قيل له: هذا التجويز كاف في معرفة عنادك ومكابرتك، ثم أنا نلزمك الوقوع فنقول: ما أنكرت وقوع ذلك، ولكن طريق العلم به الإدراك والله تعالى لم يخلقه فيك، وبعد فلو لم تحتج هذه المعاني إلى بنية لكان يجب أن يكون القادر منا هو محل القدرة دون الجملة، وكذلك العالم وسائرها، وقد التزمه الأشعري وهو مكابرة، ويلزم عليه ألا يصح الفعل في اليد لداع في القلب ولا الكتابة لعلم في القلب ولا يكون للإرادة تأثير في الأفعال، وفي ذلك وقوع الفعل المحكم من القادر الذي هو جزء في اليد وهو ليس بعالم؛ لأن العالم جزء في القلب، ويلزم أن لا ترجع الأحكام إلى الجملة بل يكون المستحق للجلد هو اللسان؛ لأنه القاذف، وكذلك الزنا ونحوه، ويلزم أن يكون أحدنا بمنزلة أحياء كثيرة وقادرين ضم بعضهم إلى بعض فلا يصح(1) منه الفعل بداع واحد، ومتى التزم جميع ذلك ملتزم طوينا عنه الكلام ولم يكن عندنا أهلاً للمناظرة.
وأما الأصل الثاني وهو أن الرأي بالحاسة لا يرى إلا ما كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، فقد ادعى أبو الحسين فيه الضرورة وهو القوي، ولهذا نبادر إلى تكذيب من أخبرنا أنه رأى شيئاً ليس كذلك كما نكذب من أخبرنا بأنه رأى جسماً غير متحرك ولا ساكن، وخلاف الأشاعرة محمول على أحد وجهين (فراغ) على جحد الضرورة، وذلك غير مستنكر منهم لقلتهم في الأصل، ولأن لهم مداخل في المكابرة وحسرة على العباد وصناعة في التمويه وليس ذلك بأبلغ من استحسانهم تكليف ما لا يطاق وإنكارهم قبح الظلم والكذب ووجوب /148/ رد الوديعة وشكرا لمنعم في العقل وتجويزهم أن يرى القدرة والحياة والإرادة، وأما على أن في الضروريات ما لا يجوز اختلاف العقلاء فيه كالعلم بأن هذا زيد الذي كنا شاهدناه ونحو ذلك مما لا يعدّ في كمال العقل.
__________
(1) . يلزم. ط

ووجه ثالث وهو أن يكونوا عالمين بذلك ضرورة ولا يعلمون أنهم عالمون به لما قد نمقوه من أساطيرهم واعتقدوه من خيالاتهم على مثل ما نصرف إليه خلاف السوفسطائية وقد استدل سائر الشيوخ بأن صحة الرؤية ووقوعها ينتفي بانتفاء المقابلة أو ما في حكمها وبين قولنا وثبتت بثبوتها، فدل ذلك على أنها شرط، وهذا رجوع إلى قول أبي الحسين؛ لأنه لا بد أن يكون علمنا بانتفاء صحة الرؤية عند انتفاء المقابلة أو ما في حكمها وبين قولنا أنا لا نرى إلا ما كان كذلك، إذا ثبت هذا فقد اعترض المخالفون هذا الدليل باعتراضات: الأول المعارضة بالعلم، قالوا: فإذا جاز أن نعلم ما ليس بمقابل ولا حال في المقابل ولا حال في المقابل ولا في حكمه جاز أن نراه، وهذا عي ومهازلة، ولو جاز أن تقاس رؤية القديم على العلم به لجاز مثله في المعدوم فيقال إذا صح أن يعلم المعدوم وهو ليس بمقابل ولا حال في المقابل ولا في حكمه جاز أن نراه، كذلك إذا خلق الله فينا إدراكه.
الاعتراض الثاني: إن قالوا إن المقابلة وما في حكمها إنما هي شرط في رؤية المحدثات فكيف يكون شرطاً في رؤيته تعالى.
والجواب: أنا قد بينا أن العقول تحيل رؤية لا بمقابلة ولا نحوها، فقد جوز رؤية الباري تعالى لزمه تجويز المقابلة أو ما في حكمها ومن أحال ذلك فقد أحال الرؤية ولا يجوز في العقل انفصال أحدهما عن الآخر، ومن فصل بينهما عددناه مكابراً.
وقلنا له: ما أنكرت أن يكون الله تعالى جسماً متحيزاً لا في جهة؛ لأن الجهة إنا تجوز على المحدثات.

فإن قال: أن كونه جسماً حقيقة يستلزم الجهة. قيل له: وكذلك الرؤية تستلزم المقابلة أو ما في حكمها، وما ذكره الرازي من أن التزام هذا الشرط في رؤيته تعالى من أحكام الوهم والخيال فهو غير صحيح؛ لأنا إنما نعلم أن الحكم للوهم والخيال إذا قام الدليل العقلي على خلافه كما يقضي الحس بأن الشمس في قدر رغيف، وأن السحاب المتباعد منتصب، وأن الظل واقف ونحو ذلك، فأما إذا قضت النفوس قضاء جزماً ولم يقم دليل على خلافه لم نقل أنه حكم الحس والخيال لولا هذا كان للمجسم أن يقول إلزام الحدوث على القول بالتجسيم من أحكام الخيال، ولكان لقائل أن يقول: إن الله يكون مقابلاً /149/ إذا رأيناه ولا يقتض ذلك الجسمية؛ لأن الحكم بجسمية المقابل من أحكام الخيال.
الاعتراض الثالث لبعض مشيختهم، قال: قال إن المقابلة وما في حكمها إنما كانت شرطاً في الرؤية بمجرى العادة، ويجوز أن يخلق الله فينا رؤية الأجسام والألوان من دون مقابلة أو ما في حكمها.

والجواب: يجري على نحو ما تقدم من أن هذا مكابرة، ثم يقال: لهذا ما أنكرت من أن تحيز الأجسام عند وجودها بمجرى العادة، ويجوز أن يخلق الله جسماً عند متحيز ويجعل الجسم متحيزاً من دون وجود؛ لأن كون الوجود شرطاً هو بمجرى العادة وما أنكرت أن الحياة إنما كانت شرطاً في العلم والقدرة بمجرى العادة، ويجوز أن يكون في الشاهد الغائب قادر عالم ليس بحي، وكذلك منافاة الأضداد دلالة الشهوة والنفار على الزيادة والنقص وكله طريقة العادة، وليس ذلك في العقول بأبعد من تجويز رؤية بغير مقابلة أو ما في حكمها. ومتى قيل أوليس الله يرى الأشياء من دون مقابلة فهلا صح أن يرى كذلك، على أن العقول إنا قضت بوجوب المقابلة من حيث أن الرائي جسماً ويستحيل أن يكون الجسم رائياً بما ليس بمقابل له والله تعالى ليس بجسم فيُرى لا بمقابلة بخلاف رؤية أحدنا؛ لأن الرؤية أمر صادر من جهة الرأي فإذا كان الرائي في جهة استحال أن تصدر الرؤية منه إلا إلى ما يقابل تلك الجهة أو يكون في حكم المقابل لها، وإذا لم يكن الرائي في جهة صح أن يرى ما ليس بمقابل لأنه لا يعقل أن يكون له مقابل.
يزيده وضوحاً: أن الله تعالى يرى الأشياء في جهاتها.
تنبيه
اعلم أن كلامنا هذا كله مع المخالفين إنما هو على تقدير ثبوت الإدراك معنى، ونحن قد أبطلنا كونه معنى بما لا مزيد عليه وفي ذلك إبطال اعتراضاتهم في هذين الدليلين جملة واحدة.
فصل
فيما استدل به من السمع على هذا المسألة فإنها مما يصح الاستدلال عليها بالسمع من حيث لا يقف العلم بصحة السمع عليها فمن ذلك قوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار والاستدلال بهذه الآية من وجهين:

أحدهما: أنه تعالى تمدح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه تمدحاً راجعاً إلى ذاته وإدراك الأبصار هو رؤيتها وإثبات ما نفته مدح راجع إلى الذات يؤدي إلى النقض، وهذه أربعة أصول. أما الأصل الأول وهو أنه تعالى تمدح بذلك فلا خلاف فيه دليله سياق الآية فإن أولها تمدح وآخرها تمدح، ومن المستهجن عند أهلا للسان أن يتوسط بين أوصاف المدح ما ليس بمدح، وبعد فلسنا نعني بالمدح إلا اختصاص الممدوح بمزية لا يشاركه فيها غيره، وليس شيء من الأشياء ترى ولا يرى إلا الله ولو كان /150/ الخصم لكان قد شاركه في ذلك غيره، فلا يبقى للتمدح معنى، وقد يسقط بهذا قولهم أن المعدومات وكثيراً من الأعراض لا يرى فقد شاركه الباري في ذلك؛ لأنا نقول التمدح لم يكن بأنه لا يرى فقط بل بأنه يرى، ولا يرى ولم يشاركه في ذلك شيء، وصار كالتمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وينفي الصاحبة والولد، فإنه إنما يكون مدحاً بانضمامه إلى كونه حياً ويصير الجميع كالكاشف لمخالفته تعالى للمحدثات. وبعد فقد قيل إنه تعالى جعل التمدح بنفي الرؤية منبهاً على التمدح بنفي الصاحبة والولد في الآية، فكأنه قال: كيف من لا تدركه الأبصار تكون له صاحبة أو ولد.
وأما الأصل الثاني: وهو أن تمدحه بذلك راجع إلى ذاته، فلأن كون الشيء مرئياً أو غير مرئي، مما يرجع إلى ذاته سواء كان يرى على صفة ذاتية أو على صفة الوجود، فإذا تمدح بأن ذاته لا تُرى فهو تمدح بثبوت صفة لأجلها لا يُرى، وقد خالف في ذلك فرق، فقالت المجسمة إنه تعالى تمدح بنفي الإحاطة، وهذا ساقط؛ لأن الإدراك لا يستعمل بمعنى الإحاطة بل يثبت حيث ينتفي وينتفي حيث يثبت، وأيضاً فلا مدح في نفي الإحاطة؛ لأن السماء وغيرها من الأجسام العظيمة تشاركه في أنها لا تحيط بها الأبصار.

وذهب بعض المجبرة إلى أنه تمدح بنفي الإدارك الذي هو اللحوق وسنبين أن إدراك الأبصار هو رؤيتها، ولأنه كما لا تلحقه الأبصار، فهي لا تلحق غيره كالمعدوم ونحوه، ولأنه كان يلزم أن يكون التقدير وهو يلحق الأبصار، ويقال لهؤلاء: أتريدون بالابصار المعاني التي هي الإدراكات، فالمعاني لا يصح عليها اللحوق على أنه يكون التقدير لا يلحقه اللحوق أو تريدون بالأنصار الجوارح، فهي لا تلحق ساقط أو يريدون الأشعة التي تنفصل من الحواس، فليس من مذهبكم إثباتها، ولأن أثبتموها فليس من مذهبكم أنها هي البصر.
وذهب جمهور أهل الجبر إلى أن التمدح هو الإبانة لم يفعل الإدراك الذي ندرك به، فيكون راجعاً إلى الفعل، وهذا أيضاً جهالة؛ لأنه لا مدح في انه لم يخلق لنا إدراكاً يدرك به كما لا مدح في أنه لم يخلق لنا إدراكاً ندرك به الحياة والقدرة والفِيَلة التي بين ايدينا، ولهذا لو صرح بما قالوا فقال خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، لا يخلق لكم إدراكاً تدركونه به وهو اللطيف الخبير، لكان هذا مستهجناً كما تقدم، وبعد فالعرب لا تعرف الإدراك الذي يثبته المتكلمون فكيف يخاطبون بما لا يفعلون، على أنا لا نسلم لهم كون الإدراك معنى، وبعد فيلزم مثله في قوله تعالى: {يطعم ولا يُطعَم} فيكون المعنى انه لم يخلق لنا إدراكاً نطعمه به وأكثرهم يلتزم هذا، وإن كانوا لا يطلقون العبارة وسيتضح مذهبهم في ذلك وإبطاله /151/. قال الرازي: إنما يحصل المدح بنفي الرؤية إذا كانت جائزة وكان تعالى قادراً على منع الأبصار عن ذلك، وجعل هذا وجهاً مستقلاً في جوازها.

والجواب: يقال له وكذلك في التمدح بنفي السنة والنوم والصاحبة والولد وجوابه جوابنا، وأما قياسه لذلك على التمدح بنفي الظلم والعبث فليس فغير صحيح؛ لأن التمدح هنا راجع إلى الفعل، وما كان كذلك فلا تم المدح فيه إلا مع القدرة عليه، ولهذا لا يصح التمدح بنفي الجمع بين الضدين ونحو ذلك بخلاف ما كان راجعاً إلى الذات، فإنه غير مقدور، على أنا ننفي ما تمدح الله بنفيه وإن رجع إلى الفعل، ونقول: لا يظلم في الدنيا ولا في الآخرة، فهلا قال بمثله في نفي الإدراك.
وأما الأصل الثالث: وهو أن إدراك الأبصار هو رؤيتها فلأنه وإن كان مشتركاً بين المشاهدة واللحوق والبلوغ والاتباع فإنه متى قرن بالبصر أفاد الرؤية بلا شبهة، ولهذا لا يقال أدركت ببصري شخصاً وما رأيته أو العكس، وما ينكر هذا إلا مكابر، وأما قول القائل: أدركت ببصري حرارة الميل فهو خارج عن هذه المسألة؛ لأن العين كغيرها في إدراك الحرارة لمساً، ولهذا يقلوله الأعمى.
قال الرازي: لا نسلم أن إدراك الأبصار هو رؤيتها، بل هو عبارة عن الوصول، وهو حقيقة فيه فقط. قال: فإذا رأى أحدنا شيئاً ورأى أطرافه ونهاياته قيل إنه أدركه على تقدير أن رؤيته قد أحاطت به من جميع جوانبه وإنما يتأتى هذا في الشيء إذا كان له أطراف ونهايات والباري تعالى منزه عن ذلك فلم تكن رؤيته إدراكاً له، فلا يلزم من نفي إدراك الأبصار نفي الرؤية. قال: والحاصل أن الإدراك رؤية مكيفة. ولنا أن نقول أن هذا الكلام فيه من التهافت والخبط ما لا يخفى على مميز.

أما أولاً فقد بينا أن من أثبت هذين اللفظين ونفى الآخر عده العقلاء مناقضاً سواء فرضنا الإدراك مشتركاً بتردد الفهم عند إطلاقه. وأما ثانياً فيلزمه أن لا يكون الباري تعالى مدركاً للأشياء لأنه يستحيل أن يصل إليها والإدراك هو عنده والوصول بمعنى، وأما ثالثاً فالإدراك عنده معنى قائم بذات الباري تعالى، وبذات أحدنا فكيف يعقل في هذا المعنى أن يكون قد وصل إلى المرئيات فضلاً عن أن يكون سمعه قد أحاط بالشيء من جميع جوانبه، وأما خامساً فالله تعالى يدرك نفسه عندهم بهذه الإدراكات الخمسة، فكيف يكون قد وصلت هذه الإدراكات إليه.
وبالجملة فكيف يعقل في المعاني / 152/ الوصول إلى غيرها، وأما سادساً فأهل اللغة لا يعقلون هذه المعاني فضلاً عن أن يجعلوا الإدراك هو أن يحيط بالشيء من جميع جوانبه(1). وأما سابعاً فهو أول كلامه جعل الإدراك بمعنى الوصول فقط، وفي آخره جعله بمعنى الإحاطة، وقدمنا أن الإدراك ليس من الإحاطة في شيء.
وأما الأصل الرابع وهو أن إثبات ما نفيه مدح راجع إلى الذات يؤدي إلى الانقلاب والنقص فلأن كون الشيء مرئياً أو غير مرئي إذا كان لأمر يرجع إلى ذاته وغير تابع للاختيار، فإن كونه مرئياً يقتضي خروجه عما لأجله كان غير مرأي والعكس ويفيد اختصاصه بصفة لم يكن عليها وهو محال اتفاقاً، وبعد فأما أن تمدح بنفي صفة كمال وهو محال اتفاقاً أو بنفي صفة لا كمال فيها، ولا نقصص، وهو محال؛ لأن نفي ذلك لا يكون مدحاً ولا ذماً، وكذلك ثبوته وهو بمنزلة قول القائل فلان لا يقوم ولا يقعد أو تمدح بنفي صفة نقص وهو المطلوب.
الوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى نفى إدراك الأبصار عن نفسه نفياً عاماً للأشخاص والأوقات من حيث أن حرف النفي إذا دخل على اسم الجنس المعرف باللام اقتضى الاستغراق بدليل صحة الاستثناء، وهذا لا يسع إنكاره، وقد اعترف به محققوهم لكن راموا الانفصال بما لا محصول له.
__________
(1) . في نسخة: جهاته.

قالوا: هو وإن كان عاماً فقد خصص بقوله: {وجوه يومئذ ناظرة..} الآية. إن من حق التخصيص التنافي على مقتضى الخاص ونحن سنبين أن النظر لا يفيد الرؤية وأنه يصح الجمع بين إثبات النظر ونفي الرؤية.
قال الرازي: إن قوله: {لا تدركه الأبصار} نقيض لقولنا: تدركه الأبصار، وقولنا: تدركه الأبصار، موجبة كلمة تقتضي أن يدركه كل أحد؛ لأن اللام للاستغراق، ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، وهو قولنا لا تدركه بعض الأبصار، فإذا كذبت السالبة الجزئية فإنا نسلم أن لا تسلمه بعض الأبصار، وهم الكفار، ويمكن الجواب بأنه يبنى على أن قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} سالبة جزئية بمنزلة قوله: بعض الأبصار لا تدركه، ونحن لا نسلمه، بل هي عندنا سالبة كلية تنزل منزلة قوله: لا واحد من الأبصار تدركه؛ لأنه إذا صدق أحد النقيضين كذب الآخر. على أنا إن سلمنا أنها سالبة جزئية فلا نسلم صحة ما ذهبوا إليه؛ لأن قوله: {لا تدركه بعض الأبصار} لا يدل على صحة أن تدركه البعض الآخر كما أن القائل إذا قال: ليس بعض الرجال في الدار لم يدل ذلك على أن البعض الآخر فيها، وبعد فإذا استحال في بعض الأبصار أن تدركه استحال في البعض الآخر؛ لأن وجه الاستحالة /153/ ثابت في الجميع، وهو أن كونه غير مرئي هو لأمر يرجع إلى ذاته.
فصل في شبههم في إثبات الرؤية
قد تعلقوا من جهة العقل بأنه تعالى موجود فيصح أن يرى؛ لأن علة صحة الرؤية هي الوجود من حيث وجدنا المختلفات كالجواهر والألوان مشتركة في صحة الرؤية، فلا بد أن يعلل بأمر يجمعها، وليس ذلك إلا الوجود؛ لأن الحكم المشترك لا يعلل إلا بعلة مشتركة.
والجواب هو أن يقال لهم: أليس من صريح مذهبكم أن الصحيح أمور سلبيّة كصحة وجود الشيء وصحة كونه معلوماً، فلِمَ عللتموها بأمر ثابت.

واعلم ان الذي أداهم إلى القول بأنها امور سلبية هو أن العالم في ما لم يزل يوصف بأنه يصح وجوده ويصح العلم به قالوا فلو كانت أموراً ثابتة للزم قدمها، وأيضاً فهي من صفات العالم، فلو كانت ثابتة لزم ثبوت الموصوف حال ثبوتها، وفي ذلك قدم العالم هذا كلامهم.
وأما نحن فعندنا أنها أحكام ثابتة في كل حال الذوات ثابتة في كل حال، ولا يلزم من ذلك قدمها؛ لأنها أحكام، والأحكام والصفات لا توصف بقدم ولا حدوث من حيث ليست بأشياء، وكذلك لا يلزم قدم الذوات المتصفة بها؛ لأن القدم كيفية في الوجود والعالم فيما لم يزل معدوم، وبعد، فسلمنا أن صحة الرؤية على أصلهم أمر ثابت، فمن أين لهم أنهم أيضاً حكم متماثل وأن صحة رؤية الجوهر تماثل صحة رؤية اللون، وتماثل صحة رؤية الباري، أوليس بعض هذه الصحح لا تقوم مقام البعض فإن صحة رؤية اللون يحتاج إلى ما تحتاج إليه صحة رؤية الجوهر، وهو المخل، وكذلك صحة رؤية الجوهر يحتاج إلى التميز ولا يحتاج إليه صحة رؤية القديم عندهم، وبعد فسلمنا أنها حكم متماثل فما دليلهم على أن الأحكام المتماثلة لا تعلل بعلل مختلفة، وهل توزعوا إلاَّ في ذلك، فإن من مذهب خصومهم أنها معللة بالمقتضيات وهي مختلفة في الأجناس، ونظير ذلك في العقليات صحة كون الأشياء معلومة، فإنها معللة بصفاتها الذاتية، وهي مختلفة، ومن الشرعيات فساد الصلاة، فإنَّه يعلل بالعلل المختلفة من حدَث وكفر ووطء نجاسة ونحو ذلك، وبعد فسلمنا أنها لا تعلل إلاَّ بالمتماثلات، فما أنكروا ان صحة الرؤية في الجوهر واللون هي كونهما ممكني الوجود من ذاتيهما أو كونهما معلومين يلزم عليه صحة رؤية المعدوم.
فإن قالوا: المعدوم ليس بشيء.
قيل لهم: ليس بمخلص لأنه إذا كان علة صحة الرؤية كونه ممكناً أو كونه معلوماً بطل اشتراط كونه شيئاً على أنه عندنا شيء.
قال: قالوا نحن نعلم استحالة رؤية المعدوم.

23 / 75
ع
En
A+
A-