وقد ذهب أبو الحسين وابن الملاحمي في كونه حياً إلى مثل ما ذهبنا إليه في كونه قادراً، وذكر أن الشيوخ استدلوا مع ما تقدم إلى إثبات هذه الحالة بأن أحدنا أجزاء كثيرة، وقد صارت شيئاً واحداً /93/ فلا بد من حالة واحدة بخلاف البنية، فإنها أمور كبيرة، وبأن أحدنا مدرك واحد، فيجب أن يختص بحالة واحدة، يصحح كونه مدركاً.
واعترضنا على هذين الدليلين وعلى ما تقدم بأن من صح أن يحيي فارق من لا يصح أن يحيي، فكان يلزم تعليل هذه المفارقة بحالة للجملة.
وقد أجاب الجمهور عن هذا بأنا إنما أوجبنا تعليل هذه المفارقة بأمر، فأما أن ذلك الأمر صفة ترجع إلى الجملة فإنما تعلم بدليل آخر، وهو أن الحكم قد صدر عن الجملة، فيجب أن يعلل بأمر راجع إلى الجملة، وصحة أن يحيي الآخر أحكم لم يصدر عن الجملة لأنها لا تكون جملة إلا بعد كونها حية، فلهذا عللنا المفارقة فيه بأمر راجع إلى الإجزاء، وهو البنية المصححة لوجود الحياة.
قال الجمهور: ولو لم يحتج كونه قادراً عالماً إلا إلى القدرة والعلم دون حال الجملة للزم صحة الفعل باليد المثابة لوجود القدرة التي هي البنية فيها، ولا حكم للاتصال، ألا ترى أن الظفر والشعر متصل وليس بداخل في جملة الحي، فصح انه إنما يتعذر الفعل باليد المتانة لخروجها عن جملة الحي.
قال ابن الملاحمي: بل إنما يتعذر الفعل بها لفقد الحياة المصححة للقدرة، ويمكن أن يقال له: أوليس المرجع بالحياة عندك إلى البنية المخصوصة كالقدرة، فما دليلك على زوالهما جميعاً على اليد المنانة، ولم وجب زوالهما بالإبانة.
واستدل الرازي لمذهب الجمهور بأنه إذا كان معنى الحي عند أبي الحسين هو الذي لا يمتنع أن يقدر ويعلم، فهذه إشارة إلى نفي الامتناع والامتناع نفي ونفي النفي إثبات، فقد ثبت أمراً زائداً على الذات، وهو المطلوب، وهذا ليس بالمقنع؛ لأن أبا الحسين يثبت حكماً زائداً على الذات، وهو صحة أن يقدر ويعلم، وإنما نفى الحال التي يستند إليها هذا الحكم.
قالت الفلاسفة على أصل المسألة: إن القادر العالم في الشاهد كما يجب أن يكون حياً يجب أن يكون جسماً ومتحركاً وملتذاً، وجائزاً عليه الموت فقولوا مثله في الله تعالى.
قلنا: إن كونه حياً إنما يصحح القادرية والمعالمية ونحوهما دون كونه جسماً، وسائر ما ذكرتم، وإنما وجبت هذه الأمور في الشاهد من حيث يستحق هذه الصفات لمعان يحتاج إلى بنية.
قالوا: فيغلب عليكم فنقول إنما كان القادر العالم في الشاهد حياً؛ لأنه يستحقها بين الصفتين لمعان توجب للجملة، وإنما تكون جملة إذا كانت حية، وكذلك يحتاج إلى محل مبني بنية مخصوصة، والقديم يستحقها لذاته.
قلنا: بل إنما وجب أن يكون القادر /94/ العالم في الشاهد حياً لتعلق بين هاتين الصفتين وبين كونه حياً بدليل إنما دخل في جملة الحي دخل في جملة القادر العالم، وما خرج عن جملة الحي خرج عن جملة القادر العالم. يوضحه أن العبرة بصحة أن يقدر ويعلم سواء حصل قدره وعلم أم لا.
قالوا: كونه قادراً عالماً فرع على كونه حيا، فلا يصح الاستدلال بهما عليه كما أن أفعال الباري تعالى فرع عليه في الثبوت، ويصح الاستدلال بها عليه.
قالوا: كما تصحح هذه الصفة كونه قادراً عالماً تصحح أيضاً كونه مشتهياً ونافراً ونحوهما، فيلزم جواز ذلك على الله تعالى،و هو محال.
قلنا: إنما تصح هذه بشرط جواز الزيادة والنقصان والمنافع والمضار كما تصحح كونه حياً، هل الشرط أن لا يجب كونه عالماً، والضبط في مثل هذا أنه لا يلزم من الاشتراك في صفة الاشتراك في صفة أخرى إلا إذا كانت إحداهما حقيقة في الأخرى ككونه قادراً وكونه حياً أو مقتضية لها كالتحيز والجوهرية أو كان دليلهما واحداً.
فصل
إذا ثبت أن للحي بكونه حياً صفة في الشاهد فكذك في حقه تعالى لاستمرار طريقهما في الموضعين، وهي معنوية في الشاهد لمثل ما تقدم في غيرها، وستأتي كيفية استحقاق الجميع في حقه تعالى.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء بهذا المعنى نحو قولنا حي، وكذلك سميع بصير؛ لأن المرجع بكونه سميعاً بصيراً إلى أنه حي لا أنه كما سيأتي، وأما قولنا حيوان أو روحاني فلا يصح إجراؤه عليه تعالى، لأنه يفيد الحياة والجسمية.
القول في أن الله تعالى سميع بصير
المرجع بذلك عند الجمهور إلى أنه حي لا آفة به، وحكي عن الشيخ أبي هاشم إثبات حالة زائدة، وهو لا يصح؛ لأن العلم بكونه سميعاً بصيراً يدور مع العلم بكونه حياً لا آفة به ثبوتاً وانتفاء، فلو كانتا غيرين لصح انفصال أحدهما عن الآخر.
واعلم أن الحكاية في ذلك عن أبي هاشم رحمه الله تعالى محتملة؛ لأنه إنما ذكره في بعض الأبواب أن العلم بأنه حي يخالف العلم بأنه سميع بصير من حيث قد يعلم كونه حياً بصحة أن يقدر ويعلم، وإن لم يعلم هل هذه الصفة تقتضي صحة الإدراك أم لا، ثم يعلم اقتضاءها لصحة الإدراك من بعد بنظر آخر، فأخذ الحاكي من هذا الكلام أنه يثبت حالة زائدة على كونه حياً، وهذا لا يدل على أنه يثبتها؛ لأن اختلاف العلمين بالذات كما يكون لاختلاف حالين لها قد يكون لتغابن أحكام حال واحدة. ولما كان لكونه حياً أحكام متغايرة منها صحة أن يقدر.
منها صحة أن يعلم، ومنها صحة أن يدرك كأن العلم بصحة كون الذات حية على بعض هذه الأحكام غير العلم بكونها حية /95/ على البعض الآخر لتغاير الأحكام، ومع هذا التأويل يصير كلام أبي هاشم في نقض الأبواب موافقاً لكلامه في غيره، ولكلام الشيوخ، ولهذا قال ابن الملاحمي في الفائق: ذهب الشيخ أبو هاشم وأصحابه إلى أن معنى كونه سميعاً بصيراً هو أنه لا يستحيل أن يدرك المسموع والمبصر إذا وجد، وهذا يدل على أن أبا هاشم موافق سائر الشيوخ.
القول في أن الله تعالى مدرك المدرك
عندنا هو المختص بصفة لمكانها يسمع ويبصر في الحال، وقد اتفق المسلمون على أنه تعالى سامع مبصر. وخالف أهل الإلحاد كما تقدم، لنا أنه تعالى حي لا آفة به ولا مانع له والمدرك موجود، وهذه الأمور هي التي معها تدرك المدركات، أما أنه حي فقد تقدم، وأما أنه حي لا آفة به ولا مانع له؛ فلأن الآفات والموانع إنما تجوز على الأجسام ذوي الحواس، وأما أن المدرك موجود فلأن المدركات ثمانية أجناس، وكلها موجودة، وأما أن هذه الأمور هي التي معها تدرك المدركات فدليله الشاهد، وذلك ضروري، وقد قال تعالى: {وهو يدرك الأبصار}، وقال: {إنني معكما أسمع وأرى} ونحو ذلك من الآيات.
فصل
واختلف الناس في تفصيل كونه مدركاً، فقال جمهور البصريين من شيوخنا: هي حالة زائدة على الذات، وعلى صفاتها، وبه قال أهل الجبر.
وقال البغداديون: معنى ذلك أنه عالم بالمدركات.
وقالت الفلاسفة: ليس إلا انطباع المدرك في الحاسة فقط، حكاه أبو الحسين عنهم، ولم نجبهم عنه، ولا صرح بكونه مذهباً له، وإنما ذكره اعتراضاً على البهشمية في إثبات الحال.
لنا أن أحدنا يجد التفرقة بين كونه مدركاً وبين كونه غير مدرك، فلا بد من أمر يعلل به هذه التفرقة، وليس إلا صفة للجملة في الشاهد، وللحي في الغايب، أما أن أحدنا يجد التفرقة فهو ضروري، وأما أنه لا بد من أمر فلما تقدم، وأما أن ذلك الأمر ليس إلاَّ صفة، فلأن كونه مدركاً لو كان ذاتاً لعلم على انفراده ولو كان حكماً لما علم إلا باعتبار غير أو ما يجري مجراه، بقي أن يكون صفة، ولا يجوز ان يرجع بها إلى كونه حياً؛ لأنها تتعلق دون كونه حياً، ولأنها واجبة دون كونه حياً، ولأنها تتجدد مع استمرار كونه حياً، ولأنها توجد من النفس دون كونه حياً، ولا يجوز أن يرجع بها إلى كونه عالماً كما يقوله البغداديون، لأن أحدنا يعلم ما لا يدرك كالقديم تعالى والمعدوم، وكثير من الأعراض، ويدرك ما لا يعلم كقرض البق والبرغيث، ولئن أحدنا قد يعلم الشيء فإذا أدركه /96/ وجد مزية غير كونه عالماً، ولأن كونه مدركاً واجب وكونه عالماً قد يكون جائزاً، ولأن كونه مدركاً يتجدد ويزول مع استمرار كونه عالماً وثبوته.
ولا يجوز أن يرجع بها إلى الانطباع وتأثير المرئي في الحواس كما تقوله الفلاسفة؛ لأنه غير معقول، ولأنا ندرك الأجسام العظام كالسماء والجبال ويستحيل انطباعها في الحاسة لأنها صغيرة، ولأن كون أحدنا مدركاً أمر صادر من جهته والانطباع صادر من جهة المرئي، ولأنا ندرك ما يعلم بالضرورة أنه لم ينتقل إلى حواسنا، وفي ما يدرك ما لا يصح عليه الانتقال كالأعراض، ولأنا نفعل الصوت ويسمعه الغير، فلو كان سماعه له هو تأثيره في حاسته لكنا نحن الفاعلين لذلك السماع بفعلنا لسببه وهو الصوت.
شبهتهم: إن أحدنا إذا أدمن النظر إلى الشمس ثم غمض عينيه رأى الشمس كأنه لم يغمض، وكذلك إذا أدمن النظر إلى الخضرة ثم أبصر لوناً أبيض رآه كأنه أخضر، فدل مثل ذلك أن المرئي ينطبع في الحاسة.
والجواب أن ذلك هو لأمر يرجع إلى الشعاع وافتراقه، فيتخيل عند الانصراف أنه يرى الشيء بدليل أنه لا يكون إلا مع الإدامة الشديدة، وفي حق من بصره ضعيف، ولو كان للإنطباع لحصل من أول مرة. وأيضاً فمتى غمض عينيه تخيل له أنه يرى الشمس مقابلة له، ولو كان للانطباع لم يرها؛ لأن من حق المرئي أن ينفصل عن الحاسة. وأيضاً فإذا أطبق عينيه والحال هذه فربما تتخيل له الشمس في غير صورة البياض فبطل ما قالوه، وثبت أن للمدرك بكونه مدركاً حال، والكلام في رجوعها إلى الجملة في الشاهد وإلى الحي في الغائب مثل ما تقدم في مطائره.
فصل
وهذه الحال تثبت للباري تعالى، وقال البغداديون إن لم يرجع بها إلى كونه عالماً فلا تثبت للباري تعالى.
لنا أنها مقتضاة في الشاهد عن كونه حياً فقط، وما عدا ذلك من صحة الحاسة وزوال المانع ووجود المدرك فهو شرط، وقد حصل هذا المقتضى على الحد الذي يقتضي في حقه تعالى، فيجب ثبوت هذه الصفة له، وهذان أصلان:
أما الأصل الأول وهو أنها مقتضاة عن كونه حياً فقط فلأنا نعلم بالضرورة وقوفها على هذه الأمور ثبوتاً وانتفاء.
ولا يجوز أن تكون كلها مؤثرة، والشرط غيرها لأنه كان يلزم صحة حصولها ولا يدرك بأن لا يصحل ذلك الشرط ولأنها أمور كثيرة مختلفة، ولا يصح تأثيرها في صفة واحدة، ولأن فيها ما يرجع إلى النفي، وما يرجع إلى المحل وكونه مدركاً أمر ثابت راجع إلى الجملة، وبهذا يبطل أن يكون المؤثر صحة الحاسة أو زوال المنع.
ولا يجوز أن يكون المؤثر وجود المدرك؛ لأنه أمر منفصل عن المدرك، فلا يؤثر في ما يرجع إلى المدرك. بقي أن يكون المؤثر كونه حياً والباقي شرط وهو المطلوب.
وقد استدل ابن الملاحمي /97/ بأن العلم بكونه حياً يتبعه العلم بصحة أن يدركه على بعض الوجوه، وهي أن تحصل الشروط، قال: لأن العقلاء متى علموه حياً، وأخبروا بأنه أدرك لم يحيلوا ذلك بخلاف الجماد، وفيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إنما أحالوا ذلك في الجماد؛ لأن كونه حياً شرط والمؤثر وجود المدرك مثلاً، ألا ترى أنهم لو أخبروا بأن الحي أدرك شيئاً لم يوجد لأحالوا ذلك، والعلم بصحة الإدراك كما يتبع كونه حياً يتبع وجود المدرك وغير ذلك مما جعلناه شرطاً.
فإن قال: كان يلزم إذا وجد المدرك صح إدراك الجماد له على بعض الوجوه. قيل له: لست تريد بقولك على بعض الوجوه إلا حصول الشروط، وكذلك يقول الخصم هنا؛ لأن كونه حياً من جملة الشروط عنده، فالجماد يصح أن يدرك إذا حصل الشرط، وهو كونه حياً، وأما الأصل الثاني وهو أنه قد حصل المقتضى على الحد الذي يقتضي في حقه تعالى، فلأنه حي لا آفة به ولا مانع له، والمدركات موجودة.
فإن قيل: من جملة الشروط صحة الحاسة، وهو مفقود في حقه تعالى.
قلنا: إنما يجب أن يكون شرطاً في حق الحي بحياة؛ لأنه إنما يدرك بالآلة فاعتبر صحتها.
شبهة البغداديين أنه تعالى لو كان مدركاً بهذا المعنى لكان قد حصل على هذه الصفة بعد إن لم يكن عليها، وذلك تغيّر.
والجواب إن أردتم بالتغير أنه قد حصل له صفة لم يكن عليها، فذلك نقول لكن من أين لكم أن هذا يسمى تغيراً أليس إذا أدرك أحدنا بعد إن لم يعلم لم يقل اهل اللغة أنه قد تغير، وأنه قد تغير وإن أردتم بالتغير أن ذاته صارت غير ما كانت فذلك غير لازم، دليله الشاهد قالوا: لو حصلت هذه الصفة بعد إن لم تكن مدركاً أو علم بعد إن لم يكن، لكانت معنوية، قلنا إنما يكن معنوية إذا ثبتت مع الجواز، وهذه تثبت مع الوجوب.
قالوا: يلزم أن يسمى شاماً وذائقاً ولامساً.
قلنا: ليست هذه أسماء المدرك، وإنما هي اسماء لمن جمع بين آلة الإدراك وبين المدرك طلباً لإدراكه سواء أدرك أم لا، وإن سلمنا أنها من أسماء المدرك فإنما هي أسماء لمدرك مخصوص وهو المدرك بالحاسة كما في المباشر والمتعدي.
قالوا: لا طريق إليها إلا حكمها، وهو كونها طريقاً إلى العلم، وهذا لا يصح في حقه تعالى؛ لأنه عالم لذاته.
قلنا: إنما يستدل عليها لحكمها إذا لم تكن معلومة بنفسها، وهذه موجودة من النفس، وإن سلمنا أنها لا توجد من النفس فالطريق إليها مقتضتها وهو كونه حياً لا ما ذكرتم.
فصل
إذا ثبت كونه تعالى مدركاً فهو مدرك لجميع المدركات. وقال أبو القاسم بن سهلويه: يدركها إلا الألم واللذة.
لنا أن كونه حياً مع المدركات على سواء.
قال: كان يجب أن يسمى ألماً وملتذاً. قيل له /98/ معارض بالشام والذائق واللامس. والتحقيق أن الألم والملتذ اسم لمن يدرك الألم واللذة بمحل الحياة فيه مع الشهوة والنفرة، وذلك مستحيل في حقه تعالى.
فصل
قد علمت بما سلف أن هذه الصفة مقتضاة عن كونه حياً، والذي يختص هذا المكان مما يؤكد ذلك إبطال كون الإدراك معنى، وقد خالف أبو علي وأبو الهذيل والبغدادية والصالحي وصالح قبة والأشعرية، إلا أن الأشعرية يثبتونه معنىً شاهداً وغائباً، وهؤلاء الشيوخ يثبتونه معنى في الشاهد فقط.
لنا: أن هذه الصفة تقترن صحتها بوجوبها وإلا انفتح باب الجهالات وارتقعت الثقة بالمشاهدات، فكان يجوز أن يكون بين أيدينا فيلة ونحوها، ولا ندركها بأن لا يخلق الله الإدراك فينا أو بأن لا نفعله نحن؛ لأنه مقدور لنا عند البغداديين، ومعلوم أنا نعلم بالضرورة أنه لا فيل بحضرتنا، وهذا العلم يستند إلى أنه لو كان لرأيناه ولا ينقلب علينا في العلم الحاصل عند المشاهدة، فيقال: يلزم صحة أن نشاهده ولا يخلق الله العلم؛ لأن المشاهدة طريق إلى العلم، فيجب حصوله عند حصول طريقه مع سلامة الحال.
وقلنا: مع سلامة الحال احترازاً من مشاهدة الساهي والنائم، ومن لا عقل له، فإن قال: نحن نقطع على أنه لا فيل بحضرتنا. قيل له: هذا يستند إلى أنه لو كان لرأيناه، وإذا جوزت أن يكون ولا تراه لم يمكنك القطع بذلك.
فإن قال: قد جوزتم أشياء وقطعتم على خلافها نحو أن الله يخلق مكلفين يشتبهان من كل وجه، وأن يميت العالم الآن وأن يقيم القيامة الآن، ونحو ذلك. قلنا: كل هذه علوم مبتدأة لا يستند إلى شيء بخلاف العلم بأنه لا فبل بحضرتنا، فإنه يستند إلى أنه لو كان لرأيناه، وذلك مما لا يمكن إنكاره بل يعلمه الصبيان، فإنك لو مددت الحصبي بيدك فارغة وقلت له خذ هذا الدرهم لقال لا شيء في يدك، ولو كان لرأيته.
دليل: لو كان الإدراك معنى لكان لا يتعلق على التفصيل إلا بمتعلق واحد، فكان يجوز حصول مدركات بين أيدينا ولا ندرك إلا واحداً منها.
دليل لو كان معنى لجاز أن ندرك الذرة على الجبل ولا ندركه، بأن يخلق فينا إدراكها دونه لجواز انفصال أحد الإدراكين عن الآخر.
دليل لو كان معنى لوجب أن يدرك الرقيق والمحجوب بأن يحصل إدراكه؛ لأن إيجاب العلل لا تقف على شرط، وهذا كله يبطل كون الإدراك معنى في الشاهد، وأما في حقه تعالى فما أبطله أن يكون قادراً لمعنىً أبطل أن يكون مدركاً لمعنى، على أنه إذا بطل كونه معنى في الشاهد بطل في حقه تعالى؛ لأن المجبرة إنما أثبتوه له تعالى قياساً على الشاهد.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء /99/ في هذا الباب نحو قولنا مدرك وسامع ورائي ومبصر، ولا يصح آخر شيء من هذه الأوصاف إلا بعد وجود المدركات، وأما قولنا مشاهد فلا يصح إجراؤه عليه؛ لأنه يفيد ما يرجع إلى طريقه المقابلة.
القول في أن الله تعالى قديم
القديم في اللغة: هو ما تقادم وجوده ومنه حتى عاد كالعرجون القديم، وفي الاصطلاح هو الموجود الذي لا أول لوجوده، ولنتكلم في طرفين أحدهما أنه تعالى موجود، والثاني أنه لا أول لوجوده.
أما الطرف الأول، وهو أنه تعالى موجود، فلا يحتاج إلى استدلال عند من يجعل الوجود هو ذات الموجود شاهداً وغائباً كما يقوله ابن عياش وابو الحسين غائباً، فقط كما تقوله الفلاسفة، والأشعرية إلا أن هؤلاء إنما منعوا من كونه زائداً وغائباً على أنه البلاء يقتضي التكثير لا لما يقوله شيوخنا.
وأما جمهور المعتزلة فيجعلونه زائداً على الذات شاهداً وغائباً، فاحتاجوا إلى الاستدلال، وصحة ما يقولونه مبني على أن المعدوم ذات وسلف تقريره. ويزيده وضوحاً أن الوجود متماثل والذوات مختلفة، وأيضاً فالوجود بديهي التصور لا يحتاج إلى حد، ولو كان الوجود هو الذات لكان الذوات كلها بديهية التصور، ومعلوم أن فيها ما لا يتصور رأساً كذات القديم، وفيها ما لا يتصور بالبديهة بل بالحدود، وبعد، فقد اتفق الناس على قولهم أن ذات الباري واجبة الوجود، ولو كان الوجود هو الذات لكان ذلك بمنزلة قولهم إن ذات الباري واجبة الذات.
وأما ما منع به الشيخ محمود على أصحاب أبي هاشم من أنهم يجوزون بعد إقامة الدلالة على أن الله تعالى قادر عالم حكيم مرسل من مثيب معاقب أن يكون مع ذلك معدوماً حتى تقوم الدلالة على وجوده، وأنه متعجب من هذا ومستطرق له، فيمكن الجواب عليه بأن يقال من أين لك أن أصحاب أبي هاشم يجوزون كونه معدوماً بعد إقامة الدلالة على كونه قادراً عالماً أوليس كونه قادراً عالماً هما الدليل على كونه موجوداً عندهم، فكيف يجوزون كونه معدوماً مع قيام الدليل على وجوده، بل لا يجوزون ذلك، ولا يجوزه المميز من العوام؛ لأن من علم كونه قادراً عالماً علم كونه موجوداً على الجملة، وإنما يستدلون على تفصيل ذلك وكيفية دلالة كونه قادراً عالماً عليه إذا ثبت هذا فالدليل على أن الله تعالى موجود هو انه تعالى قادر عالم والقادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه، والعدم يحيل التعلق فثبت بذلك وجوده، فهذه أربعة أصول.
أما أنه قادر عالم فتقدم.