[بحث في الافتخار]
وما ذكر في هذا البيت وفي الذي قبله وفي الذي بعده ممَّا يجري مجرى الإفتخار وذكر الفضائل خارج عن الباب المذموم، لأن القُصُود هي التي تُحَسِّنُ الأفعال أو تُقَبِّحها، وفي ذلك ما روينا عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((الأعمال بالنيَّات ولكل امرءٍ ما نوى([29]))) فلما كان غرضنا بذلك الدعاء إلى الدين، وتعريف الجاهل بواجب الحق، والكشف للمسترشد الطالب عمَّا يزيده بصيرة وبياناً في دينه حَسُنَ ذلك ؛ بل زاد على الحسن صفة الوجوب ولم لا يكون كذلك والله -تعالى- يقول حاكياً عن عمنا يوسف -صلوات الله عليه- على لسان أبينا محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55)}[يوسف] ، فوصف نفسه بالعلم والأمانة في كلام طويل، ولكن لفظ القرآن الكريم وجيز لكونه أشرف جوامع الكلم، وشهرة مثل ذلك عن صلحاء أهل البيت وأئمتهم -عَلَيْهم السَّلام- يغني عن الإستشهاد، وغرضهم ما قدمنا ذكره وإلاَّ فهم -عَلَيْهم السَّلام- أشد خلق الله تواضعاً، ولكن ليس هذا من التواضع في شيءٍ، لأن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أعلى خلق الله في التواضع لله ولصالح عباده طبقة، فما روينا عنه في هذا الباب إلا ما يكشف شرف قدره، وارتفاع ذكره.
روي عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال وقد ذكرت الفصاحة: ((ومن أفصح مني وأنا من قريش البطاح ونشأت في بني سعد؟)) .
____________________
([29]) ـ رواه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (ع) في أصول الأحكام بلفظ : ((الأعمال بالنيات وإنما لامرئٍ ما نوى)) ، وأخرجه البخاري في بدء الوحي (1/15) رقم (1) ومسلم في الإمارة (3/155) رقم (155/1907) والطبراني في الأوسط (5/196) رقم (7050) .

وروينا عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن رجلاً من أصحابه درس شيئاً من التوراة، فبلغه ذلك فضاق حتى احمر وجهه وقال: ((والله لو أن أخي موسى في الحياة ما وسعه إلاَّ اتباعي))([30]) وذكر فضله على جميع ولد آدم، ونفى فخر الجاهلية دون فخر الإسلام، لأن فخر الإسلام لا يظلم فيه أحد من حقه، ولا يترك أحد يتناول ما ليس له، لولا هذا عند أهل العلم لتناقض الكلام، وإلاَّ فأي فخر وشرف أعظم من كونه أفضل ولد آدم، وقد كانت الجاهلية تمنع من الحقوق بالفخر، حتى أن المفضول إذا سبق إلى الماء لم يسق حتى يأتي الفاضل فيسقي قبله، وهذا عدوان نفاه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)}[الضحى] ، ومن أكبر نعمة الله علينا أن جعلنا من ذرية الأنبياء، وهدانا لطرق الهدى، وعند تبييننا الواجب الحق يقع الإقتداء فيعظم الأجر الذي يجب التعرض له بكل ممكن، لأن الدنيا متجر عظيم الربح والخسران، فنسأل الله -تعالى- التوفيق. وما قلنا واضح لكل منصف لم تملِّكه([31]) نفسه هواها، ويصدها عن هداها، فيوالي بغير علم أعداءها، ويعادي على عمد مولاها، فبعداً لمن دسَّاها، وطوبى لمن زكَّاها.
[نشأة الإمام (ع) في صغره]
[75]
لم تُلْهِنِي في صِغَرِي الملاهي .... ولستُ أدري بِالعَيَانِ ما هِي
وذاكَ للنِّعمةِ مِنْ إلهي .... أحمدهُ إِذْ([32]) كان غيري لاهِي
يقال (ألهاه) كذا وكذا بمعنى شغله كما قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)}[التكاثر] ، وأكثر ما يستعمل فيما يوافق هوى النفس، وإن وجد مستعملاً في غيره ممَّا يشغل ويصد فهو الأمل.
و(الملاهي): هي آلات اللَّهو واللعب كالمعازف والطنابير والمزامير وما شاكلها.
________________________
([30]) - رواه في كتاب المدخل في أصول الفقه للإمام أحمد بن سليمان -عَلَيْهما السَّلام- والله أعلم . تمت هامش طبري.
([31])ـ في (ن) : يملك.
([32])ـ في (ن) : إنْ.

[ذكر إحاطته(ع) بعلوم الفرق]
قوله: (ولست أدري بالعيان ما هي): يقول: لست أعرف أعيانها ولا عاينت شخوصها وحجومها، وإنما عرفت أسمائها من الكتب وكلام علمائها فيها، لأن ما به ضلالة ولا هدى إلاَّ ولها علماً، قد أحطنا بمبلغ علمها في ضلالتها وهداها، لنتمكن من ردها عن ضلالتها بنقض أصولها ، فننقض ضلالها عن خبره ، ونقوي عزمها في هداها عن معرفة، ولهذا ألزمنا نفوسنا الإحتجاج عن كل فرقة من فرق أصول الأديان من أصولهم التي لا ينكرونها، فاحتججنا على أهل التوارة من توراتهم، وعلى أهل الإنجيل من إنجيلهم، وعلى أهل كل فرقة من فرق الكفر والإسلام من أصل مقالاتهم ، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:43] ، وإنما كان أصل هذه الملاهي عن قوم من الأوائل يدعون الإنفراد بالحكمة، وكيف يكون حكيماً من صنع آلة تشغل القلب عن الإستعداد للمرجع والمعاد؟ وتستوعب أوقاتاً لا سبيل للزيادة عليها والإستفاضة في غير ما خلقت له وسيقت إليه، وقد اتفق حكماؤهم على أن أبلغ ملاهيهم لهواً، وأتقنها صنعة، قالوا: وأشدها مناسبة لأنواع الحكمة، وأوقات الأزمنة، وأحوال العباد، والطبائع المركبة في الإنسان أربع، فجعلوا الزير([33]) بإزاء الشجاعة، والشجاعة بإزاء الصفراء، والمثنى بإزاء العدل، والعدل بإزاء الدم، والمثلث بإزاء العفة، والعفة بإزاء البلغم، والبُم([34]) بإزاء الحلم، والحلم بإزاء المرة السوداء.
________________________
([33])ـ الزير : هو الدقيق من الأوتار . تمت قاموس.
([34])ـ البم : الغليظ من أوتار المزهر . والبم بالباء الموحدة . انتهى من هامش الشافي.

قالوا: وقد يختص كل وتر بإحداث حال في السامع فيلزم المثنى عندهم السرور والطرب، ويلزم المثلث الجبن والجزع، ويلزم البُم الذي بإزاء السواد السرور والفرح، فجعلوا مزاجها مزاج الطبائع ـ أعني أوتارهم ـ وقابلوا بينها وبين الأزمنة بمناسبة ـ بزعمهم ـ عقلية عندهم، فمثلوا الزير والمثلث بالمرة الصفراء مع البلغم، وجعلوها بإزاء الصيف والخريف، وجعلوا بإزائهما من الأحوال الشجاعة والجبن، ومثلوا المثنى والبم بالدم والمرة السوداء، وجعلوا بإزائهما من الأزمنة الشتاء والربيع ؛ وبإزائهما من الأحوال السرور والحزن، وجعلوا تقلب هذه الأحوال مناسباً لتقلب أصابعهم ودساريتهم التي تختلف في كل وتر على حسب مرادهم في الإظهار.
قالوا: ولكل أصل من الأحوال فرع يتقوى على قدر قوة أصله، والشجاعة أصل الجود والملك والكرم، والجبن أصل الذل والبخل والرذالة، والسرور أصل اللَّذة والمحبَّة وحسن الخلق، والحزن أصل إنقطاع الشهوة وترك طلب المراد.
وقد قدمنا الدليل على قبح الملاهي من جهة العقل ؛ لأنها تشغل عن الإستعداد للأمور المهمة في الدين والدنيا، وما هذا حاله فهو قبيح عند كل عاقل.
وأمَّا من جهة الشرع: فنهي النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عن سماعها، ووعيده عن أمر ربِّه على ذلك، وذلك لا يقع منه إلاَّ على أمر القبيح، وإذ قد ذكرنا ذلك لتعريف أهل كل رأي بأنَّا أعرف من كثير منهم بأصول رأيهم ليعلموا أنَّا لم نتركه لجهلنا به، وإنما تركناه لعلمنا بقبحه.
فلنرجع إلى تفسير القافية:

قوله: (وذاك للنعمة من إلهي): يقول: من أصول نعم الله عليه، لأنها لا تحصى أن جعله من أهل بيت سجيتهم الهدى، وشيمتهم الدين والتقوى، فلم يشتغل في حال صغره بشيءٍ من لهو الدنيا فيحتاج عند كمال العقل لمفارقة المألوف من ذلك إلى تعب وعناء، لأن مفارقة المألوف شديدة يعلم ذلك أرباب الحجا، وإنما كان إشتغاله في حال صغره بما عليه الصالحون من أهله (رضي الله عنهم) من عبادة العلي الأعلى، وخيفته لما يشاهد من خيفتهم من منكرات الأشياء، وذلك عادة الصالحين سيما من العترة الطاهرة وفي تربية الأبناء.
قوله: (أحمده إذ([35]) كان غيري لاهي): يريد ؛ غافلاً ممن عليه مثل نعمتي وهو لا يشكر مثل شكري.
[حكايته عليه السلام لكثرة نعم الله تعالى عليه]
[76]
كَمْ نعمٍ عندي له لا تُحصى .... عمَّ بها سبحانه وخصَّا
وأوجبَ الشكرَ لها ووصّى .... نصصتُ عنها شكر ربِّي نصّا
(كم): معناه التكثير، لأنه لا يحصيها العادون، ولا يحصرها الحادون ـ كما قدمنا ـ، فكأنه قال: كثيراً نعم الله عليَّ، فلا مكافأة لها إلاَّ الشكر ؛ لأنها لا يحصيها العادون، ولا يحصرها الحادون.
قوله: (عمَّ بها سبحانه وخصَّا): يقول: من نعمه عليَّ ما هو مما يصل نفعه إلى غيري فلذلك كان عامًّا لعموم نفعه، خاصًّا بخصوص موقعه، وإيجاب الشكر على النعم وارد في الشريعة والعقل، قال سبحانه: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152)}[البقرة] .
و (النص): هو إظهار الأمر، ومنه نصاص العروس، و(نصًّا): مصدره.
[الإمام المنصور بالله(ع) يذكر سعيه في إقامة الدين منذ صغره]
[77]
ولم أزل لمَّا حملتُ القَلَمَا .... ثُمَّ يَفَعْتُ وبلغتُ الحُلُمَا
أسعى إلى الدينِ الحنيفِ قُدُمَا .... ولو رماني دُونَ ذاكَ مَنْ رَمَى
يقول في حال الصغر وحمله القلم وهو أول مراتب ترسخ الصالحين، و(يفعته): وهو ترعرعه دون البلوغ.
________________________
([35])ـ في (ن) : إن.

و(بلوغ الحلم): هو بلوغ الحنث، وله في الشريعة ثلاث أمارات ليس لذكرها ها هنا وجه، أجرى الله -تعالى- العادة بإكمال العقل لمن أراد تعبده عند حصول إحداها، يقول: ففي هذه الحالات كلها يسعى قدما إلى الحق في حال صغره([36])، بتربية الأبوين الصالحين -رضي الله عنهما- وفي حال الكبر بالنظر والإستدلال، وقلة السآمة والملال، فلم ينفك من سعي إلى الخير إقتداءً وإبتداءً حتى حاز ـ بحمد الله ـ ما حاز من أسباب الهدى، فنسأل الله -تعالى- الثبات وإحماد العاقبة، وحسن الخاتمة، والصلاة [والسلام([37])] على محمد وآله.
و(الدين الحنيف): هو دين محمد وإبراهيم -صلوات الله عليهما- ومنه قوله سبحانه: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[البقرة:135] ، وقولهم دين الحنيفية و(الحنيف): هو المائل إلى الحق على الباطل في عرف الشريعة، وأصله في اللغة الميل عن كل شيءٍ، ومنه سمي الأحنف بن قيس([38]) لميل كان في رجله، روي أن أمه رأته يلعب مع الصبيان فساءها ميل رجله فقالت:
والله لولا حنف في رجله .... ما كان في فتيانكم كمثله
فلم يكن مثله، ولم يضره حنفه.
قوله: (ولو رماني دون ذاك من رمى): يقول: لو صَّدني عن الحق من صدَّ بكلام أو فعال لم أنثنِ له ؛ لأنه من قوم هوَّن الله عليهم مقاومة ليوث الرجال، في القتال والجدال.
[الإمام المنصور بالله(ع) يبين أن صغر السن لايمنع من إرتقاء المعالي]
[78]
كم قائلٍ قال صغير السِّنِّ .... يُريدُ أنْ ينفي الكمالَ عنِّي
فقلتُ هذا من عظيمِ المنِّ .... إنْ كنتَ ذا جهلٍ فسائلْ عنِّي
________________________
([36]) - نخ (ن) : الصغر.
([37])ـ زيادة في (نخ).
([38]) - الأحنف بن قيس أبو إسحاق شهد مع علي (ع) صفين وكان من محبيه وشيعته توفي سنة سبع وستين أو إحدى وسبعين . قال الثوري : ما وزن عقل الأحنف بعقل إلا وزنه. انظر الجداول (خ).

صدر هذا البيت وما يجانسه لقصة بل لقصص شرحها يطول، وذلك أن من قدمنا ذكره من المنتحلين عداوة العترة الطاهرة وإنكار فضلها الذي إبتدأها الحكيم -سبحانه- به، أكثرَ إعتمادها في إحتجاجهم على صحة دعواهم هذه الباطلة بذكر مشايخ لهم، تقدمت موالدهم، وطالت أعمارهم، حتى حدبت ظهورهم، وأنخصت([39]) شعورهم ، وهم مكبون على إنتقاص العترة الطاهرة المرضيَّة، المشرفة على جميع البريَّة، فإذا حضَّهم الصالح على إتباع أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وتفضيلهم على جميع الأنام قال قائلهم: نحن على مذهب فلان؛ وهو لا يرى تفضيلهم، وهو على الحق لأنه شيخ كبير عالم قد مضى له من العمر كذا وكذا سنة، على هذا الرأي حتى نخص رأسه، وسقطت أضراسه، وهو يرويه عن شيوخ مثله ينعتهم بمثل نعته.
[ذكر بعض المعارضة للمنصور بالله(ع)]
وقد سمعت ما يقرب من هذا الكلام وأخبرت من طرق شتى بما يجانسه ؛ من ذلك ما رواه لي بعض من أثق به من الإخوان: أنه ناظر رجلاً منهم إلى أن أفضى الحال إلى ذكر من يؤخذ عنه العلم فذكر المخالف من يعتمد عليه من شيوخه، فقال صاحب الحق: لسنا نأخذ العلم إلاَّ عن أهله وهم آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، لأنهم أهل الحق ومعدن العلم، والنبي أبوهم، وكلٌ أعرف برأي أبيه، أو كلاماً هذا معناه، ولم آخذ هذا الكلام إلاَّ عن عبدالله بن حمزة، وسمعته يقول: (هم قرارة الحكمة، وفيهم وراثة الكتاب والنبوءة) فقال المخالف: (وكم عسى أن يفهم عبدالله بن حمزة في مدَّة قريبة وهو حديث السِّن، وشيوخنا قد توالت عليهم السنون الكثيرة؟) وعد([40]) منهم أشخاصاً، فجعل كبر السِّن حُجَّة، فأردنا إنهاء الذكر أن كبر السِّن وصغره لا تأثير له في زيادة ولا نقصان، وإنما التعويل على المعرفة.
_______________________
([39]) ـ نَخِصَ لحمه كفرح، ذهب، تمت قاموس، والحدب محركة خروج الظهر ودخول الصدر والبطن: حَدِب كفرح، واحدب واحدودب وتحادب، وهو أحدب وحدبٌ، تمت قاموس.
([40]) - نخ (ن): وعدد.

وقال: (إن كنت ذا جهلٍ فسائل عنِّي) يقول: إن كنت تريد الرشاد فاسأل شيوخك الذين عظم عندك خطرهم لكبر أسنانهم، وإضطراب أبدانهم، عن معرفتي في الدين، فإن أقروا بالواجب فذاك وإلاَّ فانظر بعين بصيرتك ما الواجب عليك؟ ومن يلزمك إتباعه؟ ومن يجوز لك خلافه؟ ولا تنظر في كبر ولا صغر ؛ لأن أصاغر أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بالعلم والولادة النبوية كبار، وكبار أضدادهم بالجهل، واتباع العصبيَّة صغار. ومثل ذلك ذكر ابن عباس رحمه الله لنجدة بن عامر الحروري في شأن علي بن الحسين -عَلَيْهما السَّلام-.
[إختصاص أهل البيت(ع) بالعلم في الصغر بنصِّ جدِّهم رسول الله(ص)]
[79]
العلمُ في آلِ النبي من صِغَرْ .... نَصَّ بذاكَ جدُّهُم خيرُ البشرْ
وغَيرُهُم ليس بمغنيهِ الكِبَرْ .... لو شَابَ شعرُ رأسهِ أو انتثرْ

قوله: (العلم في آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من صغر): يريد؛ من وقت الصغر، معناه ظاهر، ودليله واضح من شاهد الحال، وقد كان الصدر الأول والذين يلونهم يعرفون ذلك ويعتقدونه ، وقد كان عبدالله بن عباس -رحمة الله عليه- يفضل الحسن والحسين على نفسه ، ويعرف حق قدرهما وعلمهما، وقصته مع علي بن الحسين -عليهما السلام- ونجدة بن عامر مشهورة، وهو أكبر من أبيه الحسين -عليه السلام-، ولازم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وأخذ العلم عنه، ودعا له -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بالتفقه في الدين وانتشار العلم ، وكان في غاية الفطنة والمعرفة والكمال ، فيفضل علي بن الحسين - عليهما السَّلام - في حال صغره على نفسه في باب العلم، لأن لأهل هذا النصاب النبوي الشريف زاده الله شرفاً من التوفيق والتسديد، والعون والتأييد، ما ليس لغيرهم بولادة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولهذا جعل الله الأمر فيهم وألزم الكافة الرجوع إليهم بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83] ، فهذا معلوم بظاهر النص في النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفيهم من بعده بالإستدلال.
وكذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل] ، انعقد إجماعهم وهو حُجَّة أنهم المرادون بذلك، ودليله ظاهر في الكتاب في قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ}[الطلاق:10،11] ، فسمى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ذكراً. ولا خلاف في أنهم أهله.

[مخاصمة ابن عباس -رحمه الله- لمعاوية]
وقد روي قولنا هذا عن ابن عباس -رحمه الله- وذلك أن معاوية قال يوماً والناس عنده وجماعة من بني هاشم فيهم ابن عباس، فقال معاوية: (يابني هاشم لم تفخرون علينا، أليس الأب واحد، والأم واحدة، والدار واحدة؟، فالعجب لقوم أبونا وأبوهم غصنان من شجرة واحدة بماذا يفتخرون علينا؟) قال ابن عباس -رحمه الله-: (نفخر عليكم بما أصبحت تفخر به قريش على العرب، وتفخر به العرب على العجم، برسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- نفخر به، لا تستطيع له إنكاراً، ولا عنه فراراً) فقال معاوية: (يا ابن عباس لقد أعطيت لساناً ذرباً([41]) يكاد يغلب بباطلك حق غيرك) فانظروا رحمكم الله ما أدقّ تلبيس عدوّ الله على أغمار الحاضرين ، فقال ابن عباس -رحمه الله-: (إن الباطل لا يغلب الحق، فدع عنك الحسد فبئس الشعار الحسد). ثم ذكر ابن عباس إشراك الله -تعالى- لأهل بيت النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في أمره، فإنه أدخلهم في أمره في الخمس، حيث أدخله، وأخرجهم من الزكوة حيث أخرجه، وقرنهم الحكيم -سبحانه- بذكره وذكر رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قال: (يا معاوية نحن قومه الأقربون وأنتم الأبعدون، ولا علم عندك في القرآن فتسألون ، وعلمه عندنا لا تجحدون، وقد أمركم الله بسؤالنا فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل] ، وأوضح من هم أهل الذكر، وبين أنهم آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بقوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ}[الطلاق] ، فسمّاه ذكراً، ثم قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل] ، يعني أهل الرسول). فانقطع معاوية، فيا ويلنا هذا غير مستحدث.
_______________________
([41]) ـ الذربة بالكسر: السليطة اللسان ، وهو ذرب ، تمت قاموس.

57 / 63
ع
En
A+
A-