إنَّما كان وجه دلالته صدوره عن عدل حكيم لنا مالم نقطع على عدله تعالى لم نقطع على عدم وقوع الكذب ومالم نقطع على عدم وقوع الكذب لم نعلم صدق ما فيه من الأخبار وكذلك فمع عدم العلم بالعدل لايأمن أن يأمر بالقبيح وينهى عن الواجب، فلا يقع لنا العلم بأن ما أمر به واجب أو مندوب وأن ما نهى عنه قبيح أو مكروه إلاَّ أنهم يجعلون الوجوب والقبح لأجل الأمر والنَّهي فلا يرد عليهم هذا وإنَّما يتوجه على قاعدة أهل العدل وتفصيل الكلام في ذلك مختص بباب العدل.
فصل
قوله: (والنظر في الفرع يتوقف في توليده للعلم على النظر في الأصل وتوليده للعلم إذا كان الأصل نظرنا).
اعلم أن قوله يتوقف في توليده للعلم احتراز من إمكانه في نفسه فإنه يمكن حصول النظر في الفرع وإن لم يكن قد نظر في الأصل ولا ولد نظره فيه العلم إذا كان نظريا بأن يعتقده اعتقادا غير علم لكنه إذا اعتقده كذلك لم يولد نظره في الفرع العلم لأنَّه لايجوز العلم بالفرع إلاَّ مع العلم بالأصل ولايكفي اعتقاده مالم يكن علماً وإن أمكن حصول النظر في الفرع لمجرد اعتقاد الأصل فتبين أن هذا الشرط شرط في توليده للعلم لا في حصوله فهو ممكن من دون هذا الشرط.
وقوله: (إذا كان الأصل نظرياً).
احتراز عن أن يكون العلم بالأصل ضروريا فإن النظر في الدليل الموصل إلى العلم بالفرع حينئذ لايتوقف على نظر في دليل موصل إلى العلم بالأصل فإن الأصل لايحتاج إلى نظر في العلم به بل لايتأتى النظر فيه إذ هو معلوم ومعنى كون النظر في الأصل أصلاً أنَّه يجب تقدمه على النظر في الفرع وقد منع أبو هاشم من ترتب بعض الأنظار على بعض، وقال بأنه يصح الابتداء بأي نظر شاء إلاَّ أنَّه وإن صح الابتداء به فلا يولد العلم ولم يجعل المتوقف إلاَّ ما يولد العلم والله أعلم.
فصل

قوله: (وإذا نظر أحدنا فعلم ثُمَّ طرت شبهة فزال العلم فإنه إذا حل لاشبهة لم يحتج إلى تجديد النظر بل يكفي تذكره كالنائم لاستوائهما في زوال العلم).
اعلم أنَّه لافرق بين أن يحل الشبهة أو يحلها غيره أو يهملها فلا يعتبرها فلا تدعوه إلى فعل الجهل، وقد أجاز ابن متويه عند زوال الشبهة أن يحصل له العلم بالتذكر وبالنظر المستأنف إلاَّ أنَّه رجح ما اختاره المصنف من حصوله بالتذكر وحكاه الحاكم عن أبي رشيد وحكى عن أبي هاشم والقاضي وهو الذي صححه القول بأنه يجب استئناف النظر ليحصل العلم، واحتج بأن الشبهة لإزالتها العلم بالدليل أو بالوجه في دلالته قد أزالت العلم بالمدلول، وبزوال الشبهة لايعود العلم فوجه أن يستأنف النظر حتَّى يحصل عالماً لكن هذا النظر لايطول لما تقدم من الممارسة والاختبار والصحيح أنَّه لافرق بين هذا وبين النائم ولم يوجب الخصم بزوال الشبهة عود العلم بل قال: إذا تذكر النظر فعل العلم ولامانع من ذلك.
فصل
قوله: (إذا نظر أحدنا فعلم المدلول ثُمَّ سهى عن الدليل ووجه دلالته فهل يستمر كونه عالما أو لا؟).
اعلم أولاً أنَّه لافرق بين أن يسهو عن الدليل ووجه دلالته وبين أن يسهو عن وجه الدلالة فقط فسهوه عن وجه الدلالة كافٍ ولايفيد علمه بنفس الدليل.
قوله: (يتذكر النظر فيفعل العلم حالاً فحالاً).
أي يتذكر أنَّه قد كان نظر واستدل من قبل وإن لم يعلم الدليل الذي نظر فيه فذكره على سبيل الجملة أنَّه قد كان نظر كافٍ.
قوله: فقال أبو علي بنفي المكتسب إذا منع صاحبه من فعل ضده.

اعلم أن أبا علي يقول بوجوب تجديد المكتسب حالاً فحالاً وعدم بقائه لقوله بأنه لايجوز الخلو من الأخذ والترك ولكن إذا مثنِع من فعل ضد العلم الذي هو الجهل فقد صار ممنوعاً من تجديد العلم لأن المنع عن الشيء عنده منع عن ضده، ويجوز عنده حينئذ خلو القادر عن الأخذ والترك لأجل المنع وإذا كان ممنوعا من فعل العلم استمر عليه وبقي لأنَّه لامانع من بقائه حينئذ ويجب بقاؤه عنده لأن المحل لايخلو مما يحتمله أو من ضده على ما يذهب إليه وهو مما يبقى في جنسه عنده ومما يحتمله المحل الذي هو القلب هو وضده فلا يخلو منه أو من ضده وهو ممنوع من فعل ضده فيبقى هو بنفسه.
قوله: ولأنه متى شك في الدليل ووجه دلالته.
مثال شكه في الدليل أن يشك في صحة الفعل من القادر فإنه يزول علمه بكونه قادرا لما شك في الدليل، وهو صحة الفعل.
ومثال شكه في وجه دلالته أن يشك في تعذر الفعل على العاجز لأن وجه دلالة صحة الفعل على كون القادر قادرا تعذره على من ليس بقادر.
قوله: لاستوائهما في عدم العلم.
أي لاستواء الساهي والشاك المذكورين في عدم العلم بالدليل ووجه دلالته.
قوله: وقال أبو عبدالله يبقى من غير فصل.
أي يبقى العلم بالمدلول من غير فصل بين أن يكون عالماً بالدليل ووجه دلالته أو ساهيا عن ذلك.
قوله: ولكن لايعلم أنَّه عالم به أي أنَّه عالم بالدليل.
قال ابن متويه: كما أن من يدرك مدركا عند الاشتغال العظيم فإنه يعلمه عند أن يدركه ولايعلم أنَّه عالم به والحافظ لكتاب الله تعالى لايعلم أنَّه عالم بترتيب الآي ونحو ذلك وإذا أخذ في القرآن علم أنَّه عالم. إذا عرفت هذا تبين لك العلم لو كان باقياً كان الصَّحيح ما يقوله أبو هاشم من أنَّه يزول عند السهو عن الدليل ووجه دلالته.
فصل
قوله: ومتى نظر في دليل لم يجب عليه من جهة الفعل أن ينظر في دليل آخر.

الوجه في ذلك أن النظر لايجب لأمر يرجع إليه وإنَّما يجب للاتصال إلى العلم أو الظن إذا كان الواجب النظر في الأمارة وإذا كان المقصود هو العلم ولم يجب علينا النظر إلاَّ ليتوصل به إليه وكان العلم قد حصل لنا بدليل فلا وجه يقتضي وجوب النظر في الدليل الآخر إلاَّ أنَّه يحسن لما ذكره فإنه إذا طرت شبهة تقدح في دليله ومعه دليل آخر لم يزل علمه بالمدلول بل يجدده لما قد علمه من صحة الدليل ... وإذا لم يكن قد نظر فيه ولم يعرف من الأدلة إلاَّ دليلاً واحداً زال العلم بالكلية عند ورود شبهة قادحة وكذلك فقد يستعين به كما ذكره، ولهذا فإن كثيرا ما يجري ذلك إذا ورد سؤال على بعض الأدلة. ويقول أصحابنا: ليس هذا ما يقال وإنَّما هو استعانة ببعض ما يذكر في دليل آخر.
قوله: ويجوز أن يجب بالسمع لجواز أن يكون ذلك لطفاً.
يعني إذا علم تعالى أنا إذا نظرنا في دليل آخر كان مقرباً لنا إلى فعل واجب أو ترك قبيح أو جبه علينا إذ قد حصل وجه الوجوب وكان واجباً شرعيا وذلك داخل في الإمكان ولايقال إذا كان كذلك فهلا عرف كونه لطفاً بالعقل لن العقل قد لايهتدي إلى تعيين الألطاف كالواجبات الشرعيات فلا يلزم ذلك.
فصل
قوله: والنظر في معرفة الله واجب.
أي النظر الموجب لمعرفة الله.
قوله: خلافاً لأهل المعارف.
في الإطلاق نظر لن من أهل المعارف من قال بوجوبه لنه شرط اعتيادي أجرى الله العادة بأن لايفعل المعرفة إلاَّ عنده فوجب لأجل ذلك على ما تقدم.
قوله: وأهل التقليد وأهل الشك إلى آخره.
أهل التقليد المجيزون له، وأهل الشك القائلون بأن النظر يؤدي إلى الشك والحيرة، وأهل التكافئ ـ والصواب فيه التكافؤ ـ القائلون بأن الأدلة متكافئة، وأهل السمع القائلون بأنه لاطريق إلى العلوم الدينية إلاَّ السمع، وأهل الظن الذين أبطل مذهبهم ولم يتقدم له حكاية، وأهل البدعة القائلون بأن الإسلام لم يرد إلاَّ بالسيف وأن النظر بدعة.

قوله: ولنا في النظر دليلان ـ أي ولنا على وجوبه ـ الأول منهما: يسمى دليل المعرفة. والثاني دليل الخوف وهو معتمد المتقدمين. والأول ذكره المتأخرون.
قيل ي: وهما معتمدان جيدان يرجعان إلى أن وجوب النظر لدفع الضرر، وقد ذهبت الجبرية إلى أنَّه لايستدل على وجوب النظر إلاَّ بالسمع بناء على أصلهم والذي ذهب إليه أصحابنا أن الدليل على وجوبه العقل والسمع فأما السمع فيستدل به تأكيداً واستظهاراً على من خالف في وجوبه من الفرق الإسلامية إذ معرفة صحة السمع متوقف على العلم بالله تعالى وصفاته وعدله وقد تقدم بعض ما يدل عليه من السمع.
قوله: أما الأولان. يعني وهو أن معرفة الله تعالى واجبة وأنها لاتحصل إلاَّ بالنظر.
قوله: وأما الثالث. أي وهو أن مالم يتم ما هو واجب من غير شرط إلاَّ به، وجب كوجوبه وهو الذي أرادب قوله أولاً الواجب الذي هذه صفته أي الذي هو واجب من غير شرط.
قوله: وقلنا من غير شرط إلى آخره.
يعني فإنه لايجب الحج إلاَّ بالاستطاعة وكذلك لايجب على العبد صعود السطح إلاَّ إذا كان السلم منصوباً لما كان ذلك الذي يتوقف الواجب من الحج وصعود السطح عليه قد شرطه الموجب فأما لو لم يشرطه وجب تحصيله.

واعلم أنَّما كلفناه على ضربين فعل وترك ويدخل فيهما مالايتم الواجب إلاَّ به والذي لايتم الواجب إلاَّ به ينقسم إلى وصلة وغير وصلة، والوصلة تنقسم إلى موجبة وغير موجبة، فالوصلة الموجبة كأن يكلفنا الله تعالى إيلام شخص ولايمكنا إيلامه إلاَّ ...... بنيته فهذه الوصلة يجب علينا مطلقاً، ومن هذا القبيل النظر فإنه وصلة موجبة لما كلفنا تحصيله من المعرفة الَّتِي هي موجب لها ولايمكن تحصيلها من دونه، والوصلة الغير الموجبة كالاستطاعة في الحج والطهور في الصلاة فما ورد من هذا القبيل مشروطاً بوصلته لم يجب علينا فعله إلاَّ إذا حصلت لنا كالحج فإنه ورد مشروطاً بالاستطاعة فلا يجب علنيا تحصيلها بل إن حصلت وجب علينا وإن لم تحصل لم يجب علينا.
وما ورد غير مشروط بوصلته كالصلاة وجب علينا تحصيل وصلته فإذا علمنا أنَّها لاتتم إلاَّ بالطهور ووردت مطلقة غير مشروطة وجب علينا تحصيله وكما إذا قال السيد لعبده اصعد السطح فإنه يجب عليه وصلة الصعود وهو نصب السلم بخلاف ما إذا شرطه وغير الوصلة كمن عليه صلاة فائتة ملتبسة فإنه يجب عليه فعل الصلوات الخمس لما لم يتم له فعل ما وجب عليه وتحقق تأديته إلاَّ بفعلها كلها وكما يجب علينا إدخال جزء من الرأس في غسل الوجه لما لم يتم غسل الوجه إلاَّ به.
وأما الذي لايتم الترك الواجب إلاَّ به فكما إذا التبس إناء طاهر بآنية متنجسة فإنه لايتم تيقن وقوع الترك الواجب وهو ترك الآنية المتنجسة إلاَّ بترك الآنية الأخرى ونحو ذلك.
قوله: الدليل الثاني. هذا الدليل هو الذي يسميه المتكلمون دليل الخوف.
قوله: الخوف هو الظن لحصول ضرر أو فوت نفع في المستقبل.

اعلم أن هذه الحقيقة هي الَّتِي يعتمدها أكثر المتأخرين من أصحابنا. قال ابن متويه: وجعل أبو هاشم الخوف الاعتقاد أو الظن ليزول ضرر به في المستقبل أو فوات نفع عنه أما فيه أو فيمن يجري مجراه والذي يجري مجراه أن يعتقد أو يظن ذلك في بعض أحبائه وقرر ابن متويه هذه الحقيقة وجرى عليها بعض المتأخرين والمفهوم من صريح كلامهم أنهم يريدون بالاعتقاد الاعتقاد الذي ليس بعلم إلاَّ ماكان علما فلا كلام أنَّه ليس بخوف والأولى أن يزاد ما زاده بعضهم فيقال الظن أو الاعتقاد من غير سكون النفس. قال ابن متويه: وقد حكي عن أبي علي أنه أثبتهما نوعين غير الاعتقاد والظن يعني الخوف والخشية.
قوله: اتباعاً لأهل اللغة يعني لما كانوا لايسمون القاطع بحصول الضرر أو فوت النفع خائفاً.
قوله: ولايرد خوفنا للموت.
يعني فيقال: كيف قلتم أن الخوف لايكون إلاَّ ظنا مع أنا نخاف الموت ونحن عالمون بوقوعه وقاطعون به.
ويجاب بأنا لانخافه بنفسه وإنَّما نخاف وقته فهو غير مقطوع بتعينه بل نظن في أكثر الأوقات. قال بعض أصحابنا: وهذا عذر غير محكم وظاهر كلامه أنا نخاف الموت نفسه وأن الملائكة يخافون العقاب مع علمهم بأنهم لايعابون. قال: ففي اصطلاح المتكلمين نظر.
قوله: ولاخوف الملائكة. أي ولايرد اعتراضنا علينا خوف الملائكة فيقال: أنهم يخافون العقاب مع أنهم غير ظانين لحصوله بل قاطعون بأنهم لايعاقبون لما علموه من عصمتهم عما يستحق لأجله ولإخباره تعالى لهم بذلك.
قوله: والأقرب أنهم يخافون.. إلى آخره.

اعلم أن جوابه رحمه الله فيه نظر لن قوله يخافون بلفظ المضارع وهو موضوع لإفادة الحال وقد يؤتى بهذه العبارة لإفادة الاستمرار وليس مما يدل على المعنى، ومن المعلوم أنهم حال إخباره تعالى لنا عارفون له غير خائفين من ترك النظر في معرفته وإن جعل يخافون حكاية حال ماضية ولم يحمل على ظاهره في إفادة الحال فقد قال تعالى: {يخافون ربهم} وهم قبل النظر وحال الخوف الحاصل قبله غير عارفين له وذلك الخوف ليس خوفاً له.
قوله: لأن تعلقه بعكس ذلك رجاء.
اعلم أن الرجاء والطمع والأمل في مقابلة الخوف والخشية والإشفاق. وحقيقة الرجاء وما يرادفه على قياس ما ذكره أبو هاشم في الخوف والظن أو الاعتقاد من غير سكون النفس لحصول منفعة أو دفع مضرة في المستقبل للظان أو المعتقد أو من يجري مجراهما والذي يجري مجراهما أن يظن أو يعتقد ذلك لبعض أحبائه، وعلى قياس ما ذكره المصنف في الخوف الظن لحصول منفعة أو دفع مضرة في المستقبل.
قوله: لن ما قد وقع لايخاف وكذلك فلا يرجى ولايؤمل ولايطمع فيه.
تنبيه
وأما اليأس والمن فلا يكونان إلاَّ مع العلم فإذا علم فوت منفعة أو وصول مضرة في المستقبل فهو آيس وإذا علم حصول منفعة أو دفع مضرة فهو آمن، ولابد من شرط الاستقبال فيهما وأما الندم والأسف فلا يكونان إلاَّ على ما مضى من فعل نفسه فإذا اعتقد مضرة أو فوت نفع عليه لأجل فعل متقدم منه لولاه لم يكن ليلحقه ذلك فهو نادم آسف.
قوله: ولا الفعل لأجله يعني ولايحسن أن يفعل أمراً ظن وجوبه أو ندبه ظناً صادراً لاعن أمارة فأما الظن الصادر عن أمارة صحيحة فيحسن فعله والفعل لأجله كما يفعل المجتهد أفعالآ ظن وجوبها أو ندبها ظناً صادراً عن أمارة صحيحة من حيث عدل أو قياس أو نحو ذلك.

قوله: إلاَّ إذا حصل عن أمارة صحيحة. الأمارة الصحيحة ما يختار المكلف عند النظر فيها الظن ويكون حسناً ذكره بعض أصحابنا وفيه نظر لأن ابن متويه قد ذكر أن من الظن القبيح ما يفعله المرء وهو يتمكن من تحصيل العلم إذا كان من باب ما كلف أن يعلمه فلو قدرنا أنَّه فعل ظناً بالله تعالى عند أمارة صحيحة لكان قبيحاً على ظاهر كلام ابن متويه وهو الجاري على قواعدهم.
ومثال الأمارة الصحيحة أن يرى في جدر تشققاً وانتثار تراب منه ونحو ذلك فإن هذه أمارة صحيحة توصل إلى ظن خرابه وكما إذا رأى دخاناً فإنه أمارة حصول النار وكخبر العدل الذي صحت عدالته. قال الفقيه قاسم: وغير الصحيحة كأن يقف تحت جدار ولايرى شيئاً مما ذكرناه، وفيه نظر؛ لأنَّه لا أمارة ههنا فضلاً أن يقال هي صحيحة أو غير صحيحة وإذا فعل حينئذ ظناً فهو لا عن أمارة بل كظن السوداوي، وإنَّما مثال الأمارة غير الصحيحة أن يرى شيئاً على صورة الدخان وليس بدخان فيظن أن ثُمَّ ناراً ونحو ذلك.
قوله: وبهذا يفارق ظن السوداوي. أي بكونه صادراً عن أمارة فإن ظن السوداوي لاعن أمارة.
قوله: واعلم أن للخوف أسباباً.
لما بين رحمه الله ماهية الخوف وحقيقته بين أسبابه الَّتِي لابد للعاقل من أن يخاف عند حصول أحدها ليثبت الأصل الأول وهو أن العاقل عند كمال عقله لابد أن يخاف.
قوله: منها: أن ينبه من ذي قبل. أي من قبل نفسه.
واعلم أن هذا السبب لم يذكره السيد الإمام وقد قال أبو هاشم أنه لايكفي سبباً للخوف بل لابد معه من بعض الأسباب الأخر، وقال أبو علي: بل هو كافٍ فلا يحتاج معه إلى غيره، واختاره صاحب المحيط والحاكم.
حجة أبي هاشم: أن المرء لايثق بما يراه من نفسه ولهذا يألف أكثر الناس التقليد ثقة بالغير واتهاماً للنفس فإذا لم يقصد ذلك الانتباه خاطر لم تقع الثقة.
وأجيب بأنه إذا حصل من جهة نفسه الخوف فهو يكفي ويستوي فيه المظنون والمعلوم وما كان من جهة نفسه وما كان من جهة غيره.

قوله: فإن لم يحصل أحد هذه الأسباب.
اعلم أن من أصحابنا من زاد فيها أن يرى كتاباً فيه موعظة أو وعداً ووعيداً وكأنه رحمه الله اكتفى بقوله أن يسمع الوعظ والأخبار لأنَّه لافرق في ذلك بين الرؤية له في كتاب والسمع له من أحد.
قوله: وجب على الله تعالى أن ينبهه بالخاطر.
اعلم أن الكلام على الخاطر يقع في فوائد ست:
الولى: الدليل على وجوه وهو ما ذكره المصنف وتلخيصه أن المكلف إذا عدم الأسباب صار في حكم الساهي وإن لم يكن ساهياً عن جميع العلوم ولا ناسياً لشيء قد يعود حفظه ولاكلام في قبح تكليف الساهي فإن قبحه مما يعلم بضرورة العقل. قال الفقيه قاسم: ولأنه إذا كان للخوف شرطاً فيحسن التكليف حتَّى يقبح التكليف من دونه فأولى وأحرى أن يقبح تكليفه من دون الخاطر الذي هو أصل الخوف. قال بعض أصحابنا: ووجوبه مشروطاً بعدم الأسباب كلها ولايجب إلاَّ على قولنا بجواز انفال التكليفا لعقلي عن السمعي فأما من لم يجوز ذلك فدعاء الرسول ونحوه كاف.
الفائدة الثانية: في بيان جنسه فالذي ذهب إليه الجمهور ما ذكره رحمه الله من أنَّه كلام خفي يلقيه الله في باطن سمعه والمراد من داخل الصماخ للأذن. قال بعض أصحابنا: أو في ناحية صدره، ولم يذكره المصنف ولا ابن متويه، ولعلهما استبعدا أن يكون مع خفاه مسموعاً من ناحية الصدر والله أعلم. وقد خالف أبو علي الجمهور فتارة قال أنَّه من قبي الظن وتارة قال أنَّه من قبيل الاعتقاد، وإن كان أبو هاشم قد روى عنه أنَّه أقام الخاطر مقام دعا الداعي.
قال أبو هاشم: فهذا يقضي بأنه يذهب إلى أنَّه كلام. قال ابن متويه: إلاَّ أن المنصوص له خلاف ذلك، وقطع في المحيط على أن أبا علي لم يقل بأنه من قبيل الكلام وقد احتج المصنف رحمه الله على بطلان هذه الأقوال.
قوله: فيكون علماً ضرورياص. الوجه في ذلك أنَّه قد وقع على احد الوجوه المعتبرة الَّتِي وقوعه عليها يوجب كونه علماً وهو وقوعه من فعل العالم بالمعتقد.

21 / 158
ع
En
A+
A-