[الدليل العقلي والشرعي على أن الرزق من الله تعالى]
ومن دلالة العقل وأحكام الشرع: أن هذه الأرزاق أجسام ولا فاعل للأجسام إلا الله -تعالى- كما قدمنا.
ولأنهم يأخذونها بحكم الله -تعالى- ولهذا يحكم لهم بها كما أمر الله -سبحانه-.
ولأن الظاهر من دين الكافة من المسلمين، أن من أخذ من أموال العصاة شيئاً بغير رضاهم وجبت عليه الغرامة إذا كان الآخذ مسلماً ملتزماً لأحكام الشريعة، فلو كانت أموالهم للمطيعين كما قالوا لما وجب ذلك، أو لوجب الإستحلال من المسلمين ومعلوم خلافه، فهذا هو الكلام على فرقتي المطرفية على وجه الإختصار.
[إحالة الطبائعية لآثار الصانع والحكمة إلى علل موجبة والدلالة على بطلان ما قالوه]
وأما الطبائعية: فاعلم أنهم بنوا مذهبهم على نفي الصانع -تعالى- وإحالة آثار الصنع والحكمة إلى علل موجبة، ومن كانت هذه حاله نقل الكلام معهم إلى الدلالة على حدوث الأجسام، وأنه لا بد لها من محدث، وأن محدثها لا يكون إلا الله -تعالى- فحينئذٍ ينقطع شغبهم وعللهم، وينكشف خطأهم وزللهم، وقد رأيت لهم كتباً كثيرة فكان أدقّها معنى، وألطفها شبهة، وأدقها مدخلاً، تصنيفاً لرجل منهم ذكر فيه علل الحوادث من الغيث، والبرد، والثلج، والزلزلة، والرعد، والبرق، والنبات، والحيوانات، وما يطول الكتاب بشرحه، وجعل لكل شيءٍ من ذلك علة ونفى الجميع عن الله -تعالى- فكان من كلامه في الغيث: أنه يتولد من بخارين بخار دخاني وبخار رطب، وأن الدخاني يصعد بالرطب لأن من طبعه الصعود، وأنه يتكثف في الهواء، وأنه يستحيل الرطب إلى الماء فيتقوى وينحدر، وأن الريح الشمالية ربما اعترضته فإن اعترضته بعدما يكون قطراً نزل برداً، وإن اعترضته قبل ذلك نزل جليداً([30]) وثلجاً.
________________
([30]) ـ الجليد: الضريب والسقيط، وهو ندى يسقط من السماء فيجمد على الأرض. تمت مختار الصحاح. والبرد والثلج معروفان.
وذلك باطل بما نذكره من الأدلة العقلية التي أكدها سبحانه بقوله، وهو أصدق القائلين: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ(44)}[النور].
وأما الدلالة على بطلان ما قالوه من جهة العقل: أنه لا برهان لهم فيما ادعوه، وكفى بالمذهب فساداً أن لا يقوم عليه دليل، وإنما زخرفوا هذه الأقوال ونمقوها وبنوها على شروط إعتيادية، أجرى الحكيم -سبحانه- العادة بأنه يفعل تلك الأفعال عند حصولها فسموها عللاً، وأضافوا الصنع إليها بغير نظر في حقائق الأمور؛ لأنا نعلم في الشاهد أن الكتابة لاتحصل منا؛ إلا بحصول أمور من دواة وقلم إلى غير ذلك من آلات الكتابة، ثم نعلم أن الكتابة فعلنا، لوقوفها على دواعينا، وذلك معلوم لكل عاقل، مع أنا نعلم أن الآلة شرط في وقوع الفعل منا، والباريء -سبحانه- غني عن ذلك؛ لأنه متمكن من الفعل بدون الشروط الإعتيادية، وإنما أجراها لمصلحة يعلمها، والأمر في إضافة الأفعال إليه أجلى وأظهر من إضافة الأفعال إلينا، فكما أنه لا إشكال في إضافة أفعالنا إلينا -وإن وقف حصولها على شروط لا يستغنى عن حصولها- فكذلك يرتفع الإشكال عن إضافة أفعاله إليه، وإنما أجرى العادة لمصلحة هي حراسة أعلام النبوءة على ماذلك مقرر في مواضعه من كتب علم الكلام.
[السبب في نفي الطبائعية للصانع]
فكان السبب في إعتقادهم هذا الفاسد -والله أعلم- أنهم رأوا الولد لا يحصل إلا باجتماع الذكر والأنثى، وأن النبات لا ينمو إلا باجتماع الطين والماء، إلى غير ذلك، وقولهم هذا : لا يخرج الفاعل عن كونه فاعلاً، كما قدمنا مثاله في الواحد منا، ألا ننظر([31]) إلى هذه الأعاجيب المتقنة، والصور البديعة، والألوان المختلفة، والبُنا([32]) المركبة، التي يعجز العباد مع قدرتهم وعلمهم عن وصل المنفصل منها فضلاً عن إيجاده منظوماً مرتباً في غاية الإحكام، ومعلوم أن العلة عند من أثبتها غير حية ولا قادرة، ولا حكيمة ولا عالمة، وكيف يخفى ما ذكرنا على عاقل متأمل؟ أنظر إلى بنية الجنين في القرار المكين وما فيه من التفصيل والتوصيل، والمخارق لمداخل الأغذية، ومخارج الفضلات المؤذية، وحصول ذلك شيئاً بعد شيءٍ كما نبه على ذلك سبحانه بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}[المؤمنون]، ثم علم ضعفه عند خروجه، فسوى له في صدر أمه غذاءً يلائمه، لا يؤذيه تناوله، وألهمه له عند خروجه أبتداءً منه برحمته، وأغناه به حتى يقدر على تناول ما سواه من أنواع رحمته، هل عقل سليم يضيف هذا إلى علة موجبة وينفيه عن صانع، مختار، عالم، حكيم لا يمتنع عن قدرته مراده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً؟ وأنبأ أنهم أثبتوه لغير برهان وإنما عوَّلوا فيه على مجرد الوجدان، وكفى بالمذهب فساداً أن لا يقوم على صحته دليل.
____________________
([31]) ـ في (ن): ألا تنظر.
([32]) ـ البنا - بالضم والكسر -: جمع بُنْية. تمت.
[مناقشة حسنة في إبطال قول أهل الطبع في أن العالم يحيل بعضه بعضاً]
لأنا نقول لهم: مامعنى قولكم في العالم إنه يحيل بعضه بعضاً؟ تريدون أنه يفعل بعضه بعضاً، فقد صح أن الفعل لا يصح إلا من حي قادر، وما أضفتم إليه الفعل من الطبائع غير حية ولا قادرة.
وقولكم في الحاصل منها: إنه يحصل بالطبع، لا يرجع إلى أمر معقول، ونفي ما لا يعقل أولى من إثباته؛ لأنا نقول: أعلمونا بالطبع ما هو؟ والإحالة إن رجعتم إليها هل شيء أم غير شيءٍ؟.
فإن قلتم: غير شيءٍ.
فإضافة الأفعال المتقنة إلى غير شيءٍ تأباها العقول السليمة.
وإن قلتم: هي شيءٍ.
قلنا: فما ذلك الشيء موجود أو معدوم؟.
فإن قلتم: معدوم.
قلنا: ذلك محال؛ لأنا نعلم تعذر الفعل من العادم للقدرة مع وجود ذاته وحياته؛ كالمريض المدنف، فكيف بصحة الفعل مع عدم الذات؟!، هذا أبعد في العقول.
وإن قلتم: إنه موجود.
قلنا: لا يخلو ذلك الموجود، إما أن يكون لوجوده أول أو لا أول لوجوده، لأن الموجود لا بد له من أحد هذين الأمرين، فإن كان لا أول لوجوده وجب قدمه، لأنا لانريد بقولنا في الباريء -تعالى-: إنه قديم إلا أنه موجود لا أول لوجوده.
فإن قلتم: إنه غير الباريء
وجب أن يكون ثانياً معه فستأتي الدلالة على نفي الثاني فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وإن قلتم: إنه الباريء.
قلنا لكم: فهذه عبارة فاسدة لأن الباريء -سبحانه-، لا يسمى في اللغة والشرع والعرف طبعاً ولا إحالة، وكان الخلاف بيننا وبينكم في عبارة فارغة.
وإن كان محدثاً فلا يخلو، إما أن يشغل الحيز عند حدوثه أو لا يشغله، فإن شغله فهو من قبيل الأجسام، وإن لم يشغله فهو من قبيل الأعراض، ولا يجوز أن يكون ما ذهبوا إليه من الطبع والإحالة جسماً، لأن الأجسام تنقسم إلى حيوان وجماد، والجماد لا يصح الفعل منه؛ لأنه ليس بحي ولا قادر، والفعل لا يصح إلا من حي قادر، ولا يجوز إضافة هذه الأرزاق من الناميات والمائعات والجامدات إلى جسم حي؛ لأنه لا يكون حياً إلا بحياة، ولا قادراً إلا بقدرة؛ لاستحالة أن يكون حياً وقادراً لذاته لأن ذلك من صفات القديم، سبحانه، التي يستحيل حصولها في غيره لما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى، والقادر بالقدرة لا يصح منه فعل الأجسام.
ولا يجوز أن يكون الطبع والإحالة من قبيل الأعراض، لاستحالة صحة الفعل من الأعراض؛ لأن الفعل لا يصح إلا من حي قادر، ويستحيل أن يكون العرض حياً قادراً؛ لأنه لو كان حياً قادراً لم يحل في غيره، ولوجب أن تكون حياته لذاته، فيكون مثل الله -تعالى- ولا مثل له على ما يأتي بيانه، والحيوة والقدرة لا يوجبان إلا بشرط الاختصاص، والاختصاص لا يكون إلا بالحلول، وحلول العرض في العرض محال، لأن أحدهما لا يكون حالاً والآخر محلاً أولى من العكس، وذلك يؤدي إلى أن لا ينفصل الحال من المحل، وذلك محال إذ يعلم كل عاقل متأمل أن صفة أحدهما غير صفة الآخر، فبطل أن يكون العرض قادراً ولا حياً، وإذا لم يكن حياً ولا قادراً إستحال وجود الأفعال من قبله، وهذه جمل تحتاج إلى شرح طويل أضربنا عنه ميلاً إلى الإختصار كما وعدنا في أول الكتاب، فقد رأيت تهدم مذهب هؤلاء القوم فنعوذ بالله من التكمه في الضلالة، والخبط في ميدان الجهالة.
ومما يؤيد ما قلناه أن في هذه الأرزاق أثر الصنع والتدبير، وذلك لا يكون إلا من عليم قدير، وذلك ظاهر في الحيوانات والزرائع، وسائر الأرزاق التي تدل على وجود الصَّانع.
عدنا إلى شرح ألفاظ القافية:
(الخلع): أصله في الدابة تَخلعُ رَسَنَها([33])، ثم استعير ذلك لمن أخرج نفسه عن شيءٍ بعد دخوله فيه.
و (الرقاب): هي الأعناق، والهوادي([34])، معنى الجميع من ذلك واحد، وشهرته تغني عن الشاهد.
و (الرِّق): هو الملك، والمرقوق: هو المملوك، والرقيق: إسم المرقوق.
و (عصوا): خالفوا مقتضى الأمر.
و (الجحد): نقيض الإقرار، ومعنى الجحد والإنكار واحد.
و (الخلق): هو التصوير والتقدير، وهو إذا أطلق أفاد المخلوق، والمخلوق: هو المصور المقدر، هذا في الأصل.
و (الجل): هو جمهور الشيء ومعظمه.
و (الدق): هو الجزء القليل منه
(لمبلغ الحجة): يريد؛ لإبلاغ الحجَّة عليهم.
و (الحجَّة): هي الدلالة.
و (الإجلال): هو التعظيم.
[لماذا رزق الله تعالى العصاة؟]
ومعنى ذلك:هو أن الله -تعالى- رزق العصاة الذين تقدّت صفتهم ليحتجّ عليهم يوم القيامة الحجة البالغة فيقول: (أكلتم رزقي، و عبدتم غيري، وضيعتم شكري، وخالفتم أمري) فنعوذ بالله أن نكون من أولئك، وأن نخاطب بذلك.
ولا شك أن ذلك أبلغ في الإحتجاج عليهم من الإحتجاج لو لم يرزقهم ولم ينعم عليهم، ولم يرد بذلك سبحانه تعظيمهم، لأن عطايا الدنيا حجة لا تكشف عن التعظيم، ومنعها لا يكشف عن الإستخفاف، كما روي عن أمير المؤمنين([35]) علي بن أبي طالب أنه قال : (لا تعتبروا الرضاء والسخط بالمال والولد جهلاً بمواضع الحكمة ومواقع التدبير، قال الله تعالى : {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ(55)نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ(56)}) [المؤمنون].
ويُصدِّقُ هذا: ما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض، ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب))([36]) فنبه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن حال الآخرة على العكس من حال الدنيا.
_________________
([33]) ـ الرًّسَن - محركة -: الحبل الذي يقاد به البعير، وما كان من زمام على أنف، جمعها: أرسان وأرسُن. تمت قاموس مع زيادة.
([34]) ـ الهوادي والهَوَد بالتحريك، جمع هَوْدة: الأسنمة. تمت.
([35]) - نهج البلاغة في الخطبة التي تسمى القاصعة رقم (190) ص(400).
([36]) - رواه الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية (2/161)، ولم يذكر آخر الحديث.
وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر))([37]) فالدنيا عنده سبحانه هينة لزوالها وانتقالها كما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء))([38])، فنسأل الله -تعالى- أن يجعل أرزاقنا عوناً لنا على طاعته، وسبباً موجباً للازدياد من رحمته، وثمناً للدرج الرفيعة في دار كرامته، وأن لا يجعلها علينا حجَّة، ولا يصيرها يوم القيامة حسرة، بحقه العظيم، والصلاة والسلام على محمد وآله وسلم.
[الاستدلال على الله تعالى بما صنع]
هذا نوع من الإستدلال على الله:
[5]
دلَّ على ذَاتِ القديمِ ما صَنَعْ .... وما ابْتَدا من خَلْقهِ وما اَخْتَرَعْ
مِنْ ظَاهِرِ الجسمِ ومَكْنُونِ البضَعْ .... عَجَائباً يعجزُ عَنْها مَنْ صُنِعْ
مِنْ غَيرِ تَعليمٍ ولا مثالِ
معنى (دَلَّ) هذا لا فرق بين الدلالة والهداية وذلك ظاهر عند أهل اللغة.
و(ذات) الشيء: هو الشيء.
و(القَدِيم): هو الموجود الذي لا أول له.
معنى (صَنَعَ): قدر وفطر.
و(الإبتِدَا): نقيض الإحتذا، وهو الفعل على غير مثال.
و(خلقه) ها هنا: هو الأجسام التي نشاهدها([39]) من الحيوانات والجمادات والأعراض.
و(الإختراع): هو إحداث الشيء إبتداء بغير سبب ولا شرط، وأكثر فعله -عز وجل- يقع على هذا الوجه.
و (ظاهر الجسم): المراد ظواهر الأجسام، فالألف واللام للجنس، وذلك يعم الحيوانات والجمادات.
_______________________
([37]) - رواه الشريف السيلقي في الأربعين السيلقية (خ) والطبراني في المعجم الكبير (7/288) رقم (7158)، وأخرجه في مسند الشافعي (67) وسنن البيهقي الكبرى (3/216) رقم (5598).
([38]) - رواه الأمام المرشد بالله في الخميسية بعدة أسانيد عن علي عليه السلام بلفظ : ((تسوى)) (2/161) وسهل بن سعد (2/165)، وأبي هريرة (2/160) بلفظ (تزن) والموفق بالله في الاعتبار وسلوة العارفين ص(67)، وابن ماجه من حديث طويل (2/1377) رقم (4110)، وابن المبارك في الزهد ص(178)، والطبراني في المعجم الكبير (6/178) رقم (5921)، والترمذي في السنن (4/560) رقم (2320)، وفي مسند الشهاب (2/316) رقم (1439).
([39]) ـ في (م): تشاهدها.
[الطرق الدالة على حدوث الأجسام]
[الطريقة الأولى: طريقة التأليف]
ودلالة الجسم علىالله ظاهرة، وذلك أنا نراه مركباً مؤلفاً، وذلك معلوم لكل عاقل متأمل، فلا بد له من مركب ومؤلف على ما نعلمه في الشاهد من البناء والكتابة، والعلة في حاجة البناء والكتابة في الشاهد إلى الباني والكاتب هي الحدوث، بدلالة أنهما - أعني البناء والكتابة - لا يحتاجان إلى الباني والكاتب في البقاء بعد الحدوث، لأنهما يبقيان بعد زوال قدرته وموته وتفرق أجزائه، بل فناه وعدمه، لو قدر أن المضادة ألاَّ يكون على مجرد الوجدان.
وكشف ذلك أنَّا لو رفعنا عن نفوسنا إعتقاد حدوثها إرتفع العلم لا محالة بحاجتها إلى المحدث، ولا يحتاج إليه في عدمها الأصلي، لأنها معدومة قبل وجوده، فلم يبق لحاجة البناء والكتابة إلى المحدث وجه إلاَّ لإخراجهما من العدم إلى الوجود، وقد شاركت الأجسام البناء والكتابة في الحدوث فوجب أن تشاركها([40]) في الحاجة إلى المحدث، وذلك المحدث لايكون إلا الله -تعالى- وهذا إستدلال بالشاهد على الغائب لإشتراكهما في علَّة الحكم، فخرج عن كونه إستدلالاً بمجرد الوجدان، ولحق بإستدلال أهل الحقائق.
[الإستدلال على حدوث تأليف الأجسام]
فإن قيل: إنكم بنيتم استدلالكم على أن تأليف الأجسام محدث، وأن ذلك موجبٌ([41]) حدوثها، فإذا كان ذلك كذلك كان لا بد لها من محدث، وهذا لا نسلمه لكم، بل نقول: إن تأليفها قديم فلا يحتاج إلى محدث.
__________________
([40]) ـ في (م): يشاركها.
([41]) ـ في (ن،م): يوجب.
قلنا: الدليل على حدوث التأليف: أنَّا نعلم جواز الإفتراق على كل مجتمع علماً ضرورياً، ويُعْلَم([42]) أنه إذا افترق عدم إجتماعه بالدلالة، فلو كان قديماً لما جاز عليه العدم؛ لأن القديم واجب الوجود فلا يفتقر إلى مؤثر من فاعل ولا علة، وإذا لم يفتقر إلى المؤثر كانت صفاته ثابتة لذاته، وذاته مع الأوقات على سواء، فإذا وجبت له صفة في حال، وجبت في جميع الأحوال، وبذلك يصح لنا العلم بحدوث الجسم عند صحة حدوث تأليفه، لأن القديم لا يخرج عن صفته، فإذا اجتمع في الأزل لو قدر ذلك إستحال افتراقه، وإذا افترق استحال اجتماعه، والتأليف تابع للإجتماع.
فإن قيل: إذا قد صح لكم إجتماع الجسم؛ فلا يخلو من أن يكون هو الجسم أو غيره، باطل أن يكون هو الجسم لأنَّا نعلم، بما يأتي بيانه، أن الإجتماع يعدم والجسم باق موجود، فلا بد من أحد أمرين : إما أن لا يجوز عدم الإجتماع مع وجود الجسم، وإما أن لا يوجد الجسم مع عدم الإجتماع، وكلا الأمرين باطل، فثبت بذلك أن الإجتماع والتأليف غير الجسم.
وأما أن الجسم إذا افترق عدم الإجتماع، فلأنه كان لا يخلو عند حصول الإفتراق للجسم: إما أن يكون موجوداً، أو معدوماً، باطل أن يكون موجوداً لأنه كان لا يخلو: إما أن يكون موجوداً فيه أو في غيره، أو معدوماً، باطل أن يكون موجوداً فيه لأنه كان يؤدي إلى أحد أمرين مستحيلين: إما أن يوجد ولا يظهر حكمه فلا يكون فرقاً بين وجوده وعدمه وذلك محال، وإما أن يظهر حكمه فيكون الجسم مجتمعاً مفترقاً في حالة واحدة وذلك محال، وإن كان موجوداً في غيره بعد أن كان حالاً فيه فذلك لا يعقل إلا بالإنتقال، والإنتقال على الأعراض محال، لأن المعقول منه تفريغ جهة وشغل أخرى، وذلك من خصائص الأجسام فلم يبق إلا أن يكون معدوماً، وغير الجسم من المحدثات ليس إلا العرض.
___________________
([42]) ـ في (ن،م): ونعلم أنه.
[الدليل على أن كل ما جاز عليه العدم وجب حدوثه]
وأما الدليل على أن كل ما جاز عليه العدم وجب([43]) حدوثه فلأن جواز العدم عليه يكشف عن كونه موجوداً لمؤثر على سبيل الصحة وهو الفاعل، أو لمؤثر على سبيل الإيجاب وهو العلة، لأنه لو كان موجوداً لذاته وذاته مع الأزمنة على سواء، كانت هذه الصفة واجبة له في جميع الأوقات؛ وإلا انتقض كونه موجوداً لذاته وقد ثبت ذلك، وخروج الموصوف عن الصفة الذاتية لا يجوز، فإذا جاز عليه العدم علمنا أنه قد تقدم حالة وجوده حالة كان وجوده فيها جائزاً، ثم وجب لمؤثر من فاعل أو علة وذلك معنى المحدث، فثبت بذلك أن كل ما جاز عليه العدم وجب حدوثه؛ لأن وجوده يكون بغيره لا بذاته.
وكذلك الإستدلال بظاهر الجسم فلأن علمنا بما ركب الله -سبحانه- في الأجسام من الأعراض تابع لعلمنا بالأجسام، وإذا ثبت ذلك وثبت أن الجسم لا يجوز وجوده إلا كذلك، ثبت أن الجسم محدَث؛ لأن الجسم إذا لم يجز وجوده إلا مع وجود المحدث ثبت أنه لم يتقدم المحدِث، وإذا لم يتقدم المحدِث فهو معه أو بعده، وما بعد المحدِث محدَثٌ بالضرورة، وما كان وجوده مع وجود المحدِث إستحال كونه قديماً لما بينا في حقيقة القديم.
[بيان أن كل محدَث لا بدّ له من محدِث مخالف له]
وإذا قد ثبت حدوثها فلا بد لها من محدِث مخالف لها، لإستحالة إحداثها لأنفسها، لأنها لو أحدثت أنفسها كانت لا تخلو: إما أن تكون أحدثت أنفسها وهي موجودة أو معدومة.
باطل أن تكون أوجدت أنفسها وهي موجودة، لأن إيجاد الموجود محال لإستحالة وجود غناه وحاجته، من وجه واحد، لوجه واحد، في حالة واحدة، وذلك ظاهر.
وباطل أن تكون أوجدت أنفسها وهي معدومة، لأنا قد علمنا أن إيجاد الفعل يستحيل من عادم القدرة مع وجود ذاته وحياته فبأن يكون عدم الذات أبلغ في إستحالة وجود منه أولى وأحرى.
______________
([43]) - نخ: وجد.