وأما أن القادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه فلأن معنى /100/ ذلك أنه يصح منه إيجاده مع سلامة الحال أو إيجاده محكماً تحقيقاً أو تقديراً، والأول حاصل لكل قادر، والثاني حاصل لكل عالم، وأ/ا أن العدم يحيل التعلق فلأنا وجدنا معاني متعلقة كالإرادة وغيرها، ووجدنا تعلقها يزول إذا عدمت، ولا علة لزواله إلا عدمها، فلو كان تعالى معدوماً لزال تعلقه، فيبطل كونه قادراً عالماً، ويريد بتعلق الإرادة صحة إيقاع المراد بها على وجه دون وجه، وإيجابها الصفة للمريد.
ويدل على أنها إذا عدمت زال تعلقها أنها لو تعلقت بعد العدم لما انفصل وجودها من عدمها، ولجاز أن يكون أحدنا مريداً للشيء كارهاً له في حالة واحدة بإرادة وكراهة معدومتين، وأيضاً فلو نفى تعلقها بعد العدم لكانت إما أن تتعلق بما تعلقت به من قبل وهو باطل لأنه ما من مراد إلا ويجوز نقيضه وتعلقها بالمقتضى محال، وأما أن تتعلق بغيره وهو باطل؛ لأن فيه اتصافها بصفة مخالفها من حيث يجوز أن يكون قد تعلق بذلك الغير إرادة أخرى حال تعلق هذه بالمراد الأول، فيكونان مختلفين، فمتى تعلقت هذه بما تعلقت به مخالفتها صارت بصفة مخالفها، وأيضاً فأحدنا يخرج عن كونه مريداً وعالماً حال النوم، ويدل على أن علة زوال تعلقها عدمها أن العلم بزوال التعلق يدور مع العلم بالعدم ثبوتاً وانتفاء، وليس هناك ما هو أولى من العدم بأن يجعل علة في زوال التعلق، والذي يشتبه أن يقال أن العلة في زوال تعلقها تقضى مرادها أو خروجها عن الصفة المقتضاة او عن أن توجب صفة للمريد، والأول باطل، وإلا وجب أن يتعلق حال عدمها إذا لم ينقض المراد والثاني والثالث باطلان؛ لأن خروجها عن الأمرين كزوال تعلقها فليس البعض بأن تعلل بالبعض أولى من العكس، ولأن ذلك تابع لعدمها، فالعدم بأن يكون علة أولى، ولا يقال هذا تعليل نفي ينفي؛ لأن ذلك جائز إذا كانت العلل كاشفة، ولهذا تعلل انتفاء صحة الفعل بانتفاء القادرية.

وأما أنه يثبت بذلك وجوده تعالى فلأنه لو كان معدوماً لم يكن له تعلق بمقدوره ومعلومه لحصول علة زوال التعلق، وذلك يعود على كونه قادراً عالماً بالبعض.
دليل، قد ثبت في صفة الأجناس المقتضاة كالتحيز في الجوهر والهيئة في اللون أنها مشروطة بالوجود ولا بد من أمر لأجله كان ذلك الوجود شرطاً وإلا لم يكن بذلك أولى من ألا يكون، وذلك إما أن يكون كونها صفات فقط أو كونها مقتضاة فقط، وكونها صفات مقتضاة، والأول باطل؛ لأن الذاتية صفة، وهي غير مشروطة بالوجود، والثاني باطل؛ لأن المماثلة /101/ والمخالفة أحكام مقتضيات، وليست مشروطة بالوجود، بقي أن تكون العلة كونها صفات مقتضاة، وقد ثبت للباري تعالى صفات مقتضاة ككونه قادراً وعالماً وغيرهما، فليكن مشروطه بالوجود، ويجب أن يكون الله تعالى موجوداً إذ لا يصح حصول المشروط دون الشرط وإلا بطل كونه شرطاً.
وأما الطرف الثاني وهو أنه تعالى لا أول لوجوده فلأنه لو كان لوجوده أول لكان محدثاً؛ لأن ذلك هو حقيقة المحدث، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث، والمحدث إلى محدث حتى يتسلسل إلى ما لا يتناهى من المحدثين، ومحدثهم أو ينتهي إلى محدث قديم، وهو المطلوب.
وبعد فلو كان تعالى محدثاً لما صح منه، فعل الأجسام؛ لأنه حينئذ يكون قادراً بقدرة محدثه فيكون جسماً، وسيتضح أن الجسم لا يفعل الجسم.
فصل

في أنه تعالى باق وأنه لا ضد له. اعلم أن البقاء هو استمرار الوجود بدليل أن من علمه مستمر الوجود علمه باقياً، العكس، ولا يعقل أحدهما من دون الآخر، ولا ينقلب علينا في التحيز، وكونه كائناً؛ لأنه ما من كائنية إلاَّ وتعقل التحيز من دونها بل تعقل التحيز، وإن لم يخطر ببالنا الكائنية إذا ثبت هذا، وقد ثبت أن الله تعالى واجب الوجود لم يزل، فيكون واجب الوجود لا يزال لأنها صفة ذاتية فلا يصح خروجه عنها بحال، وقد ذهبت الأشعرية والكلابية إلى أن الباقي يبقى ببقاء شاهداً وغائباً، وبه قال الكعبي شاهداً فقط.
لنا أنه لو كان البقاء معنى لكان جنس الفعل، فكان يصح حدوثه حال حدوث الجوهر، فيكون حادثاً باقياً. ولا ينقلب علينا في السكون، لأنا نجوز حصول ما هو من جنسه حال الحدوث، لكن لا يسمى سكوناً إلا بأن ينضم إليه مثله.
فإن قال إنه حصل حال الحدوث مانع وهو استحالة هذه الصفة.
قلنا: استحالة الصفة يتبع استحالة المعنى على أنا قد بينا أنه لا صفة للباقي أكثر من استمرار الوجود، وإلا لزم أن يكون كونه فانياً صفة يضادها، فيحتاج كل واحدة منهما إلى استمرار الوجود؛ لأن ما احتاج إليه أحد الضدين احتاج إليه الآخر، وفي ذلك كون الفاني مستمر الوجود.
فإن قال: إنه يحصل حال الحدوث معنى يضاد البقاء وهو الحدوث كما يقول عناد وهشام الفوطي. قلنا: ليس الحدوث معنى لأنه كان لا يخلو إما أن يكون قديماً فيلزم قدم الحوادث وإما محدثاً فيحتاج إلى معنى، والكلام فيه كالكلام في هذا، فيتسلسل، ثم إن سلمنا أن الحدوث معنى يضاد البقاء فكان يلزم أن يعاقب البقاء كما يصح أن يعاقبه البقاء لأن هذا حق كل ضدين، فيلزم صحة أن يكون الشيء حادثاً باقياً بأن يحصل الحدوث حال البقاء.
فإن قال: إن البقاء يحتاج إلى استمرار الوجود.
قيل له /102/ كيف يصح ذلك واستمرار الوجود يحتاج إلى البقاء.

دليل لو كان البقاء معنى لما صح بقاء كثير من الأعراض؛ لأن المعنى لا يختص المعنى، وقد التزمه الأشعري وهو ظاهر السقوط؛ لأن الذي به يعلم بقاء الجسم به يعلم بقاء اللون.
فإن قال: يختص محله قلنا فكان يقتضي بقاء جميع ما يحل ذلك المحل إذ لا مخصص.
شبهتهم أنه بقي بعد إن لم يكن باقياً، فلا بد من معنى.
والجواب: أنه لم تتجدد له صفة بعد إن لم تكن، بل هي صفة واحدة، ولكن تغيرت التسمية، ولا يلزمنا في من علم الشيء حادثاً ان يعلمه باقياً؛ لأن العلم بالشيء على صفة في وقت غير العلم بكونه عليها في وقت آخر.
فصل
وكما أنه تعالى باق فهو لا ضد له، وإلا كانت صفات ذلك الضد الذاتية بالعكس من صفاته تعالى، فإذا كان الله تعالى موجوداً قادراً عالماً لذاته كان ذلك الضد معدوماً عاجزاً جهلاً لذاته؛ لأن هذه سبيل كل ضدين.
دليل: لو كان له تعالى ضد لكان إما واجب الوجود لم يزل، وفي ذلك حصول الضدين على الوجه الذي يتنافيان فيه وإثبات قديم مع الله، وكله محال، وإما جائز الوجود لم يزل بدلاً من القدم، وذلك يقدح في كونه تعالى واجب الوجود لم يزل وهو محال.
القول في الصفة
الأخص هي الصفة الذاتية التي تقتضي لمن اختص بها كونه قادراً عالماً حياً موجوداً، وقد نفاها الشيخ أبو علي ومن قبله ونفاة الأحوال وأهل الجبر وأثبتها أبو هاشم والقاسم عليهم السلام، وأكثر من بعدهما.

لنا أن الباري تعالى مخالف للمحدثات، ولا يجوز أن تقع المخالفة بنفس هذه الصفات الأربع اتفاقاً؛ لأنا قد شاركناه تعالى فيها، ولأنه كان يجب أن تختلف الأجسام بحسب الاختلاف في هذه الصفات أو في أحدها، ولا يجوز ان يقع بكيفيتها، وهو وجوهاً كما يقوله أبو علي؛ لأنه إن أريد بوجوبها أنه يستحيل خلافها وأنها لا تزول في حال من الأحوال، وهذا نفي، والمخالفة لا تقع بالنفي وإن أريد بوجوبها استمرارها في كل حال، فالمخالفة لا تقع بذلك، ألا ترى أن أحد الجوهرين لو استمر له التحيز والآخر لم يتحيز إلا في وقت، ثم عدم لم يقتض ذلك مخالفة بينها بعد اشتراكهما في التحيز، ولا يجوز أن يقع بنفس الذات كما يقوله أبو الحسين وابن الملاحمي؛ لأنهما إن أرادا أنها تقع بمجرد كونها ذاتاً لم يصح لاشتراك الذوات في ذلك، وإن أرادا بكونها ذاتاً مخصوصة فلا معنى للخصوصية إلا أن لها صفة ليست لغيرها، وهو الذي يقول، وقد علمت بهذا بطلان ما يقولانه من أن حقيقة المخالفة هي أن لا يكون أحد الذاتين /103/ كالذات الأخرى؛ لأنا نقول أتريد أن لا يكون كالذات الأخرى في كونها ذاتاً في أمر زائد والأول باطل، والثاني هو المطلوب.
دليل لا شك أن الأصل في معرفة الاختلاف بين الذوات هو الإدراك، وما عداه مشبه به، فلا بد من اختصاص كل ذات بصفة لو أدركت لأدركت عليها، والباري تعالى لو أدرك لما أدرك على شيء من هذه الصفات الأربع؛ لأن غيره قد شاركه فيها، فيجب أن يختص غيرها لو أدرك لأدرك عليها.
دليل قد ثبت وجوب الصفات الأربع له وجوازها لنا، فلا بد من أمر لأجله وجبت له وجازت لنا، وإلا لم يكن ذلك أولى من عكسه، وذلك الأمر إما مجرد الذات وهو باطل كما تقدم، وإما الفاعل أو العلة وهو أظهر فساداً، وإما صفة ذاتية وهو المطلوب.

دليل قد ثبت أنه لا بد للذات من صفة ذاتية ولا يجوز أن تكون هذه الصفات الأربع ذاتية؛ لأن الذات لو اختصت بأكثر من ذاتية واحدة للزم أن تكون مماثلة لنفسها إن كانت تلك الذاتيات متماثلة ومخالفة لنفسها إن كانت مختلفة لحصولها على ما لو حصل عليه غيرها لماثل أو خالف.
واعترض بأن شرط المماثلة والمخالفة الغيرية، وهي مستحيلة في الذات الواحدة، فلا يخالف نفسها، وأجيب بأنه كان يصح حصول هذا الشرط على بعض الأحوال إذ لا يصح حصول المقتضى، ويستحيل شرط الاقتضاء على الإطلاق، وإلا لم يفترق الحال بين ما يقتضى وما لا يقتضى، وقلنا على الإطلاق احترازاً مما لا يبقى إذا خرج وقت وجوبه، فإن وجوده قد استحال مع أنه شرط في اقتضاء الذاتية للمقتضاة، ولكنه لم يستحل على الإطلاق؛ لأنه كان يجوز حصوله في بعض الأحوال.
هذا ما ذكره أصحابنا.
وفيه إشكال وهو أن يقال أليس كونه تعالى حياً يصحح كونه مشتهياً ونافياً بشرط جواز الزيادة والنقصان، ومعلوم أن هذا الشرط مستحيل في حقه تعالى، فكان يلزم أن لا يفترق الحال بين ما يصحح وما لا يصحح.
ويمكن الجواب بأنه وإن استحال في حق ذات ولم يستحل في حق ذات أخرى فهو غير مستحيل على الإطلاق، بخلاف مغايرة الذات لنفسها.
وفيه إشكال آخر، وهو أن يقال: ليس الغيرية شرطاً في المماثلة والمخالفة، وإنما هي جزء حقيقتها، فلا تكون المخالفة مخالفة، ولا المماثلة مماثلة إلا بالغيرية، وإذا كان كذلك لم يلزم أن تكون الذات الواحدة مخالفة لنفسها إذا اختصت بذاتيات كثيرة لفقد حقيقة المخالفة.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء في هذا الباب /104/ نحو قولنا شيء وذات، وكذلك قولنا الله عند بعضهم؛ لأنه قد جرى مجرى العلم الموضوع على المختص بالصفات الإلهية، وكذلك سبوح قدوس؛ لأنه يفيد تنزيهه في ذاته وصفاته عما لا يليق به، وكذلك قولنا حق؛ لأنه يفيد في اللغة الثبوت.

وأما قولنا عين ونفس، فلا يجوز إطلاقهما عليه تعالى للإيهام الحاصل فيهما، وقوله تعالى: {ولا أعلم ما في نفسك} إنما أراد به طريقة الغيب لا النفس الحقيقية. وأما قولنا: معنىً فإنما يستعمل في الأخراص دون غيرها من الذوات، فلا شبهة في امتناع إطلاقه عليه تعالى. وأبعد من ذلك قولناعلة، لأنه كان في الأصل ملا يتغير به بدن الحي، ثم تعورف به في ما يؤثر تأثيراً مخصوصاً من الأعراض، وأما قولنا: تام وأوافر وكامل ونحوه فلا يجوز إجراؤه عليه تعالى؛ لإيهامه حصول ذلك على وجه يصح معه النقص. وأما وصفه تعالى بأنه حسن فلا يصح؛ لأنه إنما يوصف به الأفعال والصور المخصوصة.
فصل
قد زعم ضرار بن عمرو أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو وأن إراد بذلك ما يقوله أصحابنا من إثبات صفة ذاتية أو ما يقوله شيخنا أبو الحسين من أنه ذات مخصوصة تفارق بنفسها سائر الذوات، فهو صحيح، لكنه أخطأ في قوله ماهية؛ لأنه لا يقال في الله ما هو، ولا أي شيء هو، من حيث يجري ذلك مجرى التكييف، وأخطأ أيضاً في قوله: لا يعلمها إلا هو، لأنا قد علمنا ذلك. على أنه قد ناقض في كلامه؛ لأن مذهبه أنه تعالى يُرى على تلك الصفة، فكيف لا يعلم عليها، وليس لها حكم أكثر من اقتضائها، لهذه الصفات فلا يقال أنه تعالى يعلم من حكمها ما لا يعلمه.
شبهته: إنا نعلم ذاتاً مختصة بصفات، ولسنا نعلم حقيقة تلك الذات،و لهذا لو سئلنا ما تلك الحقيقة لما أمكنا تعيينها ولا التعبير عنها، وهو تعال عالم بحقيقة ذاته، ويمكنه التعبير بما ينبني عنها.

والجواب: وأن كل شيء يعلم على التفصيل إما أن يكون الطريق إليه الإحساس أو تأثيره أو حكمه، فما كان الطريق إليه الحسن فإنا نعلمه بالحسن على حقيقته، ويمكننا أن نعبر عما تعلق به علمنا مما هو عليه في ذاته بالعبارات التي وضعها أهل اللغة، فنقول متحيزاً مثلاً أو سواداً أو نحو ذلك، ولا يجوز أن يكون له ماهية أكثر مما أدركناه، وما كان الطريق إليه فعله أو حكمه فإنا متى علمناه بذلك الطريق جرى ذلك مجرى الإدراك في تعيينه، والعلم بحقيقته ولا يجوز أن يكون سبباً غير ما علمناه، وإلا انفتح باب الجهالات، ألا ترى أنا نعلم القدرة والحياة وغيرهما. ولا يجوز أن يكون لها ماهيات يتناولها الإدراك غير ما علمناه.
قال: هو تعالى يرى نفسه، فيجب أن يعلم من نفسه ما لا نعلمه /105/ قلنا: لا نسلم أنه يصح رؤيته وإن سلمناه فالذي علمه بالرؤية هو الذي علمناه بالدليل لما قدمنا من أن الدليل يجري مجرى الإدراك في التفصيل.
قال: أوليس أحدنا إذا أخبره الصادق بذات علمها ثم إذا أدركها وجد مزية.
قلنا: العلم الحاصل بالخبر جملي والحاصل عند الإدراك تفصيلي؛ لأن الإدراك يتناول أخص صفاتها، وكذلك نقول في الله تعال عندنا فإنا إذا علنما ذاته كان علمنا به على الجملة، وإذا علمنا صفاته كان علمنا به على التفصيل، وإن كان العلمان استدلاليين، ثم لسنا نجوز شيئاً آخر يتناوله الإدراك بعد علمنا به على التفصيل.
قال ألسنا نعلمه في الآخرة، ضرورة، فهلا كان ذلك علماً بما هيئه، قلنا: ومن سلم حصول ماهية غير ما علمناه فيتعلق بها العلم الضروري بل الذي نعلمه في الآخرة ضرورة، هو الذي علمناه في الدنيا استدلالاً.
قال: أوليس أحدنا يعلم من نفسه ما لا يعلمه غيره.
قلنا: أما في إلى ذاته وما هيئته ووجوده فلا وأما أحوال نفسه المعنوية من نحو كونه مريداً ومشتهياً فهو وإن علمها من نفس ضرورة على الجملة فغيره يعلمها بالدلالة، ولسنا نثبت له ما لا يقوم عليه دليل.

قال: أليس أحدثنا يجد مزية للعلم الضروري على العلم الاستدلالي. قلنا: بلى لأمر يرجع إلى طريقهما، فإما أن يكون أحد العلمين أزيد من الآخر أو معلومة أكثر من معلوم الآخر، فلا والله تعالى يعلم ذاته وصفاته لا عن طريق، فلا يقال أن طريقه أجلى من طريقنا، والذي يعلمه تعالى لا عن طريق هو الذي علمناه بطريق، ولا يجوز شيئاً غير ذلك يوجه إليه مزية الوجدان من النفس.
قال: وقع الإجماع على أن الله أعلم بنفسه منا وأن الأنبياء يوصفون بأنهم أعلم بالله تعالى.
قلنا: نحن نسلم مقتضاه، فإنه تعالى يعلم من تفاصيل مقدوراته ومعلوماته ومتعلقات صفاته ما لا نعلمه، وكذلك يعلم الأنبياء من ذلك ما لا نعلمه، وتختلف أحوال العلماء في ذلك.
القول في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات
اتفق أهل العدل على أنه تعالى يستحقها لذاته أو لما هو عليه في ذاته، ولا يحتاج في ثبوتها إلى مؤثر، واتفق أهل الجبر على أنه يستحقها لمعان.
ثم اختلفوا، فقالت الصفاتية: لا يوصف بقدم ولا غيره، لأنها صفات /106/.
وقال ابن كلاّب: أزلية.
وقال الأشعري: قديمة، واتفقا على أنها لا هي الله ولا هي غيره، ولا بعضها هو البعض الآخر، ولا غيره. وقالت الكرامية: قديمة أعيان لله تعالى أعراض حالة في ذاته.
ولنبطل أولاً قول الصفاتية فنقول: هذه المعاني إما أن تعلم على انفرادها أو تعلم لا على انفرادها أو لا تعلم أصلاً، إن قالوا بالثالث كفانا ذلك في نفيها؛ لأنه كيف يثبت ما لا يعلم، وإن قالوا بالثاني، فهو الذي يريد بالصفات،لكن أخطأوا في تسميتها معاني، وأيضاً فكلامنا الآن في الأمر الذي لأمره استحقت هذه الصفات، فما هو، وإن قالوا: بالأول لم يصح المنع من وصفها؛ لأن كل ما يعلم على انفراده فإنا نعلم بالضرورة أنه لا يخلو من وجود أو عدم، ثم إذا كان موجوداً لم يخل من حدوث أو قدم والمنكر لذلك مكابر.
شبهتهم: أنها لا تقوم بنفسها، ولكن تقوم بغيرها.

والجواب: كل الأعراض كذلك، فهلا امتنعتم من وصف الأعراض، ثم ما المانع من وصفها، وإن قامت بغيرها أو لستم قد وصفتموها بأنها معان، وبأنها صفات بالمعنى العام، وبأنها قائمة بذات الله ونحو ذلك.
قالوا: وصف الشيء يقتضي قيام معنىً به.
قلنا: معارض بالأعراض، فإن وصفها لا يقتضي قيام معنى بها، وكذلك قد وصفتموها بأنها معان وبأنها غير ذلك، وكذلك وصفكم الباري بأنه فاعل وأول وآخر ونحو ذلك.
ولنعد إلى إبطال قول الجميع في إثبات المعاني، فنقول: لا طريق إليها؛ لأن المعنى إذا لم يكن مدركاً فالطريق إليه إنما هو حول موجبه مع الجواز، وهذه الصفات واجبة لله تعالى، فيستغنى عن المعاني؛ لأن وجود المعاني والحال هذه كعدمها، ولأن الصفة الواجبة لو عللت بأمر منفصل لكان قد وقف حصولها على ذلك الأمر حتى لو لم يحصل لما حصلت، وذلك يقدح في وجوبها.
يوضحه أن كونه تعالى موجوداً استغنى عن المعنى، وكذلك صفات المعاني وسائر صفات الأجناس، ولا وجه لاستغناء هذه الصفات إلا وجوبها؛ لأن العلم بالاستغناء يدور مع العلم بالوجوب ثبوتاً وانتفاء، ألا ترى أن كل صفة جائزة فلا بد لها من فاعل أو معنى، وإذا كان صفات الباري تعالى واجبة استغنت عن المعاني كالوجود وكصفات الأجناس، وقد وافق أكثر المجبرة في أنه تعالى موجود لا لمعنى، وخالف اليسير.

16 / 75
ع
En
A+
A-