الكتاب : المعراج إلى كشف أسرار المنهاج المؤلف : الإمام عز الدين بن الحسن المحقق : الناشر : الطبعة : عدد الأجزاء : مصدر الكتاب : [ الكتاب ] |
بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين وعليه نتوكل.
أما بعد.. حمداً لله على نعمه الَّتِي يجب شكرها.ولا يطاق حصرها، والثناء عليه لكماله وصفات جلاله الَّتِي يطيب نشرها. ولا يقدر قدرها. والصلاة والسلام على خاتم الرسل، وموضح السبل، وناسخ الملك ودامغ الشرك حتَّى اضمحل وبطل، وعلى عترته شموس الإسلام، وقادة الأنام ومفاتيح النهم، ومصابيح الظلم، وصحابته الأخيار الأعيان والتابعين لهم بإحسان، فإني كنت جمعت حواشي في إبان الشباب وأول رمان الدرس في العلم والإكتساب جعلتهما نصفه التعليق لكتاب منهاج التحقيق لما عز لي من الولع به والغرام والإعتناء بالفحص عن معانيه والإهتمام ولكنها عاقت عائق عن التمام وبدا لي فملت إلى الإضراب وإرتاج هذا الباب تباعداً عن مظان الإحظار، وتجنباً لمسالك العثار فنبذت تلك الكراريس وحجبتها عن مجالس الدرس والتدريس عدة من السنين تزيد على العشرين ثُمَّ أن بعض المولعين بفن الكلام وأولي الهمة في تحصيله والإهتمام بالغ في استخراج تلك الحواشي وإبراز أوراقها الخوافي وتتمتها وتكملتها وضبطها وتحصيلها فلم أجد بداً من إنصافه وتلقيه بإجابته وإشغافه مع ما في ذلك من تمام العمل وصيانته عن الإنخراط في سلك ما بطل، فما طابق منها وخلا من الخلل فبتوفيق من الله المثبت في القول والعمل، وما كان فيها من خطأ وخطل فلوضعها في تلك الحال مع عروض اشتغال وعجل؛ ولأنه لا يسلم من الزلل إلاَّ كلام الله عز وجل. وهذا حين الشروع في شرح غوامض الكتاب وتذليل معانيه الصعاب.
قال المصنف مبتدئاً (بسم الله الرحمن الرحيم) أي باسم الله ابتدئ تأليف هذا الكتاب، ومعناه: أستعين على ذلك بالتسمية ليمنها وبركتها طالباً للإستعانة، ويقدر الفعل متأخراً عنها لإفادة الإختصاص، ثم ثنى بالحمد فقال: (الحمد لله) أي الثناء الحسن والوصف الجميل ثابتٌ لله الذي من صفاته أنَّه الدال، أي فاعل الدلالة على ذاته دل عليها فعله، لابواسطة وصفاته، والذي يدل عليها أيضاً الفعل تارة بغير واسطة كدلالته على كونه قادراً، وكذلك كونه عالماً، إذ الأحكام ليس بواسطة؛ لأنَّه كيفية للفعل لا أن الفعل يدل عليه، ثُمَّ يدل على العالمية، وتارة بواسطة واحدة كدلالته على كونه حياً، بواسطة القادرية والعالمية، وتارة بواسطتين كدلالته على كونه مدركاً بواسطة كونه قادراً عالماً، ثُمَّ كونه حياً، وتارة بثلاث وسائط كدلالته على الصفة الأخص بواسطة كونه قادراً، ثُمَّ كونه حياً هكذا ذكر الأصحاب، وفيه نظر، والتحقيق أن الفعل يدل على الصفة الأخص بواسطة واحدة، وهي القادرية ووجوبها ليس بواسطة أخرى، فإنه كيفية لها ليست هي دليلاً عليه كما قلنا في الأحكام، ولا معنى لعد الحيِّيَّةِ واسطة أخرى؛ لأن القادرية كافية في الاستدلال بعجائب مصنوعاته. العجائب: جمع عجيبة وهي ما يتعجب منه. والمصنوعات: جمع مصنوع ويقال: ظاهرة لله لا تدل على ذاته وصفاته إلاَّ ما كان عجيباً من مصنوعاته، وفيه نظر، فإن كل فعل من أفعاله له مدخل في الدلالة وجوابه من وجهين أحدهما أن يكون من باب إخلاء وثبات، كان أصله بمصنوعاته العجائب، فأتى أولاه لصفة، ثُمَّ أضافها إلى الموصوف للثبات وهي صفة مدح؛ لأن كل أفعاله يتعجب منها لصدورها على مقتضى الحكمة، وما فيها من الأغراض الحسنة.
الثاني: أن يكون على ظاهره ومفهومه ويريد أن الذي يدل على الذات وجميع الصفات هو ما يتعجب منه لصدوره على جهة الأحكام لا ما ليس بمحكم منها، فإنه إنَّما يدل على الذات وبعض الصفات، والله أعلم.
تنبيه: هذا في فن البديع يسمى براعة الإستهلال، وهو أن يفتتح المتكلم خطبته أو رسالته أو مصنفه أو غير ذلك بما يدل على غرضه، ولما كان غرض المصنف الخوض في علم الكلام أتى في فاتحة كلامه بما يشعر بمراده وجعل خطبته هذه البليغة كالفهرسة لهذا الفن والإشارة إلى كثير من مسائله ومن أمثلة براعة الإستهلال قول بعض الكتاب:ـ الحمد لله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام، حين كتب مخبراً بأن بقرة ولدت عجلاً وجهه كوجه الإنسان. الكاشف عن عدله وحكمته أي الموضح لعدله وهوكونه لا يفعل قبيحاً ولا يخل بواجب، وحكمته وهي كون كل فعل له فهو حسن، وله فيه غرض صحيح بوجوب غناه وهو كونه حياً ليس بمحتاج، ووجوب عالميته وهو كونه لا يجوز عليه الجهل بحال، فإنا علمنا عدله وحكمته بكونه عالماً بقبح القبيح غنياً عن فعله وعالماً باستغنائه عنه لا يجوز أن يحتاج إليه ولا أن يجهل قبحه ولا أن يجهل استغناءه عنه بوجه من الوجوه وإسناد الكشف إليه، مع أنَّ الوجوب ليس أمراً صادراً عنه من قبيل التجوز؛ لأنَّه لا يعلم ذلك الوجوب إلاَّ ما نصبه من الأدلة وركَّبه من العقول القادر على جميع أجناس المقدورات.
سيأتي ذكر معنى القادر والمقدور وتعداد أجناس المقدورات في موضعه من هذا الكتاب، وإنَّما قال: أجناس ولم يقل أعيان، بناء على أنَّه لا يصح مقدور بين قادرين وأن الأعيان الَّتِي تقدر عليها إنَّما بقدر الباري على جنسها فقط وسيأتي تحقيقه (العالم ےلا يعزب عنه) ـ هو ےےم الزاے وكسرےے ـ بمعنى ےا يبعد مثقال ذرة، أي مقدار أصغر نملة في الأرض ولے في السموات. (الحي الذي لا يعتريه الحال) يعني بالحال هےا ما هو علےه من ثبوت ونفي، فليس كغيره من الأحياء، فإن الحال يعتريهمےمن صغر إلى ےكبر وصحة إلى سقم وقوة إلى ضعف وغناء إلى فقر وغير ذلك. (الموجود فيما لم يزل) أي فيما مضى لا إلى أول. (وفيما لا يزل) أي وفي الحال والاستقبال. (لا إلى حد ينتهي إليه المدرك للمدركات) أي لكل ما يصح إدراكه من مرئي ومسموع وملموس ومسموم ومذوق. وسيأتي بيان المدركات؛ (لأنَّ لآلات) أي لا بحاسة وواسطة محل الحياة، إذ ليس بجسم ولا له حياة. (يحل في محل ولا له آلة، المستغني في ثبوت هذه الصفات) يعني التي مضي تعدادها وهي القادرية والعالمية والحيية والوجود والإدراك عن المؤثرات الحقيقية الَّتِي هي الفاعل والعلة والسبب، وأما ما يجري مجرى المؤثر وهو المقتضى والشرط فلا بد منه فيها على تفصيل وخلاف يأتي في مواضعه، وأما غير هذه من صفاته فمنها ما لا يفتقر إلى مؤثر ولا ما يجري مجراه كالصفة الأخص عند مثبتها ومنها ما يفتقر إلى المؤثر الحقيقي ككونه مرتداً أو كارهاً عند الجمهور، وقد أشار المصنف بقوله: المستغني في ثبوت هذه الصفات بتمامه إلى فصل الكيفية، وما تقدم فهو تنبيه على إثبات الصانع وصفاته الثبوتية، ثُمَّ أشار إلى الصفات النفيية فقال: (الواحد فلا شريك له ولا وزير)، هذه إشارة إلى مسألة نفي الثاني، والمعنى أنَّه لا مشارك له في الإلهية وفي الخلق والأمر ولا معه من هو أدنى رتبة من الشريك وهو الوزير الذي يعينه ويتحمل بعض مؤنه ويتقوى به في أمر
مملكته؛ لأنَّه سبحانه غني عن جميع ذلك. (المتعالي) أي المنزه عن المضاد. (والنظير) أي المنافي له الذي لا يجمع معه في الوجود لمعاكسته له في صفاته وعن المماثل المشابه له في ذاته وصفاته، وفي هذا إشارة إلى مسألة نفي التجسيم وما يتعلق بها؛ لأنَّه لو كان جسماً أو عرضاً كان ذا ضدٍّ ونظير. (الغني فلا يجوز عليه المنافع والمضار) أي لا يجوز أن يلحقه مضرة ولا أن يناله منفعة لوجوب استغنائه عن ذلك. وسيأتي ذكر معنى المنفعة والمضرة وأقسامها، وهذه إشارة إلى مسألة نفي الحاجة. (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إشارة إلى مسألة نفي الرؤية بأن أدرج هذه الآية الكريمة الَّتِي هي من أدلتها في كلامه، وهذا في علم البديع يسمى الإقتباس. (العدل فليس بظلام للعبيد) إشارة إلى أم مسائل العدل وظلام مبالغة في ظالم والتكثير فيه باعتبار كثرة من يتعلق به الظلم وهم العبيد، لو كان كذلك تعالى الله عنه علواً كثيراً. (الصادق في الوعد والوعيد) أي المخير عن إيصاله الثواب إلى مستحقيه وهو معنى الوعد والعقاب إلى مستحقيه، وهو معنى الوعيد خيراً مطابقاً للمخير عنه فلا يقع خلاف ما وعد به. (الذي قضى بالحق وهدى إلى الرشاد) أي الذي ألزم وأمر بالحق وهو الرشاد بمعنى الصواب وما فيه الصلاح، وهذا بمعنى دلّ،َ وينزه عن فعل القبيح لعدله وحكمته وإرادة الفساد وهو نقيض الصلاح؛ لأن إرادته من القبيح وهو منزه عن فعلها. (وأزاح علل المكلفين بأنواع الألطاف والتمكين) أي أزال تعللهم في عصيانهم وعدم امتثالهم بأن لطف لهم بأنواع اللطف، وهي التوفيق والعصمة المطلق، وسيأتي بيان معانيها والتمكين مما كلفهم إياه بخلق القدرة عليه والآه فيه. قال.. في المعنى هذا: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة}. (وأزهق الباطل أي أزاله وأذهبه بمترادف الحجج أي بالحجج المترادفة وهي الأدلة الَّتي ينصبها للمكلفين على ما فيه نجاتهم.(وأوضح للخلق) أي كشف لهم
وأبان. عن سواء المهج أي وسط الطريق الموصلة إلى الفوز والنجاة عند الله والطريق الموصلة إلى العقاب يوم يقف العبد بين يديه ويلقاه. (حتَّى صارت طرق الخير والشر متعتية) أي طرق الهدى والضلال متبيِّنة متميزة. (ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة) أي ليضل من ضل بعد وضوح البينة في ذلك، وقيام الحجة عليه وجعل الضلال هلاكاً لناديته إليه ويهتدي من اهتدى، كذلك عن يقين وعلم بأنه على الحق وسمى الهدى حياة من قبيل الإستعارة لإيصاله إلى الخير والتنعيم الدائم، كما أن الحياة موصلة إلى الإنتفاع وفصله إلى إدراك الملاذ، والله أعلم.
(وأشهد ألا إله إلاَّ الله شهادة إخلاص وصدق) أي إخلاص عن النفاق وعن إضمار خلاف ما وقع النطق به مطابق فيها القلب واللسان والسر والإعلان وصدق في العقيدة أو في تسميتها شهادة؛ لأنها الخبر عن يقين وتحقيق. (وأن محمداً رسوله بالهدى ودين الحق) أي بالكتاب الذي يقع به الإهتداء فبُولغ فيه بتسميته هدى والدين الذي هو الحق لا الباطل أرسله كافة للناس أن جعل كافة مفعولاً مطلقاً فالمعنى أرسله إرسالة كافة للناس، أي عامة لهم محيطة بهم، فكأنها كفتهم أن يخرج عنها أحد منهم. وقيل معناه: مانعة لهم عن الكفر، وأن جعل حالاً من المفعول كان المعنى أرسله جامعاً للناس في الإبلاغ والإنذار، والتاء للمبالغة كتاء علامة وقيل: معناه على هذا مانعاً للناس عن الكفر، وفيه وجه ثالث، وهو أنَّه حال من الناس، أي للناس جميعاً وهو مبني على جواز تقدم حال المجرور عليه كما يذهب إليه بعض النحاة. (بشيراً للمطيعين بالثواب، ونذيراً للعاصين بالعقاب، وداعياً إلى الله إلى طاعته بإذنه) أي بأمره وسراجاً منيراً، أي كالسراج المنير لما كان مجلياً لظلمات الشرك، فبلغ الرسالة هادياً للضلال وشهيداً شهد على الأمة لمن قبل بالقبول ومن رد بالرد، ثُمَّ مضى إلى دار الكرامة، كناية عن وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بدار الكرامة الجنة أو الدار الآخرة الَّتِي تظهر فيها الكرامة بالمقام المحمود وغيره. (حميداً) أي محموداً. (فصلوات الله) أي رحمته؛ لأن الصلاة من الله بمعنى الرحمة، ومنَّا بمعنى الدعاء، ورضوانه هو ـ بضم الراء وكسرها ـ بمعنى الرضا على وجه، أراد بالوجه هنا ذاته أو أراد به الوجه المعروف؛ لأنَّه الذي يواجه بالرضا وغيره، وهو عمدة الإنسان وواسطة عقد أعضائه وما توجه إليه فقد توجه إلى الجملة كلها. (وهذا أولي الكريم) أي الشريف. (كلما طلع نجم) أي كوكب. (أو هب نسيم) ما كان من الرياح رقيقاً لطيفاً سهلاً مستطاباً. (وعلى آله) أي أهله
والمراد أهل بيته وأقاربه وهذا هو السائق إلى الأفهام، وقد يراد به الأتباع الكرام ـ جمع كريم وهو الشريف ـ البررة ـ جمع بار وهو فاعل البر خلاف العقوق ـ المطهرين عن الأرجاس والرذائل، (وعلى الصحابة) اسم جمع للصحابي وهو من صحبه صلى الله عليه وآله وسلم، واختلف في ما هية الصحبة، فقيل مجرد الرؤية كافٍ، وذهب أصحابنا أن الصحابي من طالت مجالسته له صلى الله عليه وآله وسلم متبعاً له. (والتابعين لهم) أي للصحابة في اتباع الرسول وأمتثال ما جاء به، وهذا معنى تقييد لفظه التابعين بإحسان؛ لأن المعنى اتبعوهم في إحسانهم وسلكوا مناهجهم. وقيل: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار ويترحمون عليهم وينشرون محاسنهم. وقوله: (إلى يوم الدين) أراد به إفادة دخول جميع من عد الصحابة من الأمة؛ لأن لفظه التابعين في العرف مقصورة على من التجويز من الصحابة، ورأى من رأى منهم، والمراد بالدين هنا الجزاء ومثله قوله: {ملك يوم الدين}.
(أما بعد) هذه كلمة استعملتها العرب للإيذان بإرادة الأخذ في كلام غير ما سبق، فإن أهم التكليف علم العقائد، وذلك لا .... سائر التكاليف عليه، ولكون المطلوب فيه اليقين والحق فيه مع واحد ومخالفه مخطئ آثم، وقد ينتهي إلى الكفر. (وإن الظفر بالحق فيه أجل الفوائد) أي من أعظمها وأشرفها، ولو قال: وإن الظفر بالحق فيه أجل الفوائد لكان أحسن ذاته قد كثرت فيه الآراء، الضمير عائد إلى علم العقائد وإن جعل ضمير الشأن فحسن، والآراء جمع رأي، قُدِّم في الجمع العين على الفاء من قبيل القلب كما في آرام جمع رمم، والمراد بالآراء هنا المذاهب، وأما في عرف أهل أصول الفقه فقيل: الرأي بمعنى اجتهاد، وقيل: بمعنى القياس. (وأتبعت فيه الأهواء) جمع هوى مقصور وهو هوى النفس وكل هوى في القرآن فهو مذموم، وأما الهواء ممدود فهو اسم لما بين السماء والأرض والجمع أهوية. (وعدل أكثر الناس فيه عن التحقيق) أي مالوا وجاروا وسلكوا ..... الطريق عبارة عن ترك المذهب الواضح الراجح الشهير اللائح والتمسك بغيره مما لا وجه له يوضحه، ولا دليل عليه يرجحه كما يترك السالك سلوك المحجة الواضحة الكثيرة الإستعمال ويسلك ےےها يميناً أو شمالاً في طرق خفية تكاد يسير فيها من دفع عن الطريق الواضحة أو مال عنها سهواً فمن سوفسطاي نجد المشاهدات. هذا شروع في تفصيل أكثر الناس العادلين عن التحقيق السالكين لبنيات الطريق وقدم السوفسطانية وهم فرقة من فرق التجاهلية؛ لإنكارهم الضرورة ولا ضلال أعظم من ذلك والتجاهلية كل من أنكر الضرورة وهم ثلاث فرق: