فيه سؤال وهو: أنَّه لايسبق إلى الأفهام من النظر في معرفة الله تعالى إلاَّ أنَّه النظر في الأجسام والأعراض الموجبة للعلم بالله تعالى لا أنَّه النظر في هل النظر واجب أو لا.
والجواب: أن للنظر في وجوب النظر تعلقاً بالنظر في معرفته تعالى إذ لايعول على النظر في معرفة الله تعالى إلاَّ بعد أن قد عرف وجوب النظر عليه وما كان مقدمة للشيء فحكمه حكمه.
قوله: قلنا النظر جنس الفعل.
اعلم أن المتكلمين يقسمون الأفعال إلى قسمين، أحدهما: يسمونه فعلاً واقعاً على وجه كالكلام فإنه يقع أمراً وخبراً ونهياً وتهديداً ونحو ذلك كالسجدة فإنها قد تقع طاعة وقد تكون معصية وكالألم فإنه قد يكون نعمة وقد يكون امتحاناً ونحو ذلك مما له وجه يقع عليه ويصح أن يقع على وجه آخر.
وثانيهما: يسمونه جنس فعل ومجرد فعل والمراد به الفعل الذي لم يقع على وجه مع صحة وقوعه على غيره وإنَّما يثبت له صفة الوجود مع الذاتية والمقتضاه والنظر في معرفة الله مما لايصح أن يقع على وجه دون وجه فلو صح أن يقع غير حسن ويكون قبيحاً أو يكون غير نظر واحتاج إلى القصد لم يكن مجرد فعل، فأما وذلك لايصح فيه فإن النظر في معرفته تعالى لايكون إلاَّ حسناً بل على مذهب المصنف أن كل نظر حسن، ولايقع غير نظر فلم يحتج إلى القصد الذي يخصصه بوجه دون وجه، كما أن السجدة تحتاج إلى ذلك لما صح أن تكون عبادة لله وسجدة للشيطان وكالكلام الذي هو بصيغة الأمر فإنه يحتاج في كونه أمراً إلى القصد الذي يخصه بأن يكون أمراً دون أن يكون تهديداً ونحو ذلك.
قوله: لايحتاج في وجوده إلى كون فاعله عالماً.

أي بكيفية وجوده وترتيبه كالكتابة فإن ذلك غير محتاج لا أنَّه أراد أنَّه لايحتاج إلى كون فاعله عالماً بالدليل فإنه لابد من ذلك إذا كان نظراً صحيحاً يولد العلم فأما إن لم يكن مما يولد العلم فلا يشترط علمه بالدليل بل يشترط ألا يكون في حكم الساهي وسواء كان ظاناً له أو معتقداً أو شاكاً فذلك كافٍ.
فإن قيل: إنَّه يمكن تأدية النظر من المكلف به إلاَّ بالقصد ولايستحق من فعله ثواباً إلاَّ به فلو نظر الناظر في الأدلة الموصلة إلى العلم بالله تعالى وصفاته من دون أن يقصد بفعله وجه وجوبه لم يستحق ثواباً.
قلنا: لم يرد إلاَّ بيان أن النظر يصح أداؤه ويقع من غير قصد فيفارق القصد بذلك النظر فإنه لايصح فعل العلم من دونه فبان أن النظر لايتوقف على القصد لإمكان الإتيان به من دونه فلا وجه لجعله أول الواجبات.
تنبيه
قد تقدم ذكر ما نقل عن أبي هاشم من كون الشك أول الواجبات ويبطل ما ذكره أن أحدنا لايحتاج في ألا يفعل الظن والاعتقاد الذي لايمكن معهما النظر إلى فعل بل يكفي ألا يحددهما فأي فعل يجب عليه في ذلك يجعله أول الواجبات، وهو لايثبت الشك معنى.
فائدة

إذا كان النظر المولد للعلم بالله تعالى لايتم إلاَّ بعد النظر في أول مقدمات الدلالة ثُمَّ في ما بعدها وأحل المكلف بالنظر الول ومضت أوقات يمكن فيها فعل النظار المتأخرة وتوليدها العلوم هل يستحق العقاب على ترك الأنظار المتأخرة والعلوم المتولدة عنها حال ترك النظر الأول لأنَّه عند تركه كالتارك لها لتعذر فعل كل واحد منها في الوقت الذي يمكن فيه فعله أو لايستحق العقاب عليها إلاَّ حال إمكان فعلها. لأبي هاشم في ذلك قولان، والذي صححه بعض المتأخرين أنَّه لايستحق العقاب عليها إلاَّ في الأوقات المتأخرة عن وقت إمكان فعل النظر الأول وتوليده للعلم فيستحق على كل منها عقاباً في وقته الذي لم يفعله فيه، وكان يمكن فعله فيه لو لم يخل بما قبله من الأنظار لاقبل هذا الوقت. قال: وهو الذي صححه ابن متويه رحمه الله.
القول في الأدلة
وبيان ما يصح الاستدلال به على الله تعالى وما لايصح
وينبغي ذكر حقيقة الدليل والدلالة وأسمائهما، والدال والمدلول عليه، والمستدِل، والاستدلال، والمستدَل به، والمستدَل عليه.
أما الدليل فهو في اللغة كما ذكره وقوله على وجه يقتدى به احتراز من أن يعرّف مع عدم الاقتداء به، والنظر إلى قوله فإنه لايسمى دليلاً.
قوله: كما فعلت ابنة شعيب.
يعني فإنها كانت دليلاً لموسى مع أنَّها متأخرة عنه، وذلك أنَّها لما وصلت إليه داعية له إلى أبيها ودالّة له على الطريق، قال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق فإنا أناس لاننظر أعجاز النساء. ففعلت ذلك.
وقيل في حقيقته اللغوية: المتقدم على وجه يقع الاقتداء به، وعليه قول رؤبة بن العجاج:
إذا الدليل أشتاف أكناف الطرق

والدليل في العرف اللغوي من أكثر من فعل الدلالة ولم يقع خلاف في صحة وصفه تعالى بأنه دليل المتحيرين، واختلفوا في وصفه بأنه دليل من غير تقييد فأجازه أبو علي ومنعه أبو هاشم لإيهام أنَّه تعالى ينظر فيه، ونقل عن أبي علي تجويزه مقيداً فقط، وعن أبي هاشم منعه مطلقاص.
وحقيقة الدلالة اللغوية: ما ذكره ولاخلاف في أنَّها والدليل في الاصطلاح بمعنى واحد. قال ابن متويه: وقد استعمل الدليل في الدلالة وهو في أصل اللغة مجاز لكنه لا يمتنع أن يصير حقيقة بالعرف لاطراده، وأراد بالعرف الاصطلاح. واستدل بالاطراد على أنَّه قد صار حقيقة في ذلك إذ المجاز لايطرد.
وحقيقة الدليل والدلالة في الاصطلاح ما ذكره إلاَّ أن السيد الإمام وابن متويه شرطا في كونه دليلاً أن يكون واضعه وضعه للدلالة ولم يقبله الشارحون ولا اعتبره المتأخرون.
قوله: احترازاً من طريقة النظر.
قد تقدمت حقيقة الطريق إذا أطلقت فأما طريقة النظر فحقيقتها كل صفة لذات أو حكم لها يوجب النظر فيها العلم بصفة لتلك الذات أو حكم لها.
ومن أسماء الدليل: برهان، قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم}، وحجة قال تعالى: {ما كان حجتهم}، وسلطان قال تعالى: {إن عندكم من سلطان بهذا}.
وحقيقة الدال: قد تقدمت.
وحقيقة المدلول: من نصب له الدليل ليستدل به ولهذا يقال المكلف مدلول على ما يجب أن يعلمه وهو مدلول سواء استدل أم لا، وقد يستعمل لفظة المدلول في المدلول عليه تجوزاً.
وحقيقة المدلول عليه: ما يتوصل بالنظر الصَّحيح في الدليل إلى العلم به.
وحقيقة المستدل: الناظر في الدليل ليحصل له العلم بالمدلول. قيل: أو الظن للمدلول.
وحقيقة الاستدلال: النظر في الدليل. قيل: وسواء كان ذلك نظراً فيما يوصل إلى العلم أو الظن أو نظراً في شبهة فهو استدلال ولهذا يقال: استدلال صحيح واستدلال فاسد، إلاَّ أن استعماله في النظر في الشبهة تجوّز لاحقيقة.

وحقيقة المستدَل به: الدليل الذي يطلب بالنظر فيه حصول العلم بالمدلول عليه.
وحقيقة المستدَل عليه: المطلوب حصول العلم به بالنظر في الدليل.
تنبيه
ما كان من ذوات السنن كمستدل ومستدل به ونحوهما فلا يسمى بذلك إلاَّ مع وقوع الاستدلال ومالم يكن منها كدليل ومدلول ومدلول عليه فلا يعتبر في التسمية له وقوع الاستدلال بل يعتبر تهيؤ ذلك وإمكانه في نفس الآمر.
قوله: فهما يختصان ذاتاً واحدة.
فيه نظر، فإن صحة الفعل يختص الفعل والقادر به يختص بالقادر وكأنه لمح إلى أن صحة الفعل حكم للقادر ولايعلم إلاَّ بينه وبين المقدور.
قوله: (إنما هو اصطلاح مجرد). يعني لاوجه يقتضيه ولا موجب له فلو سميت طريقة النظر دليلاً لم يكن في ذلك قدح.
واعلم أن هذه عادة لأهل هذا الفن وهي أنهم قد يصطلحون في التسمية اصطلاحاً مجرداً ويفرقون في الاصطلاح بما لايوجب الفرق ومن هذا القبيل أن خصوا بالترك والمتروك أفعال القادرين بقدرة مع حصول المعنى في أفعاله تعالى، ولم يجعلوا الفرق إلاَّ أن أفعالنا تقع بالقدرة وفعله تعالى ليس كذلك وهذا فرق غير مانع من تسمية شيء من أفعاله تعالى تركاً ومتروكاً.
قوله: (فأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما).
يعني من حيث أن الدليل وطريقة النظر كل منهما متعلقه الذات على الصفة وأن الاستدلال في الحقيقة بالصفات لا بالذوات فيهما.
قوله: (فيكون قد علمنا صفة له وهي الحدوث).
يقال: إن أردت بالحدوث الوجود فنحن عالمون له ضرورة من غير نظر وإن أردت بالحدوث وجوده بعد أن لم يكن وهو الأظهر فهذه كيفية لصفة الوجود لا صفة.
قوله: (وذلك حاصل في الصفات).
أما الشيخ أبو هاشم فقد ذهب إلى أن الاستدلال علىحدوث الجسم بغير الذات الَّتِي هي الأكوان غير ممكن وأما الذي قواه المصنف على ما سيأتي وصرح به ابن متويه فإمكانه بالصفة الَّتِي هي الكائنية من غير نظر إلى الكون.
قوله: (ومعلوم أن الذي أثر فيه هو الحدوث).

هذا بناء على أن الذوات ثابتة في حالة العدم وأن الفاعل لايؤثر إلاَّ في الوجود وفيه نزاع شديد.
قوله: (ويتوصل بها في الغالب).
احترز من نحو النظر في حدوث العالم فإنه يتوصل به إلى العلم بمجرد ذات الصانع.
قوله: (فقد ظهر أنَّه لافرق بين الدليل وطريقة النظر).
يقال: غير مسلم بل الفرق باق لأنَّه إن صح ما ذكرته فأكثر ما فيه أن الأدلة هي الصفات والحكام دون الذوات كما أن طريقة النظر هي الصفة أو الحكم ولم يجعلوا الفرق أن الدليل لايكون إلاَّ ذاتاً مجردة وأن طريقة النظرما كانت صفة فقط فيكون قد ظهر بما ذكرته إن صح عدم الفرق بل جعلوا الفرق أن طريقة النظر صفة لذات توصل إلى العلم بصفة لها، والدليل نظر في ذات أو في ذات على صفة توصل إلى العلم بذات أو صفة لذات أخرى، ولم يتبين بما ذكرته عدم الفرق بينهما من هذا الوجه، ولو ثبت اشتراطهم في الدليل أن يكون ذاتاً ممكنة فمسببه من حيث أن الصفة وإن كانت وجه الدلالة كما ذكرته في حدوث الأجسام فإن متعلق النظر هو الذات فالدليل هو الأجسام مثلاً، لكن يستدل بها على حال لها وهي الدليل في الحقيقة وحدوثها إنَّما يجعل وجه دلالة فقط بخلاف طريقة النظر فإنه لايمكن أن يجعل الدليل الذات عليها للزوم أن يكون الدليل نفس المدلول، إذ المدلول هو الذات على الصفة الَّتِي حصل العلم بها فكانت طريقة النظر الصفة فقط، ولعل المصنف واخذهم بظاهر عباراتهم لأنهم جعلوا الدليل ما يوصل إلى العلم بالغير أو بصفة أو حكم للغير ولفظة الغير يستلزم كون الدليل ذاتاً إذا لغيرية الحقيقة لايثبت إلاَّ مع كونه ذاتاً، فكأنهم قد اشترطوا كونه ذاتاً.
وإذا قيل لهم: فما عندكم في حدوث الأجسام، فإن الدليل نفس الحدوث إذ لو لم يثبت لم يدل.

قالوا: بل الدليل الأجسام وحدوثها وجه دلالتها فلا يلزمنا كون الدليل صفة ونحو ذلك، وذهب عباد إلى أنَّه يجب في الدليل أن يكون موجوداً باقياً جسماً معلوماً ضرورة فعلى مذهبه يصح الفرق بين الدليل وطريقة النظر لكن ما ذكره غير مسلم.
فصل: والأدلة خمسة
يعني الموصلة إلى العلم اليقين ولهذا لم يعد القياس والإجماع الظنيين والخبر الآحادي منها، وإنَّما لم يقيدها بالقطعية لن الظني وإن سمي دليلاً فهو على سبيل التجوّز.
قوله: (الكتاب).
الكتاب: هو المكتوب بين الدفتين المنقول نقلاً متواتراص.
قيل: والأولى في تحديده الوحي الذي جاء به جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي تعبد المكلفون بتلاوته.
واعلم أن القطعي من الكتاب ما كانت دلالته صريحة أو تعلم دلالته بنظر ودليل قاطع فأما ما كان يفتقر في دلالته إلى استدلال ولايعرف المراد به بدلالة قاطعة فهو ظني كالاستدلال بقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} على أن الاعتداد بالحيض فثبوت العدة بالأقراء الَّتِي هي الحيض غير مقطوع به لما كان دلالة الأقراء على الحيض ظنية ونحو ذلك.
قوله: ( والسنة المتواترة).
قال الحاكم: السنة ما عرف أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قاله أو فعله وداوم عليه، وإنَّما توصف أخبار الآحاد بأنها سنة على وجه التعارف لا أنا نقطع بها. انتهى.
وقريب منه ما ذكره بعض المتأخرين فإنه قال السيد في اصطلاح المتكلمين والأصوليين لايجري إلاَّ على ما كان متواتراً ومالم يكن متواتراً لم يسم سنة وإن سمي بذلك فعلى وجه المجاز ويسمى خبراً أحادياً فيما لم يحصل العلم الضروري وإن كثر المخبرون، فأما أهل الحديث فيمسونه سنة.
فما نقل من دينه صلى الله عليه وآله وسلم نقلاً متواتراً فهو دليل قاطع لصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصول العلم الضروري بصدوره من جهته ولابد من أن تكون دلالته صريحة أو يمكن بالنظر فيه معرفة المراد به بدليل قاطع.

قوله: (والإجماع والقياس القطعيان).
حقيقة الإجماع: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو عترته في عصر مّا على أمر مَا. ذكره المصنف في العقد. على الخلاف في العترة. والإجماع القطعي ما علم ضرورة أن الأمة قالته أو فعلته مع معرفة الوجه الذي قصدوه بفعلهم. وطريقه: إما مشاهدتهم وسماع قولهم، أو النقل المتواتر عنهم أو عن بعضهم مع رضاء الباقين وعدم إنكارهم مع انتشاره فيهم، والقطع بأن سكوتهم لا لتقية وكونه فيما الحق فيه واحد، والمراد إجماع الأمة وفي كن الإجماع دليلاً خلاف شديد وثبوته دليلاً قطعياً بعيد ولابد من اللام على ذلك فيما بعد وموضع البسط فيه كتب الأصول والله سبحانه أعلم.
وحقيقة القياس حمل الشيء على الشيء لشبه بينهما. والقياس القطعي: ما علم أصله وعلته ومثاله شرعاً أن يرد نص صريح متواتر بتحريم الخمر ونص صريح متواتر بأن علة تحريمه إسكاره فإنا نعلم عند ذلك تحريم النبيذ قطعاً بالقياس وخالف في حجيته أهل الظاهر والإمامية والخوارج، واستدل الحاكم على صحته في العقليات بأنه لولا صحته لما صح القول بالتوحيد والعدل والنبوات والشرائع إذ لايعرف إلاَّ به.
فصول في الاستدلال بالعقل
قوله: (اعلم أن أكثر مسائل أصول الدين لامجال للسمع فيها).
أشار بقوله أكثر إلى مسألة الرؤية ونفي الثاني ونحوهما، وسيأتي تحقيق ما يصح الاستدلال عليه منها بالسمع وما لايصح قوله إلاَّ مؤكداً يعني مؤكداً لدلالة العقل فيورد للتأكيد والستظهار كما يورد في مسألة الأفعال ونحوها.
قوله: (بين مفردات متصورة).
يعني وإلاَّ فمع عدم تصور المفردات لايمكن الحكم بالنسبة، وقد تقدم تقرير ذلك ومثاله ما يحكم العقل به من نسبة الحدوث إلى العالم فإن ذلك بعد أن قد علمنا حقيقة العالم والمحدث وموضعهما.

قوله: بثبوت مثاله الحكم بأن العالم محدث، ونفي مثاله الحكم بأنه تعالى ليس بجسم، أو حسن مثاله الحكم بأنه يحسن منه التكليف، أو قبح مثاله الحكم بقبح الظلم، أو وجوب مثاله الحكم بوجوب شكر المنعم.
قوله: (بجامع الأمر الذي له تثبت النسبة في الذات الأولى).
اعلم أن من اللائق إيراد أمثلة جامع الأمر في ثبوت تلك النسب المتقدم ذكرها آنفاً من ثبوت ونفي ونحوهما فأما جامع الثبوت فقد أورد مثاله.
وأما الجامع في نسبة النفي فكما نقوله في أنَّه تعالى لايفعل القبيح فإنا نقول قد ثبت أن الواحد منها مع علمه بقبح القبيح وغناه عنه وعلمه باستغنائه عنه لايفعله ولاعلة لكونه لايفعله إلاَّ ما ذكرنا فيجب ألا يفعله تعالى لحصول الجامع وهو علمه بقبح القبيح وغناه عنه وعلمه باستغنائه عنه.
وأما جامع نسبة الحسن فكما نقوله قد ثبت أنَّه تعالى يحسن منه تكليف من المعلوم من حاله أنَّه يؤمن وإنَّما حسن لكونه تعريضاً لمنافع لاتنال إلاَّ بالتكليف فكذلك من علم من حاله أنَّه يكفر لحصول جامع الأمر وهو أنَّه بتكليفه قد عرضه لمنافع لاتنال إلاَّ به.
وأما الجامع في نسبة القبح فكما نقول قد ثبت أنَّه يقبح من أحدنا فعل الظلم وإنَّما قبح لكونه ضرراً عارياً عن نفع أو دفع ضرر أو استحقاق إلى آخر حقيقته فيجب منه أن يقبح منه تعالى لحصول جامع المر وهو كونه أيضاً ضرراً عارياً عن نفع إلى آخرها.
وأما حصول جامع الأمر في الوجوب فكما نقول قد ثبت أنَّه يجب على الواحد منا قبول عذر الجاني لأنَّه قد استفرغ وسعه وبذل جهده في تلافي ما وقع منه بندمه على ماكان وعزمه على ألا يعود فيجب عليه تعالى قبول التوبة لحصول جامع الأمر وهو أن التائب قد بذل جهده واستفرغ وسعه في تلافي ما وقع منه فيجب قبول توبته كما يجب علينا قبول الاعتذار ولهذا يُذَم على عدم القبول.
قوله: (من أحد الطرق الرابطة بين الشاهد والغائب).

الطرق الرابطة بين الشاهد والغائب أربع: علة الحكم، وطريقة الحكم، وما يجري مجرى العلة، وطريقة الأَولى. وسيأتي تحقيقها في مسألة إثبات الصانع.
قوله: (لأنه بزعمهم تمثيل للغائب بالشاهد).
يقال: هو ذكلك فما وجه الإنكار.
والجواب أن عبارتهم قاضية بأنه مجرد تمثيل للغائب بالشاهد وأنه لايستدل به ولايعول عليه إذ هو مجرد تمثيل فقط ومجرد حكم يكون الغائب والشاهد مثلين وليس كذلك فإنه تشريك بين ذاتين في حكم دل على اشتراكهما فيه دليل فليس بمجرد تمثيل ولاحكم بتماثل الغائب والشاهد لغير دليل.
قوله: (وأهل الإلحاد).
المراد بأهل الإلحاد الفلاسفة كأنه قال المسمون بالفلاسفة وأهل الإلحاد، وأراد بالإلحاد ههنا معناه اللغوي وهو الميل إلى جانب ومنه سمي اللحد لحداً، والمعنى أنهم قصدوا بذلك الميل عن الإسلام بإيراد الشبه في ضعف أدلة أهله، وقد صار الإلحاد في الشرع اسماً للكفر ويغلب عليه استعماله في جحود الصانع.
قوله: (فسموا الأقيسة).
الأقيسة: جمع قياس، والقياس في اصطلاحهم قول مؤلف من أقوال متى سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، ومثاله: العالم متغير، وكل متغير حادث، فإنه مركب من قولين إذا سلما لزم عنهما لذاتهما العالم حادث، وليس القياس عندهم ما يصطلح عليه أهل علم الأصول لأنهم قد احترزوا عنه بقولهم لزم عنها. قالوا: فإن التمثيل وإن سلمت مقدماته لايلزم عنها شيء آخر لإمكان التخلف.
قوله: (ولاحاجة بنا إلى ذكر المغالطي والشعري إذ لافائدة فيها).
اعلم أن قياس المغلطة عندهم قياس فاسد وأيت من جهة الصورة ومن جهة المعنى، فالذي من جهة الصورة مثاله قولك لصورة الفرس المنقوش على الاحئط: هذه فرس وكل فرس صهال، لينتج أن تلك الصورة صهالة، والذي من جهة المعنى كقولك كل إنسان وفرس فهو إنسان وكل إنسان وفرس فهو فرس ينتج أن بعض الإنسان فرس قالوا: والغلط وقع فيه من حيث أن موضوع المقدمتين ليس بحاصل إذ لاشيء موجود يصدق عليه أنَّه إنسان وفرس.

23 / 158
ع
En
A+
A-