قلنا: وكذلك يقول في تسميته معتقداً، وأما شبهة أبي الهذيل الأخرى فهي ركيكة جداً؛ إذ يلزمه أن يكون كل اعتقاد جهلاً، وكل لون سواد أو كل طعم حلاوة، وحو ذلك من المجالات ، وحاصل الجواب أنَّه لا يلزم من ثبوت العام ثبوت الخاص، ويلزم من ثبوت الخاص ثبوت العام، ولهذا لا يلزم أن يكون كل حيوان إنساناً ويلزم من ثبوت الإنسانية ثبوت الحيوانية.
فصل
والذي به يعرف كون الإعتقاد علماً هو سكون النفس عند الجمهور، وقال أبو علي: بسلامة طريقه من الإنتقاض.
قوله: (وقال الجاحظ: قد يكون الجاهل ساكن النفس) أراد فلا يكون سكون النفس أمارة لحصول العلم، ولعل الذي منع أبا علي من القول بما قاله الجمهور ما حكاه الحاكم عنه في شرح العيون من أن الملقد قد يكون ساكن النفس مع أن اعتقاده ليس بعلم ومراده بسلامة الطريق من النقض هو أن يستند دليله إلى أصول معلومه ضورورة على ما ثبت في أصول الأدلة، هذا إذا كان العلم استدلالياً، فأما إذا كان ضرورياً فإن كان حاصلاً عن مشاهدة فسلامة طريقه بأن لا يكون ثُمَّ لبسٌ كما إذا ديفَ الزعفران في اللبن فإنه إذا شوهد اللبن بعد ذلك ظن أنَّه أصفر لحصول ليس ونحو ذلك.
قوله: (إن في العلوم ما لا طريق إليه كالبديهي وغيره) يعني كعلم المنتبه من رقدته، وهذا النقض لكلام أبي علي: إنَّما يتأتى إذا جعل سلامة الطريق هي الَّتِي بها يعلم كون الإعتقاد علماً على الإطلاق ولا يعلم كونه علماً بغيرها، ولكنه إنَّما جعل ذلك طريقاً في المكتسب فقط، وكل علم مكتسب متولد كان أو مبتدأ فله طريق أي دليل، وحكاية قاضي القضاة عنه مطابقة لذلك، فإنه لم يحك عنه إلاَّ أنَّه يجعل تميز العلم المكتسب عن غيره بسلامة طريقه ودليله، وهذا الذي يتصور، فأما أن أبا علي يطرد هذه القضية في جميع العلوم مع معرفته بأن في العلوم ما لا طريق إليه فبعيد.

قوله: (وإنه إنَّما يعرف كونه علماً بأم يرجح إليه عني والسلامة من الإنتقاض الَّتِي ذكرها أبو علي راجعة إلى الدليل وإنَّما الذي يرجع إلى العلم هو السكون، إلاَّ أن هذا احتجاج ينفي المذهب.
قوله: (ذاته إنَّما تعرف بسلامة طريقه من البعض بعد أن يعرف كون افعتقاد الحاصل عنها علماً) هذا ذكره أصحابنا وإنهم حكموا بأن الذي يعلم به صحة الدليل معرفة كون الإعتقاد الموجب عن النظر فيه علماً، ولأبي علي أن يقول: بل يعرف كونه صحيحاً بأن يعرف صحة مقدماته، وكون أصوله معلومة ضرورة، وإن لم يكن قد علم ما ذكرتم وعلمه بما ذكرتم مبني على علمه بسلامة الطريق، وكلام الجمهور مبني على أنا نعلم سكون أنفسنا عند العلم ضرورة ولا يحتاج في العلم سكون النفس إلى العلم بأن الإعتقاد الحاصل علم بل هو أمر يوجد من النفس عند حصول العلم فمتى حصل علمنا أن الإعتقاد الموجب له علم وعند علمنا بكونه علماً نعلم أن طريقه سالمة من النقص.
وحجة أبي علي رحمه الله لا معنى لها، بل هي خارجة عما نحن فيه؛ لأن كلامنا فيما به يعرف أن اعتقاد نفسه علم، فأما الغير فمسلم له ما ذكره وكلامه يقضي بأنه لا يذهب هذا المذهب إلاَّ في الإستدلالي؛ إذ لا يتأتى إلاَّ فيه، فأما الضروري فمثله حاصل للغير، وهو يعلم بحصول مثله له أن الذي حصل لنا علم كالذي حصل له، وكلام الجاحظ واضح السقوط؛ لأن التفرقة الَّتِي يجدها أحدنا بين اعتقاده لكون زيد في الدار عند مشاهدته له فيها أو خبر الصادق وبين أن تخبره بذلك رجل من أفناء الناس لا يجدها الحاهل، وكذلك المقلدوإنما يتصور أن على ما ذكره المصنف تصوره ساكن النفس.
فصل
وهذا الحكم ـ أعني سكون النفس ـ الذي به فارق العلم غيره بعلم ضرورة عند الشيخ أبي عبد الله.

قوله: (إن كان المقتضى له ضرورياً) هذا تجوزاً بإطلاق لفظ المقتضى على العلم الذي هو علة في سكون النفس، وليس بمقتض حقيقي؛ لأن المقتضى الحيقي الصفة الَّتِي يوجب للمختص بها صفة أو حكماً، لكمن من عادتهم تسمية العلل بالمقتضياتي جوز إذا عرف هذا، فاعلم أنَّه يمكن إحداث مذهب ثالث غير المذهبين المذكورين، وهو دعوى أن سكون النفس معلوم بالإستدلال مطلقاً وأبطله ابن مثوبة بأنه إذا لم يكن سكون النفس معلوماً من قبل فكيف يمكن أن يستدل عليه وفيه نظر لأنا قد أثبتنا بالدلالة ما لم يكن قد عقلناه من قبل ككبير من المعاني، وكذلك صانع العلم جل وعز، فاطلولى أن يقال: إن الوجدان يدفع هذا المذهب فإنا نجد السكون من أنفسنا ويعرفه من غير دلالة لا سيما في العلوم الضرورية.
قوله: (بأنه لا يمكن الإشارة إلى أمر يجعله دليلاً على أنفسنا ساكنة) قد جعل الجمهور الدليل على ذلك عدم تأثير السبب ككل، وعدم تجويز العالم خلاف ما اعتقده، فإذا لم يوقع تشكيك الغير في نفس هذا المعتقد شكاً ولا ..... بتجويز الخلاف ما اعتقده عرف أن نفسه ساكنة.
قوله: (وبعد فكان يلزم التسلسل في الأدلة) وجه ذلك ما ذكروه، والتسلسل يرتب أمور غير متناهية، واستحالته موجودة من النفس، فإنه يستحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود يعني لأني ما دخل في الوجود صحب الزيادة فيه والنقصان، وماكان كذلك فهو متناهٍ.
قوله: (وهلم جرا) عبارة عن لزوم التسلسل وعدم الموجوب للإقتصار، وأصله ما ذكره الجوهري في صحاحه، قال ما لفظه: ويقول: كان ذلك عام أكدا وهلم جرا إلى اليوم.
قلت: والظاهر أن جرّا منوّن مصدر كجررت الجبل أجره جراً، وذكر بعضهم أنَّه وقف عليه بخط الجوهري جراً مقصور بغير تنوين ولا مدّ.
قوله: (قيل لهم: هذا على بعده) يقال ما وجه بعده هل من حيث أنَّه يلزم توليد النظر لعلمين مختلفين، فهذا عين ما أوردته من بعد أو غير ذلك، فما هو؟

وجوابه أن مراد هذا على بعده أي استبعاد العقل له، فإنه يستبعد إن يكون العلم بالسكون الحاصل حاصلاً عن تلك الدلالة الَّتِي نظر فيها ؛ إذا لا تعلق بينها وبين السكون ولا بد بين الدليل والمدلول من تعلق على ما يستحي.
قوله: (يلزم عليه كون النظر مولداً لعلمين مختلفين فيه سؤالان:
أحدهما أن يقال: مفهوم خطابك أن العلمين لا يستحيل توليد النظر الواحد لهما إذا كانا مختلفين، وأما المثلات فيصح توليده لهما، وليس كذلك؛ لأنَّه لو تعدى من إيجاب علم إلى علم لتعدى ولا حاصر فكان يلزم توليده ما لا يتناهى من العلوم وهو محال.
والجواب: أن ذلك غير مراد له، ولكن أراد تقييد العلمين بالمختلفين لتعرف أن العلم بأمر من الأمور والعلم سكون النفس الحاصل عن ذلك العلم علمان مختلفان، لاختلاف متعلق بهما، وتلك فائدة لا بأس بالتنبيه عليها.
السؤال الثاني، أن يقال: وما المانع من توليد النظر لعلمين مختلفين فإنكم قد أخرتم في غيره من الأسباب توليده للمختلفات كالإعتماد.
والجواب: أنا قد خيرنا الأنظار وسبرناها فوجدنا النظر إذا وقع في الشيء الواحد من وجه واحد لم يولد ازيد من العلم واحداً، فإنا إذا نظرنا في صحة الفعل من زيد لم يوجب إلاَّ العلم بكونه قادراً دون غيره، وإذا نظرنا في أحكام فعله ولد العلم بكونه دون غيره، وإذا صح ذلك طرد القضية في سائر الأنظار، وعرفنا أنَّه لا يصح توليد النظر الواحد لعلمين مختلفين ولا لعلوم مختلفة، هذا حاصل كلام ابن مثوبة.
فإن قيل: فإذا تعلق نظر بشيئين او بشيء واحد من وجهين ، هل يصح توليده لعلمين مختلفين؟

قلنا: لو صح تعلقه بما ذكرت لم يمتنع توليده لعلمين مختلفين، لكن ذلك غير جائز فيه؛ لأنَّه لو تعلق بأحد ذينك المتعلقين أو بذلك المتعلق من أحد ذينك الوجهين وتعلق غيره بالمتعلق الآخر لخالفه فكان يلزم إذا تعلق أيضاً بالمتعلق الآخر الذي لأجل تعلق الغير به، خالفه ذلك الغير أو بذلك المتعلق من الوجه الآخر أن يصير نصفه مخالفة ولا يلزم مثل هذا في القدرة، وإن تعلقت بالمختلفات لما سيأتي.
قوله: (على أن أحدنا إنَّما يجد نفسهطالبة للعلم بالمدلول حال النظر ولا يجدها طالبة للعلم سكون النفس).
فيه سؤال: وهو أن يقال: إذا قدرنا صحة كون النظر سبباً في توليد العلم بسكون النفس، كما كان سبباً في توليد العلم بالمدلول فليس توليده يوافق على طلب النفس لما ذكر؛ لأن توليد الأسباب لما هي عليه في ذاتها لا لطلب الطالب، ولهذا قد يفعل أحدنا اعتماداً وهو غير طالب لشيء من مسبباته، فيقع من دون طلبه، لهذا ليس بوجه مستقل، لكن أورده رحمه الله على سبيل الإستظهار.
فصل
كل ما يعلم استلالاً يجوز أن يعلم ضرورة إلى آخره.
اعلم أن المذاهب الممكنة في هذا الفصل تستمد على إطلاقتين، وتفصيل والإطلاق، الأول لأبي القاسم وهو ما ذكره في الكتاب، الأطلاق الثاني ما حكاه المصنف عن قوم وهو جواره في الطرفين وقت كل لم يقل بهذا القول أحد، وأما التفصيل فهو مذهب الجمهور، وهو أن ما يعلم استدلالاً يجوز أن يعلم ضرورة مطلقاً، وما علم ضرورة يصح أن يعلم استدلالاً بشرطين:
أحدهما زوال العلم الضروري؛ لأن ما كان معلوماً استحال النظر فيه والإستدلال عليه؛ لأن من حق النظر التجويز.

الثاني: ألا يكون ذلك العلم ضروري من علوم العقل؛ لأنَّه إذا كان من علوم العقل استحال أن يحصل بالنظر إذ من شروط النظر اجتماع علوم العقل، مثال العلم بأحوال أنفسنا، ومثال ما لا بعد من كمال العقل فيجوز حصوله استدلالاً العلم بأن زيداً هو الذي كنا شاهدناه من قبل، فهذا يجوز أن يعلمه بالإتسدلال لما لم يكن معدوداً من كمال العقل كان يخيرنا بني صادق ذلك، والشرط الأول يشترط حيث قد حصل العلم الضروري، فأما قبل حوصه لفيصح حصوله استدلالاً من غير اشتراط، وأما الشرط الثاني فمشترط قبل حصوله وبعده؛ لأنَّه قبله لا يتمكن من النظر لعدم كمال العقل، وبعد حصوله لا يتمكن منه لعدم التجويز، وأما العلم الإستدلالي فيصح حصوله ضرورة قبل وقوعه وبعده، وحكي أيضاً عن أبي القاسم في الصحة مثل ما حكى عنه في الوقوع، وهو أن ما يصح أن يعلم استدلالاً وإن لم يكن قد علم لا يجوز أن يعلم ضرورة، وما كان يصح حصول العلم به ضرورة وإن لم يكن قد حصل لا يصح أن يعلم استدلالاً وهو قول مستبعد لظهور ضعفه.
قوله لنا: (أما الأول) يعني وهو أن ما علم استدلالاً يصح أن يعلم ضرورة.
قوله: (فالله عليه أقدر عليه أقدر يعني لكونه قادراً لذاته، ولا يصح عليه المنع وليس كذلك الحال فينا، فإنا لا نقدر في الوقت الواحد إلاَّ قدر من العلم مخصوص، ويصح أن ثمنع من العلم بفعل ضده فينا وقد استدل أيضاً بأنه إذا كان قادراً على العلوم الضرورية كعلوم العقل، كان إنصافاً دراً على أن يخلق فينا العلم بذاته وصفاته، وإذا خلفها كانت ضرورته ، وإنما وجب ذلك؛ لأن من قدر على بعض من جنس وجب أن يقدر على جميع ذلك للجنس وهذا مطرد شاهداً وغائباً فقد ثبت أنَّه يصح منه أن يخلق فينا العلم بما علمناه استدلالاً وهي المقصود.
قوله: (وأما الثاني وهو أن ما يعلم ضرورة يجوز أن يعلم دلالة بالشرطين المتقدمين.

قوله: (فلأنه إذا زال العلم إذا زال العلم بالشيء ضرورة زواله بأن لا يحدده الله تعالى أو بأن يفعل من الجهل ما يمنع تحدده إذا كان في مقدورنا من أجزائه ما يريد على ما وجد فينا من أجزاء العلم، وذلك مع انتفاء إرادة الله مغالبتنا ومنعنا وإلاَّ فمع إرادته لذلك لا يتمكن من اتحاد ما يمنع تحدده من جهته تعالى.
قوله: (لم يمكنا أن نعلمه إلاَّ بالإستدلال) يعني ولا بد من إمكان العلم به؛ غذ لا معلوم إلاَّ ويصح العلم به ولا يستحيل إلاَّ العلم باجتماع الضدين ونحوه لما كان اجتماعهما مستحيلاً، والعلم يترتب على المعلوم، فأما ما عدا ذلك فلا وجه لاستحالته، علمنا به بالدليل.
قوله: (وفي ذلك تمحيص على أهل أجل الجنة وتنفيس على أهل النار) يعني وذلك لا يجوز في حقهم على ما هو مقرر في موضعه، وقد حكي عن أبي القاسم تجويز الغمّ على هذا أهل الجنة، قيل: وهو مخالفة للإجماع، وحكى عليه الحاكم وعن الأحشيدية تجويز الفرع عليهم، وهذا باطل؛ إذ هو ضرر ولا لطف إذ لا تكليف، ولقوله: وهم من فزع يومئذ آمنون}، فأما وقع التنفيس على أهل النار بذلك، فقد قيل: تنفيس عليهم، وهم في أطباق النار يضربون بمقامعها ويتجرعون أنواع العذاب لأجل الوهم الذي لا أمارة له، وليس المنفي عنهم إلاَّ الكف عن العذاب، والتلذذ بالطعام والشراب.
قوله: (وهم عنده مكلفون، وحكي أيضاً عن المجبرة القول بأن الآخرة دار تكليف، والذي يدل على بطلان التكليف في الآخرة وجوه أحدها ما ذكره في الكتاب من لزوم أن تكون لهمم طريق إلى الإنتفاع بما كلفوه، فتؤدي إلى استحقاق أهل النار للثواب وإسقاط توبتهم للعقاب وذلك لأن وجه حسن التكليف هو التعريض للثواب على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقد قامت الدلالة على أن من تاب من أهل النار فلا خلاص له من العذاب والخصم يسلم ومن لازم التكليف قبول التوبة ويلزم أيضاً ما ذكره من استخفاف أهل الجنة للعقاب والدم أن عصوا إذ ذلك من توابع التكليف ومعلوم أنَّه لا يصح أن يستحقوا ذلك ويمكن أن يجعل الجنبة الأولى من هذا الوجه وجهاً مستقلاً يختص بأهل النار والأخرى وجهاً يختص بأهل الجنة، وثانيها ما ذكره أيضاً، ويختص بأهل الجنة وهو قوله وإن يلحقهم مشقة وتلخيص، هذا الوجه أن يقال المشقة خاصة التكليف، فما لم يكن فيه أو في سببه أو ما يتصل به مشقة لم يكن التكليف به تكليفاً، وما كان تكليفاً حقيقياً استلزم حصولها؛ لأن ثبوت ذي الخاصة يستلزم ثبوت الخاصة، وكفى بمشقة النظر الموجودة من النفس والمشقة من حقها أن لا يجامع الثواب، بل من حقه ألا تجامعه المشقة، كما سيأتي إنشاء الله تعالى.
فما أنكرتم إلاَّ يفعل الله النقرة لأهل الآخرة عما كلفهم به، فلا تحصل المشقة بفعل النظر ولا بغيره من التكاليف بل من الجائز إلتذاذهم بأن يخلق الله شهم شهوة متعلقة به، كما في شكرهم له تعالى، فإنه واجب عليهم بحكم العقل ولا يستشقونه بل يلتذون به على ما قيل، وكذلك يلتذون بتعظيم الملائكة والأنبياء.
والجواب: أن الشكر الذي ذكره السائل ليس علهيم فيه مشقة فلا يسمون مكلفين به ولابد مع حكم الخصم بأنهم مكلفون من حصول المشقة؛ إذ هي خاصة التكليف على ما تقدم، فإن اعترف بزوال المشقة فلا تكليف، وعاد الخلاف إلى الوفاق.
وثالثها: يختص أهل الجنة أيضاً وهو أنَّه كان يلزم أن يفعل أحدهم من الطاعات ما يبلغ به ثوابه ثواب بعض الأنبياء والإجماع منعقد على خلافه.
فإن قيل: مثل هذا يلزمكم في الدنيا لو كانت مدة النبي قصيرة وعمر بعض المؤمنين عمراً طويلاً مع إقباله على الطاعات.

قيل له: إنَّه وإن عمر ما عمر في الدنيا فإن أيامها قصيرة بخلاف الآخرة، فإنه لا غاية لها فيكثر ثواب هذا المطيع ويتضاعف على مرور الأزمنة فيؤدي إلى ما قلناه، وقد احتج أبو القاسم بوجهين:
أحدهما ذكره السيد الإمام وتحقيقه أن يقال: إن هذه العلوم الحاصلة لنا بديهية، وعن مشاهدة فخبرة وأخبار لا يصح من أحدنا الإستدلال عليها بلا خلاف، فكذلك يجب فيما علمناه دلالة ألا يصح أن يخلق فينا العلم الضروري به.
والجواب عليهك من وجوه أحدها أنَّه جمع بين أمرين من غير علة جامعة بل الأصل والفرع متعاكسان في العلة والحكم، فالعلة في الضروري كونه معلوماً ضرورة، والحكم ألا تعلم إلاَّ ضرورة، والعلة في الإستدلالي أنَّه معلوم استدلالاً والحكم ألا يعلم إلاَّ استدلالاً.
قيل: ولأبي القاسم أن يقول بل العلة واحدة هي كون الشيء معلوماً من جهة والحكم ألا يعلم إلاَّ من جهته تلك، وهذه العلة موجودة فيما علم ضرورة واكتساباً فيوجد الحكم فيهما على سواء.
وثانيها: أن يقال: أن المعلوم ضرورة قد يعلم دلالة كالعلم بأن زيداً في الدار بالمشاهدة وتخير بني صادق.
وثالثها: أن المعلوم ضرورة إنَّما استحال أن يعلم دلالة لا للعلة الَّتِي ذكرها، بل لأن من حق النظر التجويز والمعلوم يستحيل أن يكون مجوّزاً سواء كان معلوماً ضرورة أو دلالة.
ورابعها أن الذي ذكره من المعلومات ضرورة، والتي قاس عليها من البديهيات ونحوها إنَّما لم يصح الإستدلال عليها؛ لأن الإستدلال عليها لا يكون إلاَّ مع عدم العلم بها، ومع عدم العلم بها لا يكون عاقلاً، ومع كونه غير عاقل لا يصح منه الإستدلال، وليس كذلك ما علم دلالة فإن العلم به ضرورة لا يؤدي إلى دور وهذه الوجوه كلها أشار إليها السيد الإمام.

الوجه الثاني: مما احتج به أبو القاسم، ذكره الإمام يحيى في التمهيد وهو أنَّه لو صح أن يفعل الله فينا علماً ضرورياً بما نعلمه استدلالاً لصح منه تعالى أن يفعل فينا العلم بصفة الشيء باضطرار ويعلم ذاته بضرب من الإستدلال حتَّى يعلم وجود زيد بخير بني ويعرف كونه قادراً باضطرار، وهذا محال.
قلت: وهذا الإحتجاج مبني على أصل متفق عليه وهو المنع عن العلم بالذات استدلالاً و..... ضرورة إلاَّ ما ذكره قاضي القضاه في شرح الجامع الصغير على ما حكاه ابن مثوبة من تجويز العلم بالذات اكتساباً وبالحال ضرورة، وأبطله بأنه كان يلزم إذا ادخلنا على أنفسنا شبهة فزال عندها العلم بالذات أحد باطلين أما بقاء العلم الضروري بالحال وهو محال مع زوال العلم بالذات، وتعذره معلوم ضرورة أو انتفاء العلم الضروري بالشبهة وهو لا يصح، قال الشيوخ: ويجوز أن يعلم الذات ضرورة وصفتها ضرورة أو ضرورة وصفتها دلالة أو دلالة وصفتها دلالة.
فأجاب الإمام عن أصل الشبهة بأن العلم يكون زيد قادراً يتضمن العلم بوجوده ضرورة مستحيل حصول العلم بكونه قادراً باضطرار عند عدم العلم بوجوده ضرورة وهو جواب حسن، وأما الجمهور فيجيبون ان هاهنا ماءاً من حصول العلم الضروري بالحال مع العلم الإستدلالي بالذات وهو ما قررناه آنفاً بخلاف ما لم يحصل فيه هذا المانع كالعلم به تعالى وبصفاته ضرورة بعد العلم به، وهنا دلالة.
فائدة: قال بعض أصحابنا: هذان المذهبان لأبي القاسم وهما القول بأن ما يعلم دلالة لا يصح أن يعلم ضرورة والقول بتكليف أهل الأجرة فيهما بعد عن الصواب كثير وفسادهما ظاهر، ولا سيما القول ببقاء التكليف لأهل الآخرة، فإنه قول يعرف أن يكون خلاف إجماع الصدر الأول والتابعين وخلاف ما يعلم من الأخبار النبوية والآثار.

8 / 158
ع
En
A+
A-