قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)}[عبس]، معناه نظر القلب الذي هو الفكر، والنظر في عجائب الصنع؛ لأن النظر بالأعيان قد وقع من الكافة، وهو لحكمته لا يأمر بالواقع، ولعمري إن من أنعم النظر فيما ذكر سبحانه حصل له العلم به تعالى على أبلغ الوجوه، لأن الماء واحد، والأرض واحدة، والهواء واحد، والحبَّة واحدة، والتأثير في الحبَّة الواحدة مختلف، إذ بعضها يهبط إلى أسفل، وبعضها يصعد إلى أعلى، وبعضها قشر، وبعضها لُب، وبعضها ورق، وبعضها عمود، وبعضها غصن، وهي واحدة فيأتي منها أعداد أكثر منها يعسر حصرها لكثرتها، وربما اختلفت ألوانها، بل قد شاهد الكافة ذلك، ثم جميع ذلك يحصل في وقت بعد وقت، شيئاً بعد شيءٍ، والعلل موجودة عند من قال بها، والمعلول لا يجوز تراخيه عن علّته([23]) وإلا انتقض كونها علّة فيه، فحينئذٍ يضطر الناظر العاقل إلى إثبات الصانع، المختار، ونفي العلل.
[سبب البسط في تفسير هذا البيت]
واعلم أن العلّة في بسط الكلام في معنى هذا البيت الذي فيه ذكر الأرواح إعتراض رجلين من الإخوان : أحدهما من العترة -عَلَيْهم السَّلام-، والثاني من شيعتهم -تولى الله توفيقهم- في أمر الأرواح وذكرها، فقاد الكلام بعضه بعضاً، والفائدة واقعة في الجميع.
ثم لنرجع إلى ذكر معاني ألفاظ البيت:
(الأرواح): جمع الريح والروح لما بينهما من الأخوة - أعني الياء والواو ـ، ولأنهما جمعا للقلة، ولأن الروح من قبيل الريح وجنسها، فالروح ما قدمنا ذكره.
[ذكر أنواع الرياح]
والرياح أربع: قبول ودبور وشمال وجنوب، فالقبول ما أقبل من مطلع الشمس وهي الصبا، والدبور ما أتى من جهة الغرب، سمي دبوراً لاستدباره البيت الحرام، والجنوب من ناحية اليمن، والشمال من جهة الشام، ولها أسماء كثيرة ولا وجه لتطويل الكلام بها.
وكل ريح اعترضت بين ريحين فهي نكباء.
________________
([23]) - عودة إلى مسائل الشريف نور الدين. ثانيها : عن العلة، قال في موضع : لا يجوز تراخي معلولها عنها، وفي موضع أوجب تقدمها عليه وإلا لم تكن علة ؟
الجواب عن ذلك : أن نقول مستقيم ؛ أما أنه لا يجوز تراخي معلولها عنها فلأنه لو جاز خرجت عن كونها علة فيه وذلك لا يجوز، وكان لا ينفصل وجودها عن عدمها ؛ لأن دليل وجودها ظهور معلولها، وما أدى إلى أن لا ينفصل وجود الشيء عن عدمه قُضِيَ ببطلانه.
وأما وجوب تقدّمها عليه وإلا لم تكن علّة فيه فمستقيم، والمراد تقدم الذات لتكون مؤثرة في الحكم لا تقدم الزمان ؛ فيجوز التراخي، فيتناقض القول كما ذكرت في حركة الأصبع وحركة الخاتم ؛ فإن حركة الأصبع متقدمة على حركة الخاتم تقدم الذات لا الزمان.

[بيان دلالة الرياح على الله تعالى]
وفي الرياح دلالة على الله -تعالى- لوجوه:
منها: أنها حركات متداركة([24]) توجد وتعدم في أجسام الهواء فلا بد لها من موجد وذلك لا يكون سوى الله تعالى.
ومنها: أن الهواء إنتقل لأجلها من جهة إلى أخرى، والإنتقال على القديم محال، فإذا صح إنتقاله وجب حدثه؛ لأن الموجود إذا استحال كونه قديماً؛ وجب كونه محدثاً، وإذا وجب حدثه كان لا بد له من محدث وهو جسم، ولا يصح حصوله من جسم لاستحالة وجود الأجسام من الأجسام لأن الأجسام قادرة بقدرة، والقادر بالقدرة لا يصح منه فعل الأجسام، لولا ذلك لصح من أحدنا أن يفعل لنفسه ما يشاء من الأموال والأولاد، ومعلوم خلاف ذلك، فلا فاعل له إلا الله -تعالى- لاستحالة وجود الفعل من غير فاعل كما نعلمه في أفعالنا، وعلة حاجة أفعالنا إلينا في([25]) حدوثها وقد شاركها في ذلك كل محدث وذلك مبسوط في كتب الكلام.
ومنها: أنها مختلفة، كما قدمنا، في جهاتها، وخواصها، وصفاتها، ولو كانت قديمة لما جاز عليها الإختلاف، وإذا لم تكن قديمة فهي محدثة لأن الموجودلا بد له من ذلك، ومحدثها هو محركها في الجهات.
و(الإنشاء): هو الإحداث.
و(الغمام): هو السحاب، وذلك ظاهر.
و(البرك) : جماعة الإبل في العطن والمأوى، ومن رآها في هاتين الحالتين علم أنها أشبه شيءٍ بالسحاب.
و(السائمة): هي التي ترتعي بروؤسها من القفار ولا يحش لها العلف، والرعي: هو السوم.
و(الأنعام): هي الإبل وما خالطها من المواشي سمي بإسمها، والإبل الأصل في ذلك، وسميت أنعاماً للين وطئها، ورطوبة أخفافها، مأخوذ من الناعم وهو اللين المس([26]).
و(الحنين): أصلها في الإبل، وهو معروف.
و(الأرزام): أصوات متقطعة متداركة أصلها الحنين، والحنين والأرزام أصلهما في الإبل تحن الناقة لولدها وترزم، والأرزام لولدها خاصة، والحنين يكون للولد والألف، وقد نقل الحنين والأرزام إلى الرعد فصار بالنقل حقيقة في الجميع مشتركة.
قوله: (فاعتبري يا أمة الضلال):
_______________
([24]) - السؤال الثالث من مسائل الشريف نور الدين : وثالثها: سأل أيده الله عن الرياح حركات متداركة، فعلى هذا هي عرض لا جسم.
الجواب عن ذلك : أنها حركات في أجسام الهواء وما كان كذلك سمي رياحاً، والحركة وحدها لا تكون رياحاً، والأسماء لا ينكر تعلقها بالأمور على وجوه، ألا ترى أن الإنسان مجموع أجزاء كل جزء منه على الإنفراد لا يسمى إنسان، فإذا اجتمع أطلق عليه اسم الإنسان، ألا ترى أنك لو وجدت أعضاء متفرقة لأضفتها إلى الإنسان، تقول : هذا رأس إنسان، ويد إنسان حتى تأتي على جميع الأعضاء؛ فما الإنسان والحال هذه إلا مجموع هذه الأعضاء، كذلك الرياح اجتماع الحركات في الهواء فإن سَكَنَّ رجع إلى الاسم الأول، وقيل : هواء.
([25]) ـ في (ن): ناقص : في.
([26]) ـ في (ن، م): المسن، وما أثبتناه هو الموافق للمعنى والله أعلم.

(الإعتبار): هو قياس بعض الأمور ببعض.
و(الأمة): هم طبقة الخلق في كل وقت، والجماعة العظيمة أمة من الناس لا يكون ذلك إلا بقرينة، ومجموعهم أمم، والأمَّة: القامة، والأمَّة: الدَّهر من الدهور والحين، وأمة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- هم الذين بعث إليهم عرفاً وشرعاً، والأصل هم الذين بعث فيهم.
[بيان دلالة الغمام على قدرة الله عز وجل]
ودلالة الغمام على الله -تعالى- من وجوه:
أحدُها: خلقه له بعد أن لم يكن، فلا بد له من محدث لمشاركته أفعالنا في الحدوث، وعلمنا بحاجتها إلى المحدث، فلا بد له لأجل ذلك من محدث وليس إلا الله -سبحانه- لأنه جسم ولا يصح وجود الأجسام من القادرين بقدرة.
وثانيها : تصعيده له في الهواء مع ثقله - أعني الغمام ـ، ونحن نعلم أن الثقيل يجب هويه أو استقراره إن لم يمنعه مانع، ولا يصعد إلا أن يرفعه فاعل مختار.
ومنها: بسطه له في السماء واستقراره في الهواء، ولو كان صعوده مع إستحالة ذلك لعلة في التقدير لوجب صعوده أبداً لأن العلة لا توجب أمرين مختلفين، كما يعلم أن الثقل يوجب الهوي أبداً، ولا يوجب الصعود أصلاً.
ومنها: حركته ومسيره من جهة إلى أخرى، فلا بد له من مسير.
ومنها: إمساك الماء فيه مع رقته وضعفه، وثقل الماء وقوته.
ومنها: ما يحدث فيه من الأصوات العظيمة التي ربما أهلكت، فلا بد لذلك من فاعل.
ومنها: إجتماع البرق الذي هو نار، مع الماء الذي هو محل ضدها، ولا يجتمعان في مجرى العادة إلا للقادر لذاته وهو الله -سبحانه- لأن الجمع بين محليهما وبقائهما على حالتهما يستحيل من القادرين بقدرة.
[ذكر الغمام وعظيم قدرة الله فيه]
ثم أعاد ذكر الغمام وعظيم قدرة الله فيه.
[3]
عجيبة يُعذرُ فيها مَنْ عَجِبْ .... في حملِهِ الماءَ فِلِمْ لا يَنْسَكِبْ
قَبْلَ بُلوغِ أرضهِ حيثُ نُدِبْ .... لو خالفَ اللهَ عصاهُ فَغَضِبْ
وصَارَ في دائِرةِ النَّكَالِ

(العجيبة): واحدة العجائب، والعجائب: هي الأحوال التي يجدها الإنسان من نفسه عند حدوث الأمر الجاري بخلاف العادة.
وقوله: (يعذر فيها من عجب): يريد؛ ترتفع اللائمة عند تكونها مما يُعجِبُ العقلاءُ مثلَها، لأن من عجب من الأمر المعتاد لامه العقلاء ورموه بأنه عجب من غير عجب، هذا إذا كان العاجب عاقلاً، ولا أعجب لكل عاقل متأمل من حمل السحاب الضعيف -الذي لا يمسك حبَّة الخردل فما فوقها- لما يملأ رحاب الأرض، وتضيق به فجاج الأودية من الماء الثقيل، القوي المحمول على الهواء، فسبحان من جعل الرقيق الضعيف، راحلةً للثقيل الكثيف، هذا ما لم تجر العادة بمثله في مقدور العباد، لولا اقتدار ذي الطول والأياد.
(الحمل): هو الإقلال للشيء، (والماء) إذا أطلق أفاد ما خلق الله -سبحانه- خالصاً من كل شائب مثل العيون الهامية، وهي التي أراد في القافية، والأنهار الجارية، والبحار الساجية، فإذا قيد أفاد غير ذلك بالقرينة نحو ماء الورد، وماء الكبريت وما شابهه فهو حقيقة، فيما قدمنا، مجاز في ما عداه.
قوله: (لاينسكب): يريد؛ لا ينصب الإنسكاب: هو الإنصباب.
(قبل بلوغ أرضه): أضافها إليه لمصيره إليها.
(حيث ندب): يريد حيث أمر، تقول العرب: ندب فلان لكذا وكذا إذا أمر به، سمعت من العرب ممن يوثق بعربيته من يقول ندبنا إليهم مندوباً: يريد؛ أرسلنا إليهم رسولاً.
و(الخلاف): هو ترك ما أمر به أو فعل نقيضه، (والله) سبحانه، هو الربّ الذي تأله إليه القلوب، أي تميل وتصغي إلى محبته.

و(المعصية): نقيض الطاعة وهي ترك ما أمر بفعله، أو فعل ما أمر بتركه. و(الغضب): نقيض الرضاء، (والمصير) هو الرجوع، (والدائرة) هي المحيطة بالشيء، و(النكال): هو العذاب، والإستخفاف لا يكون نكالاً حتى يكون كذلك، والله -تعالى- لا يقوم لغضبه مخلوق لا حيوان ولا جماد وقد ظهر ذلك لبني إسرائيل لما سألوه سبحانه المستحيل على ذاته وهو الرؤية بقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}[النساء:153]، فسأل نبيئهم -صلوات الله عليه-([27]) لقطع شغبهم فتجلى سبحانه للجبل فجعله دكاً، فنعوذ بالله من غضبه، ونساله أن يصل سببنا بسببه.
[الكلام في مسألة الأرزاق]
[4]
كَمْ معشرٍ ساقَ إليهمْ رزقَهُ .... قد خَلَعُوا من الرِقَابِ رِقَّهُ
وقد عَصَوْا وجَحَدوهُ خَلْقَهُ .... جُلَّ الذي صوَّرَهُ ودِقَّهُ
لِمُبْلِغِ الحُجَّةِ لا الإجلالِ
(كم): معناه التكثير، وهو من كنايات العدد، وهو نقيض رُبَّ، لأن معنى رب التقليل.
و(المعشر): هم الخلق الذين يجمعهم أمر من الأمور، لأنه إذا جمعهم أوجب العشرة، والعشرة هي المجاورة والصحبة.
و(السوق): معروف، وأصله في الحيوان ويستعار لغيره.
و(الرزق) : هو الذي لمالكه تناوله والإنتفاع به وليس لأحد منعه على بعض الوجوه، وقولنا على بعض الوجوه: إحتراز من اليتيم فإن لوليه منعه من تناول رزقه إذا رأى ذلك صلاحاً، وكذلك المحجور عليه، والصائم إذا أراد أكل شيءٍ من ماله في نهار شهر رمضان لغير عذر كان لنا منعه من تناول رزقه على ذلك الوجه إذا تكاملت لنا شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرعلى ما يأتي بيانه إنشاء الله -تعالى- وما شابه ذلك.
[ذكر الإختلاف في مسألة الرزق]
والخلاف في مسألة الرزق مع بعض المطرفية، وقوم من الفلاسفة وهم الإسلاميون منهم، ومع أهل الطبع، وكفرة أصحاب النجوم، والكافة يتشعبون إلى فرق كثيرة لا وجه لذكرها ها هنا.
________________
([27]) ـ في (ن): صلى الله عليه وعلى آله.

وسائر الخلق من الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، والأمة مجمعون على أن لا رازق إلا الله تعالى.
[خلاف الفلاسفة والرد عليهم]
واعلم: أن خلاف من ذكرنا من الفلاسفة واقع في المعنى دون اللفظ، لأنهم يطلقون القول بأن الله -تعالى- رازق لجميع الخلق، على معنى أن الرزق فاضَ منه سبحانه على الكافة؛ كما يفيض النور من قرص الشمس من غير قصد منه في وصوله إلى من وصل إليه خصوصاً دون غيره، قالوا: وهذا أبلغ في الجود وأعم في الإنعام.
والكلام عليهم أنا نقول لهم: أخبرونا بحقيقة المنعم ما هي؟، وحقيقة الإنعام ما هو؟، فإن بمعرفة الحقائق تُحَلُّ الدقائق؛ لأنا وإياهم بل جميع العقلاء نعلم أن المنعم لا يكون منعماً حتى يقصد وصول المنفعة الحسنة للإحسان إلى من أنعم بها عليه، فحينئذٍ يتعين شكر المنعِم على المنعَم عليه، ولا يكفي في ذلك مجرد وصول المنفعة إذا تعرى من القصد - إلى الإحسان إلى من وصلت إليه - والإرادة.
ألا ترى أن إنساناً لو أتى بكوز ماءٍ بارد فأهرقه على إنسان مجدور يريد بذلك الإضرار به، فإنه لا يجب عليه -والحال هذه- شكره، وإن كان النفع قد وصل إليه من قبله، ولكنه لما تعرى من القصد سقط وجوب شكره، وكذا لو أعد طعاماً مسموماً لجائع يريد هلاكه به فلما أراد مناولته إياه غلط بغيره فأعطاه طعاماً شهياً لذيذاً خالصاً من السُّم سد به فاقته، وأمسك رمقه، وقضى وطره، فإنه لا يجب عليه عند جميع العقلاء شكره لما لم يقصد بإيصال الطعام إليه نفعه وإنما قصد مضرته، فلما حصل النفع معرىً من القصد خرج عن باب الإحسان، ألا ترى أن شكر الشمس لا يوجبه أحد من العقلاء، بل لا يستحسنه وإن كان النفع بها واصلاً إلينا، لمَّا كان القصد مستحيلاً عليها لكونها غير حية ولا قادرة، والقصد لا يكون إلا من حي قادر، فلو كان الإحسان الواصل إلينا من قبل الله تعالى فيضاً كما زعموا، لما وجب علينا شكره، كما قدمنا بيانه.

فحقيقة المنعم على ذلك: هو الموصل للنفع أو لسببه مع القصد للإحسان إلى من وصل إليه.
وحقيقة الإنعام: هو النفع الحسن الذي يقصد به موصله وجه الإحسان إلى من وصل إليه.
[الكلام على أهل الطبع]
وأما الكلام على أهل الطبع: فهو يتعين في إبطال ما يذهبون إليه من الطبع وإثبات الصانع المختار -سبحانه- وأنه لا فاعل للأجسام سواه، فبذلك يبطل ما ذهبوا إليه، وسنذكر في إبطال ما ذهبوا إليه طرفاً من الكلام فيما بعد إن شاء الله تعالى.
[الكلام على مذهب أهل النجوم في الأرزاق]
وأما أصحاب النجوم: فمذهبهم مبني على أن الأرزاق والأرفاق الواصلة إلى العباد تحصل بتأثير الكواكب وسعادة المولد.
والكلام عليهم: أن هذه الأرزاق الواصلة إلى العباد أفعال فلا بد لها من فاعل، والفاعل لا يكون إلا حيًّا قادراً، والكوكب غير حي ولا قادر.
ودليل آخر: وهو أن الكوكب جسم بالإضطرار والمشاهدة، تلزمه الحركة والسكون وسائر الأكوان، وذلك أمارة الحدوث، فلو قدّر على إستحالة ذلك كون الكوكب قادراً لم يخرج عن كونه قادراً بقدرة، فالقادر بالقدرة لا يصح منه فعل الأجسام، ولأن القادر بالقدرة لا يعدي فعله إلا بالإعتماد، والأرزاق أجسام بالإضطرار، والإعتماد لا يولد الأجسام، ولا تأثير له في إنشاء الغمام، وفتق الأكمام([28])، إلى غير ذلك من أنواع الإنعام.
ومما يبطل به قول أهل النجوم على وجه الجدل من المشاهدة: أنا ننظر إلى التوأمين والأسباب واحدة، والطالع واحد، مختلفي الأحوال في السعة والضيق، والرفاهية والنَّصَب، وذلك ما لاينكره أحد؛ لأن منكره تفضحه المشاهدة، فلو كان لما ذكروه وجه لما اختلف الأمر فيمن ذكرنا.
واعلم: أن بإثبات الصانع، المختار، يبطل ما قالوه، فهذا هو الكلام على أهل النجوم على سبيل الجملة.
_________________
([28]) - الأكمام جمع كم بالكسر : وعاء الطلع وغطاء النَّوْر. تمت ق.

[ذكر قولي المطرفية في الرزق والرد عليهم]
فأما المطرفية: وهم فرقتان - أعني أهل نفي الرزق، على ما قدمنا ذكره، لأنا وجدنا منهم من لا ينفيه عن الله -تعالى- لا لفظاً ولا معنى.
ففرقة منهم: تزعم أن ما وصل إلى الكافة من أهل الطاعة والمعصية فإنما يحصل بغير قصد من الحكيم -سبحانه- وإنما يحصل بالحركات وإحالات العالم، قالوا: وهذا أبلغ في الإنعام؛ لأن الله -تعالى- جعل العالم ينقاد لمن قاده، ويستحيل إلى المنفعة على حسب إحسان العباد في أنواع التصرف، وهذا كما ترى شبيه بما حكينا عن الفلاسفة؛ فإذن الكلام على هذا القول قد تقدم.
ومما يؤيد ما تقدم: أنا نقول لهم: ما دليلكم على أن الله -سبحانه- جواد؟ وقد علمنا نحن وأنتم أن من نفى عنه -تعالى- صفة الجود كفر بالإجماع ولا تثبت هذه الصفة التي يجب إثباتها له إلا بدليل فلا يجدون دليلاً؛ إلاَّ أنه أوصل النفع الحسن إلى عباده إبتداءً، وهو يريد الإحسان إلى من وصل إليه، لولا ذلك لما وجب شكره تعالى على الكافة من خلقه الكافرين والمؤمنين، لأنا قد قدمنا البرهان على أن من أوصل إلى غيره نعمةً خالصةً ولم يقصد الإحسان إليه، لا يعد جوداً عليه ولا محسناً إليه، وذلك ظاهر عند جميع العقلاء؛ لا ينكره إلا من أعمى التعصب عين بصيرته.
وأما الفرقة الثانية من المطرفية: فيزعمون أن الله -تعالى- لا يرزق العصاة من عبيده، ودليلهم قالوا على ذلك: إنه تعالى، لحكمته لا يعينهم على المعصية، وهذه غفلة عظيمة لأنا نعلم جميعاً أن خلقهم وإحيائهم أبلغ من أرزاقهم في باب التمكين من المعصية، فلو ساغ نفي رزقهم عن الله -تعالى- لهذا الدليل؛ لساغ نفي خلقهم عن الله -تعالى- ومعلوم أن ذلك خروج من الدين وانسلاخ عن الملة.

[الأدلة من كتاب الله على أن الرزق من الله تعالى]
فإن قيل: إن الله تعالى خلقهم للطاعة.
قيل: وكذلك إنه تعالى رزقهم ليشكروه؛ فمن لم يشكره كفر، سيما وقد قال تعالى مخاطباً للمشركين خاصة، ولا معصية أعظم من الشرك بالله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(40)}[الروم]، وقال تعالى في الكفار خاصة: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ إِنْ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ(20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21)} [الملك]، فنعوذ بالله من الغرور والثبور، والعتو والنفور، وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56)}[النحل]، فصرح بأنه رزقهم ما يجعلون فيه لغيره نصيباً، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)}[البقرة:22]، فهذه في الكفار خاصة، وقال تعالى في الكفار خاصة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)}[البقرة]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)}[البقرة]، فهذا تصريح بأنه خلق لهم جميع ما في الأرض، فهو حينئذٍ يأتي على الخلاف من أصله، ويهدمه من قواعده، وقال تعالى للناس كافة:

{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)} [فاطر]، وقال سبحانه آمراً لنبيئه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمجادلة للمشركين والإحتجاج عليهم بما لا يجدون إلى دفعه سبيلاً، فقال عز من قائل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ (32) }[يونس]، وإنما أقروا إضطراراً لا إختياراً لأنهم يعلمون أنهم لا يقدرون على إنزال المطر، وفلق الحب والنوى، وإخراج الثمار، وإحداث الأشجار، وقلب أحجار المعادن مالاً، وإيجاد العين([29]) إبتداءً، وأنه لا يقدر على ذلك إلا الله -سبحانه- فحينئذٍ لزمتهم الحجة وتعين عليهم الشكر، وقال سبحانه مخاطباً للمشركين أيضاً: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}[الإسراء:31]، فصرح تعالى بأنه رازق للمشركين وأولادهم، وحكى سبحانه قول إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }[البقرة:126]، قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}[البقرة]، والحجج من كتاب الله - تعالى - وكلام نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأقوال الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- لا تنحصر لنا كثرة، وقد ذكرنا بحمد الله ما فيه كفاية لمن أنصف نفسه، وطلب رشده.
__________________
([29]) ـ المراد به هنا الذهب، وإلا فهو لفظة مشتركة بين معان كثيرة، ويمكن أيضاً أن يحمل عليها؛ فمنها: العين الباصرة، وذات الشيء، والماء النابع،وغيرها.

7 / 63
ع
En
A+
A-