قوله: إلى أنَّه جوهر بسيط. أرادوا بالبسيط الذي لايتجزى وليس بمتحيز، حكاه بعض أصحابنا فإن صح أن مرادهم ظاهر ما ذكروه وحمله عليه أصحابنا فيبطله لزوم أن تكون الجمادات عاقلة بل لزوم تكون كلها عقولاً ولزوم أن من كثرت جواهرة كثر عقله ويلزم في كل جوهر أن يكون عاقلاً لكن في ذلك نظر فقد عرف أن مرادهم بالجوهر البسيط ما لايتحيز وهذه الوجوه بناء على أنَّه هذا المتحيز فالأولى أن يقال ما ذكروه غير معقل إذ لايعقل جوهر غير متحيز ثُمَّ أنَّه لاطريق إلى ما ذكروه لو قدمها أنَّه مما يعقل قوله، ويمكن أن يقال له مع ما تقدم يعني من الدلالة على أن العقل هو تلك العلوم دون غيرها.
قوله: ويمكن أن يقال له مع ما تقدم يعني من الدلالة على أن العقل هو تلك العلوم دون غيرها. قوله: إن بنية قلب النائم صحيحة معتدلة ـ يعني في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللحمية والدمية ـ وهذا هو مراد أبي الحسين بالبنية الصحيحة، وهو ألا يزيد إحدى هذه المتقابلة على ما يقابلها بل تكون على سواء في القلة والكثرة. والله أعلم.
ولأبي الحسين أن يقول: لا أسلم كون بنية قلب النائم صحيحة بل من الجائز أن يكون النوم سبباً لتغيرها أو يكون تغيرها واقعاً مع النوم، إما لحصول النوم وإما على طريق الموافقة لكنه يقال: وما الطريق إلى ما ذكرته فإنه لايجوز إثبات ما لاطريق إليه ولادليل عليه.
قوله: وبعد فقياسه للقلب على العين إلى آخره الذي يظهر من عبارة أبي الحسين أن ذلك لمجرد التمثيل لا للقياس لكنه إذا لم يكن قياساً فما دليله على ما ذهب إليه فإن مجرد التمثيل لايغني عن إيراد الدليل.
قوله: يومكن استعمالها في المدرك ضرباً من الاستعمال. اعلم أن استعمال العين في المدرك انفصال الشعاع من نقطتها وحصوله مع المدرك بحيث لاساتر بين الشعاع والمدرك ولاما يجري مجرى الساتر، والذي يجرى مجرى الساتر هو أن يكون بين الشعاع والمدرك فصل يصح وقوع ساتر بينهما فيه، وإن لم يكن حاصلاً، ولايقال: الاستعمال اتصال الشعاع بالمرئي لأن اللون مرئي ولايتصل الشعاع به إذ ليس بمتحيز فإذا قبل أو بمحله اختلف الشرط ولايجوز في الحاسة الواحدة أن يختلف الشرط في الإدراك بها قياساً على سائر الحواس، ولهذا الكلام تفصيل ليس هذا موضعه.
وقوله: ضرباً من الاستعمال أراد به أن استعمال العين ضرب من جنس وهو الاستعمال على الإطلاق بالنسبة إلى سائر الحواس فلكل حاسة استعمال فإن استعمال حاسة الذوق مماسة اللهاة لمحل الطعم واستعمال حاسة الشم مجاورتهما لمحل الرائحة إذ لابد في الشم من ذلك واستعمال حاسة السمع فتح الأذن وإصاختها للسماع لا غير ذلك، واستعمال حاسة اللمس أن يحصل محل ..... مع الملموس بحيث لاساتر ولاما يجري مجراه.
وأما الفائدة الخامسة: وهي في ذكر محله فمذهب الجمهور من أصحابنا أن محله القلب لأنَّه من جنس العلوم وقد تقرر أن محلها القلب فإنه لايصح وجودها في غيره، وذهبت الفلاسفة إلى أن محله الدماغ هذا ما حكاه أصحابنا عنهم إلاَّ أن هذه الحكاية وحكاية أنَّه عندهم جوهر بسيط غير مترابطتين فإن صح أنهم نصوا على أن محله الدامغ ففيه دليل على أنهم يجعلون العقل من قبيل العلوم لأنهم يقولون في العلوم كلها محلها الدماغ، واحتج أصحابنا على أن محله القلب بأن أحدنا يجد بعقله للأشياء وعلمه بها من ناحية الصدر وإن لم يعلم مكانه على التفصيل، وبأ،ه يحتاج إلى بنية مخصوصة لأنَّه من العلوم وقد تقرر حاجتها إلى بنية مخصوصة إذ لو لم يكن كذلك لصح من أحدنا اتخاذ العلم في يده أو رجله، والبنية حاصلة في القلب دون الدماغ، وبقوله تعالى: {لهم قلوب لايعقلون بها} {فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الَّتِي في الصدور}.
فإن قيل: إن هاتين الآيتين تدلان على مذهب المطرفية لأن فيهما تصريحاً بأن القلب هو العقل لأنَّه محله؟ قلنا: الظاهر وإن كان على ماذكرته فهو من باب تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى: {فليدع نادية} فأراد بالنادي أهل النادي.
واحتجت الفلاسفة بأن الدماغ إذا فسد زال العقل فدل على أنَّه محله. وأجيب بأنه قد يزول عند اجتراح بعض الأعضاء فيلزم فيما كان كذلك أن يكون محلاً للعقل والتحقيق أن ذلك لمناسبة بين القلب والدماغ واتصال فإذا فسد الدماغ فسد القلب وبفساده يزول ما يحله، فيحتاج إلى صحة الدماغ، فإن قيل: وكيف هذه المناسبة مع البعد. قلت: لاتتوقف المناسبة على الاتصال والمجاورة بل اتصال مجاري دمائهما ورطوباتهما بعضها ببعض كاف في المناسبة ألا ترى إلى المناسبة الَّتِي بين اللحية والمداك ومع التباعد وعدم المجاورة فإن المداك إذا قطعت لم تنبت اللحية، وإن كانت من قبل نابتة فإنها تتساقط ذكره بعض المتأخرين وذكر ابن مثويه أن الشعر يبقى إذا قد نبت وكان وقوع القطع عقيب ذلك.
تنبيه
قد عرفت بما تقدم أن محل العقل هو القلب، وأنه لايجوز حلوله في غيره لحاجته إلى تلك البنية وإذا تقرر ذلك فكل حيوان إذا حصلت في قلبه البنية الَّتِي يحتاج العقل في وجوده إليها صح وجوده فيه ولاعبرة بالصور والأشكال واختلافها ولذلك اشتركت الملئكة والجن والإنس في حصوله مع اختلاف صورهم وأشكالهم وعلى هذا قيل في العقل إذ قد تصدر مثله من الصبي والمجنون.
وأما الفائدة السادسة: وهي في بيان طرف من شرف العقل فقد ذكر ذلك بعض أصحابنا وحاصل كلامه أنَّه قد ثبت أن الموجودات أشرف من المعدومات لتأثير الصانع فيها ودلالتها عليه وعلى قادريته وعالميته وأن النامي من الموجودات أشرف من غيره لاختصاصه بمزيد إحكام وبديع انتظام وغرابة في خلقه وعجيبة في صنعته، وأن الحيوان أشرف من غيره من الناميات لما خصه الله به من حصول أبلغ درجات الإحكام مع ما خلق فيه من القدرة والشهة وتمكينه من الانتفاع وأن العاقل من الحيوان أشرف من غير العاقل لتمكنه بالعقل من العبادات والطاعات الَّتِي ..... إلى درجة الثواب الَّتِي لاينالها غيره من الحيوانات وليمكنه بالعقل من التفكر والنظر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الصنعة وغرائب الحكمة ولمعرفته بما ينفعه ويضره من الأمور الدينية والدنيوية ولتمكنه من الاهتداء بالشمس والقمر وانلجوم في مسالكه ولأأوقات عباداته ولتمكنه به من معرفة منشأه وخلقته ولخلوصه به عن أن يكون مملوكاً متصرفاً عليه، وما نال ذلك كله إلاَّ بالعقل ولا غرو في ذلك إذ عده العلماء من أصول النعم فالحمدلله الذي جعلنا ممَّن خصه به حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه تعالى لما خلق العقل قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو عندي أشرف منك بك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب وبك آمر وبك أنهى. إذا عرفت هذا فالمختص به ثلاثة أصناف الملائكة عليهم السلام وهم أشرف العقلاء لأنهم لايعصون الله ما أمرهم ولايرتكبون ذنباً بل يمتثلون أوامره تعالى ويحتذون ما نهى عنه وبنو آدم وهم أتم العالم السفلي وأكثرهم نعمة، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}، وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} والجن فإنهم ممَّن حظي بشرف العقل وثبت لهم على كثير ممَّن خلق الفضل.
تنبيه
وإذا فرغنا من الكلام في العقل فلنستو إلى أمور تنافيه وتناقضه وهي الجنون والسكر والسهو والنوم، أما الجنون فهو عبارة عن زوال العقل فقد يكون لخلل في علومه وعدم كمالها ونقصانها وقد يكون لعارض كالصرع والأكثر على أنَّه لم يعرض للإنسان فيذهب عقله كغيره من الآل وليس من الشيطان ولابسبب من الجان.
وقيل: بل من مس الشيطان ومما يشهد له قوله تعالى: {كالذي يتخبطه الشيطان من المس} والجمهور يتأولون الآية على أنَّها واردة على ما يعتقده العرب وتزعمه من ذلك، وقيل بل بدخوله الجسم وقد يتواتر أو يقارب التواتر حكايات عن المصروعين تقضي بمخالطة الجان والله سبحانه أعلم، وقد قيل: لامانع من جهة العقل أن يقع الاختلاط والدخول، وتفريق بنية العقل فيزول لولا أنَّه منع من ذلك السمع وهو قوله تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان}، وأما السكر فقيل أنَّه سهو يعتري الإنسان مع فرح ومسرة لا لعروض مرض أو علة، قلت: وفيه نظر ولاشك أن السكر أمر ثبوتي لايرجع إلى انتفاء العلم وذلك أمر موجود من النفس والله أعلم، وأما السهو فقد تقدم تفسيره، وأما النوم فقيل: جلس برأسه، والجمهور على أنَّه سهو يعتري الإنسان مع استرخاء في الأعضاء.
فصل
قوله: زعم أهل السفسطة والعنود إلى أنَّه لايصح العلم بشيء. عدى المصنف زعم بإلى وهو مما يتعدى بنفسه ولعله ضمنه معنى ذهب، واعلم أن أهل هذا المذهب أحقر من أن يشتبه الحال في بطلان مذهبهم وركة كلامهم ولعمري إن مذهبهم غير جدير بأن يوضع في الأوراق ويتكمل عليه علماء الآفاق وهؤلاء الذي ذكرهم المصنف يسمون أهل التجاهل لإنكارهم ما قد حصل لهم من العلوم الضرورية وتحميل أنفسهم، وقيل لارتكابهم الجهالات، وهم ثلاث فرق:
الأولى: هؤلاء الذي ذكرهم رحمه الله وسموا سوفسطائية وسوفسطية لأن السفسطة إنكار العلم بالمشاهدات وغيرها من المعلومات، حكى الحاكم عن بعض المشائخ أنَّه قال لواحد منهم: ألقولك لاحقيقة للأشياء حقيقة أم لا؟ فإن قلت: نعم ناقضت، وإن قلت: لا أثبت للأشياء حقيقة.
الفرقة الثانية: تسمى العندية والعنود لقولهم بأن حقيقة كل شيء ما كان عند الإنسان زعموا أن حقائق الأشياء تابعة للاعتقادات وليس لها في أنفسها حقيقة فمن اعتقد في العالم أنَّه قديم فهو قديم ومن اعتقد فيه أنَّه محدث فهو محدث.
الفرقة الثالثة: قالوا لاحقيقة إلاَّ لما يشاهد بالحواس دون غيره فأبطلوا سائر المعقولات غير المشاهدات وأثبتوا المحسوسات فقط، ومن المناظرات المحكية مع أهل التجاهل ما حكاه الحاكم عن أبي الهذيل رحمه الله. قال: ناظره جهم في دار المأمون فأنكر جهم في حال المناظرة سائر الأشياء فأمر أبو الهذيل بدابته فذهب بها وجيء بكلب فأقيم مقامها، فلما خرج قال: أين الدابة. فقال له أبو الهذيل: أي دابة؟ قال: ما كنت راكباً؟ قال: أبو الهذيل لم يكن لذلك حقيقة لعلك تظنه. فقال: لا بل كان لي دابة. قال: لعله هذا. قال جهم: هذا كلب. قال: لعلك تظنه كلباً وهو دابة فما زال أبو الهذيل يراجعه على هذا القياس حتَّى رجع عن مذهبه.
ودخل أبو الهذيل على صالح بن عبدالقدوس يعزيه عن ولد له جزع عليه جزعاً عظيماً، فقال: ما هذا الجزع وقد عرفت الاعتقاد. فقال صالح: ليس جزعي عليه لموته ولكني صنفت كتاباً أحب أن كان قرأه. قال أبو الهذيل: وما ذلك. قال: كتاب الشكوك. قال أبو الهذيل: وما فيه؟ قال صالح: من قرأه شك فيما كان لعله لم يكن وفيما لم يكن لعله كان. قال أبو الهذيل: فيجب إذن أن تشك لعل ابنك لم يمت وتشك لعله قرأ، فانقطع.
قوله: وكالعنبة ترى في الماء كالأجاصة، الأجاص ثمر معروف وحبته كبيرة تزيد على العنبة بشيء كثير، قوله: يرى على الشط، الشط جانب النهر، وهو يستعمل أيضاً في جانب الوادي وفي السنام فكل جانب من السنام شط والجمع شطوط، قوله: يراه راكب السفينة كأنه سائر أي سائر في خلاف جهة سيره فإذا كانت السفينة ذاهبة نحو جهة الشام رأي راكبها الشط والأشجار النابتة فوقه كأنها سائرة إلى جهة اليمين.
قوله: ونحو ذلك. يعني من شهرهم كقولهم أن الناظر في السيف يرى وجهه طويلاً وأن الشمس ترى كأنها قرصة مع أنَّها أكبر من الأرض والقمر تحت السحاب يرى كأنه يسير والسحاب واقع والأمر بالعكس، ومن أدار نفسه مراراً كثيرة رأى الأرض كأنها تدور معه وتراها كأنها تنخفش وترتفع. قوله: لأمر يرجع إلى الأشعة يعني أن الواحد لما كان لايرى الإشعاع ينفص من نقطة عينه وقد تختلف أحوال ذلك الشعاع في انعكاسه وانعراجه واستقامته وقع الغلط في المناظر فلو لم يكن أحدنا يرى بالشعاع لم يقع ذلك، وهذا جواب جملي وتفصيل الكلام في الجواب عليهم أن يقال: أما السراب ويخيل الرآي له بصفة الماء فلأنه أجزاء من بخار الأرض يرتفع ولونها شبيه بلون الماء فإذا وقعت عليه الشمس تلألأ واضطرب فظن ماءاً وأما العنبة فترى كبيرة لما جاورها من أجزاء الماء الَّتِي لم تنفصل عنها ويتصل الشعاع بها على سواء ولايقوى على تمييزها مما اتصل بها، وأما رؤية الشجرة منكسة فلأن الشعاع يتصل بالماء ثُمَّ ينعكس فيتصل أولاً بأصل الشجرة وساقها لقربة من الماء ثُمَّ يتصل عقيب ذلك بأعلاها فترى منكسة، وأما رؤية راكب السفينة للشط كأنه سائر فلأن الشعاع يتصل به وينفصل سريعاً ويتخطى عنه السفينة ويتخلف الشجر فترى كأنه يسير إلى خلف، وأما السيف فلأن الشعاع يتصل به طولاً وينعكس عنه إلى الوجه طولاً فيخيل له أن وجهه طويل وكذلك في العرض إذا رأى وجهه في سيف عريض، وأما الشمس فلاستدقاق زاوية الشعاع فما بعد
المرئي استدقت زاوية الشعاع حتَّى يقع على بعضه وسيأتي تحقيقه في مسألة الرؤية إن شاء الله، وأما القمر والسحاب فلأن الشعاع يتصل بهما فيحركه السحاب فيخيل إليه ذلك ذكره الحاكم، وقال ابن مثويه: إنَّما يرى القمر كأنه يسير عند سير السحاب لأن الشعاع متصل بالأمرين، وهذه حالة السحاب مع الكواكب وأقطار القمر والكواكب معلومة لنا مدركة دون أقطار الغيم فإذا سار الغيم رأى القمر والكواكب كأنها سائرة لاتصال الشعاع بالكل على وجه لايتميز، ولهذا لو أمكن أن يجمع شعاع أعيننا نحو القمر والكواكب لرأيناها ثابتة والسحاب سائر، وأما من أدار نفسه فإنما يرى الأرض على ما قالوه لاضطراب شعاع عينه ودورانه بدوران الواحد منا فيظن أن الأرض متحركة هذا ما ذكره أصحابنا من أسباب وقوع الغلط في المناظر فإن صح ما ذكروه، وإلاَّ قلنا ذلك مما تفرد الباري بمعرفة أسبابه ولم نقدح شبه السوفسطائية فيما يعلم ضرورة وما أبعدها عن التشكيك والقدح، لكن هذا الذي ذكره أصحابنا مبني على ثبوت الشعاع وأحكامه.
القول في وجوب معرفة الله تعالى
قوله: (ذهب الجمهور): أهل العدل من الزدية والمعتزلة، وعدلية الإمامية وأكثر فرق الإسلام.
قوله: (وقال أبو علي الأسواري والجاحظ وغيرهما: المعارف ضرورية فلا تجب) اعلم أن هؤلاء هم المسمون بأهل المعارف، قالوا: المعارف ضرورية فلا يجب علينا المعرفة على الإطلاق لافي دار الدنيا ولا في دار الآخرة لأنها من فعله تعالى فهي غير داخلة في التكليف، وحكى عنهم في سائر مسائل أصول الدين المتعلقة بالتوحيد والعدل والوعد والوعيد مثل ذلك، ثُمَّ اختلفوا فمنهم من قال: إن المعرفة تحصل إلهاماً فلا يجب النظر أيضاً، وهو قول أبي علي الأسواري، ومن تابعه، ومرادهم بالإلهام أنَّها واقعة لا لأمر ولاعند أمر وإنَّما هي كالبديهيات، ومنهم من قال بوجوب النظر لأنَّه شرط اعتيادي يفعل الله المعرفة عنده، وهو مذهب الجاحظ وأخباره صاحب الجوهرة.
قوله: (وأبو القاسم الكعبي) هم تارة يقولون البلخي نسبة إلى بلدة بلخ وهي قرية بالقرب من بغداد، وتارة الكعبي نسبة إلى قبيلته كعب، وله إطلاق تعاكس أطلاق أهل المعارف، فيقول بوجوب المعرفة في الدنيا والآخرة، وهو وإن أجاز التقليد فالتقليد عنده علم، وذهب الجمهور إلى التفصيل ولكن افترقوا في كيفية التفصيل مع اتفاقهم على أنَّها لاتجب في الآخرة فمنهم من ذهب إلى أنَّها قد تحصل ضرورة في الدنيا لبعق المكلفين كالأنبياء والأولياء فلا تجب عليهم وهم المؤيد بالله أحمد بن الحسين والمؤيد بالله يحيى بن حمزة، وحكى مثله عن الفقيه حميد بن أحمد المحلي، ومنهم من قال الحملي حاصل ضرورة فلا يجب فإنا نعلم ضرورة أن المطر لابد له من منزل، وأن السحاب لابد له من سائق، وأن النبات لابد له من منبت، وهذا مذهب ذكره صاحب المحيط، وإليه ذهب الفقيه حميد أيضاً، فله قولان، وحكى الإمام يحيى عن الصوفية القول بأن المعرفة تحصل بالتصفية للنفس عن العلائق الجسدانية والهباءات البدنية فمتى خلت عن هذه الأمور حصلت لها عقائد يقينية.
وأما التقليد ففيه إطلاقان وتفصيل.
فالإطلاق الأول للحشوية فإنهم اطلقوا جواز التقليد في الأصول والفروع، وقالوا: النظر والاستدلال محرم وبدعة.
والإطلاق الثاني لجعفر بن حرب، وجعفر بن ميسر من معتزلة بغداد قالا: لايجوز في الأصول والفروع ماكان من ذلك ظنياً أو قطعياً، وأوجبوا على العالم غطلاع العامي على الأدلة.