الكتاب : كتاب الرسالة النافعة بالأدلة الواقعة- المنصور بالله ع

الحمد لله الذي جعل إلهام الحمد من موجبات حمده، وصلاته على محمد الصادق المصدوق وعلى الذرية الطيبين من بعده.

أما بعد .. فإنه بلغنا نزاع جرى من الأصحاب، لا يحسن مثله من أولي الألباب، لأن التلاحي من غير بصيرة في الدين، من حبائل إبليس اللعين، وإنما الواجب على العاقل التبصر والتفكر، وتنقير الأدلة والتدبر، ليكون من الفائزين، كما روينا عن أبينا الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين أنه قال: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله تعالى، والتدبر لكتابه، والتفهم لسنتي، زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلدهم فيه ذهبت به الرجال، من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)) وهذا كما ترى عظيم، والخطر بالنفس شديد، ولا سيما مع صحة النقل بالخلود، وصدق الوعيد، ولما جعلنا الله تكرمة ورثة الكتاب وتراجمه، من أهله وحفظته واستأمننا على خلقه، واستخلفنا في بلاده، واستشهدنا على عباده، وكان من لوازم ذلك وموجباته أن نعمل له شكراً، وأن تزداد به الأمة نصحاً، وإذا كان ذلك كذلك لزمنا أن نبيِّن للراغبين، وأن نشفي قلوب الطالبين، برسالة تتضمن ما نذهب إليه بأدلة مختصرة، وأدلة شافية تثلج لها قلوب الراغبين، ولابد والحال هذه من مقدمات يبنى عليها الكلام .

أولها : تبيين الزيدية من هم ولم اختصوا بهذا الاسم؟ وما الظاهر من قولهم الآن في جميع أقطار البلاد؟.

وثانيها: تبيين مذهبهم في الإمامة من وقت الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم إلى انقطاع التكليف.

وثالثها : الدلالة على صحة قولهم فيما ادعوا ليعلم العاقل أن ذلك لم يكن تجنياً ولا اتباع هوى.

ورابعها : اعتقاد ما قطعنا على علمه من قولهم في الصحابة - رضي الله عنهم - وما الموجب لما رأيناه من ذلك من الأدلة والبراهين ليكون من الأمر على يقين.

[ سبب تسمية الزيدية ]
واعلم أيدك الله أنها سميت زيدية لاتباعها زيد بن علي عليه السلام وهو أول قائم من أهل البيت بيت النبوة عليهم السلام بعد الحسين بن علي عليهما السلام على بني أمية، ولد سنة خمس وسبعين، واستشهد عليه السلام سنة اثنتين وعشرين ومائة، وأمه أم ولد اشتراها المختار بن أبي عبيد بثلاثين ألف درهم وبعثها إلى علي بن الحسين عليه السلام وقد كان قبل ذلك رأى في المنام ما رويناه بالإسناد إلى الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسين الحسيني الكوفي قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الحكم الهمداني قال: أخبرنا عمار بن محمد القطان قال : حدثنا سعيد بن عمر القطان قال: حدثنا حسن بن عمر الجعفي قال: حدثني أبي، قال: كنت أديم الحج فأمر على علي بن الحسين عليهما السلام [لأقضي] واجب حقه، ففي آخر حجة غدا علينا بوجهه فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلتي هذه آخذ بيدي فأدخلني الجنة، وزوجني حوراء فواقعتها فعلقت، فصاح فيَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي بن الحسين، سمي المولود زيداً، قال: [فأقمنا] حتى أرسل إليه المختار بأم زيد فجاءت بزيد.

وروينا بالإسناد الموثوق به في حديث فيه بعض طول، في قصة سير الحسين عليه السلام إلى العراق أنه مرّ بماء من مياه بني سليم، فاشترى خادم له شاةً ونقد ثمنها إلى صاحبها فجاء الأعرابي، فقال: من هذا؟ فقيل: الحسين بن علي عليهما السلام فصاح بأعلى صوته: أنا بالله وبك - يا بن رسول الله - إن عبدك هذا أخذ شاتي ولم يدفع لي ثمناً فنظره الحسين نظراً منكراً، فقال: يا بن رسول الله، إني قد دفعت له ثمن شاته وجاء بالبينة، فقال عليه السلام: ما حملك على هذا؟ قال أصحابه: يا بن رسول الله، عرفك فأراد أن تعوضه شيئاً، فأمر له بشيء وعلي بن الحسين عليه السلام قائم فقال: ما اسمك يا أعرابي؟ فقال الأعرابي: زيد، فضحك علي بن الحسين، وقال: يا أعرابي، ما بالمدينة أكذب من زيد يريد رجلاً كذّاباً بالمدينة كان يبيع -الخُمُرُ والخُمُرُ جمع خمرة- وسجاجيد من خوص بيته، يقال له: زيد فقال الحسين: مه، يا بني لا تعيره باسمه، فإن أبي أخبرني: أنه يولد من ذريتي رجل يقال له: زيد، يقتل فلا يبقى في السماء ملك مشرف، ولا نبي مرسل إلا تلقّى روحه بالسلام، يرفعه أهل كل سماء إلى سماء، وقد بُلغت: يأتي يوم القيامة هو وأصحابه يتحللون رقاب الناس، يقال: هؤلاء خلف الخلف وأئمة الحق.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بن حارثة: ((يا زيد، لقد زادك اسمك إليّ حبا))، في أحاديث كثيرة سليمات المتون، صحيحات الأسانيد، ولو أردنا استقصاءها خرجنا إلى الإسهاب، صحبه الخيار، وتابعه العلماء، وعقدت البيعة له في الأمصار، وكانت دعوته من الكوفة. وسبب خروجه أنه دخل على هشام بن عبد الملك وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له زيد: أولى لك يا عدو الله أما والله لو تمكنت منك لأختطفنّ روحك. فقال له هشام: مه!! يا زيد لا تؤذي جليسنا. فخرج عليه السلام وهو يقول: من استشعر حب البقاء استدام الذل إلى الفناء، فوصل إلى الكوفة وكان منه الدعاء كما قدمنا، وخرج ليلة الأربعاء لسبع بقين من المحرم أو تسع -الشك من قبلي- قبل ميعاده مخافة أن يرهقه الطلب وصاح بشعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفعت [الهرادي فيها النيران]، ودارت رحى حربه عليه السلام على خمسمائة مقاتل وسأل عن الناس لأن ديوانه انعقد من أهل الكوفة على خمسة عشر ألفاً قيل: إنهم في الجامع، وكان صائح بني أمية قد انتشر في البلد بين أقطارها: برئت الذمة من كل محتلم لا يصل الجامع فانفض الناس إخلاداً إلى الدنيا، وميلاً إلى الهوى، ورغبة فيما يفنى، وزهداً فيما يبقى، فقال: لا يسعنا عند الله خذلان أصحابنا، سيروا على اسم الله فسار بهم فهزم الجموع بينه وبينهم إلى أن وصل باب الغيل وأمر أصحابه بإدخال عذب الرايات من أفواه العقود، وقال لهم نصر بن خزيمة: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل إلى العزِّ فلم يفعلوا فأذلهم الله سبحانه، وجاءت جنود الشام من تلقاء الحيرة، وحمل عليهم عليه السلام كأنه الليث المغضب فَقَتل منهم أكثر من ألفي قتيل بين الحيرة والكوفة، وقاتلهم ثلاثة أيام كل يوم يروحون من حربه أسوأ حالاً من اليوم الأول، وهو في خمسمائة وهم في اثني عشر ألفاً، فأصيب في آخر أيامه في جبينه الأيسر بنشابة، وحمل إلى دور أرحب وشاكر، فدعي

له طبيب فنزعها فمات منها، وقد وجب على الله أجره.

وروينا بإسناد طرقه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زيد بن حارثة فقال: ((ادْنُ مني - يا زيد - زادك اسمك عندي حباًّ فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي)).

وبالإسناد إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقتل من ولدي رجل يدعى بزيد بموضع يعرف بالكناسة يدعو إلى الحق يتبعه كل مؤمن ومؤمنة)).

وبالإسناد عن حبة العرني قال: كنت أنا والأصبغ بن نباته بالكناسة في موضع الجزارين والحناطين مع علي بن أبي طالب عليه السلام وهي يومئذ صحراء فما زال يلتفت إلى ذلك الموضع ويبكي بكاءً شديداً، ويقول: بأبي بأبي. فقال له الأصبغ: يا أمير المؤمنين لقد بكيت والتفت حتى بكت قلوبنا وأعيننا والتفت فلم أرَ أحداً. فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يولد لي مولود لم يولد أبوه بعد، يلقى الله غاضباً وراضياً له على الحق، حقاً حقاً، على دين جبريل وميكائيل صلّى الله عليهم وأنه يمثل به في هذا الموضع مثالاً ما مثل بأحد قبله ولا يمثل بأحد بعده صلوات الله على روحه وعلى الأرواح التي توفى معه.

وبالإسناد إلى أبي داود المديني عن علي بن الحسين قال: يخرج مني بظهر [الكوفة] رجل يقال له: زيد [في أبهة سلطان، والأبهة الملك] لم يسبقه الأولون ولم يدركه الآخرون إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير، ثم يتخطون أعناق الخلائق قال: فتلقَّاهم الملائكة، فيقولون: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: ((قد عملتم بما أمرتم ادخلوا الجنة بغير حساب)).

وبالإسناد عن زاذان عن أمير المؤمنين قال: الشهيد من ذريتي القائم بالحق من ولدي المصلوب بكناسة كوفان، إمام المجاهدين، قائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم ادخلوا الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فإذا قد تقررت هذه المقدمة في ذكر زيد عليه السلام فالزيدية من اعتزى إليه وسلك منهاجه، ومنهم الصالحية ينتسبون إلى الحسن بن الصالح بن حي، وبترية، وجارودية، وتفصيل شرحهم يطول، وإنما هم أئمة الهدى عليهم السلام وأتباعهم من علماء الإسلام واختصوا باسم الزيدية لانتسابهم في الاعتقاد إلى زيد بن علي عليهما السلام.

[ مبادئ الزيدية ]
وأما الفصل الثاني فيما هو الظاهر من مذهبهم الآن.

فاعلم أن الظاهر من مذهبهم تقديم علي عليه السلام في الإمامة على أبي بكر وعمر وعثمان، واعتقادهم النص الاستدلالي دون الضروري خلافاً للإمامية، وهم لا يسبون الصحابة ولا يفسقونهم وإنما يخطئونهم في ترك الاستدلال والإخلال بالنظر في النصوص الموجبة إمامة علي عليه السلام ويعيبون عليهم،ويعيبون أفعالهم من دون كلام قبيح، ولا يمكن لأحد أن يدعي على أحد من أئمة الهدى دعوى صحيحة بأنه سب أو آذى، وهذا منهاج علي عليه السلام فإنه كان في خطبته وأثناء محاوراته يشكو من القوم تقدمهم وأنه أولى بالأمر منهم، ويظهر أنه أغضى صبراً واحتساباً ونظراً للدين مخافة انشقاق العصا مع تربص أهل النفاق وقوة أهل الردة وقربهم من المدينة، وكانت الردة في سليم، وتميم، وأسد، وحنيفة، وعمان، وغطفان، والبحرين، ومهرة، وحضرموت في كندة وألفافها، والجند، فلم يرَ إلا ترك الشقاق نظراً للدين، وحسن قصد القوم في تحري قوة الإسلام، وتعظيم حاله والرمي من وراء حوزته، وبذل الوسع في تقوية قواعده، ولم يقع الخلل إلا فيما يتعلق بحقه عليه السلام فصبر واحتسب نظراً لصلاح الأمة وتحرياً لقوة الإسلام، ولم يظهر منه سبّ ولا ذمُّ للصحابة في خاصة ولا عامة ولا رضا ولا غضب، ونقول في معصيتهم إنها صحيحة، ولا نقطع بكونها كبيرة ولا يتضح لنا كونها صغيرة، فنردُّ أمرها إلى الله إلا أنها لا تقطع بكبرها، والكبيرة توجب الفسق، والفسق لا يكون إلا بالنصِّ ولا يثبت بالقياس؛ لأن مقادير الثواب والعقاب لا طريق لنا إلى العلم بها.

وأما أناَّ لا نقطع بصغرها فلأن الصغيرة ثواب صاحبها في كل وقت أكثر مما يستحق من العقاب في كل وقت، وهذا لا طريق لنا إليه، وقد قدموا على رب كريم فإن عفا عنهم فلحميد سوابقهم وعظم إحسانهم ولما تحملوا من الأثقال في معاداة الأسود والأحمر في نصرة الدين، وإن عاقبهم فما ربك بظلاَّم للعبيد وهو على خلقه غير متهم ولا مستخان في حكمه إن حكم .

وأما الفصل الثالث: مذهبهم في الإمامة في وقت الصحابة قد تقدم، وأن الإمام عندهم بلا فصل علي بن أبي طالب عليه السلام.

فصل [ في فضائل أهل البيت ]
اعلم أيدك الله وأرشدك أن الطالب لرشده، المتحري للنجاة بجهده، ينظر في لحن قول المتكلمين كما قال تعالى: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ?[الحجر:75]، وأعدل الشهادات شهادة الخصم لخصمه؛ إذ هي لاحقة بالإقرار الذي لا يفسخه تعقب الأفكار، وقد أكثرت السبعة في روايتها بالأسانيد الصحيحة إلى حد لم يدخل تحت إمكاننا حصره في وقتنا هذا إلا أنه الجم الغفير في فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين وذريتهما الطيبة، وما يوجب لهم الإمامة، ويخصهم بالزعامة إلى يوم القيامة، فهو على ذلك كتب وألوف أحاديث كثيرة، فرأينا أن لا نعيد شيئاً من رواياتها في هذا الباب لكون أهل تلك الجهة مائلين إلى الفقهاء ومعتمدين على أئمة العامة الأربعة في الفقه وغيره، فلن يختلفوا في صحة نقل الصحاح من صحيح مسلم والبخاري، ومن كتاب الجمع بينهما لأبي عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي، ومن كتاب (الجمع بين الصحاح الستة) لأبي داود السجستاني وصحيح الترمذي والفسحة الكبرى من صحيح النسائي، ومن صحيح أبي الحسن رزين بن معاوية بن عمار العبدري إمام الحرمين السرقسطي الأندلسي، ومسند أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني، وتفسير القرآن للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ويتبع ذلك كالشافعي له مما لعله شذ ذكره ما رواه الفقيه الشافعي أبو الحسن علي بن محمد الطبيب الجلالي المعروف بالمغازلي الواسطي فما تعلق بالقرآن الكريم، فهو شفاء كل سقيم، والدواء من الداء العقيم، والصراط المستقيم.

أما ما يتعلق بالصحاح فهي القدوة للمذاهب الأربعة إذ الشك لو اعترى فيما شاهد بالعيان لما اعترى أهل المذاهب الأربعة الشك فيما أخبر به الصحيحان، ثم قد عدلت بأربعة صحاح ناطقة فصاح اعتمدها علماء الإسلام، الخاص منهم والعام، ثم يشفع ذلك بما يرويه العدول في مذهب الشافعي فهو كالمعدل للمعدل للشهادة وتركنا ما يرويه السبعة بطرقها الصحيحة التي لا يمكن عالم نقضها إلا بما يقدح به في أصول الإسلام الشريف.

وكذلك ما اختص به آباؤنا عليهم السلام إذ روايتهم كالشهادة لأنفسهم فكان للخصم أن يشغب فيها، وإلا فهم كما قال الكميت بن زيد الأسدي رحمه الله تعالى:
وهم الأبعدون من كل ذام
رأفة والأحلمون في الأحلام
فرع القداميس القدام
فيهم ملامة اللوام
حسبي من سائر الأقسام
من الشك في عمى وتعامي
بهم لا همام لي لا همام

فهم الأقربون من كل خير
وهم الأرأفون بالناس في الـ
أسرة الصادق الحديث أبي القاسم
لا أبالي إذا حفظت أبا القاسم
فهم شيعتي وقسمي من الأمة
أنا إن مت لا أمت ونفسي نفسان
عادلاً غيرهم من الناس طراً

ومثل ذلك قول الفرزدق:
في كل شيء ومختوم به الكلم
أو قيل من خير خلق الله قيل: همُ
كفر وقربهم ملجأ ومعتصم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
إن عدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم
من معشر حبهم دين وبغضهم

1 / 10
ع
En
A+
A-