قلنا: يجوز ذلك، ولكنها متى طلعت والتعلق باق صار العلم جهلاً لتعلقه بالشيء لا على ما هو به، وذلك جائز، وهو يريده الشيوخ بقولهم أن العلم من جنس الجهل، وهذا الجواب كله إنما يستقيم على القول ببقاء العلوم، فإما مع القول بأنها لا تبقى فالقول ما قاله أبو الحسين من أنهما علمان، ولا بد للجمهور من الاعتراف بذلك.
قال أبو الحسين رحمه الله تعالى: العلم بأن الشيء سيوجد لا يقوم مقام العلم بوجوده، ولهذا يشك في أنه هل وجد حيث لا يشك في أنه سيوجد.
ويمكن الجواب بما تقدم من أنه علم واحد، ولكن له تعلقات لا يقوم أحدهما مقام الآخر. قال رحمه الله تعالى: اختلاف المتعلق عندكم يدل على اختلاف العلوم، وهذه المتعلقات مختلفة من حيث أن كون الشيء مما سيوجد مخالفاً لكونه مما وجد، وفي اختلاف العلوم تغائرها، ويمكن الجواب /121/ بأن اختلاف المتعلق إنما يدل على اختلاف العلوم إذا كانت علوماً، فأما وهو علم واحد فاختلاف متعلقه إنما يدل على اختلاف التعلق، ونحن نلتزمه كما تقوله أنت في تعلق الذات بالمعلومات.
شبهتهما من جهة السمع قوله تعالى حتى نعلم المجاهدين منكم، وقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً}، ونحوها من الآيات.
والجواب إما مع القول بتجدد التعلق فلا كلام، وأما مع القول بأنه لا يتجدد، فقد تقدم أن العلم في اللغة يستعمل بمعنى العالم، والمعلوم فقط، فيكون تقديره حتى يقع الجهاد المعلوم، والآن وقع الضعف المعلوم، إلا أن هذا ما لا يطرد في نحو قوله تعالى: {ليعلم الذين نافقوا..} الآية، فكيف يكون غرض الحكيم وقوع النفاق. وأما قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى}، وقوله تعالى: {لعلكم تتقون}، ونحو ذلك، فلا يدل على جهله تعالى في تلك الحال؛ لأن لعل هنا ليست بمعنى الترجي، وإنما هي بمعنى كي فطرب، وأبو علي، واستشهدا قول الشاعر:
نكف ووثقتم لنا كل موثق .... فقلنا لهم كفوا الحروب لعلنا
وقال غيرهما: معناه قولا له قول راج لتذكره، فالترجي راجع إلى موسى وهارون عليهما السلام، وكذلك قوله تعالى: {لعلكم تتقون}، معناه اعبدوا عبادة متق إلاَّ أن هذا لا يشمل مواقع لعل في القرآن من نحو عفونا عنكم لعلكم تشكرون.
وقد قيل في معناه أنه تعالى شبه ما فعله لنا من الألطاف والتكليف بفعل التراخي الطامع في صلاحنا، وإن لم يكن رجاء حقيقياً وشاهده قوله تعالى: وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، أي تفعلون فعل راج للخلود طامع فيه وإن كنتم تعلمون أنه لا خلود.
فصل في أنه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع ما لم يزل، وفي ما لا يزال،
وقد زعم جهم أنه تعالى لا يعلم المعدومات، وبه قال ابن الحكم.
لنا: أما على القول بأنها ذاتية فظاهر لما تقدم من أن خروج الموصوف عن صفة ذاته، لا يجوز، وإما على القول بأنها مقتضاة فلأنها مقتضاة بشرط مستدام، فأما كونه مدركاً فإنها مقتضاة بشرط متجدد، وهو وجود المدرك، فلذلك لم يثبت في ما لم يزل.
فصل في أنه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات
يدل عليه أنه يصح أن يعلمها أجمع لأنه تعالى حي، وإذا صح وجب؛ لأن المصحح ملازم للموجب، وهو ذاته تعالى أو ما هو عليه في ذاته بخلاف الواحد منا، فإنه وإن صح أن تعلمها أجمع لكن لا يجب من حيث ان المصحح هو كونه حياً، والموجب هو العلم، ولا تجب ملازمة الموجب للمصحح.
وبعد فالله تعالى عالم لذاته ولا اختصاص لذاته /122/ بمعلوم دون معلوم، فيجب أن يعلمها أجمع، فإذا وجب أن يعلمها أجمع فإنه يجب أن يعلمها على الوجوه التي يصح أن يعلم عليها من جملة وتفصيل، ومشروط وغير مشروط، وقد ذهب الشيخ أبو هاشم إلى أن الله تعالى لا يعلم جملة، وإنما يعلم مفصلاً، وهو مبني على مذهبه في أن الجملي هو التفصيلي، وذهب جهم إلى أنه تعالى لا يعلم الشيء مشروطاً. قال: لأنه يعلم هل يحصل الشرط أم لا.
لنا أنه تعالى أخبر محمداً عليه السلام بأنه إن أشرك حبط عمله، بأن محمداً لا يشرك ينافي علمه بأنه إن أشرك حبط عمله، ومثل هذا أخباره عليه السلام بأن صلة الرحم تزيد في العمر ونحو ذلك.
فصل
في أن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات دليله ما تقدم في أنه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات سواء، ولكن الفرق من جهة الأعيان والأجناس، فإنه تعالى يعلم جميع الأعيان لصحة معلوم بين عالمين، ولا يقدر على أعيان مقدورات العباد لامتناع مقدور بين قادرين، ولكنه يقدر على أجناسها، وهذا هو مذهب الجمهور من الشيوخ، وذهب أبو الهذيل ومحمد بن شبيب وأبو يعقوب وأبو الحسين ومحمود وأكثر أهل الجبر إلى مقدور بين قادرين.
والخلاف في هذه المسألة واقع من طريقين: أحدهما في مقدور بين قادرين من جهة واحدة بأن يكون له وجود واحد يتعلق بالقادرين، والثانية في صحة مقدور بين قادرين من جهتين بأن يكون له وجودات كثيرة تتعلق بعضها بقادر، والبعض الآخر بقادر آخر.
أما الطريق الأولى فاستدل الجمهور على امتناعها بأن حكم كل قادرين صحة اختلافهما في الدواعي، وإلا لم يفترق الحي الواحد من الحيين، فكان يصح أن يدعو زيداً الداعي إلى إيجاد فعل، ويصرف عمراً الصارف عن وجوده، فيكون موجوداً من جهة زيد؛ لأن حق القادر أن يقع فعله عند توفر دواعيه، ومعدوماً من جهة عمر، ولأن من حق القادر أن لا يوجد فعله عند صارفه فيكون موجوداً من جهة زيد معدوماً من جهة عمر، وكون الفعل الواحد موجوداً معدوماً محال.
واعترض بأنه إنما يكون موجوداً فقط؛ لأن معنى كونه معدوماً من جهة عمرو هو أنه يجب أن لا يقع من جهته عند توفر صوارفه، وليس كونه غير واقع من جهته يمنع كونه واقعاً من جهة غيره، وحال وقوعه من جهة زيد يخرج عن كونه مقدوراً لهما جميعاً؛ لأنه قد وجد.
وأجاب المتأخرون من أصحابنا بأنه يجب أن يكون موجوداً معدوماً من جهة كل واحد منهما لأنا إذا فرضنا مقدور زيد وجوده ومقدور عمرو لا يوجد وفرضنا أن كل واحد /123/ من هذين المقدورين يتعلق بالقادرين كليهما لزم صحة حصول المقدورين من كل واحد من القادرين فيوجد ولا يوجد من جهة كل واحد منهما.
قالوا: وله مثال أجلى من هذا وهو أن يريد زيد إيجاد حركة في هذا الجوهر، ويريد عمرو إيجاد سكون فيه، وكل واحد من الحركة والسكون متعلق بكل واحد من القادرين، ويكون متحركاً من جهة زيد من حيث أراد تحريكه، وساكناً من جهته من حيث أنه مقدور عمرو متعلق به، وكذلك العكس، ويمكن أن يعترض بأن الحركة والسكون إنا تتعلقان بزيد على البدل، وكذلك بعمر فإذا وجدت الحركة من جهة زيد لتوفر دواعيه لم يلزم أن يوجد السكون من جهته؛ لأنه إنما كان مقدوراً له قبل وجود الحركة، وهذا حكم كل ضدين يتعلقان بالقادر سواء تعلقا بقادر آخر أم لا.
دليل آخر للجمهور، قالوا: لو وجد عند توفر دواعي زيد مع قيام صارف عمرو لكان عمرو فاعلاً له مع كراهته له؛ لأنه وجد ما كان قادراً عليه، وذلك هو حقيقة الفاعل، ويمكن أن يعترض بأنه إنما يكون فاعلاً إذاوجد ما كان قادراً عليه من جهته، وذلك من تتمة حد الفاعل. دليل: قال الجمهور لو وجد الفعل من جهة قادرين لما انفصل عن وجوده من جهة قادر واحد إذ لم يختص أحدهما بتأثير ليس للآخر.
واعترضه ابن الملاحمي بأن الفصل يظهر بالتمانع فيكون الفعل الصادر من قادرين أولى من ضده الصادر من قادر واحد.
وفيه نظر إلا أن يبني على تزايد الوجود وسيأتي في الطريق الثانية.
قال: وكلام الجمهور معارض بطروّ جزئين من البياض على جزء من السواد، فإنهما ينفيانه على حد لا ينفصل عن انتفائه بأحدهما.
دليل: قال الجمهور، لو تعلق الفعل بقادرين لصح أن يقدر الله تعالى عليه مبتدأ ولا يقدر أحدنا عليه إلا مسبباً، وفي ذلك كونه محتاجاً إلى المسبب غير محتاج.
واعترضه ابن الملاحمي بأنه لا يمتنع احتياجه إلى السبب في حال دون حال، وبهذا اعترض قولهم لو تعلق بقادرين لما صح أن يوجداه في محل قدرتيهما، وإلا كان مثلاً للتأليف، وإذا فعله أحدهما مباشراً والآخر مسبباً أدى إلى أن يكون محتاجاً إلى السبب غير محتاج.
وأما الطريقة الثانية، فقد استدل الجمهور على امتناعها بأنه لو تزايدت الوجودات حتى يصح تعلق بعضها بقادر والبعض الآخر بقادر آخر لصح أن يدعو أحد القادرين الداعي إلى الإيجاد دون الآخر فيكون موجوداً معدوماً.
قال أبو الحسين: أيلزمون الخصم التسمية أو المعنى، وكلاهما لا يلزم، أما التسمية للخصم /124/ أن يقول إلى اسمية موجوداً لحصول صفة الوجود له، ولا اسمية معدوماً لانتفاء صفة الوجود الأخرى كما اسمى الجوهر أسود لحصول سواد فيه، وإن لم يحصل سواد آخر، وكذلك اسمية كائناً لحصول كائنية فيه، وإن لم تحصل كائنية أخرى.
وأما المعنى فللخصم أن يقول أتريدون بكونه موجوداً معدوماً أنه حصل علىإحدى صفتي الوجود دون الأخرى فهو صحيح فما المانع منه أو تريدون أنه ليس له صفة وجود قط، فغير صحيح؛ لأنه كيف يقول القائل إذا كان لهذا الشيء صفة وجود بأحد القادرين لم يكن له صفة وجود قط، وهل هذا إلا كأن يقول إذا كان زيد في الدار لم يكن في الدار.
دليل: قال الجمهور: لو تزايدت صفة الوجود وحصل بعضها لم يكن بأن تظهر عندها الصفة المقتضاة أولى من أن لا يظهر.
واعترضه ابن الملاحمي بأن ظهورها أولى لحصول الوجود الذي هو شرط، ولا يضر فقد صفة أخرى، لو حصلت لكانت شرطاً كما أن الحياة شرط في العلم، ومتى حصلت صح وجود العلم، وإن فقدت حياة أخرى. ومتى قيل له أن الوجودات كلها شرط، أجاب بأن هذا وإن كان ضعيفاً فإنه يبطل السؤال من أصله؛ لأنه يصير عدم ظهور المقتضاة أولى لفقد شرطها، وهو جميع الوجودات فلا يستقيم قولهم في الدليل لا يكون بأن تظهر عند بعض الوجودات أولى من أن لا تظهر.
دليل: قال الجمهور لو جوزنا تزايد صفة الوجود لكنا قد جوزنا صفة حصولها كان لا يحصل، وذلك محال.
ويمكن أن نعترض بما تقدم من أن لحصولها تأثير في المنع، ويمكن الجواب بأنه لو كان كذلك لصح أن يمنع أحدنا عشر حركات تحركه واحدة لها عشر وجودات. ويمكن أن يعترض بأنكم إن أردتم عشر وجودات من عشرة قادرين، فصحيح على مذهب الخصم وإن أردتم بقادر واحد، فكيف يصح وعندكم أن القدرة الواحدة لا تتعدى على التفصيل الوجود الواحد.
والأحسن في الجواب أن يقال أن التمانع يقع لا لأجل التنافي والتنافي هو لأجل الصفة المقتضاة، وهي لا تتزايد اتفاقاً، فلا يكون لتزايد الوجود تأثير في المنع؛ لأن المنع يستند إلى ما يتزايد فيكون تزايد الوجود كلا تزايد ويستقيم الدليل.
دليل: قال الجمهور: لو صح تزايد الوجود حال الحدوث لصح حال البقاء، ولصح أن يبدأ أحد القادرين فيكسب الفعل صفة وجود، ثم يأتي، قادر آخر بعد فيكسبه وجوداً آخر حال بقائه، وفي ذلك اتخاذ الموجود وهو محال.
ويمكن أن يعترض بأن ما تعلق بالقادرين يتبع حال الحدوث، فلا يصح تزايد الوجود حال البقاء.
فصل
لا معنى لمكالمة أهل الجبر في مقدور بين قادرين وإن كانوا يقولون به.
أما الجهمية فلأنهم يجعلون القادر واحداً وهو الله تعالى. وأما أهل الكسب فهم كالجهمية سواء في المعنى وإن خالفوا في العبارة، وكذلك اهل القول بالقدرة الموجبة من حيث أن فاعل السبب فاعل المسبب، وإذا كان عند جميعهم أنه لا فاعل إلا الله فلا معنى لقولهم مقدور بين قادرين.
شبهتهم أنه إذا أقدرنا الله تعالى على فعل فهو بأن يقدر عليه أولى. والجواب معنى أن الله تعالى أقدرنا عليه عندكم أنه خلق فينا الفعل وخلق فينا قدرة مقارنة له أو خلق فينا قدرة موجبة له، وإذا كان كذلك لم يكن قد أقدرنا عليه، وإلا لزم أن يكون قد أقدر المرمي به من شاهق على الهُوِيَّ بأن خلق فيه قدرة مقارنة له أو فعل فيه ما يوجبه، وهو الثقل، وكل هذا باطل، فأما على أصلنا فهو تعالى وإن أقدرنا على الفعل لم يلزم من ذلك أن يكون قادراً على متعلق تلك القدرة لاستحالة ذلك لولا هذا لوجب إذ خلق فينا شهوة متعلقة بشيء أن يكون هو مشتهياً له أولى وأحرى.
وأرك من هذه الشبهة قولهم إذا صح مملوك بين مالكين صح مقدور بين قادرين؛ لأن المعنى كون المملوك بين المالكين أن لكل واحد منهما أن يصرفه نوعاً من التصرف ويستخدمه نوعاً من الاستخدام، وما فعله المملوك لأحدهما غير ما فعله للآخر، ويقال لهم: إذا جاز تعلق المقدور بقادرين من جهتين حدوث وكسب فهلا جاز تعلقه بهما من جهة واحدة كالمراد والمعلوم.
ويقال لهم: هلا صح أن يتعلق بأكثر من قادرين فلم منعتم منه، وقد فقد الحاضر كالمراد والمعلوم والمملوك.
ويقال لهم: إذا جاز فعل من فاعلين فهلا جاز ظلم من ظالمين، وكذب من كاذبين، وكلام من متكلمين، ونحو ذلك.
فصل
إن قيل: المجوزون من شيوخكم مقدوراً بين قادرين بماذا يعلمون أن أفعالهم منهم لا من الله تعالى، وهلا جاز أن يكون كلام أحدهم منه ومن الله تعالى وسائر أفعاله.
والجواب: أن هذا السؤال لا يختص المجوزين المقدور بين قادرين، بل يقال للجمهور أيضاً: ما أنكرتم ان يكون الله تعالى فعل فيكم مثلا كلامكم، ومثل مشيئتكم، فالمانع من ذلك شامل على المذهبين جميعاً. وقد ادعى المجوزون لمقدور بين قادرين وغيرهم الضرورة في الفرق بين فعلهم وبين ما يفعل فيهم.
واستدل الباقون بطريقين إحداهما أنا نعلم ضرورة وقوف أفعالنا على أحوالنا، ولو كانت مفعولة فينا لكنا محمولين عليها.
والثانية دليل العدل والحكمة وسيتضح.
القول في أن الله تعالى مريد وكاره
المريد: هو المختص بصفة لمكانها يصح أن يوقع الفعل على وجه دون وجه إذا كان مقدوراً له.
قلنا: إذا كان مقدوراً له ليدخل كونه مريداً لفعل الغير، فالكاره هو المختص بصفة لمكانها يصح منه إيقاع كلامه نهياً ونحوه، وكان أبو علي وأبو هاشم أولاً يحدون المريد بأنه من وجدت إرادته بحيث تتعاقب هي وضدها.
ويبطله ما ثبت من صحة خلق الحي عن الإرادة والكراهة، وعن الشيء وضده وايضاً فقد يعلم المريد من لا يعلم الإرادة، وإلا كنا لا نحتاج إلى إقامة الدلالة على الإرادة بعد العلم بالمريد.
وحده أبو القاسم بأنه فاعل الإرادة، ولهذا لم يقل بأن الله تعالى قادر على الإرادة لما كان غير مريد على الحقيقة عنده، ويبطله أنه ليس للفاعل بكونه فاعلاً حال بخلاف المريد، وبأنه كان يلزم صحة أن يفعل الإرادة في جزء من قلبه ، والكراهة في جزء آخركالحركة والسكون، وأيضاً فأحدنا يجد من نفسه كونه مريداً بل قد يضطر إلى ذلك من غيره، وإن لم يخطر بباله الفعلية، وأيضاً فالمرجع بكون أحدنا مريداً إلى الشهوة عنده وهي غير مقدورة لنا.
فصل
وللمريد بكونه مريداً حال، وكذلك الكاره، والعلم بها على الجملة ضروري، فإن أحدنا يجد من النفس التفرقة بين كونه مريداً وبين كونه غير مريد، وقد يضطر إلى ذلك من غيره، وإنما الخلاف في تفصيلهما، فذهب جمهور شيوخنا إلى أنها زائدة على الداعي، والداعي والصارف، وقال الكعبي والبغدادية: المرجع بهما إلى الشهوة والنفرة.
لنا ما تقدم في نظائره من أنه لا يمكن المرجع لهذه التفرقة إلا إلى حال.
وبعد فقد ثبت استحالة كون أحدنا مريداً للشيء كارهاً له، وإن اختلف محل الإرادة والكراهة فلا وجه لذلك إلا حصوله على صفتين ضدين، وبعد فلكونه مريداً تأثير في وقوع الفعل على الوجوه المختلفة فلا بد من حالة ترجع إلى الجملة ويبطل قول ابن الملاحمي أن إرادة القبيح وكراهة الحسن يقبحان بخلاف الداعي إلى القبيح والصارف عن الحسن حيث يكونان من قبيل العلوم لا سيما الضرورية، وبعد فالإرادة والكراهة تتضادان بخلاف الداعي والصارف، ولهذا يجتمع الداعي والصارف في الطعام المسموم في حق الجائع.
ومن قوي ما يمكن أن يقال له أن داعي القديم ثابت في ما لم يزل، ومعلوم أنه غير مريد في ما لم يزل، وإلا كان مريداً لذاته، والمعنى قديم وهو لا يقول به.
ويبطل قول البغداديين /127/ أن الشهوة والنفار لا يكونان إلا حسنين بخلاف الإرادة، وكذلك الشهوة والنفار غير مقدورين بخلاف الإرادة والكراهة، ويتعديان في التعلق في جميع الأجناس المدركات والإرادة والكراهة لا يتعديان الحدوث وتوابعه في المدرك وغيره، وإنهما يثبتان مع السهو والنوم بخلاف الإرادة والكراهة ويستحيلان على الله تعالى بخلاف الإرادة والكراهة ولا يتعلقان إلا على التفصيل بخلاف الإرادة والكراهة ولا يؤثران في وقوع الفعل على وجه بخلاف الإرادة والكراهة. وبعد فأحدنا يريد ما لا يشتهيه كشرب الأدوية الكريهة والفصد، ويشتهي ما لا يريده كالزنا وشرب الخمر والأكل في رمضان.
فصل
وهذه الصفة تثبت لمعنى هو الإرادة؛ لأنها تثبت مع الجواز والحال واحدة والشرط واحد، فلا بد من أمر، وليس إلا وجود معنى على ما مر في نظائره.
فصل
وحيث لا تعلم هذه الصفة ضرورة فإنا نعلم ثبوتها في حق المختص بها بطريقين:
إحداهما: أن العالم بما يفعله إذا كان فعله مقصوداً في نفسه ولم يمنع من إرادته فإن الذي يدعوه إلى فعله يدعوه إلى إرادته، وذلك ضروري في الشاهد، فإن الذي يدعوا أحدنا إلى الأكل يدعوه إلى إرادته.
واعتبرنا أن يكون عالماً بما يفعله أي ليس في حكم الساهي عنه؛ لأنه متى كان ساهياً عنه استحال أن يريده، فضلاً عن أن يحب إرادته، واعتبرنا أن يكون الفعل مقصوداً في نفسه احترازاً مما يسمى جنس الفعل، وهو الذي لا يقع إلا على وجه واحد، ولا يفتقر في وجوده إلى أزيد من القدرة من القدرة كالإرادة نفسها، وكرد الوديعة ونحو ذلك، فإنه لا يجب أن يراد وإن صح ذلك، وكذلك الألم الحاصل عند القصد وانتقاص التراب عند الجلد.
وبالجملة فكل ما يفعل تبعاً لغيره أو لا يقع إلاَّ على وجه واحد واعتبرنا ألا يكون ممنوعاً من إراته احترازاً مما يدعوه الداعي إلى الأكل ويمنع من إرادته فإنه يأكل لا محالة ولا يحتاج إلى إرادة، وكذلك الواقف على باب الجنة فإنه إذا علم بما فيها من النعيم ومنع من إرادة دخولها وخلق فيه إرادة دخول النار فإنه يدخل الجنة من دون إرادة وأشباه هذا.