ويبطله أنه لو كان تعالى موجوداً لمعنى لكان ذلك المعنى لا بد أن يكون موجوداً، فإما أن يحتاج إلى معنى فيتسلسل أو لا يحتاج، فالله تعالى أحق بأن لا يحتاج إلى معنى، والإجماع واقع قبل هؤلاء على أنه تعالى لا يحتاج في وجوده إلى مؤثر، وأنه واجب الوجود من ذاته، بل قد وافق أكثر الملحدة، /107/ وكذلك وافقت المجبرة في استغناء صفات العلل عن المعاني لكن جعلوا العلة في هذا الاستغناء استحالة قيام المعنى بالمعنى لا وجوبها، وليس بصحيح لأنه إنما يستحيل قيام المعنى بالمعنى إذا فسر القيام بالحلول، فإما بالتفسير الذي يريدونه في هذه المسألة فلا يستحيل قيام المعنى بالمعنى.
طريقة آخرى:
هذه المعاني إما واجبة الوجود من ذاتها وهو باطل بالاتفاق، وإلا كانت آلهة، وإما ممكنة الوجود من ذواتها فيلزم أن تكون محدثة؛ لأن كل ممكن الوجود من ذاته هو مسبوق بالعدم ولا يترجح وجوده على عدمه إلا المؤثر، وهذا هو أصل دليل المخالف على حدوث العالم وإثبات الصانع، فلا يسعهم إنكاره.
وأما ما ذكره الرازي في كتاب الأربعين من أنها ممكنة الوجود من ذاتها واجبة الوجود من غيرها فهو زلل وضلالة؛ لأنه كيف تكون واجبة الوجود من غيرها، وذلك الغير ليس بمؤثر فيها عندهم، وأيضاً فهي ليست بأعيان لله، وأيضاً فهذا يقدح في حدوث العالم وإثبات الصانع بأن يقال له: هلا كان العالم قديماً وإن كان ممكن الوجود من ذاته لصدوره على جهة الإيجاب، وهلا كانت العقول والأفلاك صادرة عن ذات الباري تعالى كصدور هذه المعاني، ويقال أيضاً: إذا كانت الذات أوجبت هذه المعاني عندك، فهلا قلت بأن الذات أوجبت الصفات واسترحت من التكليف لإثبات المعاني لا سيما وفي ذلك مشابهة للقائلين بالعقول والأفلاك.
طريقة أخرى

قد وقع الإجماع، وقامت الأدلة على أن الله تعالى ليس بمحتاج والقول بإثبات معاني قديمة وصف لله بالحاجة على أبلغ الوجوه؛ لأن أهل هذا المذهب متفقون على أن هذه المعاني لو انتفت عن الله تعالى ولم يوجد أضدادها لكان في ذلك عدمه، ولو انتفت مع وجود أضدادها لكان في ذلك غاية النقض بان يصير ميتاً عاجزاً جاهلاً ونحو ذلك، فقد اقتضى هذا القول احتياجه إلى هذه المعاني في وجوده أو كماله حتى لولاها لما وجد أو لما كمل، وذلك أبلغ في الحاجة من الاحتياج إلى الطعام والشراب؛ لأن فقد الطعام والشراب لا يقتضي عدم المحتاج إليها، ولا نقضه، وليس ينجيهم من هذا الامتناع(1) من إطلاق العبارة إذ قد أثبتوا المعنى، وكذلك لا ينجيهم اعتقادهم إن هذا ليس هو معنى الحاجة.
طريقة أخرى:
لا بد لهذه المعاني من صفات لأجلها يخالف مخالفها ويوجب موجبها، ويتعلق بمتعلقها ويضاد ضدها، فأما أن يستحقها لمعان /108/ أخرى فيلزم التسلسل أو لذاتها، فالله تعالى أحق أن يستحق صفاته لذاته، ولا حاجة إلى معان.
فصل
في أنه لا يجوز أن يستحقها لمعان قديمة كما يقوله جمهور المجبرة، وهذا وإن كان قد دخل في ما تقدم لكنا نخصه بالإبطال كما سنخص غيره، فنقول لو استحقها لمعان قديمة لوجب أن يكون امتثالاً لله تعالى لمشاركتها له في القدم الذي هو صفة ذاتية أو كاشفة عن الصفة الذاتية كما سلف، ولو كانت امتثالاً لله تعالى للزم أن يكون بصفتها حتى يكون عالماً، وقدرة، وأن يكون بصفته حتى يكون آلهة قادرة عالمة؛ لأنها قد شراكته في ما يصحح كونه حياً، فأولى أن يشاركه في ما يصححه كونه حياً، وهو كونه قادراً عالماً، وإذا ثبت لها ذلك احتاجت أيضاً في استحقاقها له إلى معان أخر. ويلزم أن يكون بعضها بصفة البعض الآخر حتى يكون العلم علماً وقدرة وحياة، وإذا كان كذلك لزم استغناؤه عنها واستغناؤها عنه، والاستغناء ببعضها عن بعض.
__________
(1) . في نسخة: امتناع.

فإن قالوا: ولم إذا اشترك الشيئان في صفة ذاتية لزم أن يشركا في سائر صفات الذات حتى يلزم التماثل.
قلنا: لأنهما لو اشتركا في صفة ذاتية وافترقا في صفة ذاتية أخرى لكانا مثلين مختلفين لحصول ما يقتضي المماثلة والمخالفة، فإنا قد قدمنا أن المماثلة تقع بالصفة الذاتية بشرط الاتفاق فيها والاختلاف يقع بالصفة الذاتية شرط الاختلاف فيها، وكون الشيئين مثلين مختلفين محال لتأديته إلى أن يكونا موجودين معدومين عند تقدير طرو الضد بان ينفيهما من حيث كونهما مثلين ولا ينفيهما من حيث كونهما مختلفين.
فإن قالوا: هذه المعاني لا تقدوم بنفسها وإنما يلزم المماثلة في قديمين مستقلين يقوم كل واحد منهما بنفسه.
قلنا: إن مع القول بأنها ذوات أو معان يلزم أن تكون قائمة بنفسها مستقلة بالمعلومية لا سيما وليس قيامها بمعنى الحلول عندكم حتى يمكن الفرق بين الحال والمحل على أنها ليست بأن تكون قائمة بالله تعالى أولى من العكس لمشاركتها له في القدم.
فصل في إبطال كل واحد من هذه المعاني على انفراده
أما ما يختص العلم فلأنه لو كان تعالى عالماً بعلم لكان لا بد أن يعلم بذلك العلم على انفراده؛ لأن ما لا يعلم أصلاً لا يمكن إثباته، وما لا يعلم لا على انفراده صفة لا معنى، وكلامنا في جهة استحقاق الصفة لا فيها، وإذا علم على انفراده فإما أن يعلمه الله تعالى بعلم آخر فيؤدي إلى التسلسل أو يعلمه لذاته فيجب أن يعلم جميع الأشياء لذاته إذ لا اختصاص لها ببعض الأشياء دون بعض.
ولا تنقلب علينا في الصفة؛ لأن الصفة لا تعلم على انفرادها.

دليل: لو كان عالماً بعلم /109/ لوجب أن يكون مثلاً لعلومنا إذا تعلق بمتعلقها على أخص ما يمكن لاشتراكهما حينئذ في صفاتهما المقتضاة التي لأجلها تتعلقان، وليس تغاير العالمين يمنع تماثل العلمين كما لا يمنعه في الشاهد، وكما لا يمنعه تغاير المحلين، وإذا كان مثلاً لعلومنا وجب أن يكون محدثاً أو تكون علو منا قديمة، ووجب أ، يضاده ما يضاد علومنا، ولا ينقلب علينا في صفته تعالى، إذا تعلقت بما تتعلق به صفاتنا؛ لأن وجه التعلق مختلف، فتعلقه تعلق العالمين، وتعلقنا تعلق العلوم.
دليل، قد ثبت أن معلوماته تعالى غير متناهية، فإما أن يعلمها بعلوم غير متناهية وهو باطل؛ لأن دخول ما لا يتناهى في الوجود محال، وإما أن يعلمها بعلوم متناهية، وهو باطل؛ لأن العلوم المتناهيةة إذا وزع علمها معلومات غير متناهية صار كل علم منها متعلقاً بما لا نهاية له، وإما أن يعلمها بعلم واحد، وهو باطل؛ لأن العلم الواحد لا يتعلق على جهة التفصيل إلا بمعلوم واحد من حيث أن كل معلومين يصح أن يعلم أحدهما بعلم، ويعلم الآخر بعلم آخر، وقد ثبت أن ذلك يقتضي اختلاف العلمين؛ لأن تعلق العلم بمعلومه هو حكمه الخاص الكاشف عما هو عليه، فما لم يشاركه من العلوم في هذا الحكم وهو التعلق بهذا المعلوم فقد خالفه إذا ثبت هذا فلو تعلق العلم الواحد على التفصيل بمعلومين أو أكثر لزم أن يكون مخالفاً لنفسه لحصوله على صفتي مختلفين.
ولا ينقلب علينا في تعلق ذات الباري بالمعلومات الكثيرة؛ لأن لذاته تعالى أحكاماً هي أخص من التعلق، تكشف عما هو عليه، فلا يلزم من تعلقه بمعلومين حصوله على صفتي مختلفين.

وبعد فلو تعدى العلم في تعلقه على التفصيل المعلوم الواحد لتعدى إلى ما لا نهاية له لفقد الحاضر، وذلك محال في الشاهد، ولا وجه لامتناعه، إلا كونه عالماً، وامتناع ذلك في العالمية الموجبة عن العلم تبع لامتناعه في العلم؛ لأن تعلقها تبع لتعلقه، فلهذا لا يمتنع هذا التعدي في عالمية الباري؛ لأن تعلقها تعلق العالمين.
قال الرازي: أوليس العلم بالتضاد الواقع بين السواد والبياض هو بنفسه علم بالسواد والبياض فقد تعلق هذا العلم على التفصيل أكثر من متعلق واحد.
والجواب لا نسلم أنه علم واحد، بل هي علوم، ولكن العلم بالتضاد بين الذوات فرع على العلم بتلك الذوات، فلهذا لا يمكن العلم بالتضاد إلا بعد العلم بالمتضاد بدليل أنه يمكن أن يعلم الذوات من لا يعلم تضادها، ولو كان علماً واحداً لما أمكن ذلك. وأما /110/ العلم بالمتضايفين كالأب والابن فمعلومه واحد؛ لأن كون الرجل أباً لغيره هو نفس كون ذلك الغير خلق من مائة.
وأما ما يختص القدرة فهو أنه لو كان قادراً بقدره لكان لا بد أن تكون واحده فيلزم أن يكون مخالفه لنفسها كما تقدم في العلم سواء، ويلزم أن ينحصر مقدوراتها، وأن لا تعلق بالأجسام ونحوها لما سيتضح من أن علة الحصار مقدورات القدر وامتناع تعلقها بالأجسام هي كونها قدراً، ويلزم أن يكون حاله في الباري تعالى لما نعلمه في الشاهد من أنه لا يصح الفعل بالقدرة إلا بعد استعمال محلها، وبهذا الأخير يبطل أن يكون حياً بحياة؛ لأن الحياة لا يصح(1) الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها.
فصل في ذكر ما يلزم أهل هذه المقالة من المحالات
يقال لهم: أجمعت الأمة على كفر النصارى، ولا وجه لذلك إلا إثباتهم قدماً مع الله تعالى، فإن قالوا: بل لإثباتهم آلهة مع الله تعالى.
قلنا: لم يقولوا بثلاثة آلهة وإنما قالوا بثلاثة أقانيم وأكثرهم يقول أن بعض هذه الأقانيم صفات لا تستقل، ولهذا أيعتقدون أن المستحق للعبادة شيء واحد.
__________
(1) . في نسخة: يمكن.

يوضحه أن التثليث الحقيقي إنما هو في العدد لا في الصفات، وقد قال تعالى: {الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} ولم يقل: ثلاثة آلهة، وأما قوله تعالى: {وما من إله إلا إله واحد} فإنما هو على طريق الإلزام، فكأنه قال: إذا قالوا بالقدماء الثلاثة لزمهم القول بآلهة ثلاثة، وما من إله إلا الله.
فإن قالوا: إنما كفروا لأنهم قالوا أن الله شيء واحد على الحقيقة ثلاثة أشياء على الحقيقة.
قلنا: إنما أرادوا المعنى الذي ذهبتم إليه من أن الأقنومين الآخرين لا هما الله ولا هما غيره، ولكن اختلفت العبارة.
قال البستي: قيل للأشعري إذا كنت موافقاً للنصارى، فلم كفرتهم؟ قال: لأنهم نقضوا عن الواجب، واقتصروا على الثلاثة.
وبعد فكما يلزمهم مذهب النصارى يلزمهم مذهب الثنوية لأنهم لم يشركوا بين الاثنين إلا في القدم، وكذلك من أثبت الهيولى قديمة، والعقول والأفلاك، فإنه لا وجه لكفر جميع هؤلاء إلا التشريك في القدم.
ويقال لهم: ليس القدرة القديمة تتعلق بكل مقدور والإرادة القديمة تتعلق بكل واقع، فلا بد من بلى. فيقال لهم: فما أنكرتم من إثبات قديمين قادرين بقدتين قديمتين ويتعلقان بكل مقدور ويريدان بإرادتين قديمتين تتعلقان بكل واقع.
فإن قالوا: كان يلزم صحة التمانع بينهما بأن يريد أحدهما شيئاً ويكرهه الآخر.
قلنا: إنه لا يريده أحدهما إلا إذا كان واقعاً لاستحالة تعلق الإرادة القديمة عندكم، فتقدير كون الشيء مراداً لأحدهما دون الآخر محال فيكون التمانع محال أيضاً.
فإن قالوا: يؤدي هذا إلى مقدور بين قادرين /111/، قلنا: إنما يستحيل مقدور بين قادرين إذا صح أن يريده أحدهما دون الآخر، وقد بينا استحالة ذلك مع القول بالقدر والإرادات القديمة. وبعد فهب أن لهم طريقاً إلى نفي الثاني القادر فما طريقهم إلى نفي الثاني العاجز الجاهل كما يقوله أكثر الثنوية في الظلمة.

ويقال لهم: أليس وقع الإجماع في الصدر الأول على أنه لا قديم مع الله تعالى، فلا بد من بلاء، ولكن الإجماع مصروف إلى أنه لا إله مع الله، فيقال الظاهر معنا ولا دليل على خلافه على أنا قد بينا أن المشاركة في القدم تقتضي المشاركة في الإلهية.
ويقال لهم: أليس عباد الأوثان خرجوا من التوحيد لاعتقاد مشاركتها في استحقاق العبادة، وإن كانت جماداً محدثة فلا بد من قولهم بلى، فيقال: فاعتقاد أشياء مشاركة لله تعالى في القدم أحق بأن يكون خروجاً عن التوحيد، وذلك لأن العبادة تستحق لأمر يرجع إلى الفعل وهو كونه تعالى منعماً بأصول النعم والقدم يستحق لأمر يرجع إلى الذات وكمال الذات بصفاتها الذاتية أعظم من كمالها بصفاتها الفعلية.
فصل في إبطال قولهم لا هي الله ولا هي غيره ولا بعضه
اعلم أولاً أن الغيرين هما كل معلومين ليس أحدهما هو الآخر ولا بعضه.
وقالت المجبرة: هما كل موجودين يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر، وهو منتقض بمن يعتقد قدم الأجسام، فإنه يعلم(1) صحة وجود أحدهما مع عدم البعض، وبعد فالكون مغاير للجسم ولا يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر اتفاقاً، وبعد فمن علم في الشيئين ما ذكرنا علم تغايرهما وإن لم يخطر بباله صحة وجود أحدهما مع عدم الآخر.
__________
(1) . في نسخة: يعتقد.

وبعد فالتباين في سائر الصفات يدل على الغيرية فلا وجه لتخصيص صفة الوجود بذلك. وبعد فكل شيئين يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر فلا بد أن يكون أحدهما ليس هو الآخر أو بعضه، فقد عاد الأمر إلى ما قلناه إذا ثبت هذا كفانا في بطلان قولهم؛ لأن هذه المعاني إذا لم تكن هي الله ولا بعضه كانت غيره لا محالة، والقول بأنها ليست غيره محض المناقضة، وبعد فقد قالوا: إن هذه المعاني خلافه، قالوا: ولا نقول أنها مخالفة له تعالى، وهذا خطل(1) من القول؛ لأنه لا فرق في اللغة بين أن يقول هذا الشيء خلاف هذا وبين أن يقول مخالفة له، واختلاف هذه العبارات لا تحريج عليه، وإذا ثبت أن هذه المعاني مخالفة لله تعالى كانت مغايرة له أولى وأحرى؛ لأنه إذا كان المثلان غيرين فالمختلفان أولى بذلك. وبعد /112/ فلا بد أن تكون هذه المعاني متغايرة في أنفسها كما هي كذلك في الشاهد.
فصل في إبطال قولهم بأنها قائمة بذات الله تعالى
أما الكرامية فقد ذهبوا إلى ما هو المعقول من القيام وهو الحلول فقالوا هي حالة في ذاته تعالى، وكذلك المعاني كالإرادة والكراهة المحدثة وكالكلام عندهم، قالوا: لأنه لا فارق بين القديم والمحدث إلا القدم والحدوث، وهو لا يؤثر في المنع من القيام بالذات، وهو لازم للكلابية والأشعرية، وأما الذين يمنعون من القيام بمعنى الحلول فيقال لهم القيام مشترك بين معان قيام بمعنى الحلول وقيام بمعنى الانتصاب وقيام بمعنى الحفظ، نحو: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، وقيام بمعنى الوجود نحو قولهم: السماوات قائمة بالله إلى موجودة به، وقيام بمعنى التكفل والتحمل كما يقال فلان قائم بأمر المساكين وقيام بمعنى التعميد والحياطة كما يقال، فلأن قائم بأمر الأيتام ولا يعقل من القيام غير ذلك، فأي هذه الأقسام تريدون ولا يشتبه الحال في شيء منها.
__________
(1) . خطل: أي باطل.

فصل في شبههم في إثبات المعاني
قالوا: العالم في اللغة مشتق من العلم وإذا صدق المشتق صدق المشتق منه.
قلنا: أول ما في هذا أنه يوصل بالعبارات إلى المعاني، ومن أين أن أهل اللغة إذا قالوا عالم كان قد حصل معنى هو العلم بل الواجب أن يعلم المعاني أولاً، ثم يعبر عنها، المعتمد في ثبوت ما لا يعلم ضرورة من الذوات هو فعله أو حكمه لا العبارات.
يوضحه أنه لا بد أن يمكن الاستدلال على هذا المعنى قبل مواضعه، أهل اللغة وقبل اشتقاقاتهم، وبعد فلا نسلم كون العالم مشتقاً من العلم الذي يريدونه؛ لأن المعنى الذي يثبته المتكلمون غير معقول لأهل اللغة، فكيف يشتقون الاسم من شيء لا يعقلونه وإنما قولهم فلان عالم بكذا، وله علم بكذا، لفظان مترادفان بمعنى واحد، ولهذا يقولون: هل لك علم بكذا أي هل أنت عالم به.
وبعد فهب أن العالم مشتق من العلم، فلم قلتم أنه إذا صدق المشتق صدق المشتق منه أوليس الوجود مشتقاً من الوجود، أولا يدل ذلك على أن الوجود معين، وبعد فهب أنه لم يصدق المشتق منه، فليس يجب أن يثبت المشتق منه لمن أشتق له الاسم، وما أنكرتم أن يشتق الاسم لمسمى من معنى قائم بغيره أو ليس الرازق مشتق من الرزق والرزق إن ثبت معنى، فهو قائم بغير الله، وكذلك المحسن وغيره من الأسماء التي اشتقت لله تعالى من معاني لا يقوم به. يزيده وضوحاً أنا قد اتفقنا على أن الله تعالى إذا وجد كلاماً في سحر أو غيره /113/ فإنه يوصف بأنه متكلم بذلك الكلام، وإن قام، وبعد فهذا قياس الغائب على الشاهد وهو عندهم غير صحيح، وإن كان صحيحاً فهو لا يفيد إلا ظناً ضعيفاً؛ لأنه من باب قياس التمثيل عندهم.
شبهة، قالوا: العالم في الشاهد من له العلم فكذلك في الغايب، قلنا: وكذلك الموجود في الشاهد من له الوجود، فهلا كان الوجود معنى قائم بذات الباري تعالى كالعلم. وبعد فالعالم في الشاهد من له القلب والجسم والعلم المحدث وانحصار المعلومات وجواز الجهل فهلا كان كذلك في حقه تعالى.

وبعد فإن أرادوا طريقة التحديد لم يصح؛ لأن من لا يعلم العالم لم يعلم العلم أولى وأحرى، وأيضاً فهم يحدون العلم بأنه ما قام العالم أو ما يوجب كون الذات عالماً، وهذا محض الإحالة، وهو مناقضة؛ لأن العلة تجب أن يكون غير المعلول، ومتى كان العلم من حقيقته كونه عالماً لم يصح أن يكون علة في كونه عالماً؛ لأنه كيف يصح أن يكون علة في نفسه. وبعد فكان يجب في من علم العالم أن يعلم العلم جملةً وتفصيلاً، وقد ثبت أنه يعلم العالم من لا يعلم العلم كنفاة المعاني.
وبعد، فإنما يجب من الاشتراك في الصفة الاشتراك في المؤثر فيها إذا كان ذلك المؤثر حقيقة فيها كقولنا أسود، فإن السواد حقيقة في هذا الوصف وككونه مدركاً مع كونه حياً أو كانت الصفة تدل على المؤثر كالحدوث يدل على المحدث. وبعد فالطريق إلى العلم في الشاهد إنما هو حصول الصفة مع الجواز، وهذه الطريق لم تحصل في حقه تعالى.
واعترض الباقلاني بأنه لو كان المقتضى للعلم هو الجواز لوجب أن يكون في الجاهل علم بما جهل؛ لأنه في حال جهله يجوز أن يعلم.
والجواب أن هذا الكلام في ظاهر الخطل والتهافت؛ لأنا لم نقل الدليل هو الجواز فقط، بل قلنا حصول كونه عالماً مع الجواز، والجاهل ليس بعالم بما جهله، فضلاً عن أن يكون عالماً له مع الجواز.
قال: ويلزم المعتزلة أن يكون الباقي باقياً ببقاء لأنه بقي مع الجواز.
قالت له المعتزلة: إن الصفة إذا حصلت مع الجواز فإنما يجب أن نعلله بأمر، فإما أن يكون ذلك الأمر هو المعنى فإنما يعلم بطريق الستر، ونحن نعلل صحة بقاء الباقي بما هو عليه في ذاته، فلا يلزم ثبوت معنى.
شبهة، قالوا: قول أهل اللغة عالم إثبات، فإما أن يكون إثباتاً لذاته وهو باطل وإلا كان قولهم ليس بعالم نفياً لذاته /114/ وإما أن يكون إثباتاً لذاته على حال، وهو باطل، وإلا لزم في من يقول ليس بعالم أن يكون باقياً لذاته وللحال، وإما أن يكون إثباتاً للعلم وهو المطلوب.

17 / 75
ع
En
A+
A-