فإن قيل: فهلا كان من فعل الملائكة فكراً كان أو ظناً أو اعتقاداً.
قلنا: إن الملك قادر بقدرة فلا يصح منه تعدية الفعل إلى غيره إلاَّ بالعتماد ولا حظ له في توليد هذه المعاني وإلاَّ لزم أن يولد وإن صدر من جهتنا.
الفائدة الثالثة: في الفرق بينه وبين الوسوسة ووجه الفرق ما ذكره المصنف. قوله: من جهة الله ويريد سواء كان من فعله أو من فعل الملك أما من فعله تعالى فلا كلام في أنَّه من جهته، وأما إذا كان من فعلا لملك فوجه كونه من جهة الله تعالى أن الملك فعله بأمره تعالى ولو لم يأمره لم يفعله وقصد بالخير الطاعة وبالشر المعصية لتأديتهما إلى الخير والشر.
واعلم أن الخاطر والوسواس لا .... بذلك إلاَّ إذا كانا كلاماً خفياً في باطن السمع أو ناحية الصدر ولهذا يلتبسان بالفكر وقد نص صاحب المحيط على أن الشياطين لايقدرون على أن يسمعوانا كلامهم جهرة إذ لو جاز ذلك لعظمت الفتنة بهم وكانوا يوقعون أسباب العداوة بين الناس بما يسمع منهم فيظن أنَّه من جهة الآدميين وكلام الملائكة كذلك إلاَّ ما كان في زمن الأنبياء على جهة المعجز.
فإن قيل: فما تقولون إذا عارضت الوسوسة الخاطرة وساوته في الدعاء إلى المعصية والتأمين من ضررها.
قلنا: الذي عليه جل أهل العدل بل كلهم أنَّه لايجوز تساويهما بل إذا تعارضا وفر الله تعالى الداعي إلى العمل بما يدعو إليه الخاطر مع أن المعلوم أن العاقل إذا عرض له سببا خوف وأمن أن سبب الخوف أكثر تأثيراً في القبول والتحرز عن المخوف كمن يكون فيه جراح فقال له طبيب: إن لم يفتقده بالدوية أهلكه، وقال له الآخر: لاضرر عليه منه، فإنه يؤثر قول من خوفه وينظر في عل ما قاله. ونظير هذا ما إذا تعارض خاطران أحدهما دعا إلى النظر والثاني دعا إلى تركه فإن الذي قاله أبو هاشم وقاضي القضاة وصححه الحاكم أنَّه لايعد داعي ترك النظر معارضاً لأن الخاطر الداعي إلى فعل النظر بين وجه الخوف إذ قد نبه على أنَّه إن لم يعرف ربه وثوابه وعقابه كان إلى الانهماك في المعاصي وترك الطاعات أقرب فيؤديه ذلك إلى العقاب الدائم وذلك مقرر في العقول بخلاف الخاطر الآخر فإنه لم يبين وجه خوف في النظر فكان وجوده وعدمه على سواء. وقال الشيخ أبو علي: بل يعد معارضاً لكنه مدفوع لأنَّه يدعو إلى خلاف ما في العقل فالأول دعا إلى النظر ليزول الخوف والآخر إلى ترك النظر والمقام على الحيرة فلا حكم له.
الفائدة الرابعة: في كيفية وروده وهي على ما ذكره المصنف إما في معنى ذلك الكلام فلا يشترط نفس اللفظ، واختلف أصحابنا هل من الواجب أن يقع في الخاطر التنبيه على الدليل كأن يقول: انظر في الأجسام والأعراض. فقال أبو علي: لابد من إرشاد الخاطر إلى الدليل، واختاره ابن متويه وصححه، وهو أحد قولي القاضي.
قال أبو علي: ومن الواجب أن ينبهه على ترتيب الأدلة لأن النظر يلزمه فيها على الترتيب والتدريج فيجب أن ينبهه على ذلك، وجوز أن ينبهه على الأدلة حالاً فحالاً، على حسب ترتيبها وأن ينبهه على ذلك في حالة واحدة لحصول المقصود بكل من الوجهين، وأوجب أبو عبدالله أن ينبهه على ذلك في حالة واحدة، وقال القاضي: إن عرف ذلك الترتيب والأدلة فلا يجب أن ينبهه الخاطر على ذلك، وإن لم يعلم الترتيب فلابد أن ينبهه وصححه الحاكم. وقال أبو هاشم ـ وهو أحد قولي القاضي واختيار أكثر المتكلمين ـ: لايجب التنبيه على الدليل بل إذا حصل الخاطر وخاف فهو مشاهد للعالم فيقع بطرفيه.
الفائدة الخامسة: ذكر في المحيط أنَّه يجوز أن يحصل أحد أسباب الخوف للمكلف قبل كمال عقله فيخاف فإذا كمل عقله استصحب ذلك الخوف فإن لم يحصل ذلك قبلك مال العقل فلا بد من حصول أحد الأسباب أو الخاطر مقارباً لأول كمال العقل.
الفائدة السادسة: قال بعضهم: لابدمن خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف، ليصح الاختيار، وذهب الجمهور إلى أنَّه لايجب ذلك واختلف القائلون بوجوب الخاطرين فمنهم من قال كلاهما منه تعالى، ومنهم من قال خاطر المعصية من الشيطان.
حجة الجمهور أن المقصود حصول الخوف من ترك النظر وهذا قد حصل من دون الخاطر الثاني فلا حاجة إليه، ثُمَّ أنَّه لاحكم له ولاتعارض على كلام أبي هاشم ولو قدر حصوله فلايجوز أن يكون من جهته تعالى لأنَّه أمر بمعصية وذلك قبيح فأما كونه من جهة نفسه أو من الشيطان فجائز غير شرط.
قوله: وإن اختلف وجه الوجوب كما سلف.
يعني فإن كان الضرر معلوماً فوجه الوجوب هو كونه دفعاً للضرر وإن كان مظنوناً فوجه الوجوب الظن لدفع الضرر والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن المعلوم يجب دفعه لجل ذلك الضرر المعلوم والمظنون يجب دفعه لأجل الظن.
وثانيهما: أن المعلوم لايجب دفعه إلاَّ بعد العلم به ولايكفي الظن في وجوب دفعه مع التمكن من العلم به بخلاف المظنون.
قوله: وهو دور.
يعني من حيث أنا لاننظر إلاَّ بعد أن نعلم وجوب النظر ولانعلم وجوب النظر إلاَّ بعد أن نعلم استحقاق الثواب عليه، ولانعلم استحقاق الثواب عليه إلاَّ بعد العلم بالمثيب، ولانعلم المثيب إلاَّ بالنظر فهو دور بمراتب.
قوله: بل إما يقف الوجوب على العلم بوجه الوجوب.
يعني لا على العلم بوجه حسن الإيجاب أي باستحقاق الثواب عليه فإنه هو الوجه في حسن إيجابه علينا فلو لم يعلم الله تعالى أنَّه يوصل إلينا الثواب وأنا نستحقه لم يحسن إيجاب الشاق علينا وإنَّما حسن للتعريض إلى درجات لاتنال إلاَّ به ووجه وجوب النظر هو كونه نظراً يندفع به الضرر بما يحصل عنه من العلم والضرر الذي يندفع بالعلم الحاصل عن النظر ضرر العقاب لأنَّه مع المعرفة يكون أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات، وبذلك يندفع الضر الذي هو العقاب ويندفع أيضاً ضرر الغم الحاصل عند الحيرة والشك.
قوله: وإنَّما تختلف أحوالهم في النظار المفصلة. يعني كالنظر في معرفة الله تعالى.
قوله: إلى الجملة المقررة. يعني وهو أن كل نظر يندفع به الضرر واجب.
قوله: وإلى مضار الدنيا عن أبي علي.
اعلم أن مذهب الجمهور من أهل العدل أن كل نظر نيدفع به الضرر فهو واجب ويعلم وجوبه على الجملة ضرورة مطلقاً أي سواء كان نظراً في دفع مضرة دينية أو دنيوية، وقال أبو علي: إنَّما يعلم ضرورة على الجملة وجوب كل نظر يندفع به الضرر إذا كان الضرر دنيوياً فأما إذا كان دينياً فإنما يعلم وجوبه على الجملة بالاستدلال بأن يقول: قد ثبت أنا نعلم ضرورة أن كل نظر يندفع به ضرر دنيوي واجب وإنَّما وجب لكونه نظرا يندفع به ضرر وقد شاركه النر الذي اندفع به الضرر الديني في كونه نظرا يندفع به ضرر فيجب كوجوبه.
قوله: وسلامة الحال. يعني من الشبه الَّتِي تقدح في وجوبه وتدعو إلى اعتقاد أنَّه لايجب.
قوله: ونحو ذلك. يعني من اعتقاد أن النظر بدعة أو أنَّه يؤدي إلى الحيرة.
واعلم أنَّه يرد على ما مضى سؤال وهو أن يقال: مسلم ما ذكرته من وجوب كل نظر يندفع به الضرر ولكن إنَّما يلزم ذلك إذا كان الضرر معلوما أو مظنونا والمكلف حال حصول أحد الأسباب لايعلم الضرر ولا يظنه بل يشك فيه أو يتوهمه وأكثر ما فيه أن يستوي عنده تجويز الضرر وتجويز عدمه وما هذا حاله لايجب على المكلف دفعه بنظر ولاغيره.
الجواب: من وجوه، أحدها: أنا لانسلم أنَّه لايحصل له ظن الضرر حال السبب بل يحصل ويكون مغلباً لحصول الضرر على عدم حصوله.
وثانيها: سلمنا عدم حصول الظن وأنه لايحصل إلاَّ الوهم والتجويز فقط فإن المخوف عظيم الضرر فلعظم ضرره قام الوهم والتجويز له مقام الظن الغالب في حق غيره من المضار الَّتِي ليست كمثله.
وثالثها: ذكر معناه ابن الملاحمي وهو أن الضرر المدفوع بالعلم الحاصل عن النظر ليس المراد به ضرر العقاب وإنَّما ذلك الضرر ما يقع فهي غير العالم بالله وتوحيده وعدله ووعده ووعيده من الحيرة والغم لأجل ذلك.
فائدة
ذكر صاحب المحيط أن النظر يفارق غيره من الواجبات لأن وجوب أدائه لايكون إلاَّ مع العلم بوجوبه لامع التمكن من ذلك ففارق غيره من الواجبات فإنها يلزم أداؤها مع العلم بوجوبها ومع التمكن من العلم فالنظر مخصوص من ذلك بما ليس لغيره، والوجه في ذلك أنَّه لايجب إلاَّ لأنَّه يتوصل به إلى دفع الضرر المظنون ومع الظن للضرر قد علم وجوبه فلزم أداؤه ومع عدم الظن لذلك لايجب ولايلزم أداؤه وإن كان قد تمكن من العلم بوجوبه غذ لاوجه يوجبه مع عدم الظن للضرر.
إذا عرفت هذا فكلام المصنف مصرح بعكس هذا حيث قال آنفاً: التمكن من معرفة الوجوب كمعرفة الوجوب. يعني في النظر وكلامه أرجح لأنا نعلم أن كثيراً من العوام لايعلمون وجوب النظر عليهم لا في حال بلوغ التكليف ولا من بعد فكان يلزم أن يكونوا معذورين في تركه وذلك لايصح عند جمهور أصحابنا، منهم صاحب المحيط.
وقوله: ومع الظن للضرر قد علم وجوبه. غير مسلم لجواز أن يعرض له في تلك الحال حارض فلا يرد التفصيل إلى الجملة أو يجوز التقليد أو نحو ذلك، فليس العلم بوجوبه عند ظن الضرر ضروريا إذ لاتكون النتيجة ضرورية إلاَّ إذا كان المقدمتان ضروريتين والمقدمة الأخرى وهو أنَّه نظر يندفع به الضرر غير ضرورية فتبين ضعف ما ذكره صاحب المحيط والله أعلم.
فإن قيل: بل تلك المقدمة ضرورية لأنَّه قد وقع في ضرر الشك والحيرة وهو يعلم ضرورة أنَّه إذا نظر أوصله النظر إلى العلم اليقين الذي يزول معه ذلك الضرر.
قلنا: إن إيصاله إلى العلم معلوم بدلالة لاضرورة وفيه الخلاف المتقدم فلا يصح ذلك.
فصل
والنظر أول الواجبات، والمتكلمون مختلفون في ذلك على أقوال.
فمذهب الجمهور من أهل العدل أن النظر أول الواجبات وكان الأولون يطلقون العبارة تعويلاً منهم على تقديمه ومجيه لتوفر دواعي المكلف إلى فعله وحذراً من أن يشتغل بغيره ثُمَّ قيد المتأخرون ذلك بالقيود الَّتِي ذكرها المصنف.
وذهبت البغدادية إلى أن المعرفة أول الواجبات، وهو خلاف في عبارة إذ هم يوافقون في أن النظر هو الطريق إليها وأنه متقدم في الحصول عليها وإنما الخلاف في أيهما أحق بهذه التسمية، فقالت لابغدادية: الأحق بذلك العلم لأنَّه المقصود. وقال الجمهور: بل الأحق بذلك النظر لنه أسبق وجوبا وفعلا.
وحكي عن الشيخ أبي هاشم أنَّه جرى في بعض أقواله أن الشك أول الواجبات ولعله أراد أنَّه يجب عليه أن يفرغ قلبه من الاعتقادات والظنون المانعة من النظر، ثُمَّ يستأنف الاستدلال على معرفة الله.
وحكي عن الباقلاني القول بأن أول الأنظار أول الواجبات، وحكي عنه أيضا القول بأن القصد إلى النظر أول الواجبات وقد ذكر معنى قوله الول بعض أصحابنا فقال: إذا قلنا أن النظر في إثبات الصانع أول الواجبات فليس المراد به النظر الذي يتولد عنه العلم بالله تعالى، بل المراد بذلك أول نظر في أول مقدمات الدلالة على العلم بالله تعالى فالمقدمات الَّتِي ينبني عليها النظر في الأمر الذي يتولد عنه العلم بالله تعالى يكون النظر في اول مقدمة منها أول الواجبات، ولايبعد أن يكون هذا مراد الجمهور المطلقين لنه أول الواجبات بل لابد من القول بذلك فقد نص أبو علي أن أول ما يجب النظر فيه حدوث الأعراض.
وقال أبو هاشم والقاضي: بل أول ما يجب النظر فيه إثبات الأكوان إذ هي الدليل.
قوله: فهو يطلق على التروك مجازا.
هذا جواب عن سؤال أورده الفقيه قاسم تقريره أن يقال: لاحاجة إلى قولكم أول الأفعال لن قولكم أول الواجبات كاف إذ التروك ليست بواجبة فلفظة الأفعال حشو لافائدة فيها، فحذفها أولى لئلا توهم ثمّ فائدة.
وتقرير الجواب: أن الوجوب قد يطلق على التروك مجازاً فلا بأس بالاحتراز عنه بلفظة الأفعال.
قوله: بل قد يتقدمه بأن يطالب حال كمال العقل إلى آخره.
يعني مع أن المكلف لايجب عليه النظر إلاَّ في الحالة الثالثة من أوان بلوغ التكليف لأنَّه في الوقت الأول يحصل له السبب ويخاف في الوقت الثاني ولايعلم الوجوب إلاَّ في الوقت الثالث لن وجوب النظر يحتاج إلى نظر بخلاف ما إذا وقعت المطالبة المذكورة فإن الوجوب معلوم تلك الحال بضرورة العقل.
قوله: بأن يكون عرضهما بالملامسة مجرد قضاء الوطر.
يعني فإذا انضم إلى ذلك عدم وصول نفع إليه منهما لم يجب عليه شكرهما وقد ذكر في المحيط أنَّه لايلزمه ذلك بالنظر إلى دليل العقل، فأما السمع فقد ورد بحرمة الأبوين ووجوب حقهما وشكرهما من غير فصل لكن كلامنا في الواجبات العقلية.
قوله: سواء كان لها وجود في الخارج أم لا.
يعني سواء كان ثُمَّ نعمة يقع الكلام فيها وفي إلحاقها بالجملة المقررة من أن شكر النعمة واجب أم لا، فإن العلم حاصل غير متوقف على معرفة حصول النعمة.
قوله: في الحالة الثانية فيقول شكراً لفاعل هذه المنفعة الأولى أن يقال: شكراً لله تعالى.
إن كان قصد وجه الإحسان لن هذه الحالة كلام فيما إذا علمنا فاعلها مفصلاً فلا حاجة إلى الإجمال مع أنَّه لا خلل فيه إلاَّ أن الأولى ما ذكرناه. وقوله: المنفعة، ولم يقل: النعمة؛ لأنَّه في هذه الحالة لايعلم أن فاعلها قصد وجه الإحسان وهي لاتكون نعمة إلاَّ مع القصد بخلاف المنفعة فإنها تكون منفعة سواء قصد أم لا.
قوله: في الحالة الثالثة إن كان لها فاعل.
هذا لاحاجة إليه لأنا لانعلم منفعة إلاَّ وقد علمنا أن لها فاعلاً على سبيل الجملة، فالشرط الذي هو إن كان فاعلها قصد بها وجه الإحسان كاف، إلاَّ أن يقال: قد يجوز أنَّها قديمة أو حادثة بالطبع أو مجبة عن علة فتحتاج حينئذ إلى مجموع الشرطين.
قوله: فيكون الشرط في التأدية. أي في تأدية الشرك وهي قول الشاكر: شكرا لفاعل هذه النعمة لا في الوجوب فهو واجب علينا قبل أن يعلم الفاعل لها وقصده، ولايقف العلم بوجوبها على شرط وهذا اختيار من المصنف رحمه الله لما اختاره ابن الملاحمي من وجوب الشرك مشروطاً، فأما الجمهور من أصحابنا فذهبوا إلى أنَّه لايجب إلاَّ بعد معرفة الفاعل وقصده وصرح به السيد الإمام وصححه بعض الشارحين وعليه ينبني اعتراض الفقيه قاسم.
قوله: فيبقى الاحتراز عن شكر النعمة في القيد سليماً عن الاعتراض. يعني بالقيد، قولهم: من غير شرط أراد بالاعتراض اعتراض الفقيه قاسم.
تنبيه
اعلم أن المصنف رحمه الله لم يحتج على أن النظر أول الواجبات بل اكتفى بما يحلل من الكلام والتبيين الحسن وإبطال أن يكون غيره أول الواجبات، وقد ذكر ابن الملاحمي أن المكلف إذا عرف وجوب النظر لم يحتج إلى أن يعلم أنَّه أول الواجبات، قال: وإنَّما ذكر أهل العدل ذلك لشدة الاهتمام بتأديته و... لأنَّه واجب مضيق لايسع تأخيره فضلاً عن تركه، وذكر أصحابنا ما فيه مزيد بيان لذلك فقالوا: الواجبات ضربان شرعية وعقلية، فالشرعية لايصح العلم بها وبوجوبها إلاَّ بعد العلم بالله تعالى وتوحيده وعدله، وبنوه بنية قبلت تقدم المعرفة في الوجوب عليها لتمكن التوصل إلى معرفة وجوبها ولاكلام في تقدم النظر على المعرفة فيكون متقدماً في الوجوب على الشرعيات بلا محالة.
والعقلية ضربان: علمية وعملية
فالعلمية: المعارف الإلهية كمعرفة الصفات والعدل، ونحو ذلك، ومعلوم أنَّه لايجب فعلها إلاَّ بع العلم بالله تعالى إذ لايمكن العلم بها من دون العلم بذاته تعالى؛ لأن العلم بأوصاف الذات وأفعالها مؤخر عن العلم بها. وأما العملية فالمعرفة لطف فيها ومن حق اللطف أن يكون متقدماً على الملطوف ليثبت له حظ الدعاء إليه فقد بان أن المعرفة متقدمة في الوجوب على سائر الواجبات ولاشك في تقدم النظر عليها إذ لايوصل إليها سواه على ما تقدم وما أوصل إلى الشيء فهو متقدم عليه.
قوله: فلا يجب علينا تحصيل شرطه.
اعلم أن الشروط في الواجبات على ضربين أحدهما شرط وجوب بمعنى أنَّه لايجب علينا الواجب إلاَّ إذا حصل هذا الشرط بل لايحسن التكليف به إلاَّ مع حصوله وهذا كأن يؤمر بتأدية فعل إذا كان ما هو كذا أو دل العقل على اشتراطه في وجوب الفعل علينا كما اشترط العقل في وجوب قضاء الدين ورد الوديعة تقدم الفرض والقبض أو دل الشرع على اشتراطه في الواجب الشرعي كاشتراط النصاب في وجوب الزكاة وملك المال الذي يستطاع لأجله الحج فلا يجب علينا تحصيل ما هذه حاله من الشروط والخوف من هذا القبيل لأن العقل قد اشترطه في وجوب النظر وعلمنا أنه لايحسن تكليف من لم يخف لصيرورته في حكم الساهي فلا يجب علينا إذا تحصل الخوف وإذا لم يصح مع ذلك أن يفعله تعالى لنا وأراد تكليفنا بالنظر فعل ما يلجئنا إلى فعل الخوف.
وثانيهما: ما هو شرط في أداء الواجب فهذا يجب علينا تحصيله.
مثاله: في العقل القيام وفتح الباب، والمشي في رد الوديعة بعد أن قبضناها ونحو ذلك. ومثاله في الشرع: الوضوء وستر العورة واستقبال القبلة وطهارة البدن في الصلاة فيجب تحصيل جميع ذلك.
قوله: وجوب النظر عند الخوف معلوم ضرورة.
فيه نظر والصحيح ما تقدم من أنَّه لايعلم وجوبه إلاَّ دلالة ولو كان يعلم ضرورة لم يحتج إلى الاستدلال المتقدم على وجوبه على الخائف ولما اختلف العلماء في ذلك ولما صح قوله المتقدم أن التمكن من العلم بوجوبه قائم مقام العلم لأنَّه إذا كان لايوجبه إلاَّ مع الخوف وهو يعلم عند الخوف وجوبه ضرورة فلا فائدة في ذكر التمكن من العلم ولا حظ له.
قوله: أو بالرد إلى ما علم ضرورة.
يقال: أما هذا فمسلم بأنه إذا علم أنَّه نظر يندفع به الضرر وقد علم أن كل نظر يندفع به الضرر فهو واجب رده إليه لكن المقدمة الَّتِي هي كونه يندفع به الضرر يحتاج إلى نظر فلا يصح قوله فلا يحتاج إلى نظر.
قوله: فهو نظر في معرفة الله فلا يخرج عما قلناه.