الطريق الثانية: أن تقع أفعاله على وجوه مختلفة من نحو كون كلامه أمراً وخبراً ونحو ذلك، ولا يصح وقوع الفعل على الوجوه المختلفة إلا من يريد ثباته أنه إذا قال زيد في الدار جاز أن يكون خبراً عن زيد بن عبد الله وعن زيد بن خالد، وهو لا يكون خبراً عن أحدهما دون الآخر، إلا لأمر، وذلك الأمر إما أن يرجع إلى المخبر عنه أو إلى الصيغة /128/ أو إلى المخبر لا يجوز رجوعه إلى المخبر عنه؛ لأن الزيدين مع الصيغة على سواء، ولا يجوز رجوعه إلى نفس الصيغة من ذاتها وصفاتها؛ لن كل ذلك مع الزيدين على سواء، وكان يجب أن يكون خبراً في حالة السهو والنومن وبهذا يبطل قول البغداديين من أنه خبر لعينه بمعنى إنما كان خبراً عن زيد لا يصح أن يكون خبراً إلا عنه وإن جاز في مثله أن لا يكون خبراً عنه، وبعد فكنا نعلم الخبر خبراً والمخبر مخبراً وإن لم نعلم إلا الصيغة، وبعد فإنما يصح هذا القول بعد العلم بماهية الخبر ومعه لا يصح العلم بها. وبعد فكان يصح أن يكون خبراً قبل المواضعة، وكان لا يصح التجوز في الكلام.
قال ابن الملاحمي: ولهم أن يقولوا أن التجوز وقع بمثل الخبر.
ولنا أن نجيب بأن الصيغة إذا كانت خبراً عن زيد لعينها لم يصح في ما ماثلها أن يكون خبراً إلا عنه، وبعد فكان لا يمكن أحدنا الإخبار إلا عن أشخاص متعددة بحسب عدد قدره وأن يستحيل إخباره عما لا يتناهى من الزيدين.
قال ابن الملاحمي: ولهم أن يقولوا إن أردتم يخبر عنهم بصيغ متماثلة، فجائز قدرته على ما لا يتناهى على البدل، وإن أردتم يخبر عنه بصيغة واحدة كان يقول الزيدون في الدار، فذلك صحيح، ويكون مخبر الصيغة حينئذ واحداً، ويصح ايقاعها بقدرة واحدة كما يقولونه في إرادة الأخبار عنهم، فالمعتمد في أنه لا يصح رجوع ذلك الأمر إلى نفس الصيغة ما تقدم.
بقي أن يكون ذلك الأمر راجعاً إلى المخبر وهو إما ذاته أو صفات ذاته، وكونه قادراً فيلزم ما تقدم من صحة الأخبار حال السهو والنوم وإلا يحتاج إلى المواضعة ونحو ذلك، وأما كونه عالماً فيلزم أن لا يحتاج إلى المواضعة على أنه قد يكون عالماً بالزيدين على سواء، وكونهما في الدار، وأيضاً فهو مخبر وإن كان كاذباً غير عالم بما أخبر عنه، وإما أن يكون ذلك الأمر هو الداعي الذي دعاه إلى الإخبار عن أحدهما كما يقوله ابن الملاحمي، وهو باطل بما تقدم من أن الإرادة غير الداعي.
يزيده وضوحاً أنه قد يكون داعيه إلى الإخبار عن الزيدين على سواء، ثم يخبر عن أحدهما كما تقدم في تناول أحد الرغيفين، وإما أن يكون ذلك الأمر هو كونه مريداً وهو المطلوب.
وقريب من هذا يقع الكلام في كون الصيغة أمراً فإنها لا تنفصل عن التهديد والتحدي والإباحة إلا بالإرادة، وكذلك كون الصيغة نهياً في دلالتها على كونه كارهاً.
فصل
في الدلالة على إثبات هذه الصفة للباري تعالى.
اعلم أن الاضطرار إلى كونه تعالى مريداً لا يصح، والدار دار تكليف؛ لأن العلم بصفاته تعالى فرع على العلم لذاته /129/ وإنما يعلم استدلالاً، وقد ذهب أبو الحسين وابن الملاحمي إلى أن معنى كونه تعالى مريداً لأفعاله أنه دعاه الداعي إلى اتخاذها، ومعنى كونه مريداً لأفعال غيره هو أنه أمر بها.
وقال أبو الهذيل وابو القاسم والنظام والجاحظ: معنى كونه تعالى مريداً لأفعاله أنه أوجدها وهو غير ساه ولا مغلوب، ومعنى كونه مريداً لأفعال غيره أنه أمر بها.
وقال جمهور أصحابنا وأهل الجبر معنى كونه مريداً لأفعال نفسه ولأفعال غيره أنه مختص بصفة كما تقدم.
وسيدلنا أن ندل على صحة هذه الصفة في حقه تعالى، ثم على ثبوتها.
أما صحتها فدليله أن من حق كل حي قادر صحة أن يوقع فعله على وجه دون وجه، وكل من صح منه أن يوقع فعله على وجه دون وجه صح أن يكون مريداً وكارهاً لأنهما اللذان يؤثران في وقوع الفعل كذلك.
وأما وقوعها فما تقدم من الطريقين المذكورين حاصل هنا لأنه تعالى أوجد أكثر أفعاله لأغراض يخصها ويستحيل أن يمنع من إرادتها، فيجب أن يريدها؛ ولأن جميع أفعاله واقعة على وجوه مخصوصة. أما الخطابات ففيها الأمر والنهي والخبر.
وأما غير الخطاب من أفعاله تعالى فلا يخرج عن كونه نعمة أو نقمة، ومعلوم أن المنفعة إنما تكون نعمة إذا قصد بها فاعلها وجه الإحسان، وكذلك المضرة إنما تكون نقمة إذا قصد وجه الأضرار وإلا لزم في الأمراض والبلاوي أن تكون نقمة وخلافه معلوم.
يزيده وضوحاً أن الله تعالى خلق فينا شهوة القبيح ونفرة الحسن، فلو لم يكن عرضه بذلك كمال شرائط التكليف لكان عبثاً، بل أغرا بالقبيح.
فصل
والباري تعالى يستحق هذه الصفة لمعنى محدث كالشاهد.
وقالت البحارية وبشر بن المعتمر: أنه يستحقها لذاته. وقالت الأشعرية يستحقها لمعنى قديم.
لنا أنه تعالى حصل مريداً مع الجواز، والحال واحدة، والشرط واحد، فلا بد من أمر، وليس إلا ثبوت معنى على مثل طريقتنا في إثبات المعاني، وإنما يثبت لنا أنه حصل مريداً مع الجواز إذا أبطلنا أن يكون مريداً لذاته أو لمعنى قديم؛ لأنه الذي يشتبه الحال فيه، والذي يبطل ذلك أنه لو كان مريداً لذته أو بإرادة قديمة لوجب أن يكون مريداً لجميع المرادات بل لجميع ما يصح أن يراد، وهو محال إما انه كان يجب ذلك فلأنه لا اختصاص لذاته ولا للمعنى القديم ببعض ما يصح ان يراد دون بعض ككونه عالماً لا ككونه قادراً؛ لأنه يستحيل مقدور بين قادرين، ولا يستحيل معلوم بين عالمين /130/ ولا مراد بين مريدين، وإما أن ذلك محال فلأنه لو اراد جميع ما يصح أن يراد لوقع لا سيما على مذهب الخصم في إنما يريده الله تعالى لا بد أن يقع، فكان يجب إذا أراد أحدنا شيئاً أو صح أن يريده أن يقع لأنه مراد الله تعالى، وكان يلزم أن يكون مريداً للإيمان من الكافر والكفر من المؤمن؛ لأنه مما يصح أن يراد، وكان يلزم أن لا يكره الله شيئاً قط؛ لأن كل ما يكرهه فهو مما يصح أن يراد، فكان يلزم أن يوجد الله أكثر مما أوجد وأكثر، وأكثر وقبل الوقت الذي أوجد فيه، وقيل: وقبل لصحة أن يريد ذلك، وليس يتأتى للخصم أن يقول أن الإرادة تتبع الداعي فلا يريد إلا ما دعاه إليه الداعي؛ لأن عنده أن الله يريد الكفر من الكافر ولا يدعوه إليه الداعي، وكان يلزم أن يكون الله تعالى مريداً للضدين لأنهما مما يصح أن يريدهما مريدان، ومريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما، وبهذا يبطل كون إرادتي الضدين ضدين فلا يقال أنه يكون بإرادتي الضدين حاصلاً على صفتين ضدين، ومتى أراد الضدين فإما أن يوجدا معاً وهو محال وإما أن لا يوجد واحد منهما وفيه تخلف مراده، وقد أراده وهو محال عندهم، وأما أن يوجد أحدهما ولا مخصص، فبهذا يبطل أن يكون تعالى مريداً لذاته أو بمعنى قديم، وإن كان جميع ما تقدم في
إبطال المعاني القديمة يرد في إبطال الإرادة القديمة.
دليل: لو كان تعالى مريداً لذاته أو لمعنى قديم لاستحال خروجه عن هذه الصفة ككونه عالماً وقادراً ومعلوم خلافه لا سيما على مذهب الخصم في أنه لا يريد إلا الواقعات فيريد الإيمان من زيد ما دام يفعله، فإذا كفر أو عجز أو مات خرج الباري عن كونه مريداً له.
دليل: لو كان تعالى مريداً لذاته أو لمعنى قديم لبطل الاختيار في أفعاله تعالى، ولما صح وصفه بالقدرة على إقامة القيامة الآن ولا أن يجعل لزيد رأسين ونحو ذلك من التقديم والتأخير والزيادة والنقصان؛ لأن الإرادة القديمة لم تعلق بذلك، وما لم تتعلق به الإرادة القديمة استحال أن يقع، وليس لهم أن يقيسوه على العلم؛ لأنا نجوز القدرة على خلاف المعلوم، وهم لا يجوزون تعلق الإرادة بخلاف المعلوم، وهذا يبطل ما قد قامت عليه الدلالة من أنه إن شاء أن يفعل فعل، وقد نطق القرآن بذلك، قال تعالى: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك}. يوضحه: أن الشرط لا يدخل إلا في المستقبل ولا بد أن يعترفوا بأنه أراد هذا الشيء مع جواز أن لا يريده..
فصل
وللمخالف شبه في أنه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة وأكثرها قد دخل في أثناء الكلام وبقي شبهتان.
إحداهما أن قالوا لو لم يكن مريداً لم يزل لكان قد حصل مريداً بعد إن لم يكن، وذلك تغير كالمحل إذا أسود بعد أن كان أبيض.
والجواب هل أردتم بالتغير أنه حصل على صفة لم تكن عليها فهذا لا يسمى /131/ تغيراً كما تقدم في كونه مدركاً بعد إن لم يكن، وفاعلاً بعد إن لم يكن ونحو ذلكن وأما قول العرب في الجسم إذا اسودّ بعد بياض أنه قد تغير فلاعتقادهم أنه صار غير ما كان، وإلا ساء في بديع اعتقاداتهم، وإن أردتم التغير الحقيقي وهو أن ذاته صارت غير ما كانت فما دليلكم عليه.
الشبهة الثانية:
إن قالوا أنه في ما لم يزل غير ساه ولا غافل فيجب أن يكون مريداً.
والجواب: إنما يلزم فيمن ليس بساه ولا غافل أن يكون عالماً، فإما أن يكون مريداً فلا يلزم لأنهما يضادان العلم ولا يضادان الإرادة ولو ضادها لم يكن انتفائهما دليلاً على ثبوتهما إلا إذا لم يجز خلو الذات عن الصفة وضدها وقد بينا جوازه.
يوضحه: أنه تعالى غير ساه عن نفسه ولا غافل ولا يكون مريداً لها.
فصل
وإذا ثبت أنه تعالى مريد بإرادة محدثة فهي إنما توجد لا في محل لأنه تعالى يستحيل أن يكون محلاً للأعراض ويستحيل أن يوجب له الإرادة وهي حالة في غيره من حي أو جماد.
أما الجماد فيستحيل وجود الإرادة فيه رأساً، وأما الحي فلأنها متى وجدت فيه كانت بأن يوجب له أولى من القديم تعالى، فلم يبق إلا أن يكون لا في محل وليس في ذلك إلا تشنيع من يشنع بأنه كيف يوجد عرض لا في محل، والأصل في مثل هذا أن وجود الشيء إذا كان بالدلالة فكيفية وجوده يتبع الدلالة.
ولهذا منعنا المشبهة أن يقيسوا كيفية وجوده تعالى على كيفية وجود الأجسام والأعراض.
وقلنا لهم: طريق ذلك الأدلة لا الاعتماد على مجرد الوجود، فإذا كان الطريق إلى إرادة الباري الدلالة فكذلك كيفية وجودها، فإذا منع الدليل من أن يكون حاله في الباري تعالى أو في غيره ثبت أنها لا في محل، وقياس بعض الأعراض على بعض في كيفية الوجود لا يصح كما لا يصح في كيفية الإيجاب، فإن بعضها يوجب للجملة وبعضها يوجب للمحل، ولولا قيام الدلالة على أن ما عدا إرادة الباري وكراهته والفناء لا يوجد إلا في محل لجوزنا وجوده لا في محل.
فإن قال: كيف يختص بالباري تعالى وقد وجدت لا في محل، وحالها مع جميع الأحياء على سواء.
قيل له: من حق الاختصاص أن يكون على أبلغ الوجوه ولا يمكن اختصاصها بالباري على أبلغ من هذا الوجه بخلاف سائر الأحياء، فإنَّه يمكن أن يكون لها بهم اختصاص على أبلغ من هذا الوجه، وهو الحلول، وإذا بطل أن تكون موجبة لحي محدث وجب أن يوجب للقديم تعالى وإلا خرجت عما هي عليه في ذاتها، وصار الحال فيها كالحال في المقدور فإنه إذا بطل قدرتنا عليه وجب أن يكون الباري تعالى قادراً عليه وإلا خرج عن كونه مقدوراً.
فصل في ما يصح أن يراد ويستحيل ويجب ويحسن ويقبح.
أما ما يصح، فكل ما صح حدوثه /132/ كالمقدورات أو اعتقد صحة حدوثه كاجتماع الضدين صح أن يراد، وكلما لم يكن كذلك كالقديم والباقي واجتماع الضدين في حق من يعلم تضادهما استحال أن يراد.
وأما ما يجب أن يراد فهو كل فعل يفعله الفاعل لغرض يخصه ولا يكون في حكم الساهي عنه، ولا ممنوعاً من إرادته.
وأما ما يحس فهو إرادة الحسن إذا لم يتعلق بالإضرار بالنفس، ولم يكن عبثاً، واحترزنا من العاصي إذا أراد نزول العقاب بنفسه فإن هذه الإرادة وإن تعلقت بالحسن قبحت لما كانت إرادة للإضرار بالنفس.
وقلنا: ولم يكن عبثاً احترازاً من إرادتنا للمكروهات ومن إرادة الباري تعالى لها وللمباحات عند من لا يجوز إرادتها.
وأما ما يقبح فكل إرادة تعلقت بقبيح ويحسن صفته ما تقدم.
فصل في ما يريده الله تعالى وما لا يريده
وأما أفعاله تعالى فجميعها مرادة له؛ لأن كل واحد منها يتعلق به عرض يخصه إلاَّ الإرادة، فإنها تفعل تبعاً لغيرها، فلذلك لا يكون تعالى مريداً لها؛ ولأن جميع أفعاله تعالى حكمة، وهي إنما يكون كذلك بالإرادة التي يخصصها بوجه دون وجه، فأما الإرادة نفسها فهي من حيث يقع تبعاً للمراد هي كالجزء منه فلا يحتاج إلى الإفراد بالإرادة ولا يخرج عن كونها حكمة، وهذا الكلام في إرادته تعالى المتعلقة بأفعاله، فأما إرادته المتعلقة بفعل غيره فيجب أن يريدها تعالى لأنها ليست بفعل تبعاً لغيرها بل لغرض يخصها، وإنا لم يجز أن يكره من أفعال نفسه تعالى؛ لأنها لا تقع منه ولا هو ممن يصح عليه الزجر والجهل بالقبيح حتى يقال يفعل الكراهة زجراً لنفسه وتعريفاً لها بالقبيح كما يفعل الكراهة المتعلقة بفعل الغير، وإن كان المعلوم أن ذلك الفعل لا يقع.
فإن قال: هل يجوز أن يريد كل جزء من أفعاله تعالى بإرادة مستقلة أو قد يريد جملة أفعال بإرادة واحدة.
قيل له: كل جزء يستقل بالغرض الذي فعل لأجله، فإنه يراد بإرادة تخصه كالجوهر ونحوه، وكل جزء لا يتم الغرض به وحده بل لا بد من انضمام غيره إليه فإنه يراد هو وجميع ما لا يتم الغرض به وحده بل لا بد من انضمام غيره إليه، فإنه يراد هو وجميع ما لا يتم الغرض إلا به بإرادة واحدة كالخبر والأمر، فإنه لا يكون كذلك إلا بمجموع حروف، فإرادة جميع تلك الحروف واحدة (فراغ) أفعال غيره تعالى، فما كان منها مكروهاً أو فعلاً يسيراً أو صادراً من غير مكلف فلا يريده تعالى ولا يكرهه اتفاقاً بين الشيوخ، وكلما كان منها قبيحاً فاتفق الشيوخ على أنه لا يريده وأنه يكرهه، وكلما كان منها واجباً أو مندوباً فاتفقوا أنه يريده ولا يكرهه واتفقوا أيضاً على أنه تعالى لا يريد المباح في الدنيا لأنه لا مزية لفعله على تركه ولو أراده لترجح فعله، فكان واجباً أو مندوباً.
فإن قال: إذا كان الله تعالى خلق الأشياء لينتفع بها الأحياء فقد أراد الانتفاع بها وهو مباح /133/.
قيل له: إنه تعالى يقال إنما أراد خلقها على وجه يصح أن ينتفع بها، وأراده أن ينتفع بها غير إرادة وقوعها على الوجه الذي معه يصح أن ينتفع بها، واختلفوا في هل يريد المباحات في الآخرة أم لا.
فقال أبو علي: لا يريدها كالدنيا، وجعل قوله تعالى: {كلوا واشربوا} إباحة لا أمراً حقيقياً.
وقال أبو هاشم: يصح أن يريدها في الآخرة؛ لأن ذلك زيادة مسرة أهل الجنة وانتشاطهم، وحق الثواب أن يكون على أبلغ الوجوه، وليست دار تكليف، فيقال إن إرادته لها تخرجها عن كونها مباحة ويدخلها في باب المندوبات.
فصل وفيه ذكر طرف من أحكام الإرادة.
منها: أنه يجوز تقديمها، وخالف أهل الجبر. لنا أن أحدنا يجد من نفسه إرادة ما يتأخر، والمخالف يبني على أن الإرادة موجبة للمراد، وهذا أصل مضمحل عندنا.
فأما إرادة الباري فما تعلق منها بأفعاله المبتدأة والمسببة غير المتراخية عن اسبابها، وحيث مقارنته لا لأن الإرادة موجبة، بل لأنها لا تقدم إلا لتعجيل المسرة وتوطين النفس، وذلك يستحيل في حقه تعالى، ولهذا امتنع العزم عليه، وما تعلق منها بأفعاله المسببة المتراخية فقيل يفارق السبب ويكون في حكم المقارنة للمسبب؛ لأنه في حكم الواقع لوقوع سببه.
وقيل: يقارن المسبب محافظة على الأصل المذكور، وما تعلق منها بفعل الغير فهو متقدم على ذلك الفعل ومقارن للأمر به لوجهين:
أحدهما: أن الأمر لا يكون أمراً إلا بالإرادة.
والثاني: أن إرادته تعالى كالحاث على الفعل الباعث عليه، وحث الباعث التقدم على الفعل.
ومنها: أنها لا تتعلق بأن لا يفعل ونحوه من النفي خلافاً لأهل الجبر.
لنا أنها لو تعدت الحدوث وتوابعه لتعدت، ولا حاضر، فكان يصح تعلقها بالقديم، والباقي والماضي كالعلم، وأما نية الصوم فإنها تتعلق بكراهة الأكل ونحوه أو بالامتناع المحقق وهو إطباق التعيين عن المأكول وتسكين اللسان عن الرفث والحجر على آلة النكاح من النكاح وأشباه ذلك.
ومنها أن إرادة الشيء ليست كراهة لضده خلافاً لهم؛ لأنه ليس هذا أولى من عكسه.
وبعد، فكان يستحيل إرادة الضدين على البدل؛ لأنه يكون بإرادة كل واحد منهما، فذكره الآخر وبمثل هذا يبطل تضاد إرادتي الضدين؛ لأن إرادتي الضدين ثابتة، وإنما يدخل البدل في الوقوع لا في الإرادة.
وبعد فلو تعلقت بالشيء على أنها كراهة لضده لكانت قد تعدت المتعلق الواحد على التفصيل، وتقدم بطلانه، ولكان لها ضربان من التعلق متنافيان، فيكشف ذلك عن اختصاصها بذاتيين مختلفيين.
وبعد فكان يلزم من أن يريد الشيء ويكرهه في حالة واحدة بأن /134/ يريد أحد ضديه، ويكره الآخر، وبعد، فكان لا يصح أن يريد الله تعالى النوافل لأنه لا يكره أضدادها، فأحدنا يجد الفرق بين كونه مريداً وكونه كارهاً.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء في هذا الباب نحو قولنا: مريد؛ لأنه يفيد اختصاصه بصفة، وليس طريقه الفعلية، وإن كان لا يريد إلا بإرادة يفعلها.
ومنها: المحب لأنه لا فرق بين الإرادة والمحبة. ومتى أضيفت المحبة إلى الأشخاص فقيل يحب المؤمنين ويحب التوابين والغرض إرادته لإعظامهم ومدحهم، وكذلك إذا قيل فلان يحب فلاناً فالغرض أنه يريد منافعة ولا يريد مضارة.
ومثله الودود والمود والواد.
ومنها: قولنا يشاء؛ لأنه لا فرق بين الإرادة والمشيئة.
ومنها: قولنا: راض، إلاَّ أنه لا يوصف بذلك إلا إذا وقع الفعل مطابقاً لإرادته من عباده فلا يقال رضيه قبل وقوعه.
ومتى قيل رضي الله عن فلان فقيل معناه أنه أراد بكل أفعاله ورضيها.