إذا ثبت هذا فقد قيل معناه منور السماوات والأرض، وقيل: معناه هادي أهل السماوات والأرض. عن علي وابن مسعود، ومنه قوله تعالى: {والنور الذي أنزلنا} أي الهدى، وكذلك قوله تعالى: {وسراجاً منيراً} أي هادياً، وقوله: {نخرجهم من الظلمات إلى النور} أي إلى الهدى، وقوله: {فهو على نور من ربه}.
وأما قوله: {مثل نوره} فقيل شبهه بالإيمان الذي في قلب المؤمن، ولهذا قرأ أبي بن كعب ومجاهد: {مثل نور المؤمن}. وقيل: كان أبيّ(1) يقرأ: {مثل نور من آمن به}.
ومنها: {كل شيء هالك إلا وجهه} ونحوها مما فيه ذكر الوجه.
والجواب لا تعلق بظاهرها؛ لأنه يقتضي أن يهلك كله إلا الوجه.
والمعنى كل شيء هالك إلا هو كما يقال: هذا وجه الرأي أي هاذ هو الرأي، وكما يقال: فعلت هذا لوجهك، أي لأجلك.
والوجه يستعمل في معان غير هذين المعنيين، فيستعمل بمعنى أول الشيء كقوله تعالى: {وجه النهار} وبمعنى القصد والإرادة كقوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله} أي قصده، وقوله: {فأقم وجهك للدين}، وقول الشاعر:
استغفر الله ذنباً لست محصيه .... رب العباد إليه الوجه والعمل
... أي القصد، وبمعنى الخيار يقال: هذا وجه القوم أي خيارهم، ومثله وجه الثوب، وبمعنى المقدار يقال لفلان وجه عند الأمير، أي جاه وفلان أوجه من فلان ووجه فلان عريض أي جاهه. ومنها: قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} و{مما عملته أيدينا} ونحو ذلك.
والجواب لا تعلق بظاهرها؛ لأن الخلق باليد يمنع الاختراع، والأجسام لا تفعل إلا اختراعاً. والمعنى: لما خلقته أنا كما تقول العرب: هذا ما جنت يداك، أي فعلته أنت، وكقوله تعالى: {بما قدمت يداك} و{أيديهم}، وفي المثل: يداك أَوْكَتَا وفُوْكَ نَفَخْ، وأشباه ذلك كثير.
__________
(1) . في نسخة: مجاهد.

واليد تستعمل بمعنى الجارحة وبمعنى النعمة، وعليه يحمل قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان}، بدليل ما قبل هذه اللفظة وما بعدها، ولا يقال فما معنى التثنية؛ لأن العرب تستعملها مثناة بهذا المعنى، قال الشاعر:
فيدان بيضاوان عند محلّم .... قد يمنعانك بينهم أن تهضما
/141/ وتستعمل بمعنى القدرة، وعليه يحمل قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم}، وقد ينبني بهذا المعنى كقوله:
فقالا شفاك الله والله ما بنا .... لما حمَلَت منك الضلوع يدان
وبمعنى المظاهرة كما قال عليه السلام: وهم(1) يد على من سواهم، أي متظاهرون، وبمعنى النقد والإحضار كما قال عليه السلام في باب الربا: يداً بيد. وقال تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وبمعنى أمام إذا قرن بها بين وثنيت نحو: {بين يدي عذاب شديد}،و: قام فلان بين يدي الأمير، ونحوه.
ومنها: قوله: ولتصنع على عيني، و: {اصنع الفلك بأعيننا}، ونحوه.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائها أن يكون موسى فوق عين الله ونوح في عينه، أو أن تكون عينه له في صناعة الفلك، وكله محال، والمعنى: ولتصنع بعلمي، وكذلك سائرها، وقيل: العين تستعمل بمعنى المراعاة للشيء والعناية كما قال ابن حلزّة:
وبعينيك أو قدت هند النار .... عشاء بلوى بها العلياء
فنوّرت نارها من بعيد .... بخزازي هيهات منك الصلاء
فقوله: فنورت نارها من بعيدٍ دليل على أنه لم يرعها، ولكن عرف بعنايته، فيكون المعنى على هذا: ولتصنع على مراعاة مني وحياطة. والعين مشتركة بين الجارحة والماء الجاري وعين الركبة والنقد الحاصل، يقال: بعت عيناً بدين، والمطر، وعين الميزان، والذهب، وبمعنى الاستكثار والغبطة، يقال: أصاب فلاناً عين، أي فساد لأجل استعجاب الغير به، وعين الشمس وعين موضع بالعراق، وعين الشيء خياره، وعين القوم رئيسهم، وعين الرأي ذاته.
__________
(1) . أي المسلمون.

ومنها: قوله: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله}. والجواب: أن الظاهر متروك؛ لأن التفريط في الجنب الذي هو العضو غير معقول، والمعنى في الجانب الذي لله، كما قال الشاعر:
الناس جنب والأمير جنب
وقيل: معناه في أمر الله عن مجاهد، واستشهد قول الشاعر:
خليلي كفّا واذكرا الله في جنبي .... فقد نلتما من غير إثم ولا ذنب
أي اذكراه في أمري وشأني واتركا الغيبة.
وقيل: معناه من أجل الله ويشتبه كما قال كثيّر عزّة:
فَمَا ظنّة ٌ في جنبكَ اليومَ منهمُ .... أُزَنُّ بها إلاّ اضطلعتُ احتِمالَها
أي ما تهمه إلا من أجلك وبسببك وكل ذلك حسن.
ومنها: قوله: {يوم يكشف عن ساق} روى أهل الزيغ فيه حديثاً أن ربهم يأتيهم يوم القيامة في غير صورته التي يعرفون فيهمون أن يبطشوا به لإنكارهم له، فيكشف لهم عن ساقه فيخرون له سجداً /142/ والجواب: أن الظاهر متروك أيضاً، إذ لا فائدة في كشف الساق الذي هو الجارحة، فإن الوجه واليد ونحوهما أظهر منه وأحسن، ويقتضي أن يكون فعله فعل المخادع تعالى الله عن ذلك. والمعنى يوم يكشف عن شدة، قاله مجاهد، قال ابن عباس: هي أشد ساعة في القيامة. ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق، قال سعد بن مالك جدّ طرفه يصف الحرب:
كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وبَدَا مِنَ الشَّرِّ الصُّرَاخُ
وقال آخر:
وإنْ شمّرت عن ساقها الحَرْبُ شَمَّرا
فصل
وأما أنه تعالى لا يجوز أن يكون عرضاً فقد خالف فيه بعض الصوفة، زعموا أنه عرض يحل الصور الحسنة، وهؤلاء أحقر من أن يكالموا، وإنما أرادوا بذلك أن يقبلوا الصور الحسنة من الصبيان وغيرهم.
لنا أن الأعراض محدثة والله تعالى قديم كما تقدم تفصيله. وبعد فالله تعالى حي قادر، والعرض يستحيل ذلك عليه من حيث إما أنه يستحق هذه الصفة لذاته وهو محال وإلا وجب قبله في كل عرض ولزم ما تقدم من المحالات. وإما أن يستحقها بالفاعل وفي ذلك حدوثه وامتناعها لم يزل. وإما أن يستحقها لمعنىً وهو محال؛ لأن المعنى لا يختص المعنى.

وبعد فلو جاز عليه تعالى الحلول كما يقوله هؤلاء، للزم قدم المحل أو حدوث الحال لما تقرر من أن ما يحل لا يجوز أن يوجد غير حال، وللزم أن يحل في محل واحد فقط لا لاستحالة الانتقال على الأعراض.
فصل
وكما لا يجوز أن يكون جسماً ولا عرضاً فكذلك لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من المجي والذهاب والكون في الأماكن ونحو ذلك ولا ما يجوز على الأعراض من الحلول والتضاد وجواز العدم ونحو ذلك.
القول في استحالة الرؤية على الله تعالى
ذهب أهل العدل /143/ إلى أنه يستحيل أن يرى نفسه وأن يراه غيره، وذهبت المجسمة وأهل الجبر إلا النجار إلى أنه يرى نفسه ويراه غيره، ومنع القلانسي منهم إطلاق القول بأنه تعالى مدرك ونسب إلى الشيخ أبي القاسم القول بأنه يرى نفسه ولا يراه غيره، وليس بصحيح عنه.
قيل: والحق أنه لم يقل بهذا أحد من أهل العدل.
لنا: أما من جهة العقل فدليلان: الأول أنه لو صح أنه يرى نفسه أو يراه غيره في حال من الأحوال لرأيناه الآن، ومعلوم بالضرورة أنا لا نراه الآن، ويدل على أنه لو صح أن يرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن، ومعلوم بالضرورة أنا لا نراه الآن، ويدل على أنه لو صح أن يرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن هو أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها وأحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها والحواس سليمة والموانع مرتفعة، وهو تعالى موجود، وهذه الشرائط التي يجب معها رؤية المرئيات متى حصلت، وهذه خمسة أصول، أما أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها فهو متفق عليه، وإن اختلف في ما تلك الصفة، فعندنا أنها الذاتية في حقه تعالى، والمقتضاة في حق المحدثات كالتحيز في الجوهر والهيئة في اللون وعند المجبرة أنها الوجود في الموضعين.

ويبطله أن الوجود متماثل في الذوات اتفاقاً بين من يجعله زائداً على الذات فكان يلزم في كل موجود أن يرى، ومتى جعلوا الوجود هو نفس الذات فكأنهم قالوا: يرى الشيء لذاته، فيعود الأمر إلى ما قلناه، ولا ينقلب علينا في الصفة المقتضاة، فحلفه فيقال: كان يجب في كل ما له صفة مقتضاة أن يرى؛ لأن الصفة المقتضاة، فيقال: كان يجب في كل ما له صفة مقتضاة أن يرى لأن الصفة المقتضاة مختلفة بخلاف الوجود.
وأما أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها فقد حالف فيه الأشعرية حيث أثبتوا الإدراك معنى وضرار حيث زعم أنه تعالى يرى بحاسة سادسة يخلقها في الآخرة، وتقدم إبطال كون الإدراك معنى. ويبطل قول ضرار أنه إثبات ما لا طريق إليه، ويلزم عليه تجويز حاسة سابعة يلمس بها، وكذلك في الشم والذوق والسمع، وهو ظاهر البطلان، وبعد، فإن كانت لهذه مماثلة فهذه الحواس وجب الاستغناء عنها، ووجب أن نراه بهذه، وإن كانت مخالفة فليس بأشد من مخالفة بعضها لبعض، ومع اختلافها فقد اتفقت في الرؤية، وليس لأحد أن يقول أنها تخالف هذه الحواس في الرؤية لأنها لا في مجرد الشكل؛ لأن ذلك ينبني على أن الإدراك معنى، وقد أبطلناه ونفس الرؤية لا يقع فيها اختلاف فلم يبق إلا الاختلاف في الشكل. وبعد فلو احتاجب رؤيته إلى حاسة مخالفة لهذه الحواس لأجل مخالفته للمرئيات احتاج العلم به إلى آلة غير آلة القلب لمخالفته للمعلومات.

وأما أن الموانع مرتفعة فلأن الموانع المعقولة هي القرب والبعد المفرطان والرقة واللطافة وانحجاب /144/ الكشف وعدم الضياء المناسب للعين، وكون المرئي في غير جهة الرأي، وكون محله في بعض هذه الأوصاف وكل هذه الموانع مرتفعة في حقه تعالى؛ لأنها إنما تمنع من رؤية الأجسام والألوان، وقد قدمنا ما يلزم من تجويز مانع سواها، وأما أنه تعالى موجود فقد تقدم. وأما أن هذه الشرائط التي معها ترى المرئيات فلأنه قد حصل المقتضى، وهو كون أحدنا حياً، وشرط الاقتضاء، وهو صحة الحاسة وزوال المانع ووجود المدرك، فيجب حصول المقتضى، وهو كون أحدنا مدركاً له تعالى وبهذه الطريقة، نعلم أنه تعالى مدرك المدركات فلو جوزنا أن لا يدرك أحدنا مع حصولها لجوزنا مثله في الباري تعالى.
وقد اعترض الرازي على هذا الدليل بوجوه: الأول أن قال: أنا نرى الكبير صغيراً مع البعد، فإنا كنا رأيناه كله، وجب أن نراه كبيراً وإن كنا رأينا بعضه بطل قولكم أن هذه الشرائط التي معها يرى المرئيات، وأجاب أصحابنا بأن الشعاع المنفصل ضوء يرى الشكل بمثابة المثلث فما بعد الشيء استدقّت زاوية الشعاع، فيقع على بعضه إذا كان كبيراً.
واعترضه الفقيه قاسم في تعليق شرح الأصول بوجهين:
أحدهما أن إيصال الشعاع بالمرئي ليس بشرط عند المحصلين وإنما شرطه أن يتصل بما هو كالآلة من أجزاء الهوى. ويمكن الجواب بأن الذي يتصل به الشعاع من أجزاء الهوى لا بد أن يكون مستدقاً على هيئة استدقاق الشعاع لولا ذلك للزم إذا انفصل الشعاع إلى بعض أجزاء الهوى أن يرى أحدنا ما خلفه وعن يمينه ويساره لاتصال بعض أجزاء الهوى ببعض وضرورة الجميع في حكم الآلة.
الثاني: أنه كان يلزم إذا وقع الشعاع على بعضه أن نميزه فنعلم هل هو طرف أو وسط، ويمكن الجواب بأن للتعد تأثيراً في عدم التمييز، ألا ترى أنا ندرك الجسم المتلون ولونه، ولا نفصل ونميز اللون هل هو سواد أو غيره إلا مع القرب.

ووجه ثالث ذكره الرازي على هذا الجواب فقال: لو كان الاستدقاق زاوية الشعاع للزم إذا بعد شبراً من موضعه أن لا يراه البتة.
ويمكن الجواب بأنا لم نفرض الواقع على المرئي آخر زاوية الشعاع بل يجوز أن يبقى منها ما لو بعد المرئي لرأى أصغر مما كان كذلك حتى ينقطع فلا يرى.
فإذن يكون الأولى في الاعتراض على جواب أصحابنا أن يقال لو كان ذلك الاستدقاق زاوية الشعاع للزم ألا يرى ما حول هذا الشيء؛ لأن زاوية الشعاع إذا صغرت عنه ولم يقع إلا على بعضه فكيف يرى ما حوله، وأيضاً فكان يلزم إذا صرفنا زاوية الشعاع إلى البعض الآخر /145/ أن يراه، ومعلوم أنا لا نرى الأشياء واحداً، إذا ثبت هذا فالأحسن في الجواب على الرازي أن نقول أنا نرى الشيء كله على البعد كما نراه كله على القرب لكن يخيل إلينا أنه صغير لأجل اتساع ما نرى حوله من القضاء أو غيره، فإنه إن كان طائراً في الهوى فإنا حين نراه يقع بصرنا على جرم السماء فنراه صغيراً في حينها، وكذلك الشجرة في الفلاة أو في الجبل وكلما قربنا إليه قل ما يقع عليه بصرنا مما حوله فرأيناه كأنه يكبر.
يزيده وضوحاً أن الشيء إذا ضم إلى ما هو أكبر منه رئي كأنه صغير وازدرته العيون، وكذلك الرجل الكامل إذا استقام عنده المفرط في الطول رأي الكامل كأنه قصير، وهذا ظاهر، فإن كثيراً من الأشياء إنما يعلم كبره أو حسنه بأن يضم إلى غيره.
ووجه آخر في الجواب، وهو: أن يقال للرازي هذا السؤال لازم لك أيضاً لأنك توافق في اعتبار هذه الشرائط، وإنما تعتبر أمراً زائداً وهو الإدراك الذي يفعله الله فينا، فأخبرنا ما الوجه في أنا نرى الكبير صغيراً مع حصول الإدراك الذي يدرك به الجميع لو قرب فلا يكون له بد من الرجوع إلى ما قلناه.

الاعتراض الثاني للرازي على أصل الدلالة أن قال إذا نظرنا إلى مجموع كف من التراب رأيناه ونحن لا نرى أجزاءه إذا انفردت، فإن كان رؤية كل واحد من أجزائه مشروطة برؤية الآخر لزم الدور وإن لم تكن مشروطة بذلك صارت نسبة الرؤية إلى الجميع على سواء، ونحن لا نرى الإجزاء إذا انفردت، فبطل قولكم أن هذه الشرائط التي معها ترى المرئيات.
والجواب: كيف يلزمنا ذلك ونحن نجعل اللطافة أحد الموانع من الرؤية وهي حاصلة في الجزء الواحد بل قد أحال بعض شيوخنا رؤيته على انفراده، قال: لأنه يدخل في تضاعيف الشعاع فلا يتميز المرئي من المرئي به ولسنا نجعل رؤية البعض شرطاً في روية البعض حتى يلزم الدور، ولكنا نجعل الشرط الإنضمام ثم نقلب عليه السؤال فلا يكون له بد من الرجوع إلى ما قلناه.
الاعتراض الثالث: له أن قال إن هذه الشرائط التي معها ترى المرئيات في الشاهد فمن أين يجب عند حصولها أن يرى الله تعالى.
والجواب: لو جوزنا اعتبار شرط آخر لا دليل عليه لجوزنا أيضاً في الشاهد، فكان يجوز أن يكون بين أيدينا ذوات مخالفة لما نشاهده ولكنا لا نراها لفقد شرط مجوز، وبعد فلو جوزنا شرطاً سواها لما أمكننا القطع على أن الله تعالى مدرك؛ لأنا لا نعلم هل حصل ذلك الشرط في حقه تعالى أم لا. وبعد /146/ فعنده أنه لا بد من اعتبار هذه الشروط لكن إذا حصل معها الإدراك الذي ندرك نحن به الله تعالى، وجب أن يدركه فيقال ما أنكرت أن يحصل الإدراك أيضاً ولا ندركه بأن يقف إدراكنا له على شرط آخر مجوز، وكل شرط يفرض حصوله فإنه يلزم تجويز غيره فلا يمكنه القطع بأن الله تعالى يرى.

الدليل الثاني: من جهة العقل أن أحدنا لا يرى إلا بالحاسة والرأي بالحاسة لا يرى إلا ما كان مقابلاً للجسم أو حالاً في المقابل كاللون أو في حكم المقابل كالوجه في المرآة والله تعالى ليس كذلك، وهذه ثلاثة أصول، أما الأول فهو ضروري عند أبي الحسين وأصحابه واستدلالي عند الجمهور، والأولى التفصيل فيقال: إن كان الكلام في وقوع الرؤية على هذا الحد فهو ضروري، ولهذا يعلم جميع العقلاء من أنفسهم أنهم لا يرون إلا بالحاسة، ويكذبون من أخبر بخلاف ذلك، وسواء فرضنا الكلام في أن الإدراك معنى أم لا، ألا ترى أن كون القدرة معنى لا تخرج الكتابة عن كونها لا تقع إلا باليد والخصوم يوافقون في هذا، ولكنهم يدعون أنه بمجرى العادة وإن كان الكلام في الصحة فهاهنا ينبغي أن يكون الخلاف بين أبي الحسين وسائر الشيوخ، فعنده أنا نعلم بالضرورة استحالة الرؤية بغير حاسة. ويمكن أن يفصل فيه أيضاً فيقال إما أن الرؤية لا يصح إلا بالحاسة التي هي مبنية بنية مخصوصة فليس بضروري؛ لأن الخصوم يجوزون حصول الإدراك في الجزء المتفرد من دون بنية بل يجوزون ذلك في العلم والقدرة ونحوهما. وإما أن الرؤية لا تصح إلا بالآلة سواء كانت تسمى حاسة أو كانت جزءاً منفرداً على ما يجوزه الخصم فهو ضروري، والخصوم يوافقون فيه ويحيلون وجود الإدراك إلا في محل وإذا كانت كذلك فقد وافقوا في أن أحدنا لا يرى إلا بآلة، وبهذا يحصل غرضنا فإنا سواء، قلنا في عقد الدلالة إن أحدنا لا يرى إلا بالحاسة أو قلنا أن أحدنا لا يرى إلا بالآلة فإنه يحصل به المقصود.

وأما سائر الشيوخ فيستدلون بأن عند حصول الحاسة يصح أن يرى أحدنا، وعند فقدها يستحيل أن يرى، فدل ذلك على أنها شرط ويبطلون ما يدعيه الخصوم من أن طريق ذلك العادة بأنه كان يجوز اختلاف العادة، فيصدق من يخبرنا بأن في بعض البلاد رجلاً يرى لا بحاسة كما يصدقونه في أنه زرع زرعاً فلم ينبت. وبعد فلا بد فيما طريقه العادة أن يفارق ما طريقه الوجوب، ولولا هذا لاستوى في العقل الواجب والجائز، فجوزنا أن تكون المعلولات والمسببات بمجرى العادة، ويمكن أن يؤكد بما تقدم من أن الخصوم يوافقون في استحالة الرؤية لا بآلة، وذلك كاف في الغرض وإن جوزوا حصول الإدراك /147/ والعلم والقدرة ونحوها في الجزء المنفرد.
فإن قيل: إذا جوزوا حصول هذه المعاني في الجزء المنفرد فقد جوزوا الإدراك لا بحاسة ولا بآلة؛ لأن الحاسة من حقها أن تكون مبنية بنية مخصوصة والآلة من حقها أن تكون في حكم الغير للحي، ومذهبهم يقتضي جواز أن يكون الحي المدرك القادر العالم جزءاً منفرداً.
قلنا: هذا وإن كان مذهب القوم فإن كلامنا في رؤية الواحد منا في الدنيا والآخرة، وهم يوافقون في أنه ليس أحد منا جوهراً فرداً حتى يكون قد أدرك لا بحاسة ولا بآلة. على ان هذا لا يضرنا في صحة الدليل لأنا حيئذ نقول في عقد الدلالة الواحد منا متحيز والمتحيز لا يرى إلا ما كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، ثم أنا نبطل ما قالوه بأنه لو صح حصول هذه المعاني من دون بنية لجوزنا في أجزاء الحجر والتراب ونحوهما أن تكون حية قادرة عالمة مدركة مكلفة. فإن قال ذلك جائز ولكن علم أنه غير واقع للعادة.

22 / 75
ع
En
A+
A-