قيل، والحق أن العلم بحدوث ما لم يحل من المحدث على الجملة ضروري كالعلم بأن كل ظلم قبيح، والعبرة بالتفصيل بالمقدمات، فإن كان علمنا بحدوث الأعراض ضرورة، وأن الجسم لا يخلو منها ضرورة فالعلم بحدثوها ضروري، وإن كان الأولان اكتسابيين فالثالث اكتسابي، وهذا حسن إن ثبت أن الدعوى الرابعة غير الثالثة.
الجهة الثالثة: زعم ابن الراوندي والفلاسفة أن الجسم قديم، ولم يخل من الأعراض المحدثة لكنها تحدث فيه حادثاً قبل حادث، إلى ما لا أول له.
ويبطله أن الجسم إذا لم يخل من المحدثات فقد صار وجوده معها أو بعدها، وصار لوجوده أول كما أن لوجودها أول، ولسنا نعني بحدوثه أكثر من ذلك.
وقولهم: بحوادث لا أول لها ظاهر الفساد؛ لأنه إذا كان كل واحد من هذه الحوادث له فاعل، وحق الفاعل أن يتقدم على فعله، كان في ذلك تقدمه على جميعها، فلا يستقيم حصول شيء منها في ما أول له لتقدم غيرها عليها.
وبعد فحق القديم أن يتقدم على كل محدث تقدماً لا أول له، فلو كان الجسم قديماً لكان سابقاً على جميع الأعراض، فيكون قد خلا عنها حالة السبق، وقد بينا أنه لا يخلو عنها.
وبعد فهذه الحوادث قد حصرها الوجود، وفي ذلك تناهيها من حيث يجوز حصول زيادة فيها، ولا بد أن يكون مع تلك الزيادة أكثر منها بغير زيادة، وما كان غيره أكثر منه فهو متناه.
وقولهم: آحادها محدثة وجملتها قديمة ظاهر التناقض؛ لأن الحدوث ثبت لإجادها من غير شرط، فيجب ثبوته لجملتها، فهو كثبوت السواد لكل واحد من الزنج لا كثبوت جواز الخطأ على كل واحد من الأمة، شبهتهم أنه قد جاز حوادث لا آخر لها، فليجز حوادث لا أول لها.
والجواب: أن كونه لا آخر لها لا يخرجها عن كونها محدثة وكونها لا أول لها تخرجها عن ذلك. على أن /61/ أبا الهذيل قد كان التزم امتناع حوادث لا آخر لها، وقال: تتناهى حركات أهل الجنة ثم رجع عن ذلك.

قالوا: إذا لم يخل الجسم من الأعراض ولم يكن عرضاً، فهلا جاز أن لا يخلو منها، ولا يكون محدثاً.
قلنا: إنه إذا لم يخل منها فقد شاركها في حقيقة الحدوث ولم يشاركها في حقيقة العرضية فلزم الأول دون الثاني، وليس العلة في كون العرض عرضاً حدوثه حتى يلزم مثله في الجسم.
قالوا: أليس لم يخل من الحوادث الآن ولا يكون حادثاً الآن، فهلا كان كذلك في ما مضى من الزمان.
قلنا: أتريدون بما مضى فيما لم يزل أو من بعد إن قلتم في ما لم يزل نقضتم سؤالكم؛ لأنه ليس في ما لم يزل شيء حادث، فيقال: لم يخلو منه الجسم وإن قلتم من بعد فلا فرج لكم في ذلك؛ لأنه ليس يلزم من جوازه قدم الجسم.
على أنا نلتزم أن يكون محدثاً الآن لحصول حقيقة المحدث فيه الآن، وهو أنه موجود لوجوده أول، وليس يلزمنا أن يتحدد له الوجود الآن؛ لأنا لم ندع أن يكون حادثاً كلما حدث فيه عرض، قالوا: عندكم أن القديم يسبق المحدث بما لو كان هناك أوقات لكانت بلا نهاية، فقد جوزتم حوادث لا أول لها.
قلنا: ليس تقدير حوادث لا أول لها يقتضي جواز ثبوتها، ويخرجها عن كونها مستحيلة كما أن تقدير قديم ثان وأنه لو كان لمانع الباري جل وعز لا يقتضي صحة ذلك، والغرض لهذين التقديرين الاستدلال على أن تقدم القديم للمحدث لا أول له أن التمانع جائز بين كل قادرين وإن كان المقدر مستحيلاً، انتهى الكلام في دليل حدوث الأجسام.
تنبيه:

اعلم أنه كما يصح الاستدلال بطريقة المعاني يصح أيضاً بطريقة الأحوال سواء كانت بالفاعل كما يقوله أبو الحسين أو معنوية كما يقوله الجمهور؛ لأن الاستدلال بالمعاني إنما هو من حيث كان لثبوتها أول، ولم يخل منها الجسم، وذلك حاصل في الأحوال، بل ربما أن طريقة الأحوال أولى من حيث أنها معلومة على الجملة ضرورة وأنها هي الطريقة إلى المعاني، ولأن النظر في الحقيقة إنما هو في الأحوال، وقد رجح القاضي طريقة المعاني بأنه يرد على طريقة الأحوال شبه لا يمكن حلها إلا بإثبات المعاني.
منها: أن يقول الخصم لمن ينفي المعاني: إذا جاز عندك الآن أن يحترك الجسم يمنة دون يسرة لا لأمر، فهلا جاز في الأزل أن يكون الجسم في جهة لا لأمر.
واعترضه أبو الحسين بأنا لا نقول أنه احترك يمنة دون يسرة لا لأمر بل لأمر، وهو الفاعل، وليس يمكن إثبات المعاني إلا بعد إبطال كون /62/ الصفة بالفاعل.
ومنها: أن الاستدلال بالأحوال ينبني على صحة خروج الموصوف منها إلى غيرها، وإنما يعلم ذلك بإثبات المعاني التي توجب لذواتها فيستحيل بقاء موجبها مع زوالها والعكس.
ويمكن أن يعترض بأن المستدل بالأحوال يقول لو لم يصح خروج الموصوف عنها لكانت واجبة، فتكون ذاتية، ولو كانت ذاتية لاستحال خروج الجوهر عن الجهة التي هو فيها، ولوجب أن يكون في جميع الجهات؛ لأنه لا اختصاص لذاته ببعض دون بعض، ولزم في جميع الجواهر مثل ذلك، وكل ذلك باطل، ولا يحتاج في إبطاله إلى إثبات المعاني.
قال ابن الملاحمي: وما ذكره القاضي رحمه الله تعالى دور لأنه جعل العلم باستحالة أن تكون هذه الصفة ذاتية متوقفاً على العلم بإثبات المعاني، ومعلوم أن المعاني إنما تثبت بعد بطلان كونها ذاتية.
فصل في شبه القائلين بقدم الأجسام

اعلم أولاً أن الشبهة هي ما التبس بالدليل، وليس بالدليل، وهي ضربان، ضرب يقدح بأن يرد على أركان الدليل فيكون العلم بحله من فروض الأعيان، ولسنا نشترط في العلم بحله أن يعلم كيفية التعيين عن حل الشبهة.
وضرب لا يقدح بأن يرد على المذهب فيكون العلم بحله من فروض الكفاية، وشبه هؤلاء كلها من هذا الضرب، فلا يقدح الجهل بحلها في العلم. قالوا: لو كان العالم محدثاً لكان، فاعله قد حصل فاعلاً بعد إن لم يكن فلا بد من أمر، وذلك الأمر يحدث، والكلام فيه كالكلام في العلم، فيتسلسل.
قلنا: ليس للفاعل بكونه فاعلاً حال حتى يجب تعليلها، وإلا لزم مثله في كون أحدنا فاعلاً، والحوادث اليومية، على أنا نقول ذلك الأمر هو كونه قادراً أو الداعي، وكلاهما غير محدث في حق صانع العالم.
قالوا: لو كان العالم محدثاً لكان الله غير عالم بوجوده في ما لم يزل، ثم حصل عالماً بعد إن لم يكن، وفي ذلك تغيره.
قلنا: العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد، ثم يقال لهم: أتريدون أن في ذلك تغير ذاته بمعنى أنها صارت غير ما كانت، فهو لا يلزم، وإلا لزم مثله في كون أحدنا عالماً بعد إن لم يكن أو يريدون بغير صفته بمعنى أنها كانت متعلقة بأنه سيوجد، ثم تعلقت بوجوده، فصحيح، لكننا لا نسميه تغيراً.
قالوا: استحال وجوده في ما لم يزل لم يخل وجه الاستحالة، إما أن يرجع إلى القادر أو إلى المقدور أو إليهما وكله ثابت في كل حال، فيلزم استمرار الاستحالة.

قلنا: يجوز أن يكون هذا الحكم مما لا يعلل لكون الاستحالة نفياً أو لغير ذلك من الوجوه المانعة من التعليل كالحلول وغيره، ويجوز /63/ أن يكون لهذه الاستحالة وجه لا يعلم، وليس الجهل بوجه الشيء يقدح في العلم به إذا ثبت بدليل، ثم نقول وجهها يرجع إلى القادر والمقدور، وهو وجوب تقدم القادر وتأخر المقدور من حيث يؤثر على جهة الصحة، وإلا لم يكن قادراً ولا المقدور مقدوراً، وليس كذلك إذا وجد العالم بغير عدم؛ لأن المحيل حينئذ زائل، ثم يعارضهم بما يعترفون بحدوثه كالحوادث اليومية، قالوا: لو كان محدثاً لكان لا بد أن يتقدم عليه محدثه بزمان لاستحالة التقدم لا بزمان، وذلك الزمان إما قديم فيلزم قدم العالم لأن المرجع بالزمان إلى حركات الأفلاك، ولأن ما وجد في الزمان القديم فهو قديم، وأما محدث فيعود السؤال في محدثه فيتسلسل.
قلنا: ليس من ضرورة المتقدم أن يتقدم بزمان، ودليله: تقدم الليل على النهار والشهر على الشهر، وأما القديم فتقدمه على المحدث بما لو كان زمان لكان بلا أول.
ثم يقلب عليهم السؤال في الحوادث اليومية. قالوا: الباري تعالى جواد لم يزل؛ لأن في خلاف ذلك نقضه، وكونه بخيلاً.
قلنا: لا نسلم كونه تعالى جواداً، لم يزل بهذا المعنى، ولا أن يحدد هذا الوصف نقص؛ لأن ذلك من صفات الأفعال، فهو كقولنا: رازق ومحسن، وكذلك ليحل المرجع به إلى أنه إحلال مخصوص بواجب مخصوص، فلا يطلق عليه تعالى بحال.
قالوا: إذا وجد العالم في وقت صح أن يتوهم وجوده قبل ذلك الوقت بوقت، وقبل الوقت بوقت، ولهم جراً إلى ما لا أول له.
قلنا: هذا هو محل النزاع، فما الدليل عليه، وهو أيضاً مبني على وجود الأوقات في ما لم يزل ولم يسلمه.
ثم يقال: إذا رأينا داراً مبنية وشخصاً قاعداً على سرير أن يكون كونهما كذلك لم يزل؛ لأنه لا وقت يسار إليه إلا ويصح أن يتوهم كونهما كذلك قبله، فإن أجازوه كابروا وإن منعوه نقضوا شبهتهم.

قالوا: يستحيل وجود شيء لا من شيء، وهذا يقتضي قدم الهيولى.
قلنا: أتريدون يستحيل وجود شيء لا من فاعل مختار فصحيح، لكن فيه حدوث الهيولى، وقدم الباري تعالى أو تريدون يستحيل وجود شيء لا من شيء موجب فمحل النزاع.
قالوا: إنما أثر الله تعالى في العالم لكونه قادراً، وهو حاصل لم يزل، فيجب قدم العالم لحصول المؤثر فيه لم يزل.
قلنا: فأما كونه قادراً على جهة الصحة، فيجب تقدمها. قالوا: لو احتاج العالم في ثبوته إلى الصانع ومعلوم أنه لولا العالم لما ثبت الصانع، لأدى إلى التوقف لاحتياج كل واحد إلى الآخر.
قلنا: العالم يحتاج إلى الصانع في وجوده، والصانع يحتاج إليه في العلم به، فاختلف وجه الحالة، فلا توقف، ونظيره احتياج كل واحد من العلة والمعلول /64/ إلى صاحبه، واحتياج كل واحدة من الجناتين إلى الآخر.
قالوا: لو كان للعالم صانع قديم لكان إنما يفعله لداعي حكمه، وهو علمه بحسنه، وحصول نفع الغير فيه، وذلك الداعي حاصل لم يزل، فيجب حصول العالم فيما لم يزل.
قلنا: الداعي إنما يدعو إلى ما يصح، ووجود العالم في الأزل يستحيل، فلا يدعو إليه الداعي.
وتحقيقه أنه لا يكفي العلم بحسن الشيء، وحصول يقع للغير فيه، أو لنفسه في كونه داعياً، بل لأنه من أن يعلم أو يعتقد إمكانه، وكونه مقدوراً، ولهذا لا يقال دعا أحدنا الداعي إلى أن يفعل لنفسه أو لغيره مالاً وتبين لما كان مستحيلاً من جهته، وإن دعاه إلى أن يوجد من جهة الله تعالى لعلمه أو اعتقاده صحة ذلك منه تعالى، فحصل من هذا أن علم الباري تعالى بحسن الفعل لا يوصف بأنه داع إليه إلا في حال إمكانه، ومتى انتهى إلى تلك الحال فإنما يفعل فعلاً دون فعل، وقدراً دون ما زاد عليه، وفي وقت دون وقت؛ لأن هذا سبيل داعي الحكمة، ألا ترى أن أحدنا يتصدق بدرهم دون درهم وعلى فقير دون فقير، وفي وقت دون وقت، فلا يقال هلا وجدت هذه الموجودات أو أكثر منها دفعة واحدة في أول أحوال الإمكان.
فصل

وأما الركن الثاني وهو أن المحدث لا بد له من محدث، فقد اتفق العقلاء على أنه لا بد من أمر.
قيل: والعلم بذلك ضروري، ونحن نستدل استظهاراً فنقول: المحدث إما أن يحدث مع الوجوب أو مع الجواز أو في كليهما يلزم حصوله، لم يزل دفعة واحدة، أو أن لا يحصل أبداً إذ ليس بأن يجب أو يجوز في حال أولى من حال، ولا بأن يجب أو يجوز أولى من أن لا يجب ولا يجوز لو لا ثبوت أمر لأجله كان الحدوث أولى من العدم، والحدوث في حال أولى من حال.
دليل، قد وجد في المحدثات ما فيه إحكام عظيم، وصنعة باهرة وإتقان عجيب، فلو كان ذلك لا من مؤثر أو من موجب لصح أن يجتمع الواح في البحر ويتركب منها سفينة محكمة من دون صانع أو تطيع لتك الألواح.
دليل: قد ثبت أن لنا أفعالاً وأنها محدثة، وأنها محتاجة إلينا، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها، والأجسام قد شاركتها في الحدوث، فيجب أن تشاركها في الاحتياج إلى محدث.
وهذه خمسة أصول، أما الأولان فيقدما في الدعوتين الأولتين، وأما الثالث فمعنى حاجتها إلينا أنه لولا نحن لما وجدت، وأن لا حول لنا فيها، تأثيراً من كوننا قادرين ومريدين ونحوهما.
دليله أنها توجد بحسب قصودنا ودواعينا، وينبغي بحسب كراهتنا وصوارفنا تحقيقاً أو تقديراً مع سلامة الحال، ويتعلق بها المدح والذم، وليس كذلك أفعال غيرنا كالجواهر والألوان، وحركات غيرنا وكلامه ونحو ذلك.
وأما أنها إنما احتاجت /65/ إلينا لحدوثها فلأن الذي يقف على أحوالنا هو حدوثها أو حدوثها على وجه، ولأنها إما أن تحتاج إلينا لأجل عدمها، وهو ظاهر البطلان؛ لأنها معدومة قبل أن يكون لنا فيها تأثيراً، ولأجل بقائها، وهو باطل أيضاً، لأن كثيراً منها لا يبقى، وإن اخترنا بقاه وكثيراً يبقى، وإن اخترنا زواله ولأنه كان يلزم إذا مات الكاتب والباني أن تزول الكتابة والبناء لفقد ما يحتاجان إليه أو لأجل حدوثها، وهو المطلوب.

فإن قيل: إن حالة الحدوث هي حالة الاستغناء عن المحدث، فكيف يجعل علة في الاحتياج إليه.
قلنا: إنها علة كاشفة بمعنى أن الحدوث كشف عن الاحتياج إلى محدث، فهو كجعل صحة الفعل علة في كونه قادراً.
فإن قال: هلا كانت العلة في الاحتياج هو الحدوث مع الجواز، وإذا حدث مع الوجوب لم يحتج.
قلنا: بالحدوث فقط يعلم الاحتياج إلى محدث، ولا يعتبر قيداً آخر كما أن يكون الفعل ظلماً بعلم قبحه ولا يعتبر حصوله مع الجواز ولا غير ذلك من القيود.
وأما أن الأجسام قد شاركتها في الحدوث فتقدم.
وأما أنه يجب أن يكون لها محدث فلأن الاشتراك في علة حكم يقتضي الاشتراك في الحكم وإلا بطل كونها علة.
وهاهنا أصل، وهي أفعالنا وفرع، وهي أفعال القديم جل وعز، وعلة، وهي الحدوث، وحكم، وهو الاحتياج إلى المحدث. وهذه طريقة من أربع طرق يجمع بها بين الشاهد والغايب، ويسمى علة الحكم لمشابهتها العلة الحقيقية في حصول الحكم عندها لا محالة.
والثانية: طريقة الحكم كاستدلالنا على أن الله تعالى قادر بصحة الفعل منه وتعذره على غيره.
فإن هذه الطريقة التي علمنا بها كون القادر قادراً في الشاهد وإن لم يسم علة، وإن حصل الشبه المتقدم لئلا يوهم أن صحة الفعل هي المؤثرة في كونه قادراً والأمر بالعكس.
والثالثة: ما يجري مجرى العلة كاستدلالنا على كونه تعالى مريداً باختلاف وجوه أفعاله، فإن ذلك هو الدليل على كون المريد مريداً في الشاهد، وإنما لم يسم علة لمثل ما تقدم، ولا سميت طريقة، لأنها لا تطرد دلالتها إلا في من تثبت حكمته، ألا ترى أن أحدنا يوجد كلامه في صورة الأمر وهو لا يريد المأمور لعارض من العوارض.

والرابعة: طريقه الأولى كاستدلالنا على أنه تعالى لا يفعل القبيح بكونه عالماً بقبح القبيح، وغنياً عن فعله وعالماً عن استغنائه عنه، فإن هذه الأوصاف تمنع من فعل القبيح في الشاهد، وإن كان الشاهد عالماً بعلم غبياً بشيء عن شيء، فأولى وأحرى في حق من يستحقها لذاته، ولهذا سمعت طريقه الأولى.
واعلم أنه قد يطلق على الكل علة الحكم لحصول الشبه المتقدم، ولا مضايقة في العبادات إذا فهم المعنى، وهذه الطرق عليها مدار كثير من أصول /66/ الدين، وقد قدح فيها أهل الإلحاد على ما تقدم، وبايعهم من أهل الإسلام المجبرة وغيرهم ممن أحسن الظن بهم، ولم يفهم ما أرادوا به، فالله المستعان.
فصل
وأما الركن الثالث وهو أن محدثها ليس إلا الفاعل المختار جل وعز، فقد خالف فيه من تقدم ذكره من الفلاسفة القائلين بالعقول والأنفس والباطنية القائلين بالسابق والتالي، وأهل الطبع وأصحاب النجوم.
لنا أنها إما (1) أحدثت نفسها أو غيرها، والأول باطل لأنها حالة العدم يستحيل أن تقدر فصلاً عن أن تؤثر في نفسها وحالة الوجود يستغني عن المؤثر، وأن أحدثها غيرها فهو إما مختار كما يقول أو موجب، وهو باطل؛ لأن ذلك الموجب إن كان محدثاً عاد الكلام فيه وفي محدثه حتى ينتهي إلى المختار، وإن كان قديماً أو معدوماً لزم حصول الأجسام لم يزل لاستحالة تأخر المعلول عن العلة، ولزم أن يحصل دفعة واحدة، بل في كل الجهات؛ لأنه لا يخصصها بوقت دن وقت وجهة دون جهة، إلا المختار ولزم أن يكون بصفة واحدة؛ لأنه ليس بعضها بأن يوجب كون الماء ماء والطين طيناً أولى من العكس، ولا بأن يوجب كون الماء طيناً والطين يابساً أولى من العكس.
__________
(1) . في نسخة: إما أن تكون.

فإن قال: إنما لم يوجد في الأزل لحصول مانع أو فقد شرط، قيل له: ذلك المانع إن كان محدثاً عاد الكلام في كون محدثه مختاراً أو موجباً، وإن كان قديماً استحال عليه الزوال، فلا يوجد العالم أبداً لاستمرار المانع، ولو سلمنا زواله لكان إنما يزول بمزيل، وذلك المزيل إما موجب أو مختار، وكذلك الكلام في فقد الشرط؛ لأن الشرط إن كان واجباً فقده استحال وجوده فلا يوجد العالم قط، وإن كان جائزاً فقده وجائزاً حصوله لم يكن بالحصول أولى من الزوال، ولا بالحصول في وقت أولى من وقت إلا لأمر إما موجب ومختار القسمة بعينها.
وأما الفلاسفة فيقال لهم: أي شيء العقول والنفوس، وما الدليل على ثبوتها، وإذا كانت قديمة لم تكن البعض بأن يؤثر في البعض أولى من العكس، ولم كان البعض بان يكون عقلاً والآخر نفساً أولى من العكس، ولِم اقتصرتم على عشرة عقول مع حصول جهة التكثير في العاشر، ولِم كان العقل العاشر هو الفعال والمدبر لعالم الكون والفساد، ولِمَ كانت النفوس حية، ولم كان بان يجعل الماء ماء والطين طيناً أولى من العكس، ولِم كان بأن يجعل بعض الأجسام حياً والآخر جماداً أولى من العكس؟ وما الدليل على ان الأفلاك حية وأن لها نفوساً؟. وبقريب من هذا الكلام يبطل قول الباطنية

10 / 75
ع
En
A+
A-