[حالة طالب العلم بعد عودته إلى أهله]
[84]
فراحَ جذلانَ قريرَ العينِ .... قد نالَ ما رامَ بأمرٍ هَيْنِ
يفْرقُ بينَ حاسدي وبيني .... كالفرقِ بين الصفْرِ واللُّجَيْنِ
يقول: رجع هذا الطَّالب إلى أهله (جذلان): يريد؛ فرحان. (قرير العينِ): يريد؛ مسروراً بما أصاب من العلم، لأن عين المحزون سخينة، وقد قيل أصل قرة العين من القر وهو البرد، ودمعة السرور باردة بالمشاهدة، وسخينة العين من السخونة وهو الحر، ودمعة الحزن حارَّة بالمشاهدة - أيضاً ـ، وقيل قرة العين أخذت من القرار وهو السُّكون، فلما كان الراضي بما معه لا تعدو عينه إلى سواه؛ بل هي ساكنة عليه غير طامحة إلى غيره، قيل: قرت عينه بما أوتي.
قوله: (يفرق بين حاسدي وبيني): يريد؛ يعلم فضل العترة -عَلَيْهم السَّلام- على من أنكر فضلهم وهو حاسدهم كما يعلم فضل (اللجين): وهو الفضة على النحاس، وهو ها هنا (الصفر) ولا يجهل فضل أحدهما على الآخر إلاَّ جاهل، وأجهل منه من أنكر فضل العترة الطاهرة على جميع البشر.
[المنصور بالله(ع) يذكر حالته مع خصمه اللدود في المخاصمة]
[85]
هذا وكمْ خصمٍ من القومِ ألَدّ .... رقَّيْتُهُ عندَ الخصامِ في كَبَدْ
حتى إذا ما صارَ يرمي بالزبدْ .... قلتُ قليلاً يتعاطينَ الجَدَد
يقول: هذا الذي منَّ الله به علي من ولادة نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وهدايته لدينه الذي إرتضاه لنبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ولذريته -عَلَيْهم السَّلام- إنضاف إليه - أيضاً - من النعم ثبات الجنان، ومضي اللسان، (فكم خصم ألد): وهو شديد الخصومة لا يكاد يغلب - وقد قال سبحانه وتعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا(97)}[مريم] - قد غلبته.
قوله: (رقيته): معناه: رفعته بفواصل الكلم حتى خف، وعلا نَفَسُهُ، واشتد خناقه.
و (الخصام): هو الجدال.
و(الكبد): هو الشدة. يقول: " لما اشتد لجاجه وجداله (صار يرمي بالزبد) من شدقيه، وقد كان ذلك، وعاتبه غير واحد لشدة حمقه وغلوانه، ومتابعته لشيطانه...
قوله: (قليلاً يتعاطين الجَدَد): معناه: تأيد([48]) قليلاً حتى يتضح لك الحق ويبين لك الصدق، فإن اتبعتني كنت من الصادقين السالمين، وإن خالفتني كنت من الكاذبين الظالمين، وهذا مثل تضربه العرب لمن إستعجل لأمر هو فيه مغبون، وأصل ذلك في قيس بن زهير، وحذيفة بن بدر، وقصتهما مشهورة في رهانهما على الحطار والحنفاء لحذيفة، والداحس والغبراء لقيس، وقد قيل كان الرهان على فرسي قيس الداحس والغبراء، وإنه اعترض قيس([49]) في فرسيه فنفر الغبراء على الداحس إعتراضاً منه وعدواناً، وراهن قيساً على فرسيه. وعلى القصة الأولى الأكثر من أهل المعرفة، وهي الأليق بالحال، ففي الحديث: أن الخيل لما ألقى مقوسها - وهو حبل يعرض على وسطها الإجتهاد في التساوي ـ بدرت فرسا حذيفة فقال: (سبقت يا قيس)، فقال قيس: (قليلاً يتعاطين الجدَدَ)، فأرسلها مثلاً، فسبقت فرس قيس الغبراء سبقاً ظاهراً على أعيان العرب، وضرب حصانه الداحس في وسط الميدان فكان له السبق، والقصَّة تطول، والكلام ذو شجون، والعلم ذو فنون.
[الإمام المنصور بالله (ع) يصف حاله مع هذا الخصم]
[86]
أرفَعُهُ حَينَاً وحيناً أُنْزِلُهْ .... حتى بَدتْ حِدَّتُهُ وأفكُلُهْ
وصحَّ لِلحُضَّارِ طُرَّاً زَلَلُهْ .... وَنَفِدَتْ عند الخِصَامِ عِلَلُهْ
هذا وصف حاله مع هذا الخصم يعليه مرة وينزله أخرى، وذلك لشدة الإستظهار بالله -سبحانه- وهدايته، لا بحوله ولا قوته، فصار حاله معه كمن يصرع قِرنه([50]) ثم يقيله، ثم يصرعه مرة أخرى، فذلك يكون أبلغ في الإستظهار من صرعه مرة واحدة.
و(الحدة): هي النَّزَق، وهو نقيض الوقار.
و(الأفكل): هو الرعدة .
و(الحضار) عند الخصام بمنزلة النظارة عند القتال.
و(الزلل): هو الخطأ، وأصله دحوض القدم وقلة ثباتها، يقال: زل، إذا عثر وسقط.
و(العِلَل): هي ما يعلل به قوله، ويحتج به لكلامه.
(نفدت): نجحت وذهبت فلم يبق له علَّة يعتل بها.
_______________________
([48]) ـ التأيد: هو الإمهال.
([49]) - نخ (ن): قيساً.
([50]) - القِرن بالكسر : الكفؤ في الشجاعة.
[صفة هذا الخصم المغلوب لما نفدت علله]
[87]
فمُذ بدا الحقُّ وأعمى بصرَهْ .... ثنَى بتعدادِ الشيوخِ خُنْصُرَهْ
قالَ العلومُ فيهمُ مُنْحصرهْ .... ومَدَّ باعاً في الهدى مُقَصِّرهْ
هذا صفة هذا الخصم المغلوب لما نفدت عِلَلُه، رجع إلى ذكر مشائخه وتعظيم علمهم، وتفضيلهم على غيرهم من هداتهم من عترة نبيئهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقال: (لا علم إلاَّ ما عندهم)، فلذلك قال: (العلوم فيهم منحصرة).
و(الخنصر): هي أول ما يقبض من الأصابع في العد والحساب، وهي الصغرى منهن ويليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبَّابَة. وروي أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- سمَّاها المسبحة، وكان -عَلَيْه السَّلام- يحب الأسماء الحسنى فلمَّا كان التسبيح يقع بها والسَّب دعاها بأحسن إسميها. ثم الإبهام وهي الكبرى.
[إحتجاج الخصم لشيوخه بكثرة العبادة]
[88]
وقالَ هلْ تَحْسِبُهُمْ في النارِ .... بَعْدَ صلاةِ الليلِ والنهارِ
وهَبَّةِ النومِ لدى الأسحارِ .... وذِكرِهِم للواحدِ الجبَّارِ
وهذا نوع من إحتجاج المخالف للعترة، النافي لفضلها، وهو الذي يعتمد عليه جمهور أهل الإنكار لفضلهم، إذا قُطع واحدهم عند الجدال وظهر له الحق قال: (هذا الذي أنا عليه رأي فلان وفلان) وعد شيوخ مقالته العبَّاد، أهل الجد والإجتهاد، الذين جحدوا فضل العترة المرضيَّة، وساووا بينهم وبين غيرهم من البريَّة، وقال: (هل تحسبهم في النار) وقد قطع لعبادتهم وخشونتهم أنهم في الجنَّة، ونسي أن الإيمان قول وعمل وإعتقاد، وأن الإعتقاد الصحيح أصل لصحَّة القول والعمل ، والخوف([51]) ما وقع فيه هذا القائل.
______________________
([51])ـ في الأصل هكذا والأصح : والخلاف. تمت.
قال جدنا أمير المؤمنين -صلوات الله عليه-: (قطع ظهري اثنان: عالم فاسق يصد الناس عن علمه بفسقه، وذو بدعة ناسك يدعو الناس إلى بدعته بنسكه). وقد سمعنا هذا الإحتجاج بعينه من رجل من المخالفين، وذلك أنه جعل حجتة على صحَّة دينه، قوله: هل فلان وفلان من أهل الجنَّة أم من أهل النار ؟ وذكر شيخين كبيرين من شيوخ مقالته، وقد ألجت الضرورة إلى مناظرة من هذه حاله، والله المستعان. وإلاَّ فمن انتهى به الأمر إلى هذه الحال إستغني بجهله عن مناظرته، وكانت مسألته تنتقل إلى باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتبار الشرائط في ذلك، ثم ذكر أفعالهم التي قطع لهم بالجنَّة لأجلها من الصلاة، والصيام ، وهجر النوم، ووصل اللَّيلة باليوم، ولعمري إن بعض تلك الأعمال يكفي في دخول الجنَّة إذا وافق إعتقاداً صحيحاً، وأصل صحة الإعتقاد الإعتراف بفضل آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الأحمر والأسود من الناس، كما قدمنا من الأدلة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
[الجواب على الإحتجاج]
[89]
فقلتُ إنْ كانوا يرونَ الدِّينا .... في قولِنا وفعلِنا يقينا
ثم يُعَادونَ الطغاةَ فِينَا .... فسوفَ يلقونَ الحسانَ العِينَا
هذا جوابه على كلامه يقول: إن كان من ذكرت محبًّا لنا معشر أهل بيت النبوءة يرى برأينا، ويدين بديننا، إذ المحبَّة لا تقع إلاَّ بالمتابعة، ويعادي أعداءنا، ويوالي أولياءنا، فسوف يدخل الجنَّة إن شاء الله -تعالى- ويلقى (الحسان العين) وهنَّ حور الجنَّة.
[تأكيد وبيان لما تقدم من الجواب]
[90]
وإنْ نأوا عَنْ رأينا في الدينِ .... بغيرِ ما علمٍ ولا يقينِ
فَهُمْ مِنَ المكتوبِ في سجينِ .... لو عَبَدُوا ألفاً مِنْ السنينِ..
هذا كله جواب؛ ووجهه: أن هؤلاء العباد من المشائخ ـ الذين ذكرتهم ـ وكانوا أصلاً لما أنت عليه لما رأيت من عبادتهم إن خالفونا معشر أهل البيت ، ولم يقولوا بقولنا، ويتبعوا آثارنا ، ويدينوا بفضلنا، ويوجبون على أنفسهم مودتنا، (فهم من المكتوب في سجين) ، وسجين إسم صحف أهل النار، ولما كان المرقوم فيها يؤديهم إلى السجن الذي هو الضرب المبرح، والسجن الذي هو الحبس الشديد سُميت الكتب سجيناً، وضعف للمبالغة كما يقال: شِرِّيبٌ، وشواهده ظاهرة، وميلنا إلى الإختصار. يقول: فلو عبد المشائخ ـ الذين ذكرت ـ (ألفاً من السنين) وذلك لا يدخل الإمكان، وخالفونا أهل البيت لم تغن عنهم عبادتهم من العذاب شيئاً، يقول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)) وذلك ظاهر، لأن النار موعد أهل الضلال.
[اتباع العترة شرط في قبول الأعمال ومثال ذلك:الخوارج أصحاب النهر]
[91]
وَيْكَ ألم تعلمْ بأصحابِ النَّهَرْ .... وذِكْرِهِم للهِ أوقات السَّحَرْ
وَصَبْرِهِمْ للموتِ خوفاً للضررْ .... فَهَلكُوا إذْ خالفوا خيرَ البشرْ
(ويك): كلمة عربية يبدأ بها المُخَاطِبُ كلامه، وهي في كتاب([52]) الله سبحانه وتعالى.
_______________________
([52]) ـ في قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82)} [القصص]، قيل: إنها كلمة تعجب ، وقيل: معناها ألم تر ، وقيل: ويلك ، وقيل: اعلم ، تمت قاموس معنى مختصراً.
و (أصحاب النهر): هم الذين خرجوا على علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان أول خروجهم إلى حرورا، وهو موضع معروف، فخرج إليهم -صلوات الله عليه- وابن عباس -رضي الله عنه- فناظراهم ورداهم المصر، وسماهم علي -عَلَيْه السَّلام- الحرورية لاجتماعهم بحرورا ، ثم خرج متوجها إلى الشام وهم من جملته -عَلَيْه السَّلام- فانفصلوا إلى النهروان وسلوا سيوف البغي على الناس، وقد اختلف في عدَّتهم وهي كثيرة إلاَّ أنهم القراء والعبَّاد ، وأهل الإنقطاع والتخلي ، قوام اللَّيل ، وفرسان الخيل، فبعث -عَلَيْه السَّلام- إليهم رسولاً فقتلوه، فوجه إليهم ابن عباس -رضي الله عنه- فناظرهم فرجعت منهم طائفة وثبت باقيهم على الضلالة.
وكان إمامهم ـ بزعمهم ـ عبدالله بن وهب الراسبي([53])، وكان له ثفنات كثفنات البعير من كثرة الصلاة والعبادة.
وكان فيهم المُخَدَّجُ الذي يقال له ذو الثدية، وقد ذكره النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وبشره بجهادهم، كانت إحدى يديه مثل ثدي الإمرأة عليها شعرات كشارب السنور إذا مدَّت ساوت الأخرى فإذا تركت عادت إلى حالتها الأولى.
___________________
([53]) ـ عبدالله بن وهب الراسبي ، من الأزد ، من أئمة الإباضية من فرق الخوارج ، كان ذا علم ورأي وفصاحة وشجاعة ، وكان عجباً في عبادته ، أدرك النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وشهد فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص ، وكان مع علي -عَلَيْه السَّلام- في حروبه إلى أن وقع التحكيم، فحصل الاختلاف ، فأنكره الخوارج ، وهم جماعة كانوا في جيش أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- فكَفَّروا علياً -عَلَيْه السَّلام- ومرقوا من طاعته ، فأمروا عليهم الراسبي ، وحاربهم علياً -عَلَيْه السَّلام- في وقعة النهروان وقتل عبدالله بن وهب الراسبي في المعركة سنة (38هـ) وللخوارج أخبار وقصص تطول ، من أراد الاستكمال فليرجع إلى شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي.
وكانت محطتهم يسمع لها دوي كدوي النحل من القراءة والتسبيح بأنواع ذكر الحكيم -تعالى- فلم تغن عنهم عبادتهم من الله شيئاً، وما زادوا على من خالفنا في زماننا([54]) مثل الشعرة؛ لأنهم أرادوا من علي -عليه السلام- وولديه -عليهما السلام- وهم العترة في ذلك الوقت ـ الرجوع إلى رأيهم، فلما لم يفعلوا ذلك -عَلَيْهم السَّلام- أنكروا حقهم، وجحدوا فضلهم، وخرجوا عليهم، واستغنوا بأنفسهم عنهم، واتخذوا منهم أكابر فزعوا إليهم في الحوادث، ونبذوا العترة -عَلَيْهم السَّلام- وراء ظهورهم، وكذلك المخالفون لنا لَمّا لم نرجع إلى رأيهم جحدوا حقنا، وأنكروا فضلنا، والأمر في ذلك ظاهر، ولم يفرق أحد بين العترة في وجوب الإتباع من إستقام منهم، وارثاً للكتاب، عارفاً لفصل الخطاب، ولا يجوز مرور وقت من الأوقات إلاَّ وفيهم -عَلَيْهم السَّلام- من هو كذلك، لقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) يعني الكتاب والعترة.
وقد روي من إجتهاد الخوارج أن الإنسان منهم كان يجري في الرمح إلى قاتله وهو يقول: "وعجلت إليك رب لترضى" فلم يغن عنهم ذلك من عذاب الله -تعالى- شيئاً لما خالفوا أمير المؤمنين(ع) وهو قائم عصرهم، والعترة العظمى في زمانهم ذلك ، كذلك أهل هذا العصر لا تغني عنهم عبادتهم من الله شيئاً إذا خالفوا العترة الطاهرة في زمانهم، الذين هم حُجَّة الله -تعالى- عليهم وعلى جميع العباد، وصموا عن دعاتها؛ بل رفضوها وثبطوا عنها، ونصبوا لخلافها والتخلف عنها العلل والتأويلات.
________________________
([54])- المراد بهم المطرفية المرتدة الغوية .
قوله: (فهلكوا إذ خالفوا خير البشر): يريد؛ محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، لأنه أمر أمته باتباع عترته المطهرة فخالفوه في ذلك، ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة الطاهرة حذو النعل بالنعل ؛ بل تعدّوا ذلك إلى أن قالوا: هم أولى بالحق منهم، واتباعهم أوجب من اتباع هداتهم، فردوا بذلك قول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((قدِّموهم ولا تقدَّموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا ولا تشتموهم فتكفروا)) وهذا نص في موضع الخلاف لا يجهل معناه إلاَّ من خذِلَ.
[بيان أن مجرد العبادة لا توجب دخول الجنة لمن اختل اعتقاده]
[92]
إسمعْ إذا شِئْتَ كلامَ الغاشيهْ .... في أوجهٍ ناصبةٍ وخاشيهْ
تُسَاقُ للذلةِ سوقَ الماشيهْ .... وهي إلى نارِ الجحيمِ عاشيهْ
يريد بذلك أن مجرد العبادة لا توجب دخول الجنَّة لمن اختل اعتقاده كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)}[الغاشية] ...إلى آخر الآيات المكرمات، ولا يعلم ذلك إلاَّ في المخالفين لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- من أهل النسك والعبادة من الفرق الشاذة عن العترة، لا يعرف للآية وجهاً سواه.
شبههم (بالماشية) لأنها تساق وتضرب ولا تنتصر، وكذلك أهل النار، نعوذ بالله من حالتهم.
و(نار الجحيم): هي نار الآخرة، نعوذ بالله منها.
و(عشا) إليه إذا قصده، وعشا عنه إذا زايله، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ}[الزخرف:36] معناه يصد عنه، والله أعلم. وهذا واضح لكل منصف لنفسه جاهدٍ في فكاك رقبته، راغب في طلب نجاته، أن لا يغتر بظاهر العبادة قبل النظر في الإعتقاد؛ إذ قد تبين ذلك له بذكر أهل الغاشية وما وصفهم الله -سبحانه- به من الخشوع والإجتهاد ثم صاروا إلى النار الحامية كما حكى الله سبحانه وتعالى...
[بيان أن الطعن على من يبغض آل النبي (ص) ليس من السب في شيء]
[93]
ولا تعدِّ النُّصحَ مني سبَّا .... فَتُولِنِي عنه جَفَاً وعتْبَا
وتاقِ في آلِ النبي الرَّبَّا .... فألْسُن الحبِّ لهم لا تَغْبَى
هذا خطاب منه لخصمه المقدم الذكر، وموعظة يقول: إذا رأيتني وسمعتني أطعن على من يبغض آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وانتقصه ـ وذلك فرض كل مسلم ـ فلا تقل سببت المسلمين؛ لأن ذلك يكشف عن أن الذين سميتهم مسلمين، ورجعت إليهم في الدين، أهل النقصة على طولها، المنكرين فضل العترة الطاهرة (كرم الله أرواحها)، الجاحدين حقها، المستغنين بأنفسهم عن علمها، لأنهم إن كانوا متبعين لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، مفضلين لهم على جميع الأنام، فهم بمعزل عن هذا الكلام.
قوله: (وتاق في آل النبي الربا): يقول: إتق الله -تعالى- في ترك محبتهم والجرأة على انتقاصهم بإنكار فضلهم ومخالفتهم. والمحب لهم لا يغبى حاله، هو الذي لو ضرب على عنقه بالسيف لم يزدد لهم إلاَّ حبًّا.
[لزوم الحجة وظهور الحق مما تقدم]
[94]
قد وضحَ الصبحُ لأهلِ الأبصارْ .... وما على المنذرِ إلاَّ الإنذارْ
وأنتَ لا تُسْمِعُ أهلَ المقبارْ .... كلاَّ ولا تُنْقِذُ أربابَ النارْ
يقول: ما تقدم بمنزلة الصبح في جلائه وظهوره، فمن كان له بصر فقد رآه، ومن كان أعمى فليس عليك هداه.
قوله: (وما على المنذر إلاَّ الإنذار): يقول: إذا أنذرهم فلم يقبلوا فقد سقط عنه فرضهم في هذه الحال إذا لم يؤمر فيها بقتل ولا قتال.
و(أهل المقبار): هم الأموات، وهم أهل الخلاف شبههم بالموتى، يقول: من كان قلبه عن العترة الطاهرة نافراً ، وكان لفضلها كافراً ، فهو ميت الأحياء، وأنت لا تسمعه...
وقد قال الله سبحانه : {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(80) } [النمل] ، شبه النافرين عن الحق بالموتى والصم عند الدعاء؛ إذ كل واحد من المذكورين لا يسمع داعياً ، ولا يجيب منادياً، وخصَّ الله -سبحانه- الأصم بالإدبار، إذ بالإدبار تنسد عنه طرق المعرفة؛ لأنه عند إقباله ربما نظر حركة الشفتين ففهم المراد ونُبِّه بإشارة، هذا معنى الآية عندنا، والله أعلم.
قوله: (كلاَّ): حرف ردع وزجر يتضمن معنى القسم. (ولا تنقذ أرباب النار): يقول: من عمل للنار فأنت لا تنقذه، وهو أهل لما صار إليه، فلا يُرحم من لم يَرحم نفسه.
[الدعاء بحسن الخاتمة]
[95]
نسألُ ربَّ الناسِ حُسْنَ الخاتمَهْ .... وَدَوْلَةً للطيبينَ قائمهْ
تُضْحِي رؤوسُ الكفرِ منها كاظمهْ .... وَهْيَ لشملِ المسلمينَ ناظمهْ
الدعاء إلى الله -تعالى- ممَّا ورد به التعبد وتعلق به قرار الحكيم ومصلحة العباد، وقد أمر به الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام-، وهو سلاح المؤمنين في المواقف التي لا ينفع فيها السلاح، وهو شعار الصالحين أجمعين ، فلما فرغ ممَّا يرجو من الله -تعالى- الثواب عليه، وتبييض الصحيفة به، سأل الله -تعالى- (حسن الخاتمة)، لما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((ملاك العمل خواتمه)) .
ولما روينا عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إسألوا الله الثبات في الأمر، فإن العبد قد يكون على الجادة من جواد النار ، فلا يزال يعمل عليها دؤباً دؤباً ، حتى تعرض له الجادة من جواد الجنَّة فيسلكها فيموت عليها فيصير إلى الجنَّة، وقد يكون على الجادة من جواد الجنَّة ، فلا يزال يعمل عليها دؤباً دؤباً ، حتى تعرض له الجادة من جواد النار فيسلكها [بعد ذلك([55])] فيموت عليها فيصير إلى النار، فاسألوا الله الثبات في الأمر([56]))) .
___________________________
([55]) - زيادة من (نخ).
([56]) ـ روى الإمام أبو طالب في الأمالي (236) نحوه ، وله شواهد كثيرة توافق في المعنى وتخالف في اللفظ .