قيل لهم: ليس ذلك بأبلغ من استحالة رؤية /154/ القدرة والعلم والسمع والبصر ونحو ذلك مما قد جوزوه.
طريقة أخرى في الجواب: يقال لهم: أتطردون عليكم هذه فتزعمون أن كل موجود يصح أن يرى حتى القدرة والحياة والسمع والبصر ونحوها، أم لا تطردونها فيبطل كونها علة إذ لا أقل من إطراد العلة. وعند أهل السؤال افترقوا فرقتين، فأما أهل التحصيل منهم فقهقر وأعن هذه الشبهة واعترفوا ببطلانها، ولهذا قال الرازي في الأربعين: أما نحن فعاجزون عن تمشية هذا الدليل، يعني دليل الوجود، وأما أهل العناد منهم فاقتحموا ذلك، فقالوا: إن كل موجود يصح ان يرى حتى رؤية الباري وسمعه وبصره، وإنما أجرى الله العادة بانه لا يخلق فينا إدراك هذه الأمور.
وسبيلنا مع هؤلاء أن نبين لهم أولاً أنهم عاجزون عن طرد هذه العلة حتى التزموا المحال من أجلها، ثم يذكرهم ما يلزمهم على هذه المقالة فنقول: أليس الله تعالى يرى الأشياء برؤية قديمة، فلا بد من قولهم بلى، فيقال: أفيصح أن ترى هذه الرؤية أم لا، إن قلتم: لا يصح، بطل أصلكم، وإن قلتم يصح لزم أن يرى الرؤية برؤية الرؤية بروية أخرى إلى ما لا تناهي، وأن يكون رائياً لا برؤية، وفيه إبطال كون الإدراك معنى، ثم يقال لهم: أليس يصح أن يرى الحياة وأن يخلق الله لوناً غير هذه الألوان فنراه فلا بد من بلى، فيقال: إذا رأيتم الحياة ورأيتم ذلك اللون المجوز فبأي شيء تفرقون بينهما حتى تعلموا اللون لوناً والحياة حياة وهلا كانا لونين أو حياتين، وكذلك يسألون عن الفرق بين اللون والصوت عند سماعهما أو عند رؤيتهما ويسألون عن الفرق بين قدرته تعالى، وعلمه عند إدراكها.

طريقة أخرى في الجواب: يقال لهم: أتجعلون الوجود علة في صحة الرؤية فقط أو في صحة جميع الإدراكات عليه تعالى حتى يصح أن تسمع ذاته وأن تذاق وتشم وتلمس، والأول لا يمكنهم القول به لاتحاد الطريقة في الجميع، والثاني قد التزمه الأشعرية وأجازوا أن تدرك ذاته تعالى على حد إدراكنا للألم واللذة والريح والطعم والحرارة، وأجازوا أن يدرك علمه وحياته على حد إدراكنا لجميع هذه المدركات، وهو زيغ شديد وضلال بعيد.
طريقة أخرى يقال لهم: هل الوجود صفة زائدة على ذات الموجود أو هو نفس الذات، فإن قالوا: بالأول لزمهم ثبوت الذوات في حالة العدم، وقيل لهم: هلا جاز إدراكها وهي معدومة، ولكن لم يخلق الله فينا إدراكها، وإن قالوا: بالثاني فكأنهم قالوا ترى الأشياء لذواتها؛ لأن وجودها هو ذاتها، وهذا يقتضي تعليل صحة الرؤية بشيء مختلف وهو الذوات /155/ ويلزم عليه صحة الرؤية حال العدم كما سلف.
طريقة أخرى: يقال لهم: أوليس قياس الغائب على الشاهد بعلة جامعة هو عندكم من باب قياس التمثيل الذي لا يفيد إلا الظن الضعيف فكيف قطعتم على صحته هنا وهو ليس من الأقيسية البرهانية عندكم.
شبهة أخرى: لهم عقلية قالوا القول بصحة الرؤية لا يوجب حدوثه تعالى ولا حدوث معنى فيه ولا تشبيهه بخلقه ولا تكذيبه ولا تجويزه ولا قلب ذاته، فيجب القول بصحتها.
والجواب هذا بني أخذوه من كلام شيخنا أبي علي وأول ما فيه أنا نقول القول باستحالة الرؤية لا يؤدي إلى شيء، فما ذكروه فيجب القول باستحالتها، وكذلك القول بإثبات ماهية لله تعالى لا يعلمها إلا هو لا يؤدي إلى شيء من ذلك، فكان يجب ذلك كما يقوله ضرار وهم يأبونه.

ومثله إثبات معان لا نهاية لها للباري وصفات فهلا أثبتوه. ومتى قالوا كان يصح بينهما التمانع، قيل لهم: وما أنكرتم أن التمانع إنما يصح من المحدثات بمجرى العادة أو أن الحكم بصحة التمانع من أحكام الخيال، وبعد فمن سلم لهم أن القول بصحة الرؤية لا يؤدي إلى تشبيهه بخلقه أو إلى قلب ذاته أو ليس خصومهم يلزمونهم أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل وفي ذلك مشابهته للمحدثات، ويلزمونهم أن إثبات ما نفيه مدح راجع إلى الذات يؤدي إلى الانقلاب والنقص.
وبعد، فهب أن ذلك لا يؤدي إلى شيء مما ذكروه، فكيف يحكمون بصحة شيء لا دليل عليه.
فصل
في شبهتهم من جهة السمع أقوى ما تمسكوا به، سؤال موسى عليه السلام، قالوا: فلولا جواز الرؤية لما سألها، وربما يؤكدون ذلك بالتشنيع على أصحابنا فيقولون تزعمون يا معاشر المعتزلة أنكم أعرف بما يستحيل من نبي الله وكليمه في هذيان طويل يذكرونه.
والجواب: أول ما في هذا أنا نعارضهم فنقول تزعمون يا معاشر المجبرة أنكم أعرف من نبي الله وكليمه بما يتأخر في حكم الله إلى دار الآخرة ويمتنع في دار الدنيا.

وبعد فما أنكرتم أن موسى علم استحالة الرؤية لكن خلق الله فيه السؤال من دون اختياره كما خلق في قومه سؤال أن يجعل لهم آلهة حيث قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً، وكما خلق في آدم أكل الشجرة. وبالجملة فإذا كانت الأفعال خلقاً لله لم يتولهم تعلق في سؤال موسى عليه السلام. وبعد فهم يعترفون أن موسى أذنب سؤال الرؤية وتاب، فكيف يصح ذلك في سؤال ما هو جائز، وأي ذنب فيه، وبعد فما أنكرتم /156/ أنه سألها عن قومه وأضاف ذلك إلى نفسه كمايقول الشفيع الذي يظهر العناية في طلب الحاجة فيقول: اقض حاجتي، وهو يريد حاجة من استشفعني أو ليعلموا أنها إذا تعذرت الرؤية مع كونه أضاف السؤال إلى نفسه فأولى إذا سألها غيره أو ليرد من جهته تعالى ما فيه مقنع للقوم وقطع لطمعهم حيث لم ينزجر وآمن كلام موسى وجوابه لهم ويدل على صحة هذا أنا نعلم ضرورة من الدين أن قوم موسى سألوه الرؤية كما حكى الله عنهم بقوله: {أرنا الله جهرة} وقولهم: {حتى نرى الله جهرة} ونعلم أنهم ضعفوا لأجل ذلك كما قال تعالى: {فأخذتهم الصاعقة} فيقال للخصوم أما أن تزعموا أن سؤال الرؤية كان مرتين وهذا شيء بعيد؛ لأنه كيف يسألها موسى وقد صعق قومه عند سؤالها وعلم تعذرها أو سألها قومه وقد صعق هو عند سؤالها وهو نبي الله وكليمه، وأما إن تغير فإن السؤال كان مرة واحدة، فلا يمكنهم القول بأنه سألها لنفسه؛ لأنه لو كان كذلك لما كان لهم ذنب فيصعقوا من أجله ولبطل ما علمنا من إضافتها إليهم، وهذا من أوضح دليل على أنه سألها عن قومه.

وأما توبته عليه السلام فهي إما لأن طريقه الأنبياء والصالحين كثير التوبة والاستغفار وأنهم لم يكن لهم ذنب لا سيما إذا رأوا نزول العقوبة بغيرهم، وبكون سبب الصاعقة في حقه على هذا التأويل، هو الفزع من عظيم قدرة الله تعالى، كما يروى مثله عن محمد عليه السلام حين رأى جبريل في صورته الهائلة، وأما لأنه يسأل بحضرة القوم من غير إذن فكان ذلك ذنباً وبكون الصاعقة في حقه على هذا امتحاناً لا عقوبة، وإن كانت في حقهم عقوبة إنما يفترق ذلك بالقصد كما أن سبب دخول بيت المقدس وقتل بني إسرائيل هو الكفر والمعاصي وبكون ذلك ابتلاء في حق من لم يكفر منهم.
وأما قولهم: كيف طلب بالسؤال المنع من الرؤية في السمع ولم يطلب دليلاً سمعياً في مسألة قولهم: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} وغير ذلك، فهو اقتراح على موسى في أفعاله ويحكم عليه في ما يختاره. على أن مسألة الرؤية مما يشتبه الحال فيه ويحتاج إلى نظر دقيق بخلاف غيره، ولهذا اختلف المسلمون في مسألة الرؤية، ولم يختلفوا في جواز إثبات إله ثان. وبعد فما أنكرتم أن ثم مضافاً محذوفاً بعدك أرني أنظر إلى عظيم سلطانك لأزداد به يقيناً كما سأله إبراهيم عليه السلام مثل ذلك، ويكون تقدير الجواب لن ترى عظيم سلطاني في الدنيا لأن أهل الدنيا يضعفون عن ذلك، ولكن انظر إلى الجبل فسأريك فيه آية دون ما تريد، فإن استطعت بصر ذلك فسوف ترى عظيم سلطاني.

يوضحه: قوله: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} لأن التقدير فلما على عظيم سلطنه ونور سماواته لا كما يهدي به الخصوم /157/ من أنه تعالى خلق للجبل حياة ورؤية، ثم انكشف له، فلما رآه تدكدك، وكيف يصح هذا لهم وقد أجمعوا على ان جميع المخلقوات لا تراه في الدنيا، وبعد فيقال لهم: ما أنكرتم أن مسالة الرؤية لم تكن خطرت ببال موسى قبل وقت السؤال، فلما خطرت بباله وكان مشتغلاً بالمناجاة عن النظر طلب فيها دليلاً سمعياً وليس عدم العلم بمسألة الرؤية مما بباله من قبل، فأخذ بالنظر فيها حتى طلب دليلاً سمعياً وليس عدم العلم بمسألة الرؤية مما يقطع بكونه كثيراً ولا هذه المسألة مما يتوقف عليها العلم بالنبوة. وبعد الا يستدل على ما نقوله نحن من وجهين: أحدهما قوله تعالى: {لن تراني} فإن (لن) في اللغة لتأبيد النفي، وأما قوله تعالى: {ولن يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم..} إلى قوله: { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}، فأخبر تعالى أن الموت الذي يفرون منه هو الموت الأول بدليل قوله: : {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}.
يزيده وضوحاً أنه تعالى ذكر التأبيد في هاتين الآيتين، فلا بد للخصم من العدول عن ظاهر التأبيد، كذلك العدول عن ظاهر في لفظ (لن). على أنه قد قيل أن المراد بقوله: {ولن يتمنوه، أي الرجوع إلى الآخرة، وإنما غير عند ذلك بالموت؛ لأنه لا بد منه، وإذا كان كذلك فهم لا يتمنون الرجوع إلى الآخرة أبداً، وهذا جيد، ويؤيده قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة}.

الوجه الثاني: أنه علق الرؤية بشرط مستحيل وهو استقرار الجبل حال تحركه، وتدكدكه إذ لو علقها باستقراره قبل ذلك أو بعد، ومعلوم أن ذلك قد حصل لوجب حصول الرؤية لحصول شرطها، هذا ما ذكره أصحابنا، ولهم أن يقولوا: بل علقها باستمرار الاستقرار، فكأنه قال: إن لم يتدكدك الجبل فسوف تراني، والأولى أن يجعل الوجه الثاني هو أن قوله تعالى: {فسوف تراني} يفيد في اللغة الاستقبال المتراخي، ومن مذهب الخصوم أن موسى سوف يراه في الآخرة، فإذا علق الله هذا التسويف والرؤية المستقبلة باستقرار الجبل ولم يستقر حكمنا بأنه لا يراه أبداً في المستقبل، وإلا بطلت فائدة الكلام؛ لأن عند الخصم أنه سوف يراه سواء استقر الجبل أم لا.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة}.
والجواب: ليس النظر بمعنى الرؤية قط، بدليل: أنه يثبت وينفي، فيقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، وتثبت الرؤية حيث ينفي النظر، فيقال في الله: رائي ولا يقال ناظر، وتعقب النظر بالرؤية فيقال: نظرت فرأيت ويجعل وصله إلى الرؤية، فيقال انظر لعلك ترى، ويجعل غاية له الرؤية، فيقال ما زلت أنظر حتى رأيت.
قالوا: النظر إذا قرب بإلى أفاد الرؤية. قلنا: محال بدليل قوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك /158/ وهم لا يبصرون} وقال تعالى: {ولا ينظر إليهم}، فإنه ليس معناه لا يبصرهم اتفاقاً، وتقول العرب: نظرت إلى الهلال فلم أره، وحكى الرازي عن الخليل أن العرب تقول نظرت إلى فلان أي انتضرته.
وعن ابن عباس أن العرب تقول: إنما أنظر إلى الله وإلى فلان. وقال النابغة:
نظرت إليك لحاجة لم تقضها .... نظر المريض إلى وجوه العود
وقال الكميت:
وشعث ينظرون إلى بلال .... كما نظر الظماء حياء الغمام
أي ينتظروه، وقال آخر:
وقفت كأني من وراء حاجة .... إلى الدار من فرط الصيانة أنظر
فعيناي طوراً تغرقان من البكاء .... فأغشى وطوراً يحسران فأبصر
فأثبت النظر في حالتي الأبصار وعدمه، وقال آخر:

وإذا نظرت إليك من ملك .... والبحر دونك زدتني نعماً
والنظر مع كون البحر حائلاً هو الانتظار.
وقال آخر:
أبي البكر لما وعدت لناظر .... نظر الذليل إلى العزيز القاهر
وقال الفارسي وهو من كبار أئمة اللغة: النظر لا يفيد الرؤية، وأنشد مستدلاً على ذلك:
قيامي هل تجري بكائي بمثله .... مراراً وأنفاسي عليك الزوافر
وإلى متى أشرف من الجانب الذي .... به أتت من بين الجوانب ناظر
قال: فطلب منها الجزاء على كونه ناظراً إليها، ولو كان النظر هو الرؤية لما طلب عليه جزءاً وهو المحب بل حقه أن يبذل فيه الرغائب.
قالوا: النظر إذا قرن بالوجه أفاد الرؤية.
قلنا: لا نسلمه، أما أولاً فهو محل النزاع، وبعد فقد ورد كثيراً في اللغة وهو لا يفيد الرؤية، بل الانتظار، قال حسان:
وجوه يوم بدر ناظرات .... إلى الرحمن يأتي بالفلاح
وروي بالخلاص:
وروي ينتظر الفلاحا .... وروي ينتظر الخلاصا
وقال البعيث:
وجوه نهار ليل الحجاز على النوى .... إلى ملك زان المغارب ناظره
فتبين أن أهل الحجاز ينتظرون ملك المغرب، ومعلوم أنه لم يرد الرؤية، وقال آخر:
ويوم بداقار رأيت وجوههم .... إلى الموت من وقع السيوف نواظرا
فهذا كله يدل على بطلان ما قالوه، وإنما أكثر بالاستشهاد في ذلك؛ لأن بعض المتعجرفين منهم لم ير في كتب أصحابنا إلاَّ بيت حسان، فقال: إنا قد أفسدنا أصول المعتزلة، وهددنا أركانهم، ولسنا نترك أصلاً لنثبت شعر لا ندري عن قائله، يعني بيت حسان، فأريناه أن الأصل الثابت في اللغة ما ذهبنا إليه، ثم إن هذا الرجل المذكور استشهد بيتاً واحداً في جملة المسألة وهو /159/:
نظرت إلى من حسن الله وجهها .... فيا نظرة كادت على عاشق تقضي

ونحن نجيبه بمثل قوله، فنقول: كيف نهدم أصلاً ظاهراً في اللغة يثبت لا ندري من قائله، ولعلك أنت الذي قلته ونسبته إلى أهل اللغة، وبعد، فهب أنه صحيح فهو لا يدل على ما ذهبت إليه؛ لأنا نعترف أن النظر تتعقبه الرؤية ويكون سبباً فيها، ولهذا قال عليه السلام: النظر إلى المرأة الحسناء سهم من سهام إبليس، فإنه ليس المراد الرؤية؛ لأنها من الله، وغيرها من الإدراكات، والذي نهى عنه عليه السلام من النظر إنما هو الذي يقدر عليه، وهو تقليب الحدقة التي تتبعه الرؤية، ولهذا لا يذم أحدنا على العشق؛ لأنه فعل الله دائماً يذم على سببه وهو تقليب الحدقة التماساً للرؤية لا على نفس الرؤية التي هي معنى تحل العين. وبعد فيجوز أن يكون النظر في البيت بمعنى الانتظار، وهذا أولى لأنه الذي يحصل به المشقة وتلاف العشاق، وليس الرؤية تقضي على العاشق بل هي مما يستلذ به، فكيف يسميها موتاً بل يجيبه أولى كما هو أسلوب الفصحاء، وأما قول النابغة:
وما رأيتك إلا نظرة عرضت .... يوم النمارة والمأمور معذور
فتقديره إلا عند نظرة عرضت؛ لأن الذي يعرض هو تقليب الحدقة لا الرؤية اتفاقاً، ولهذا أيقول حانت مني التفاته فرأيت وعرض مني نظرة فرأيت ونحو ذلك.
طريقة أخرى في الجواب: يقال لهم: ظاهر الآية متروك من وجوه، منها: أن ظاهرها يثبت الرؤية يوم القيامة، وأنتم إنما تثبتونه في الجنة لا في القيامة؛ لأنه يوم حساب وحشر، والوقت الذي يدخل الناس فيه الجنة لا يوصف بأنه يوم القيامة، ومنها: أن ظاهرها أن الوجوه هي الناضرة وليس كذلك، فإن الناظر هو الجملة لا الوجه، ولا العين، ولهذا عطف عليه بقوله: ووجوه يومئذٍ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة، والوجوه لا تظن، فدل على أنه أراد ذوي الوجوه، ونظيره قوله تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة..} إلى قوله: {لسعيها راضية}. ومنها: أن الخصم رد النظر إلى الرؤية وهو خلاف ما قد بيناه.

طريقة أخرى: يقال لهم: ما المانع من حمله على الانتظار كما حمله عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال للأعرابي: اكفف يدك واغضض من بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله، قال: إن لم أره في الدنيا فسأراه في الآخرة، فقال عليه السلام: كذبت بل لا نراه في الدنيا ولا في الآخرة، إن أهل الآخرة ينتظرون إلى الله تعالى كما ينتظر إليه أهل الدنيا ينتظرون ما يأتيهم من بره وإحسانه، وقد اسندت هذه الحكاية إلى ابن عباس لا إلى علي عليه السلام، وقد قدمنا /160/ ما يقوله ابن عباس والجليل الفارسي من أئمة اللغة، وهو قول الكلبي وجويبر والضحاك، وابن المسيب وابن جبير ومجاهد، وروي عن الحسن وأبي حاصلح وجرير بن منصور ونافع بن الأزرق وغيرهم من كبار علماء التفسير من التابعين وغيرهم دون متبعي الأهواء والبدع وهو الذي قاد إليه صريح العقل ومحكم الكتاب.
يوضحه أن الله تعالى جعل الظن الذي هو الخوف في مقابلة النظر فإذا حملنا النظر على الانتظار الذي هو الرجاء كنا قد جعلنا الرجاء في مقابلة الخوف والنظارة في مقابلة النسارة فيزدوج الكلام ويستقيم النظم ويحسن المعنى، وإذا حملنا النظر على الرؤية كما قالوه كنا قد جعلنا الرؤية في مقابلة الخوف فلم يزدوج الكلام، ودخله بعض بعضٍ عند الفصحاء، ولهذا عابوا على امرء القيس في قوله:
فإني لم أركب جواداً للذة .... ولم أتبطر كاعباً ذات خلخال
ولم أشرب الزق الروي ولم أقل .... لخيلي كرى كرة بعد إحفال
(فراغ) الكلام. فقالوا: لو جعل عجز البيت الثاني مع صدر الثاني لكان أفصح لمشاكلة المعنى وازدواح الكلام.

24 / 75
ع
En
A+
A-