[قصة أخرى لابن عباس -رحمه الله- ومعاوية]
وفي رواية أخرى أن معاوية -لعنه الله- قال يوماً: (إن لقريش ثلاثة أنساب: ذرية إبراهيم وبنو إسماعيل، والثاني: أنهم أولاد النضر بن كنانه، والثالث: إسم سماهم الله به ورضيه لهم، وجعل لهم الملك به فسماهم قريشاً وابتعث فيهم رسولاً كافة، فاستوى الناس في نبوءته، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)}[الزخرف] ، فعمَّ من يشاء ولم يختص به أحداً دون أحد، وقد زعمتم يا بني هاشم أن النبوءة أوجبت الخلافة، وأن الخلافة لأهل القرابة، فما منعكم من طلبها بعد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولو بسطتم إليها أيديكم لبسطت بنو عبد مناف أيديها معكم، ولو بسطت بنو عبد مناف أيديها لبسطت بنو قصي فما طمعت فيها تيم ولا عدي، فما منعكم من طلبها إلاَّ أحد أمرين: إمَّا أن تكونوا عرفتم صغرة قدركم في نفوس الناس ذكرهم أن يكفوكم بما في نفوسهم لكم، أو عرفتم أنه لا حق لكم فيها، وأمسكتم عنها، واتخذتم الكف لكم سُلماً إلى العذر مع أنكم في تركها كحافي الإمالة، وفي الجواب عنها كما قال قيس بن أبي حازم:
وكنتم كَذَابِ القِدْرِ لم يدر إذ غلت .... أينزلها مذمومة أم يذيبها
فأجابه ابن عباس -رحمه الله- بقوله: يا معاوية إنَّا وإن كان لنا من الأسماء ما ذكرت فأحبها إلينا الإسم الذي أطعمنا الله به من جوع وأمننا من خوف، أمَّا بعد: فإن الله نظر إلى أهل الأرض جميعاً فاختار منهم رجلاً واحداً، من خير الأحياء حياً فكان ذلك الرجل محمداً -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من حي واحد من أحياء قريش وهم بنو هاشم، ثم خصنا الله -تعالى- بقرابتنا منه إذ قرن حقنا بحقه فيما فرض له ولنا معه من الفيء والغنيمة، وأخرجنا من الصَّدقات، فلم يخرجنا مما أدخله فيه، ولم يدخلنا فيما أخرجه منه، ونحن معه يوم القيامة بالقرابة، ولنا بِكْرُ شفاعته، وقد قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132] ، فأمر الناس بها كافة وخصنا معه بالذكر.
وأمَّا قولك يا معاوية: إنَّا عرفنا صغر قدرنا،. فمن ذا الذي في قريش أعظم منَّا قدراً، نحن أزمة الجاهلية وهداة الإسلام، ولم تختلف الأمة أن قريشاً أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن أهل بيت محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل بني هاشم، وأن علي بن أبي طالب أفضل أهل البيت.
وأمَّا قولك: إنَّا عرفنا أن لا حق لنا فيها،. فلو عرفنا ذلك أمس عرفناه اليوم، ولعمري ما استفدنا جهلاً بعد علمنا، ولا نخاف بعد علم جهلاً، ولعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
فقال في ذلك قيس بن سعد بن عبادة:
قل لابن صخر جهاراً إن مررت به .... ما ذا دعاكم إلى هيج ابن عباسِ
ما ذا دعاكم إلى أفعى مصممة .... رقشا لها نفث عال على الناسِ
مهما يقل قالت الأحياء قاطبة .... هذا البيان وهذا الحق في الناسِ
فانظروا -رحمكم الله- ما أكثر أتباع معاوية -لعنه الله- ممن زعم([42]) أنه عدوه - في إنكار فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بقرابة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأكثر أعداء ابن عباس -رضي الله عنه- وأهل بيته -قدس الله أرواحهم- ممن يزعم أنه صديقهم وخاصتهم - وهو مع ذلك منكر فضلهم جاحد حقهم، وهذا باب يطول فيه الشرح فلنرجع إلى ذكر أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وما اختصهم الله -سبحانه- في العلم دون غيرهم من الناس.
[خبر السفينة العلوي]
فلو لم يكن في ذلك إلاَّ ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: ((أيها الناس إعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم، في عترة نبيئكم، فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة، هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السِّلم فادخلوا في السِّلم كافة، وهم باب حطَّة من دخله غُفر له، خذوا عني عن خاتم المرسلين حُجَّة من ذي حُجَّة قالها في حَجَّة الوداع: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض)) . ولم يستثن -عَلَيْه السَّلام- كبيراً من صغير من أهل هذا البيت -عَلَيْهم السَّلام-؛ بل من بلغ درجة أهل العلم عدّ منهم، وكيف لا يطلق لهم ذلك وهم أهل العلم المطهرون من الأدناس، المفضلون على سائر الناس بقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)}[الأحزاب] .
قوله: (نصَّ بذاك جدهم خير البشر): لما روي عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((تعلّموا منهم ولا تعلموهم، فإنهم أعلم منكم صغاراً، وأحكم منكم كباراً)) .
___________________
([42]) - نخ (ن) : ممن يزعم.
قوله: (وغيرهم ليس بمغنيه الكبر): يقول: التعويل على حصول العلم وهداية الله -سبحانه- لمن يشاء من عباده دون تقدم الميلاد، ولولا ذلك لما فضل علي -عَلَيْه السَّلام- على أبي بكر وعمر، ولقد قال المنافقون في ذلك الوقت (لا نقدم على شيخ الإسلام أحداً) - يعنون أبا بكر - ونقصوا علياً -عَلَيْه السَّلام- لحداثة سنه، ونسوا ما اختصَّه الله -تعالى- من حفظ العلم ووراثته، فأرى علة هذا الإحتجاج قديمة.
[ذكر أن العبد لا يصل من فعل ربه إلا إلى ما أراد به]
[80]
صبراً لحكمِ([43]) ربِّكمْ أو مُوتُوا .... فسوفَ أُبْدِي الشكرَ ما حييتُ
فما لكمْ ما شيئتُمُ أو شِئْتُ .... بل ما يشاءُ المحيِيُ المميتُ
(صبراً): مصدر الأمر، لأنه أمرهم بذلك والحكم لله -سبحانه وتعالى- فإن كرهتم -أيها الناصبون لأهل بيت نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- العداوة بإنكار فضلهم- مرادهُ فيهم، فموتوا بغيظكم فليس لكم ما أردتم، ولا لآمركم ما أراده، الإرادة لله -تعالى- في الجميع، وقد نبَّه تعالى على ذلك بقوله: {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}[الرعد:41] ، والمعقب: هو الذي يتعقبه بنقض أو تغيير، والله أعلم.
وهذا هو المتقرر من مذهب الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-، وعليه قامت الأدلة أن العبد لا يصل من فعل ربِّه إلاَّ إلى ما أراد به، وإن دقت حيلته، وعظمت قوته.
ثم بلغنا عن قوم ينتحلون التشيع في عصرنا هذا أنهم أحالوا بالحياة إلى إعتدال الأغذية، وانحراف الأمزجة، وأن كل واحد من الأمرين يحصل به للعبد نقيض مراد الحكيم -تعالى- وما لله -تعالى- في الحياة والموت لمن مات دون مائة وعشرين سنة إرادة، فإن صح ذلك فقد خرجوا - والله -تعالى- على جميع الحالات محمود مودود - من الشيعة الزيدية، ولحقوا بفرق الطبيعية، وكان الحكم والكلام على الجميع واحداً، ونقل الكلام معهم إلى إثبات الصَّانع -تعالى- وتوحيده، وما يجوز عليه، وما لا يجوز من أفعاله وأحكامه كما قدمنا.
_______________________
([43])ـ في (ن): بحكم .
[بطلان قول من قال لا فضل إلا بعمل]
[81]
ألْهَمَ يحيى حُكمَهُ صبيِّا .... وَجَعَلَ ابنَ مريمٍ نبيَّا
في المهدِ حُكْمَاً نافذاً مقضيِّا .... فَمُتْ أسَاً إنْ كنتَ رافضيَّا
(يحيى) المسمى في هذه القافية هو يحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما- ورأيت لبعض([44]) آبائنا -صلوات الله عليهم- في تفسير قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)}[مريم] ، أنه قال له الصّبيان: "إذهب بنا نلعب" وهو ابن ثلاث سنين، فقال صلوات الله عليه: ((ما للعب خلقنا)) ، وكان ذلك بإلهام من الله -سبحانه- له؛ لأن ابن ثلاث سنين في مجرى العادة لا يبلغ حسّه هذا الحد.
و(ابن مريم): هو عيسى -صلوات الله عليه- وهو أقرب الأنبياء والمرسلين من أهل الشرائع إلى محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبينه وبين محمد -عليهما السلام- ستمائة سنة كما حكي في التاريخ، وكان حمل مريم -كرمها الله تعالى- به -صلوات الله عليه- ثلاث ساعات من أول النهار، ربع نهار لا غير، وجاءها المخاض آية أظهرها الله -تعالى- بها وفيها، وذلك من قدرة الله -تعالى- قليل، وكان نبياً من أول وهلة، وقد نطق بذلك القرآن الكريم في قوله -صلوات الله عليه-: " {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)}[مريم] .
ووجه الإستدلال بهذه الآية أنَّا نقول: لا يخلو إمَّا أن يكون -عَلَيْه السَّلام- نبياً في حال قوله - هذا قولنا - فيكون -صلوات الله عليه- صادقاً.
وإمَّا أن يكون غير نبي في تلك الحال فيكون قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)}[مريم] كذباً فيكون كاذباً ولا يجوز ذلك ، ولم يقل به أحد من المسلمين ، لأن الكذب على الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- لا يجوز قبل النبوءة ولا بعدها؛ بل هم معصومون عنه في جميع الأحوال.
__________________
([44]) ـ هو الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي -عَلَيْه السَّلام- ذكر ذلك في كتابه (البرهان في تفسير القرآن) في الجزء الثاني منه ، في تفسير سورة مريم.
[شبهات وردود حول آية: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)} ]
فإن قيل: المراد بذلك سيجعلني نبياً، وبه فسره بعض آبائكم -عَلَيْهم السَّلام-.
قلنا: نحن نقدة علم آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ومعنا شاهده، ونحن رواة ذلك، فلم تصح لنا هذه الرواية، ولأنهم -عَلَيْهم السَّلام- لا يخالفون دلالة العقل ومحكم القرآن؛ بل نحن نعرض ما روي عنهم -عَلَيْهم السَّلام- على محكم القرآن.
ألا ترى أن ظاهر الآية يقضي بأنه نبي في تلك الحال.
فإن قيل: المراد من جهة المعنى: سيجعلني نبياً.
قلنا: ذلك بالإختلال من طريق المعنى أولى، لأن واحداً لو قال: علمت كذا وكذا من فنون العلم.
ثم بحثناه عن ذلك فوجدناه جاهلاً بما ذكر أنه به عالم لعلمنا كذبه، لأن الخبر عن الشيء لا على ما هو به كذب عند أهل العلم بذلك، كما أن الصّدق الخبر عن الشيء على ما هو به. فإن قال: مرادي أني سأعلمه في المستقبل. لم يكن ذلك مخلصاً له عن الكذب عند أهل المعرفة، ومثل ذلك لو قال: تصدقت على فلان بعشرة دنانير. وظهر لنا أنه لم يعطه شيئاً فإنَّا نكذبه ولا نعذره بقوله: أردت سأتصدق عليه.
وتأويل كتاب الله -تعالى- لا يجوز وقوعه إلاَّ بأحد ثلاثة أوجه: عقل، أو نقل، أو لغة، بعد أن يجمع المؤول له شروطاً لا يحتمل الكتاب ذكرها لميلنا فيه إلى الإختصار، فكيف يفسر بما لا يعقل؟.
[ذكر ما يؤيد ما قاله في نبوة عيسى(ع) في حال صغره]
وممَّا يؤيد ما قلناه في نبوءة عيسى -عَلَيْه السَّلام- في حال صغره ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى الإمام السّيد فقيه آل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أحمد بن عيسى بن زيد -عَلَيْه السَّلام- بإسناده إلى على بن أبي طالب -رضوان الله عليه- في كتابه الذي وسمناه بـ (بدائع الأنوار في محاسن الآثار): أن عليًّا -عليه السلام- قال: "نزلت مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في قبر ولده إبراهيم -رضوان الله عليه- فلما وضعه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في لحده، وأضجعه على يمينه، غمس يده الطيبة المباركة عند رأسه في التراب إلى الكوع وقال: ((ختمتك من الشيطان أن يدخلك))، ثم التفت إلىَّ فقال: ((يا علي إن كان إبراهيم لنبياً))([45]) ثم فاضت عينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبكا المسلمون حتى ارتفعت أصوات الرجال على أصوات النساء، فنهاهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقال: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرَّب، وإنا من بعدك يا إبراهيم لموجعون ، ثم قال: لو عاش ما أذنت في إسترقاق قبطي ولا قبطية))؛ لأن أمه -صلوات الله عليه- كانت من القبط، ويجوز أن يكون الله -سبحانه وتعالى- أعلمه أن في المعلوم أن إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- إن حيي كان استرقاق القبط مفسدة في الدين، فقال ذلك -عَلَيْه السَّلام- عن أمر الله -تعالى- لأن الله تعالى يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، كما قال تعالى في أهل النار: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}[الأنعام:28] .
__________________________
([45]) ـ رأب الصدع (أمالي أحمد بن عيسى) (2/793)، وقال في التخريج : في الجامع : ((لو عاش إبراهيم لكان صديقاً نبياً)) رواه البارودي عن أنس ، وابن عساكر عن جابر ، وعن ابن عباس وابن أبي أوفى ، ورواه أيضاً الإمام المرشد بالله في الأمالي الاثنينية (خ).
وفي المعلوم أنهم لا يردون، كما يعلم أن استرقاق العرب مفسدة في الأزمنة بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد كان قبل ذلك حلالاً، وإنما كان ذلك كذلك لأن التعبد يجوز إختلافه بالأزمنة والأمكنة والمتعبدين، خلافاً لما ذهبت إليه اليهود -لعنهم الله- من أنه لا يجوز إختلافه ، ولا يجوز أن يكون التحليل والتحريم إلى الأنبياء -صلوات الله عليهم- خلافاً لما يحكى عن بعض أهل العلم،؛ لأن التعبد مصالح، والمصالح غيوب، ولا يعلم الغيوب إلاَّ الله.
ومن تمام الحديث قال الراوي: قلت لعلي -عَلَيْه السَّلام- : وكيف يكون إبراهيم نبياً ومحمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خاتم الأنبياء؟، فقال: (أفليس محمد قد ختمه؟!).
[الجواب على من قال كيف تجوزون نبوءة الأطفال؟]
فإن قيل: وكيف تجوزون نبوءة الأطفال؟
قلنا: هذا سؤال من لا يعقل الكلام، ولا يعرف معاني الإلزام، لأن الطفل في عُرف الشريعة من لا عقل له، فإذا أكمل الله لهم العقول عند الولادة خرجوا عن حكم الأطفال، ولحقوا بالرجال، وكان ذلك أبلغ في حكم النبوءة؛ بل يكون من دلائلها لخرقه العادة، فما ذكرنا في تصحيح قولنا في نبوءة الصَّغير على الوجه الذي ذكرنا أقرب ممَّا ذكر السائل لخروج السؤال عن أسئلة المتَوسّمين.
وممَّا يشفع ما قلناه: أن الكبر لا يصحح الأحكام ويوجب التكليف إلاَّ بتمام العقل، فإذا المطلوب في هذا الباب العقل دون سواه.
فإن قيل: وكيف تصح نبوءته وهو لصغره لا يقدر على التكاليف الشرعية؟
قلنا: هذا السؤال لاحق بالأول، لأن ما ضعف عنه سقط عنه حكمه، لأنه تعالى لا يكلف أحداً ما لا يطيق، والإجماع منعقد أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لو اعتل - وقد كان ذلك - حتى لا يقدر على التكاليف الشرعية لم تسقط نبوته، وليس ذلك إلاَّ لأنه في حال الضعف معذور، فكيف يورد هذا السؤال من يروم مجاراة أهل العلم في ميدان الكلام.
عدنا إلى تفسير القافية:
(المهد): هو فراش المولود في عرف اللغة، وهو في أصلها اسم لكل فراش.
و(الحكم) لله -تعالى- وحده.
و(النافذ): هو الذي لا يرد.
و(المقضي): الموجَب.
قوله: (فمت أساً): يريد؛ مت غيظاً أيها المخالف إن كنت رافضاً لأهل البيت -عليهم السلام- الذين أوجب الله -سبحانه- عليك الصلاة عليهم في الصلاة وذكر أبيهم في الأذان، وأوجب الله عليك مودتهم في القرآن، إلاَّ أن تظلم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أجره على الهدى والبيان قال الله -سبحانه وتعالى-: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}[الإسراء:26] ، فآتاهم الخمس، عَوَّضَهُم الحكيم -سبحانه- إياه عن الزَّكوة، فعلم الناس مَنْ مراد الحكيم في المودة مع أنهم قد سألوه مَنْ قرابته الذين أمرهم الله -تعالى- بمودتهم؟ فقال: ((فاطمة وابناها([46]))) .
و(الرافضي) عند أهل البيت -عليهم السلام-: هو منكر فضلهم وجاحد حقهم، كما أن الناصبي عندهم من حاربهم، لا يجهل ذلك أحد منهم ولامن أتباعهم البررة العلماء -عليهم السلام وعلى أتباعهم الرحمة-.
[حكايته لنشأته (ع) وذكر إحسان الله وإنعامه عليه]
[82]
نشأتُ بينَ مُصْحَفٍ منشورِ .... ودفترٍ مُحَبَّرٍ مَسْطُورِ
حتى استقامتْ([47]) في الهدى أموري .... وتمَّ بالله العظيمِ نُورِي
عاد إلى ما يجانس ما تقدم من ذكر إحسان الله وإنعامه عليه في طهارة النشأة وتوفيق البداية.
(المصحف) معروف: وهو القرآن الكريم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)} [فصلت] ، فهو أشهر من أن يُعَرَّف.
و(الدفتر) معروف: وهو الكتاب الذي يتضمن شيئاً من علوم العبادة، ولا وجه لذكر أنواع العلوم ها هنا.
___________________________
([46])- في نسخة (ن، م): أبناؤها.
([47]) - نخ (ن) : استأمت.
يقول: لم أزل بين هذين متردداً من هذا إلى هذا حتى استقامت أموري بتوفيقه ومنِّه، فصرت أقول ما أقول عن معرفة، ولا أقطع عن أمر من الأمور بغير دلالة.
(وتمَّ بالله العظيم نوري): يريد؛ كمل، و(النور) هو العلم ها هنا، لأن به يهتدى في ظلمات الجهل كما يهتدى بالنور في ظلمات الليل وما شاكلها.
وقوله: (بالله): يريد؛ بتوفيقه، وتسديده، وعونه، وتأييده.
[المنصور بالله(ع) يذكر حالته مع الطالب المسترشد]
[83]
كمْ طالبٍ جاءَ مُجِدّاً في الطلبْ .... أدركَ عندي في العلومِ ما أَحَبْ
لَقَّيْتُهُ بِشْرَاً وعلماً منتخبْ .... كأنهُ صِنويَ من أمٍ وأبْ
أراد بقوله: (كم): تكثير طالب العلم عند الله -سبحانه وتعالى- وعند خيار خلقه وإن كان قليل الذات، ولم لا وهو عز من قائل يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)}[سبأ] .
ومعنى (المجد) والمجتهد واحد، وهو نقيض المتواني والهازل.
(أدرك عندي في العلومِ ما أحب): يريد؛ أصاب ما أراده. ومعنى الحب والإرادة واحد، لأنك لا تقول: (أحببت هذا الأمر وما أردته ، ولا أردته ولم أحبه)؛ بل يعد من قال ذلك مناقضاً جارياً مجرى من يقول: (أردته وما أردته).
و(البشر): هو الطلاقة والبشاشة، وسمي بشراً لظهوره في بَشَرة الوجه، ومنه البشارة؛ تقول منها: (بشرت الرجل بخير وأبشرته أبشره) وأُبشِّرُه وبشَّرتُهُ : مشدد - أيضاً - بمعنى فعلته، وهو نقيض العبوس.
و(المنتخب): هو المختار من كل شيءٍ.
و(الصنو): هو الأخ من الأب والأم، ثم صار بعد ذلك يفيد الأخ من كل واحد من الأبوين على الإنفراد، وأصله في النخل أن يخرج من النخلة فسيلتان فتكون كل واحدة لصاحبتها صنواً، ثم نقل إلى الناس فصار حقيقة في الجميع.