وإن كان المؤثر في وجودها غيرها فالغير إما فاعل أو علة، باطل أن تكون هذه الأجسام الحوادث حدثت لعلة؛ لأنا نراها مختلفة التراكيب والصور والألوان، ونراها تحدث شيئاً بعد شيءٍ، فلو كان المؤثر فيها علة لما جاز ذلك لأن معلول العلة لا يختلف أصلاً.
فإن قيل: إنما إختلفت لأنها تأثير علل كثيرة مختلفة فلذلك اختلف معلولها؟
قلنا: فلم اختلفت تلك العلل؟ ألعللٍ أخرى؟ أدى ذلك إلى التسلسل وذلك محال.
وإن كان الإختلاف لفاعل مختار، وذلك الذي نقوله، وجب الإقتصار هاهنا.
فإن قيل: ولم خالف بينهما([44])؟.
قلنا: لما يعلم من الحكمة والمصلحة في ذلك،ونحن نعلم جواز المخالفة في الغائب بما يعلم به وقوعها مع الحكمة في الشاهد، ولا ينكر ذلك إلا معاند.
[الطريقة الثانية في الدليل على حدوث الأجسام: طريقة الإنتقال]
ومما يدل على حدوث الأجسام بعد الطريقة الأولى:
أنا نقول: قد ثبت جواز الإنتقال على الأجسام بالمشاهدة، والإنتقال [على القديم محال، وإذا بطل قِدَمُها ثبت حدُثها، وكان لا بد لها من محدِث كما تقدم([45])] فجواز الإنتقال عليها يُعْلَم ضرورة.
وأما قولنا: الإنتقال على القديم محال، فلأن حقيقة القديم، الموجود الذي لا أول لوجوده، ولا يعقل وجوده - أعني الجسم - إلا في جهة، والعلم بذلك يلحق بالضرورة، وإذا وجد في جهة كان وجوده فيها لذاته لإستحالة وجود القديم لمؤثر من فاعل أو علّة، لأنه كان لا بد من تقدمهما عليه ليصح كون الفاعل فاعلاً له والعلة علة فيه، وإذا كان فيها لذاته إستحال إنتقاله عنها؛ لأن ذاته علة كونها فيها، وبقاء المعلول واجب لبقاء العلة؛ لإستحالة وجود العلة بدون المعلول، وأمَّا أنه إذا بطل قدمه وجب حدوثه فذلك ظاهر.
عدنا إلى تفسير القافية:
(بضع([46])) الشيء: هو جزء منه، وقد صارت البضع في الحيوان تفيد بالنقل قطع اللحم.
_________________
([44])ـ أي بين المحدِث ومحدَثه. تمت.
([45]) ـ ما بين القوسين ناقص من الأصل، وهو في (ن، م).
([46]) ـ بضع بالكسر أو الفتح
و(مكنونها) بواطن الحيوان من النواظر، يقول في واحدتها بَضْعَة كما نقول لحمه، ويريد بمكنونها الكبد والطحال وما شاكلهما.
[بيان دلالة البضع على الله تعالى]
ودلالتها على الله -سبحانه وتعالى- من وجوه:
أحدها: إختلافها في صورها، فلا بد من مخالف خالف بينها.
ومنها: إختلاف منافعها، فلا بد لذلك من مدبر جعل كلَّ واحد لغير ما جعل له صاحبَه، لأنها لو كانت كذلك لذواتها وجبت المماثلة، أو لعلل متماثلة، أو لعلل مختلفة لزم، ما قدمنا أولاً.
ومن ذلك إختلاف أماكنها؛ لأنها كانت تكون في تلك الأماكن لذاوتها لو قيل بنفي الصَّانع، وذواتها مع الأماكن على سواء فكان يجب كونها في جهة واحدة لفقد المخصص، فلما رأيناها كذلك علمنا أن لها صانعاً مختاراً مدبراً جعل كل شيءٍ منها في جهة منفصلة لما علم في ذلك من المصلحة، ففي كل شيءٍ عليه سبحانه دليل واضح لمن نظر بعين البصيرة، فنسأل الله الهداية في البداية والنهاية.
(العجائب): قد قدمنا تفسيرها، ولا أعجب من حصول هذه الأمور المختلفة في الصورة، والمنافع، والأماكن، من نطفة رقيقة مهينة لو تَتَبَّعتَ أجزاءها لم ترَ فيها من ذلك شيئاً، ولا تميز لك بعضها من بعض، بل لو اجتمع الجن والإنس على أن يخرجوا بلطف تدبيرهم من تلك النطفة شعرة أو ينشئوا بشرة ما قدروا على ذلك، بل لو اجتمعوا على وصل شعرة مقطوعة أو الزيادة في عرضها وطولها ما استطاعوا {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)} [الإسراء]، فكيف بتلك البُنا الفائقة، والصور الحسنة الرائقة، والحواس النافعة، والمنافع الكاملة؟!، فسبحان من لا شريك له في ملكه، ولا نظير له في سلطانه، وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
(العجز): نقيض القدرة، ولا شك في عجز كل صانع عن إيجاد مثل فعل الله -سبحانه- الذي ذكرنا في ذاته وصفاته.
(التعليم): هو الأخذ عن الغير.
و(المثال): هو ما يقتدى به، ويعمل على حذوه، من الخطوط وغيرها، والله -تعالى- لم يتعلم عن غيره خلق ما خلق، ولو قيل بذلك نقل الكلام إلى ذلك الغير وكان الكلام فيه يؤدي إلى التسلسل إلى ما لا نهاية له وذلك محال، أو الوقوف على فاعل لا يحتاج إلى ذلك وهو الله -تعالى- فذلك الذي نريد.
[العلة في نفي المثل عنه تعالى]
وأما نفي المثَل عنه تعالى فذلك لأنه كان لا بد للمثال من فاعل، فإن كان الله تعالى فاعله إستغنى بعلمه الذي أوجد به المثال [عن المثال([47])]؛ لأن عمل المثال مع العلم لا يجوز إلا على من يجوز عليه السهو والغفلة، فيستعين بالمثال على أمره والله يتعالى عن ذلك لوجوب العلم له فلا يجوز خروجه عنه بحال، وإن كان الفاعل لذلك غيره فلا بد أن يكون الله تعالى فاعل ذلك الغير لإستحالة الثاني، على ما يأتي بيانه، وإذا كان الله الفاعل له إستغنى عن مثاله لأن الخالق أعلم من المخلوق، والرازق أكرم من المرزوق، فصح أنه تعالى فعل ما فعل من غير تعليم ولا مثال.
[الحض على النظر والمنع من التقليد]
[6]
يا ذا الذي أَصْغَى إلينَا مَسْمَعَهْ .... يَطْلُبُ عِلمَاً بَاهِراً ومَنْفَعَهْ
إنْ كُنْتَ لا تهوى طَرِيقَ الإمَّعَهْ .... فانظُر إلى أربعةٍ في أرْبَعَهْ
فذلكَ الجِسْمُ مَعَ الأَحْوَالِ
(السمع): آلة السمع، وهو الحاسة التي جعلها الله -تعالى- لإدراك الأصوات خاصة، كما خص سبحانه الخيشوم بإدراك الروائح، واللهوات بإدراك الطعوم، وفي ذلك معتبر لمن اعتبر، وأمعن النظر.
و (العلم): نقيض الجهل، وهو المعنى الذي يقتضي سُكون النفس، والإنسان يجد من نفسه الفرق بين علمه بالشيء وجهله به، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.
و (الباهر): هو الواضح الظاهر الذي لا يكاد عظمه يحتمل للعقول، ولذلك قيل للقمر باهر.
_________________
([47]) - زيادة من نخ (م، ن).
و (المنفعة): هي اللذة والسرور وما أدى إليهما أو إلى أحدهما، والعلم بالله -سبحانه- يؤدي إلى كل سرور، ويحدث كل لذة وحبور.
والمنفعة: نقيض المضرة، فإن المضرة هي الغم والألم وما أدى إليهما أو إلى أحدهما.
(والإمعة) هو الذي لا ثبات له في الأمور ولا بصيرة، ولا له إلى الخير داع من نفسه، بل من دَعَاهُ قال أنا معك بغير تأمل لمنير ولا تدبير، ولا نظر ولا تفكير، ومن كانت هذه حاله فهو مذموم على قلة صبره، في إعمال فكره، وطلب العلم المؤدي إلى سكون نفسه، وانشراح صدره.
(والجسم) هو واحد الأجسام: وهو الجواهر المؤتلفة طولاً وعرضاً وعمقاً.
والطول: ما كان قُبَالةَ الناظر.
والعرض: ما كان عن يمينه وشماله.
والعمق: ما كان في مسامتته من قرنه إلى قدمه، وأقل ما يجتمع له هذه الصورة من ثمانية أجزاء فذلك معنى قوله: (فانظر إلى أربعةٍ في أربعه)، يريد: انظر إلى الجسم، وهو أربعة في أربعة، أي مع أربعة، هذا عند أهل اللغة ولا يسلكون بذلك مسلك أهل الضرب والحساب، قال شاعرهم:
أراني الخوفُ عَدَّتَهم ألوفاً .... وكان القومُ خمساً في ثمانِ
يريد مع ثمان لأنه لو سلك منهاج أهل الحساب والضرب لكان ألوفاً وخرج عن المعنى، وقد أوضح ذلك بقوله: (الجسم مع الأحوال): يريد؛ أن من أراد حصول العلم والخروج إلى سعة اليقين بالله -تعالى- من حيرة الجهل نظر في الأجسام لأنها أجلى المشاهدات.
[ما ذهب إليه الفلاسفة في الجسم والدليل على بطلانه]
والخلاف في الجسم مع الفلاسفة لأنهم يذهبون إلى أن أجزاءه غير منحصرة، وأنه يتجزأ إلى ما لا نهاية له، وغرضهم بذلك التوصل إلى قِدمه.
والذي يدل على بطلان ما ذهبوا إليه: أن الجسم قد أتى عليه الوجود،و إيجاد ما لا نهاية له محال؛ لأنه لا يخلو: إما أن يمكن عليه الزيادة أولا يمكن، فإن أمكنت الزيادة عليه فله نهاية بالإضطرار، وإن لم يمكن عليه الزيادة أدى إلى عجز الباريء -تعالى- وخروجه عن صفة ذاته وذلك باطل، وربما قال بهذه المقالة بعض المطرفية وهم لايعلمون ما يلزم عليها، وقد تقدم الكلام على القولين، وسبق أيضاً الإستدلال بالجسم وأحواله على الصَّانع تعالى.
[الأدلة على إبطال التقليد ووجوب النظر وكون الكثرة على الباطل]
فإن قيل: ولم أوجبتم النظر ومنعتم من التقليد الذي هو أهون على النفوس، وعليه عامة الناس، وهو أقطع للحاج([48]) حتى يكون إذا سألك الغير عن الدليل قلت: أنا على مذهب فلان وهو على الحق لا محالة قطعاً، ولم تُلْزِمْ نَفسَك مشقةَ الإتيان بالبرهان الذي ربما شغب فيه([49])، أو كسر بعض أركانه، واحتجت إلى فكر بعيد، ونظر سديد؟
__________________
([48]) - المراد بالحاج هنا هو: المحاجج والمجادل.
([49]) ـ الشِغْبُ ـ ويحرك ـ: تهيج الشر، وشغب، كمَنَع وفَرِحَ: هيَّج الشر عليهم، وهو شَغِبٌ ومِشْغَبٌ. تمت قاموس.
قلنا؛ ولا قوة إلا بالله: كون أكثر الناس عليه دلالة على بطلانه لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا في كتابه الكريم بأن الأكثر من الناس على ضلالة بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70)}[المؤمنون]، وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}[الأعراف:102]، وقوله تعالى : {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)} [يوسف] { وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ(102)}[الاعراف]، وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لأصحابه: ((ألا أنبئكم بأهل الجنة في أهل النار يوم القيامة؟، قالوا: بلى؛ يا رسول الله، قال: كشعرة سوداء في جلد ثور أبيض - أو شعرة بيضاء في جلد ثور أسود - وإن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ما معه إلا رجل واحد))([50])، وهذا كما ترى أكبر دليل على ضلالة الأكثر، ولو جعلتَ القلةَ دلالةَ الحقِّ لكنتَ أسعدَ حالاً؛ لأن الله -تعالى- قد مدح الأقلين في كتابه الكريم بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)}[سبأ]، وقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ(40)}[هود:40]، وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[النساء:66].
وأما كونه أقطع للحاج: فالحاج ([51]) في إلتماس الحق أحمد عاقبة من المداهنة في الإقرار على الباطل.
فأما الرجوع إلى قول: إنَّ فلاناً على الحق لكثرة عبادته؛ فذلك باطل، لأن في كل فرقة فلاناً عابداً، وذلك يؤدي إلى أحد باطلين:
إما تصويب أهل الأقوال المختلفات، واعتقاد المتناقضات، وما أدى إلى الباطل فهو باطل.
___________________
([50]) - رواه الإمام أبو طالب ص(442) بلفظ : ((أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟)) قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وسأحدثكم بقلة المسلمين من الكفار يوم القيامة مثلهم مثل شعرة سوداء في جلد ثور أبيض، أو شعرة بيضاء في جلد ثور أسود، ولن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة)).
([51]) - أي المحاجج، تمت.
وإما الترفيه على النفس؛ فهذا الدين القويم مبنى الصحة فيه على المشقة من أوله إلى آخره، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)}[العصر]، الحق ها هنا: هو العلم والعمل بمقتضاه، والصبر لا يكون إلا على المشاق فبطلت فائدة الترفيه على النفس.
وأما التخويف بمشقة النظر: فقد ورد في الأثر ((أن من دق في الدين نظره، جل يوم القيامة خطره)).
[دليل عقلي على قبح التقليد]
ولأن المقلد لا يأمن من خطأ من قلده، والإقدام على ما لا يأمن الإنسانُ فيه الخطأ قبيحٌ، ولا يجوز للعاقل الإقدامُ على القبيح.
أمَّا أنَّ المقلدَ لا يأمن خطأ من قَلَّدهُ: فذلك ظاهر، لأنه يأخذ منه بغير برهان، وما أخذ كذلك لم يؤمن فيه الخطأ؛ لأن في مقالة المقلَّد -من أهل العفة والصلاح في ظاهر الحال- من يقضي بتخطئته وضلاله، فلا يأمن الغافل لهذه الأمارة صحةَ ما قيل؛ سيما إذا كان القائل ممن يزيد عليه في سلامة الظاهر أو يساويه.
وأمّا أنَّ الإقدام على ما هذا حاله قبيح؛ فلأنا نعلم أنه يقبح من أحدنا القطعُ على مخبر خبر لا يأمن كونه كذباً، وليس إلا أنه قطع بغير برهان ولا يقين، ولأنه لو ساغ التقليد لواحد لساغ لكل واحد لأنه لامخصص، فكان ذلك يؤدي إلى تصويب كل فرقة، وذلك ما لم يقل به مسلم ولا كافر، لأن كل فرقة من فرق الإسلام تدعو إلى سبيلها، وتخطيء من خالفها.
[بيان قُبْح تقليد الأكابر]
فإن قيل بتقليد الأكابر.
فلا شك أن لكل فرقة أكابراً وأسلافاً، فكان ذلك يُسَوِّغُ لليهود والنصارى تقليدَ أسلافهم؛ لأن إعتقادهم في أسلافهم كاعتقادنا في أسلافنا، بل أعظم، وقد بين الله -تعالى- ذلك ونعاه عليهم فقال: {لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:163]، في التعظيم، وما به فرقة إلا ولها من تعظمه وتزكيه، وتفزع إليه، كما قدمنا، فلا وجه من وجوه الصلاح، ولا طريق من طرق السلامة أسعد مقدماً، وأحمد عاقبة، من اتباع الدليل؛ سيما وقد ذمّ الله - تعالى - المقلدين، وعنفهم بالتقليد في كتابه المبين، فقال، وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(170)}[البقرة].
وقال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله، وعن التدبر لكتاب الله، والتفهم لسنتي، زالت الرواسي ولم يزُل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)) ([52])، فهذه وجوه كثيرة بعضها كافٍ في الإحتجاج على قبح التقليد؛ فكيف بمجموعها؟!، مع أنَّا تركنا وجوهاً أُخر مما يدل على قبحه ميلاً إلى الإختصار، وتماماً بما وعدنا في أول الكتاب من الميل إلى الإيجاز والتخفيف، فبطل التقليد ووجب إتباع الدليل، ونسأل الله -تعالى- بلوغ الغاية القصوى من رضوانه، والمصير إلى رفيع جنانه.
_____________________
([52]) - رواه الإمام أبو طالب في الأمالي ص(148) عن علي عليه السلام مرفوعاً، وروى الرصاص في مصباح العلوم والأمير الحسين في الينابيع (30).
[الجواب على من قال بأن أهل البيت (ع) يأمرون الناس باتباعهم تقليداً]
فإن قيل: هذا ما كنا نبغي حيث كفيتمونا مؤنة أنفسكم، وأبطلتم قولكم بقولكم، وكفاك على الخصم ناصراً أن يحتج على نفسه بأن ينقض قوله بقوله، وذلك لأنكم تلزمون كل فرقة الرجوع إليكم، والتعويل في المهمات عليكم، وتُسَفِّهونَ أحلامَهم، وتَذمُّونَ شُيوخَهم وأكابرَهم، وتُنَفِّرُونَ الناسَ عنهم، بل من ولي الأمرَ منكم حمل الناس على إتباع طريقته بالسيف حملاً ليس فيه هَوَادَةً ولا رِقَّةً، علم المسلمون ذلك ممن عاصرهم منكم مشاهدة، وممن تقدم من آبائكم نقلاً ورواية، وهذا كما ترون أمر بالتقليد على أبلغ الوجوه، فإذا قد احتججتم بما تقدم نشطتم العقال، وكفيتمونا مؤنةَ الجدالِ، وطلب كل منا بمبلغ حسنه، واستغنى عن غيره بنفسه، ولقد بلغ المسلمين عنكم أنكم تَعْجَبُونَ وتُعَجِّبُون، من رواية بلغتكم عن بعض أكابرهم الغابرين، وأهل الإجتهاد في نشر ذلك الدين، أنه يضيف إلى بعض علمائكم أنه خالف في الدين، ونفَّر المسترشدين، وتقولون لمن حضركم هذا عكس الواجب، فنعوذ بالله من حيرة العَمِين، وجهل المتكلِّفين، لأن الخلاف والوفاق لا يكون إلا لعترة الصادق الأمين، -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعليهم أجمعين-، وذلك لا يقع ولا يجوز إطلاقه في غيرهم من العالمين.
قلنا: معاذ الله؛ ما أمرنا الناس باتباعنا تقليداً، ولا عَجِبْنا من قول ذلك الشيخ تبخيتاً، وإنما قلنا ذلك لنصِّ محكمِ الكتابِ العزيز والسنةِ الشريفة الماضية، ومن عَمِلَ بمقتضى الكتابِ والسنةِ خرجَ عن دائرة التقليد، وعمل بأقوى الأدلة، وكيف نرخص في التقليد ونحن أشد الناس ذمًّا للمقلدين؟!، فما أمرنا العباد في الرجوع إلينا، واتباع آثارنا، إلا بما أمرهم به أحكم الحاكمين، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل]، والذكر هو الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بدلالة قوله تعالى : {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [الطلاق:11]، فكان مما تلاه على الكافة من الآيات، وبينه لهم من الدلالات، وأخرجهم من الضلال([53]).
وهو صادق مصدوق، وذلك ثابت فيما رويناه بالإسناد الموثوق به من قوله -عليه وعلى آله السلام-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض([54])))، وهذا كما ترون أمر منه سبحانه للكافة بالإتباع، ورد على من ادعا من الرفضة والنواصب بمفارقة العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- للكتاب، ولأنه -عليه أفضل الصلاة والسلام- جعل غاية ذلك ورود الحوض فأوجب عند كل عاقل متأمل اتباعهم إلى انقطاع التكليف؛ لأن ورود الحوض لا يكون قبل يوم الحساب، وأمرنا الناس باتباعنا والإقتداء بنا لأقوى الأدلة من السنة والكتاب، فتأملوا -رحمكم الله- كلامنا بأعيان البصائر تجدوه ظاهراً جلياً.
____________________
([53]) ـ في نسخة: من الظلمات.
([54])- سيأتي عن قريب تخريج هذا الحديث إنشاء الله تعالى.