وقد روينا عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((من أنكر فضل أهل بيتي، أو([5]) أبغضهم، أو جحد حقّهم ـ أشكل لفظ الخبر بين هذه الألفاظ وهي كما ترى متقاربة ـ فهو لغير رشده))([6]).
ومعنى قوله: (فحبنا له عليه شاهد): يقول: إذا شك الوالد في ولده هل هو له أم لا؟ واتهم أمّه، نظر في حال الصَّبي فإن كان محباً للعترة فهو له، وإن كان باغضاً لهم فليس له، فليحسن النظر في تسريحها بإحسان ، ويعلم أنها من متخذات الأخدان، وذلك ثابت بنص الصادق الذي لا يكذب ولا يجوز عليه السهو فيما يتعلق بالتأدية إلينا ولا النسيان، والخبر الذي قدمنا ظاهر في الأمة والأئمة حتى قيلت فيه الأشعار، فمن ذلك قول الصاحب([7]) الكافي -نفعه الله بصالح عمله- حيث يقول:
أحبّ النبيّ وآل النبي .... لأني ولدتُ على الفطرةِ
إذا شكّ في ولدٍ والدٌ .... فآيته البُغْض للعترةِ
فأدرج معنى الخبر ونظمه شعراً، وكان من المجيدين.
_______________________
([5])ـ في (ن): و.
([6]) - روى الإمام الناصر الأطروش -عَلَيْه السَّلام- في كتاب البساط بسنده عن علي -عَلَيْه السَّلام- : ((لا يبغضنا إلا كافر أو ولد زنا)).
([7]) ـ الصاحب الكافي : هو إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقاني ، الملقب بالصاحب بن عباد ، ولد سنة (326هـ) لقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه ، وكان متولياً للوزارة لبني بويه ، وكان مجلسه يمتلئ بالعلماء ، وكان الصاحب من أئمة العدل والتوحيد ، ومعدوداً في جملة الشيعة ، وكان عالماً فاضلاً أديباً شاعراً وجيهاً ، كان نادرة العصر ، وأعجوبة الدهر ، وكان ممن بايع الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ، وله الكثير من القصائد الشعرية في الأصول ، وفي فضائل أمير المؤمنين علي - عليه السلام - وفي العدل والتوحيد وغيرها ، وله أيضاً الكثير من الكتب والرسائل، وكان يقول : ما تحت الفرقدين مثل السيدين ، يريد بالسيدين : الإمام المؤيد بالله ، والإمام أبو طالب - عليهما السلام - ، وتوفي رحمة الله عليه في شهر صفر سنة (385هـ).
قوله: (ما كذب الحيَّ الحلال الرائدُ): هذا مثل من أمثال العرب الدائرة في كلامها، يقولون: الرائد لا يكذب أهله، والرائد هو الذي يقص لهم الكلأ والماء إذا أرادوا إنتجاعه فهو يصدقهم لا محالة؛ لأنه مشاركهم في نفع ذلك وضره، يقول: فكما أن ذلك الرائد لا يكذب أهله أنا لا أكذبكم أيها الإخوان ؛ لأن أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- روّاد أهل الإيمان؛ بل رعاتهم وحماتهم من أُسود أهل الطغيان، إلاَّ أن تشرد عنهم شاردة، أو تفرد فاردة ، فتفترسها عواسِلُ الذوبان ، فتلحق مراقيها بالسحاب ، وتصل نفسها في التراب ، وذلك لايكون إلاَّ في أخبث البهائم نفساً ، وأردأها جنساً، فكيف يرضى عاقل لنفسه بمثل هذه الحال، ويشذّ عن هداته، وينفر عن ولاته ، ليتمسك بما لا دليل عليه؟
قوله: (قولي إلى طرق الرشاد قائدُ): لأن قوله بتفضيل أهل البيت، والإعتراف بأنهم خيرة الله من خلقه، وصفوته من عباده، يحمل على إتباعهم والموت دونهم، واختلاط اللحم والدَّم بحبهم، ويؤدي إلى([8]) ترك الإنقياد لغيرهم وإن طال عمره وكثرت عبادته، ومثل ذلك بحال الرائد فقال: فكما أن الرائد يرشد أهله في أمر دنياهم كذلك قولي يرشدكم في أخراكم.
[الساعي من أهل البيت في إصلاح الناس لايسأل الناس أجراً]
[71]
لم أسألِ الناسَ عليهِ أجرا .... عُذْرَاً لكلِ مؤمنٍ ونذْرَا
يُوسِعُني الأبرارُ عنهُ شُكرَا .... والظالمونَ سَفْهَاً وهُجْرَا
معنى هذا البيت ظاهر، وزيادة بيانه وكشفه: أن رباني أهل هذا البيت الشريف المخصوص من الله -تعالى- بالتشريف وصالحهم لا يسأل الناس أجراً على هدايتهم، بل يتمنى صلاح هذه الأمة بذهاب جوارحه، وفوات روحه، ولهذا يفزع في أول الكتيبة القليلة من المؤمنين، في مقابلة الدُّهم([9])، والدوسر المجر([10])، المشابه للبحر، من جنود الظالمين، برَّاق الثنايا وضاح الجبين، يعلم ذلك من حضر وخبَر ، لا من نفر وختر ، وظاهر الحال تدل على ذلك.
___________________
([8])ـ نخ: من.
([9]) ـ دهمهم الأمر : غشيهم ، وبابه فَهِمَ، وكذا دهمتهم الخيل ، والدَّهم جمع أدهم نوع من أنواع الخيول. تمت مختار صحاح.
([10]) ـ المجْر بسكون الجيم والتحريك لحن : الكثير من كل شيء ، والجيش العظيم . تمت قاموس.
قوله: (عذراً لكل مؤمنٍ ونذرا): يريد إعذاراً وإنذاراً، والإنذار هو المبالغة في النصح بترك ما يوقع في الشر إلى الإشعار بنزوله لنفع الإحتراز منه بالممكن، ومنه الحديث عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((قد أبلغ في الإعذار من تقدم بالإنذار)) ، يقول: قد أبلغ في النصيحة من أعلم بنزول الشر الذي يمكن الإحتراز منه قبل نزوله ؛ لأن الله -تعالى- ما حذرنا من شيءٍ إلاَّ ويمكننا منه الإحتراز خلافاً لما ذهبت إليه المجبرة، وذلك لأنه عدل حكيم لا يجوز عليه القبيح ولا العبث.
وخصَّ المؤمنين بالإنذار في القافية وإن كان إنذاره وإعذاره يتعلق بالجميع لأنهم ينتفعون بذلك دون غيرهم من الفاسقين المصرحين والمتأولين فأضافه إليهم.
ومعنى قوله: (يوسعني الأبرار عنه شكرا): يريد ؛ يكثرون شكره على موضوعه هذا لكونه نافعاً لهم في أجل المطلوبات وهو ثواب الآخرة، وزاجراً لهم عن أهول المرهوبات وهو عذاب الآخرة، نعوذ بالله منه.
و(السَّفه) معروف، و(الهجر) هو الكلام القبيح المختلط المعيب، فيقول: إن الظالمين يقابلون هذه العلوم التي نشرها، والحكم التي أظهرها ، بهجر من القول ، وسفه من الكلام، كما قوبل بمثل ذلك جده -عليه أفضل الصلاة والسلام- وأخبر بتوطين نفسه على احتمال ما يقع عليه في ذلك ممَّا لا خطر له، لأنه موطن لها في إحياء الدين على اقتحام القَتَام([11])، وهزم اللهام([12])، وإعمال حد الحسام، حتى يكسو كفه علقاً ([13]) ، وينقلب صافي الكدر([14]) طرفاً رنقاً([15])، ولاشطط([16]) وكأن قد، وما ذلك على الله بعزيز.
[حال الطاعن في أعراض الأئمة (ع)]
[72]
مَنَحْتُ فيه كلَّ باغٍ عِرضي .... قَرضاً وما أثقلهُ من قَرضِي
أعددتهُ ذُخْرَاً ليوم عَرضي .... يوماً به المرءُ ثقيلُ النَّهْضِ
____________________
([11]) - القتام : كسحاب الغبار ، تمت قاموس.
([12]) - اللُّهام: كغُراب العدد الكثير ، والجيش العظيم . تمت قاموس.
([13]) - العَلَق -محركة-: الدم عامة ، أو الشديد الحمرة ، أو الغليظ أو الجامد ، تمت قاموس.
([14]) - الكدر : نقيض الصفاء.
([15]) - رَنِق الماء كفرح ونصر ، رَنْقاً ورَنَقاً ورنوقاً كَدِر .
([16]) - قوله : ولا شطط معطوف على قوله : مما لا خطر له ، ولا شطط.
(المنح) معروف، وهو الإعطاء إبتداءً بمستغل يملكه الإنسان، هذا حقيقة المنح في أصل اللغة، وكان أصل ذلك في المواشي ثم استعير بعد ذلك للأرضين، فهو على هذا الوجه مجاز ها هنا في العِرْض.
و(الباغي) هو الآخذ ما ليس له وطالبُه، وأصل البغي الطَّلب، وحقيقته في عرف الشرع ما ذكرنا، والباغي ها هنا هو منكر الفضل لأنه طلب ما ليس له، وهو أن الله -تعالى- ساوى بينه وبين صفوته من عباده ولم يرفعهم عليه درجات، وكان بذلك من أبغى البغاة، وأحكام البغاة قد ذكرها آباؤنا -عَلَيْهم السَّلام- بما فيه كفاية وغنى عن تحريرها ها هنا.
قوله: (قرضاً): يريد ؛ أقرضتهم قرضاً يكون قضاؤه يوم الحاجة، وهو يوم القيامة، وفي ذلك ما روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن الناس اليوم شجرة مثمرة ويوشك أن تكون شجرة شايكة لا ثمر فيها، فإذا كان ذلك فاقرض من عِرْضك ليوم فقرك([17]))) .
قوله: (وما أثقله من قرض): تعظيماً لحال الإعتراض على الهادين، من عترة خاتم المرسلين -سلام الله عليهم أجمعين- وإرسال كلام الفرية إليهم، وإن كانوا حملة الأثقال ، وشحاك الضلال ، ومن فات عقوبة الله -تعالى- بأيديهم في الدنيا والآخرة، فليس بفائت في يوم يشيب فيه الأطفال، ويعظم البلبال، وتشتعل النار، وتراكم الأهوال، يوم ليس فيه دينار ولا درهم، ولا ذهب ولا فضة، لا يؤخذ فيه فدية، ولا تنفع شفاعة، ولا تقبل معذرة، ولا هم من الله يصحبون، ولا من العذاب يرحمون، ولا من النار يخرجون، إنما هي الحسنات والسيئات.
ومعنى (أعددته): دخرته، لا فرق بين ذلك.
و(يوم العرض): هو يوم القيامة، نعوذ بالله من شدائده، وأهواله، ونسأله الصلاة على محمد وآله.
_______________________
([17]) ـ رواه الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية من طريقين عن أبي أمامة الباهلي (2/53) بلفظ : ((إن الناس اليوم شجرة ذات جنى ويوشك أن يعود الناس كشجرة ذات شوك ، إن ناقدتهم ناقدوك ، ولو تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم طلبوك)) قال ، قلنا : فكيف المخرج يا رسول الله ؟ قال : ((تقرضهم من عرضك ليوم فقرك)).
[بيان الوجه في تسمية يوم القيامة بيوم العرض وحال الناس فيه]
وسمي يوم العرض لوجهين ؛ أحدهما: أن العباد يعرضون فيه على الله -تعالى- {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)} [النجم] .
وثانيهما: أن أعمالهم تعرض عليهم فيستأنسون إلى حسنها ، ويستوحشون من قبيحها، فيقولون ما حكى الله -تعالى- عنهم: {يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)}[الكهف] .
قوله: (يوماً به المرءُ ثقيل النهضِ): وذلك من صفة ذلك اليوم، لأن المؤمنين يدخلون الجنَّة على قدر أعمالهم في البُطو والسرعة، منهم كالبرق الخاطف، ومنهم كالطائر، ومنهم كأسرع دابة في الأرض، ومنهم دون ذلك، ومنهم لا يدخل الجنَّة إلاَّ زحفاً. ولم نقل هذا إلاَّ لأثر بلغنا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولسنا نمنع ألا يكون مع كثير ممن خالفنا من هذا الذي قلنا خبر ولا أثر، فالحمد لله الذي هدانا لما جهله المفرِطُون والمفَرّطون، واعتقل دونه المتورطون، وجعلنا نمرقة وسطى يرجع إليها الغالي، ويلحق بها التالي.
فأمَّا أهل النار فيدخلون النار على أحوال مكروهة، نعوذ بالله منها، منهم من يسحب على وجهه حتى يكب في النار على منخريه وهذا يخص به المتخلف عنَّا، واللاحق بعدونا، والمتثاقل عن إجابة دعوتنا لقول أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم))([18]) . ومنهم من يبعث الله -تعالى- إليهم ملائكة بسلاسل من نار يسلكونهم فيها كما تسلك الخرز في النظام حتى يصير في السلسلة أمة من الأمم، فيأتي بهم إلى شفير النار فينبزهم فيها كما ينبز الحطب كما قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)} [الحاقة] . ومنهم من يؤخذ بناصيته وقدمه فيجمعان ويسحب إلى النار، ومنهم من ينهضه ذنبُه فيمكث في موقف الحساب خائباً حسيراً، لا يملك من الأمر نفيراً، فيرسل الله -تعالى- عليهم عُنقاً من النار فيحترقهم كما يحترق السيل الغثاء، وهذا النوع من النكال يختص بالظالمين من أهل المعاصي، وكل هذه أمور هائلة، نعوذ بالله منها.
_____________________
([18]) - رواه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام (خ)، ورواه الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (80) عن الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام-: ((من سمع داعينا أهل البيت فلم يجبه أكبه الله على منخريه في النار)) . قال السيد العلامة أحمد بن يوسف زبارة رحمه الله في تتمة الاعتصام (5/432) : في شرح التجريد روى عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال : ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) رواه الطحاوي وهو في أصول الأحكام والشفاء وروى عن محمد بن يحيى الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- أنه قال الواعية فهو الإمام الداعي إلى الله عز وجل فمن سمع دعوته ونداه فلم يجبه فقد قطع حبله من الله وخرج بلا شك من طاعته وتمكن في معصيته ، وفي بعض الأخبار : ((فلم يجب)) وفي بعضها : ((من سمع داعيتنا)).
[إعتزاز الإمام(ع) بإتباعه نهج آبائه بالحجة والدليل]
[73]
لم أعْدُ مِنْهَاجَ جُدُودِي الصِّيدِ .... وقَوْلَهُم في العدلِ والتوحيدِ
وفي فُصُولِ الوعدِ والوعيدِ .... بحُجَّةٍ عَنْ غيرِ ما تقليدِ
يقال: عدى الطريق إذا مال منها وإن لم يتعمد([19])، وتعداها إذا مال متعمداً، و(المنهاج) معناه ومعنى الطريق والسبيل واحد.
و(جدوده) هم الأئمة الأعلام -عليهم أفضل الصلاة والسلام-.
و(الصيد): هم السَّادَة الفضلاء في عرف اللغة، وكان أصل الصيد في الإبل، واختلف فيه فقيل: هو داءٌ مَيَّل أعناقها، وقيل: هو أن الفحل إذا عظم حاله، وقهر سائمته التي هو فيها أمال عنقه عجرفة([20]) وصرف بخطاه([21])، ثم نقل إلى الرؤساء بعد ذلك، ولا أتم رئاسة، ولا أعظم نفاسة ممَّا حكم الله -سبحانه- لآبائنا -عَلَيْهم السَّلام- وأورثنا إياه إلى يوم نشر العظام ، من ولاية خاص خلقه والعام، وإلحاق الكفر والفسق لمن أنكر حقنا في ذلك من جميع الأنام، فهذه رئاسة في المستحفظين منَّا عامة، وفضيلة من الله -تعالى- تامَّة، فله الحمد على ذلك حمداً يكافيء نعمه إلى مبلغ علمه ورضاه.
___________________
([19]) - نخ (ن) : يعتمد.
([20]) ـ يكون الجمل عجرفيَّ المشي ، وفيه تعجرف وعجرفيِّة وعجرفة ، قلة مبالاة لسرعته ، وهو يتعجرف : يتكبر. تمت قاموس.
([21]) - نخ (ن) : بخطا.
وأهل البيت هم الصيد في المقامات التي تهجر فيها البيض الأغمادَ ، وتزوَرُّ([22]) الهوادي والأكتار، فهم في تلك الحال أهل التبيهس([23]) والعمهجية ، والأنوف الحميَّة ، كم من ناظر فيهم ملء الأرض جنوداً ببعض عينه إحتقاراً وقلة ، لا يميل في دين الله إلى الدنيّة ، ولا سَلم للذلَّة ، حتى تسيل نفسه الشريفة على شبا([24]) طوالها ، وطبقات نصالها، ضاحكاً مستبشراً، فالحمد لله الذي جعلنا لهم خلفاً، وجعلهم لنا سلفاً.
وأقوالهم في العدل والتوحيد موجودة، وصحفهم بأدلتها مشحونة.
والتوحيد قبل العدل في وجوب المعرفة، وأخره عنه في اللفظ لمزاوجة ألفاظ القافية، ومثل ذلك جائز، وقد تقدم كلامه في العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، وتوابعها من النبوءة والإمامة، وسائر ما تعلق بذلك من الأحكام، الأول في الجزء الأول من شرح الرسالة الناصحة، فتأمل كلامه في ذلك وانظر في كلام آبائه الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- تجده كأنما خرج من مشكاة واحدة، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، ومعرفة جميع ذلك يجب على كل مكلف بالدليل.
____________________
([22]) - تزاور : عدل وانحرف. الهوادي : السنام . الأكتار : السنام المرتفع.
([23]) ـ التبيهس: التبختر تبيهس تبختر ، والعمهج المختال المتكبر، تمت قاموس.
([24]) - الشبا : الحدَّ من كل شيء . والطوال : كناية عن الرماح.
قوله: (بحُجَّةٍ عن غير ما تقليد): يقول: لأنه أخذ كلام آبائه ـ وهم أفضل العدول ـ بأوضح برهان، وأبين دليل، ولم يقتصر في ذلك على التقليد الذي لا يوصل إلى الظن فضلاً عن العلم كما فعلت اليهود والنصارى وكثير من ضلال الأمة، إذ([25]) الأصول من الدين يجب المصير فيها إلى العلم، والعلم لا يحصل إلا بالحُجَّة، والدليل هو الحُجَّة، وقد قدمنا في الجزء الأول من هذا الشرح فصلاً كافياً في بطلان التقليد.
[إهتمام الإمام(ع) بتحصيل العلوم منذ صغره]
[74]
ولم أزلْ مُذْ مِيْطَتِ التمائِمْ .... ولُوُّيتْ في رأسيَ العمائمْ
أسبرُ قولَ كلِّ فَذٍّ عالِمْ .... بفكرةٍ نافذةٍ كالصارِمْ
[بيان ما هي التمائم والعقيقة والعمائم]
(التمائم): ما يجعل في عنق المولود ويديه ورجليه من حنوط وهيئات تختلف العرب فيها، يزعمون أن بها تمام حياة المولود، فأمَّا نحن معشر أهل بيت النبوءة فنجعل تمائم أولادنا شيئاً من أسماء ربِّنا كما رويناه عن سيد البشر جدنا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو مما كان يعوذ به أبوينا المطهرين الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-([26])، وكان جدنا إبراهيم خليل الرحمن يعوذ به ولديه إسماعيل وإسحاق -صلوات الله عليهم أجمعين-.
_________________________
([25]) - نخ (ن): أن.
([26]) ـ أخرج الإمام أبو طالب في الأمالي ص(95) عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - يعوذ الحسن والحسين : ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامَّة ، ومن كل عين لامة)) ويقول : ((كان أبوكم يُعَوِّذ بها إسماعيل وإسحاق)) ، وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (6/470) رقم (3371) عن ابن عباس.
وأخرجه أيضاً أبو داود في السنة (4/235) رقم (4737) والترمذي في الطب (4/396) رقم (2060) وأحمد في المسند (1/353) رقم (2438) ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (3/344ـ 385) رقم (4793ـ 4899) ، ورواه أيضاً في مجمع الزوائد (5/116) والطبراني في الأوسط أيضاً (6/394) رقم (9183) عن علي - عليه السلام - وعن ابن عباس في الأوسط للكبراني (1/621) رقم (2275) والهيثمي (5/116ـ 117) بلفظ : ((أعيذكما بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، وذرأ وبرأ ، ومن كل عين لامة)) .
ومن ذلك العقيقة: وهي كبش أو كبشان يذبح لسبعة أيام من ولادة المولود، ثم يفصل إرباً ولا تكسر عظامه، ثم تدعا عليها جماعة من المسلمين، ويحلق شعر المولود ذلك اليوم ويتصدق بوزنه ذهباً أو فضة على قدر الإمكان، فكل هذا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبمشيئة الله -تعالى- تتم الحياة والبركة ؛ لأنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - لا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه ، وإنما يفعل ما أمره به ربُّه ، وقد فعل كل ما ذكرنا لولديه المطهرين الحسن والحسين -صلوات الله عليهما وعلى من طاب من المنتسبين إليهما- فإذاً معنى التمائم: هي الكتب في حق أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، المتصلي الأنساب، العارفين بدلالة الكتاب، فإذا ترعرع المولود نزعت عنه تلك الكتب فلذلك قال: (ميطت التمائم).
و(العمائم) معروفة لهم خاصة، ولأهل الرفعة من العرب عامة، وأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- إذا نشأ فتاهم تعمم وأماط الشعر، وعلي -عَلَيْه السَّلام- الأصل في ذلك، لأن في الحديث عنه -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((إن تحت كل شعرة جنابة فَبِلوا أصول الشعر وأنقوا البشر، قال -عَلَيْه السَّلام-: فمن هناك عاديت شعري([27]))) . واقتدى به في ذلك الطاهرون من ذريته. وقد رأينا([28]) من ترك ذلك فالله المستعان.
قوله: (أسبرُ): يريد به الفطن، والقياس، واعتبار صحيح الأقوال من سقيمها.
و(الفذ): هو الواحد المنفرد، وقد صار بالنقل يفيد المنفرد بخصال الكمال حتى صار حقيقة فيه.
و(العالم) معروف، وهو نقيض الجاهل في المجاز، لأن المناقضة الحقيقية بين العلم والجهل.
و(الفكرة) والرؤية معناهما واحد.
وقوله: (نافذة): يريد ؛ ماضية ؛ لأن فكرة البليد متحيرة لقلة تمييزه، وشبهها (بالصارم) وهو السيف الذي يصرم ما قابل ومعناه يقطعه، وبه سمي صارماً، ومنه سمي حصاد النخل صراماً، ومنه صرم المودة.
_______________________
([27]) ـ رواه بألفاظ مقاربة الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد (خ) والإمام المتوكل علىالله أحمد بن سليمان (ع) في أصول الأحكام (خ)، وأخرج نحوه أبو داود في الطهارة (1/63) رقم (249) وابن ماجه في الطهارة (1/196) رقم (599) وأحمد في المسند (1/118) رقم (730) والطبراني في الأوسط (5/193) رقم (7034) بلفظ: ((من ترك شعرة من جسده لم يغسلها فعل به كذا وكذا في النار)) ، قال علي عليه السلام : (فمن ثم عاديت شعري).
([28])ـ في نخ (ن) : أُرينا.