وينقسم إلى ما يحصل لا عن طريق كالبديهي وعلم المثبتة، وإلى ما يحصل عن طريق ما موجبه كالعلم الحاصل عند المشاهدة أو النظر، أو غير موجبة كالعلم الحاصل عند الدرس، وإلحاق التفصيل بالجملة.
فصل وينقسم علم التصور إلى جملي وتفصيلي.
فالجملي، هو: ما حصل بالحد اللفظي، كما إذا قيل ما العقار؟ فقلت: الخمر. والتفصيلي، هو ما يحصل بالحد المعنوي كما إذا قلت الشراب المعتصر من العنب المسكر كثيره.
وينقسم التصديق إلى جملي وتفصيلي، فالجملي كالعلم بأن زيداً في جملة هذه العشرة، وأن كل ظلم قبيح، والتفصيلي كالعلم بأن هذا الشخص هو زيد وأن هذا الظلم المعين قبيح.
وقد اختلف الشيوخ في ذلك، فقال شيخنا أبو هاشم: العلم الجملي هو التفصيلي، ولكنه لم يكن متعلقاً، ثم تعلق، فالعلم بأن زيداً في جملة العشرة هو العلم بأنه هو هذا الشخص، والعلم بأن كل ظلم قبيح هو العلم بقبح الظلم المعين. ويبطله أنه مبني على بقاء الاعتقادات.
وبعد فإذا شاهدنا السواد في الجسم علمناه على الحقيقة، وإن لم يعلمه غيراً للجسم.
وبعد فنحن نعلم ثواب أهل الجنة، وهو غير متناه، فلو كان العلم الجملي هو التفصيلي لاحتجنا إلى علوم لا يثناها.
وبعد فيعلق العلم لما هو عليه في ذاته، فلو كان العلم بأن كل ظلم قبيح هو العلم بأن هذا الظلم المعين قبيح لكان قد وقف تعلقه على العلم بأن هذا المعين ظلم، وهو أمر منفصل فيقدح في تعلقه على العلم بأن هذا المعين ظلم، وهو أمر منفصل، فيقدح في أن تعلقه لذاته.
وبعد، فلو لم يتعلق العلم الجملي لما فصل أحدنا بين العشرة التي علم كون زيد فيها، وبين غيرها، وأمّا ما ذكره ابن متويه في المحيط والتذكرة من أن الجملي يخالف التفصيلي والشيء لا يصير بصفة مخالفة، ففي الاستدلال به نظر؛ لأنه محل النزاع /8/ فكيف يقول التفصيلي يخالف الجملي، وهما عند الخصم واحد.
حجة أبي هاشم: أنه لو كان العلم بكون زيد في جملة العشرة متعلقاً، لصار الجهل بزيد على التفصيل، فكان يلزم إذا اعتقد في زيد أنه ليس بزيد أن ينتفي عنه الجملي.
والجواب: أن من شرط التضاد اتحاد الطريقة، والجملي لا يضاد التفصيلي.
قال: لو لم يضاده للزم إذا اعتقد في كل واحد من العشرة أنه ليس بزيد أن لا ينتفي العلم الجملي، قيل له: أنه متى اعتقد ذلك دعته هذه الاعتقادات إلى أن يفعل اعتقاداً جملياً بأنه ليس من العشرة.
قال: إنما يدعوه ذلك حال فعل الاعتقاد العاشر، فيلزم اجتماع العلم والجهل في الوقت العاشر؛ لأنه إنما يفعل الاعتقاد الجملي في الوقت الحادي عشر؛ لأنه الثاني من حالة الدعاء.
قيل له: بل الذي يدعوه إلى أن يعتقد في الرجل العاشر أنه ليس بزيد يدعوه إلى فعل اعتقاد جملي بأنه ليس في العشرة، فينبغي الاعتقاد الجملي بانه فيها فلا يجتمع العلم والجهل في العاشر.
فصل والعلم من قبيل الاعتقاد.
وقال أبو الهذيل: بل هو جنس مستقل، وتوقف أبو الحسين. لنا أنه لو كان غيراً للاعتقاد؛ لصح انفصاله عنه حتى يكون أحدنا معتقداً [به] ساكن النفس، ولا يكون عالماً والعكس.
وبعد، فإما أن يضاد الاعتقاد فلا يصح، مجامعته له، وإما أن يخالفه فيلزم إذا طرى الضد أن لا ينفهما جميعاً؛ لأن الضد إنما ينفي المثلين والضدين، وإما أن يماثله وهو المطلوب.
وبعد فحال العالم يلتبس بحال الجاهل والمقلد، والشيء لا يلتبس بما ليس من جنسه.
شبهة: أنه لو كان اعتقاداً لوجب في كل عالم أن يسمى معتقداً، وهو باطل بالقديم تعالى.
والجواب: أنه إنما يلزم ذلك في كل عالم بعلم هو اعتقاد، والله تعالى عالم لا بعلم، ولو قدرناه عالماً بعلم لما صح إطلاق ذلك في حقه؛ لأنه إنما يجوز به في من له قلب وضمير تشبيهاً بعقد الحبل.
قال: لو كان العلم اعتقاداً لكان كل اعتقاد علماً.
قيل له: ولو كانت الحركة كوناً؛ لكان كل كون حركة. والتحقيق أنه لم يكن علماً بمجرد كونه اعتقاداً، بل لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص.
فصل
والذي به يعرف كون الاعتقاد علماً هو سكون النفس، عند الجمهور.
وقال أبو علي بسلامة طريقه من الانتقاض
وقال الجاحظ: قد يكون الجاهل ساكن النفس. والذي يبطل قول أبي علي أن في العلوم ما لا طريق إليه كالبديهي وغيره، وإنما يعرف كونه علماً /9/ بأمر يرجع إليه، وأنه إنما يعرف سلامة طريقه من النقص بعد أن يعرف كون الاعتقاد الحاصل عنها علماً.
شبهته رحمه الله هو أنا لا يمكن من تعريف الغير بأن اعتقادنا علم وأن اعتقاده ليس بعلم إلا ببيان سلامة طريقنا دون طريقه.
والجواب عليه: أن هذا لا يوجب ما ذكره؛ لأنا لو أمكننا أن نعرف الغير بسكون أنفسنا لكان ذلك هو الواجب.
والذي يبطل قول الجاحظ: أن الجاهل إنما يتصور بصورة ساكن النفس بدليل أنه لو شكك عليه لبطل(1) اعتقاده.
فصل
وهذا الحكم ـ أعني سكون النفس الذي به فارق العلم غيره ـ يعلم ضرورة عن الشيخ أبي عبد الله، سواء كان الاعتقاد المقتضي له ضرورياً أو استدلالياً.
وقال الجمهور: يعلم ضرورة إن كان المقتضي له ضرورياً، أو استدلالاً إن كان المقتضى له استدلالياً. حجة أبي عبد الله أن كل حكم ضروري يثبت في موضع بطريق، فإنه يثبت بها في سائر المواضع.
واعترضه الجمهور بأنه اعتماد على مجرد الوجود، ويمكن أن يحتج لصحة مذهبه بأنه لا يمكن الإشارة إلى من يجعله دليلاً على أنفسنا ساكنة.
وبعد، فكان يلزم صحة أن ينظر أحدنا في الدليل على الوجه الذي يدل فيعلم المدلول ولا يعلم أن نفسه ساكنة بأن لا ينظر في هل هي ساكنة أم لا، أو بأن ينظر في ذلك لا على الوجه الصحيح. وعلى الجملة فلا بد أن يكون محوزاً حال النظر في ذلك، وقد ثبت أن أحدنا عند أن يحصل له العلم لا شك في سكون نفسه.
__________
(1) . في نسخة: لاضطرب.
وبعد فأحدنا يجد نفسه ساكنة من دون نظر، وبعد وكان يلزم التسلسل في الأدلة، فإذا علمنا الشيء بدليل احتجنا إلى دليل آخر على أن أنفسنا ساكنة، ثم إذا نظرنا في ذلك الدليل الآخر فعلمناه وسكنت أنفسنا احتجنا في ذلك السكون إلى دليل آخر على أن أنفسنا ساكنة، وهلم جراً.
وإن قال الجمهور: إن الدليل الذي يحصل به العلم بالمدلول والعلم سكون النفس واحد، وكذلك النظر واحد، فلا يلزم التسلسل في الأدلة ولا التجويز حال العلم بالمدلول.
وقيل لهم: هذا على بعده يلزم عليه كون النظر مولداً لعلمين مختلفين، العلم بالمدلول والعلم بسكون النفس إليه.
على أن أحدنا إنما يجد نفسه طالبة للعلم بالمدلول حال النظر ولا يجدها طالبة للعلم بسكون النفس.
حجة الجمهور: أنه إذا كان الاعتقاد استلالياً فبالأولى ما هو مقتضى عنه؛ لأنه كالفرع له.
ولأبي عبد الله أن يجيب بأنكم إن أردتم بكون سكون النفس استدلالياً أنه مقتضى عن علم /10/ استدلالي، فهو صحيح، لكن ذلك لا يمتنع من كونه معلوماً بالوجدان من النفس وإن أردتم بكونه استدلالياً أن النظر الأول يولده أو أنه يحصل بنظر مستأنف فهو محل النزاع.
قالوا: كان لا يصح زوال العلم الاستدلالي قط بعد حصوله؛ لأن أحدنا يضطر فيه إلى سكون النفس. وله أن يقول بل يصح زوال العلم الاستدلالي، لكن إذا زال ما هو مقتضى عنه، وهو سكون النفس النفس، وإذا زال سكون النفس زال العلم الضروري المتعلق بسكون النفس؛ لأن الله تعالى لا يحدد فينا اعتقاداً ضرورياً يتعلق بالشيء، لا على ما هو به.
فصل كل ما لا يعلم استدلالاً يجوز أن يعلم ضرورة مطلقاً، وكل ما يعلم ضرورة يجوز أن يعلم استدلالاً بشرط زوال العلم الضروري إذا لم يكن من كمال العقل.
وقال قوم: يجوز مطلقاً في الطرفين، ويبطله أن من حق الاستدلال التجويز الاستحالة أن ينظر الإنسان فيما هو قاطع فيه.
وقال الشيخ أبو القاسم: لا يجوز في واحد من الطرفين، وجعل العلم بالله تعالى في دار الآخرة استدلالياً، لكونه في الدنيا كذلك. لنا أما الأول فلأنا إذا قدرنا على العلم فالله تعالى عليه أقدر، فيصح كونه ضرورياً.
وأما الثاني: فلأنه إذا زال العلم بالشيء ضرورة لم يمكنا أن نعلمه إلا بالاستدلال.
وأما قوله في أهل الآخرة، فباطل؛ لأن الاستدلال لا يصح إلا مع التجويز، وفي ذلك يتغيض على أهل الجنة، ويتعيش على أهل النار لتجويزهم الجميع انقطاع ما هم فيه حال النظر.
وبعد فكان يجوز أن لا يختار أهل النار المعرفة، وليس له أن يقول هم ملجئون إليها، لأن الإلجاء بنا في التكليف، وهم عنده مكلفون، وإن كان التكليف في حقهم باطلاً، وإلا وجب أن يكون لهم طريق إلى الانتفاع بما كلفوه، فيؤدي إلى أن يستحق أهل النار ثوباً بالطاعة، وأن يستحق أهل الجنة الذم والعقاب إن عصوا وأن تلحقهم مشقة.
فصل
وللعلم بكونه علماً حال تثبت بالفاعل، وقيل حكم وقيل لا حكم ولا حال.
لنا: إنه قد شارك سائر الاعتقادات في كونه اعتقاداً ومتعلقاً وموجباً لمن اختص به وانفرد باقتضائه لسكون النفس، فلا بد من أمر له يثبت التفرقة، وهو إما فاعل ولا يصح لفقد الاختيار، والأصح أنه يجعل الجهل كذلك.
وأما معنى وهو باطل /11/ لفقد الاختصاص والمخصص.
وأما حكم وهو باطل لأنا نعلم هذه التفرقة من دون اعتبار غير، ولا ما يجري مجراه.
وأما صفة واجبة وهو باطل لمشاركة سائر الاعتقادات له في ذلك.
وأما صفة جائزة وهو المطلوب.
فصل
والمؤثر في هذه الحالة هو الفاعل للاعتقاد بواسطة وقوعه على أحد الوجوه التي سنذكرها؛ لأنه إما أن يكون علماً لجنسه أو لصفة جنسه كما يقوله الشيخ أبو القاسم أو لوجوده أو لحدوثه على وجه أو لمعنى أو لمجرد اختيار الفاعل أو بالفاعل بواسطة أحد هذه الوجوه المذكورة.
والأربعة الأقسام الأولة باطلة لحصولها في سائر الاعتقادات.
والخامس باطل لفقد الاختصاص. والسادس باطل، لفقد الاختيار عند زوال الوجوه.
والسابع هو المطلوب.
فصل
والوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علماً ستة:
أحدها: وقوعه عقيب النظر، والواسطة هنا هو النظر عند ابن متوّيه، وكونه باطراً عند أبي رشيد.
حجة ابن متويه: أنه لو كان المؤثر كونه باطراً للزم إذا فعل الله، في أخذنا نظراً، وكان العلم الحاصل عنه من فعله تعالى أن يكون قد أثرت صفة أحدنا في فعل الله تعالى.
وأجيب عن أبي رشيد بأن الصفة إنما تؤثر حيث يمكن تعليق الحكم بها لا في كل موضع، وهاهنا قد صار وقوعه من فعل الله وجهاً في كونه علماً فلم يمكن تعليق ذلك في الصفة وهذا حسن، لأنه لا يكفي في الدلالة على أن الصفة هي المؤثرة، وأن كفى في جواز ذلك وفي تضعيف استلال ابن متويه رحمه الله تعالى فإذا الأولى في الاستدلال أن يقال أن النظر إذا أثر في الصفة فهو مؤثر في ما تؤثر فيه الصفة إن ثبت لها تأثير، وأيضاً فإذا أثر في الاعتقاد كان أولى أن يؤثر في وقوه على وجه كسائر وجوه الأفعال.
الوجه الثاني: أن يقع عقيب تذكر النظر والاستدلال كعلم المنتبه من رقدته، والمؤثر هنا إما أن يكون نظراً مستأنفاً أو النظر الأول أو تذكره، والأول باطل؛ لأن العلم يحصل أول حالات الانتباه والنظر يحتاج إلى وقت ممتد، ولأن أحدنا لا يجد نفسه ناظرة، والثاني باطل لأن النظر إنما يولد في بأبي وجوده وهاهنا أوقات كثيرة بقي أن يكون المؤثر تذكره للنظر وتأثير التذكر إنما هو على جهة الدعاء لا على جهة الإيجاب؛ لأن الذكر علم ضروري، فلو أوجب لكان علم المنتبه من فعل الله تعالى، ولأن الذكر قد يكون من مجموع أمور، فلا يصح تأثيرها في شيء واحد.
والوجه الثالث: أن يقع من فعل العالم بالمعتقد كالعلم الذي يفعله الله تعالى في أحدنا، وكما إذا فعل أحدنا في نفسه اعتقاداً مبتدأ بما هو عالم به، فإن ذلك يؤثر في كونه علماً تأثير دعاء أيضاً؛ لأن الله تعالى كما يقدر على أن يفعل فينا اعتقاداً مطابقاً يقدر على أن يفعل اعتقاداً غير مطابق، ولا يجوز أن يكون المؤثر كونه مريداً والأوجب إذا أراد أحدنا كون الجهل علماً أن يكون كذلك ولا أن يكون المؤثر كونه قادراً والأوجب في كل قادر أن يكون اعتقاده علماً.
الوجه الرابع: زاده الشيخ أبو عبد الله، وهو وهو إلحاق التفصيل بالجملة كمن يعلم كل ظلم قبيح لم يعلم في فصل معين أنه ظلم، فإن هذين العلمين يدعوا انه إلى فعل علم ثالث بقبح هذا الظلم المعين إلحاقاً للتفصيل بالجملة، وهذا لا يستقيم على أصل أبي هاشم؛ لأن الجملي هو التفصيلي عنده، لكن لم يكن متعلقاً، ثم تعلق.
وأما الشيخ أبو الحسين فإنه يجعل العلم الثالث الذي هو التفصيلي متولداً عن العلم الجملي.
قال: لأنه لو حصل بالداعي لجاز حصول صارف يقابل الداعي، وكان يلزم لو خلق الله في أحدنا علماً ضرورياً بأنه إن فعل هذا العلم الثالث أدخله النار أن لا يعلم قبح الظلم المعين مع العلم بأنه ظلم وأن كل ظلم قبيح ومعلوم خلاف ذلك وإن كان قد التزمه بعض معتزلة الرّيّ.
واعلم أن هذا الإلزام متوجه، فإما قوله أن الجملي يولد التفصلي، فهو لا يستقيم على أصول البهاشمة؛ لأن الاعتقاد عندهم لا يولد الاعتقاد.
قالوا: لأنه لو ولده لولده في محله إذ لا جهة له، ولولده في الوقت الأول إذ لا مقتضي لتأخره، فكان يلزم وجود ما لا يتنافى من العلوم في حالة واحدة، إذ لا وجه يقتضي الحصر. وأيضاً فليس العلم الجملي بأن يولد اعتقاداً أولي من صده، ولأبي الحسين أن يقول ما قولكم يولد ما لا يتناهى، فلا يلزم؛ لأن المولد عندي هو الجملي لا كل علم، وهو أن ولد في الوقت الأول، فالمبق له تفصيلي، والتفصيلي لا يولد عندي، فلا يلزم وجود ما لا يتناهى.
وأما قولكم بأن يولد اعتقاداً أولي من صده فلا يلزم أيضاً كما لا يلزم في النظر إذا ولد العلم أن يولد ضده. إذا ثبت هذا فالأقرب /13/ ـ والله أعلم ـ إن لم يصح ما قاله أبو الحسين من كون، الثالث متولداً أن يكون ضرورياً من جهة الله تعالى بفعله ابتداء عند حصول العلمين الأولين.
فإذا قيل: طريقة العادة، فكان يجوز أن لا يفعله الله تعالى بأن تختلف العادة.
قلنا: هو كذلك، لكنه معدود في كمال العقل، فيكون العلم بقبح الظلم المعين في ذلك كالعلم بقبح الظلم على الجملة، وليس لزوم زواله عند أن لا يختار الله فعله بأبلغ من لزوم زواله عند حصول صارف يزيد على الداعي.
الوجه الخامس: زاده أبو عبد الله أيضاً وهو يذكر العلم، فإذا ذكر أحدنا أنه كان عالماً ثم فعل اعتقاداً، كان ذلك الذكر وجهاً في كونه علماً، وهذا إنما يستقيم على مذهبه في أن العلم بالعلم ليس علماً بالمعلوم، وإليه ذهب القاضي وأبو إسحاق.
فأما الشيخان أبو علي وأبو هاشم، فعندهما أن العلم بالعلم علم بالمعلوم، فإذا علم أحدنا أنه عالم بالشيء فقد علم الشيء ولا حاجة إلى فعل علم آخر.
والحق ما قاله أبو عبد الله وإلاّ لزم، إذا ذكر أحدنا أنه كان عالماً بالله، وقد ثبت أن الذكر علم ضروري أن يكون قد علم الله ضرورة.
الوجه السادس: خرج على مذهب أبي هاشم وهو أن يعتقد أحدنا تقليداً أن زيداً في الدار، ثم يبقى هذا الاعتقاد إلى أن يشاهده فيها، فإنه يصير وجهاً في كون ذلك الاعتقاد علماً؛ لأنه من فعل العالم بالمعتقد، وهذا مبني على مذهبه في بقاء الاعتقادات، وقد ذهب الجمهور إلى أنها لا تبقى.
وقال أبو علي: يبقى الضروري دون المكتسب.
حجة الجمهور: أن الباقي لا ينفى إلا بضد أو ما يجري مجراه، وأحدنا خرج عن كونه عالماً لا الضد، ولا إلى ما يجري مجراه، والشك والسهو ليسا معينين.
وبعد فلو بقيت العلوم لما احتاج أحدنا إلى تكرار الدرس، ولوجب في من سمع سباً أن يحفظه ولا يزول عنه.
فصل
قد يحتاج العلم إلى العلم إما لكونه أصلاً له كاحتياج العلم بالحال إلى القلم بالذات، وإما لكونه طريقاً إليه كاحتياج العلم بكونه تعالى موجوداً إلى العلم بكونه قادراً، والفرق بين أصل الشيء وطريقه أنه لا يصح حصوله من دون أصله، ويصح حصوله من دون طريقه، ولهذا يصح /14/ أن يخلق الله تعالى فينا علماً ضرورياً بكونه موجوداً، وإن لم يعلم كونه قادراً، ولا يصح أن يفعل فينا العلم بصفة الذات دون العلم بالذات.
فصل
والعلوم قد تماثل وقد تختلف، ولا يضاد الاستحالة تعلق العلم بالشيء لا على ما هو به، وذلك شرط التضاد.
ويعرف تماثلها باتحاد المتعلق، والوجه والطريقة والوقت، كأن يعلم زيداً على صفة مخصوصة في وقت مخصوص جملةً أو تفصيلاً، فإنها تكون متماثلة لاتفاقها في أخص ما يثنى عن صفة ذاتها ولتماثل موجبها، ولأن الضد الواحد يبغيها كلها، ويعرف الاختلاف بتعدد(1) أحد هذه الوجوه المذكورة، ولم يشترط ابو هاشم إيجاد الطريقة بناء على مذهبه في أن العلم الجملي لا يتعلق ولا اشترط اتحاد الوقت بناء على مذهبه في بقاء الاعتقادات.
__________
(1) . في نسخة: بتعدن.