ولا مما يصح عليه الحدوث، فينفصلان بالزمان.
فإن قيل: ينفصلان بالأفعال فتدل أفعال كل واحد منهما عليه.قلنا: أما من يوجب كون مقدورهما واحد فلا يتوجه هذا إليه، وأما من لا يوجبه فنقول: قد أمكن إضافة جميع ما يتعذر على المحدثات إلى خالق واحد، فلا يكون إلى إثبات الثاني طريق.