[تفصيل أخبار ورود الناس على الحوض]
[57]
فمَنْ أتى وهو لنا وليُّ .... سقاهُ من كاساتِهِ([62]) النبيُّ
ومَنْ أتى وهوَ بنا شقيُّ .... صبَّ على خُرْطُومِهِ العصِّيُّ
هذا تفصيل معنى الخبر الذي في أول القصة، من أتاه وهو موالٍ لآل محمد -عليه وعليهم أفضل السلام- مبار لأعدائهم، متابع لهم في أعمالهم وأقوالهم، معترف بحقهم، مقرّ بفضلهم على جميع الأمة التي فضلها الله -تعالى- بفضل جدهم على جميع الأمم، سقاه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بكأسه ، وأورده حوضه. وإن أتى وهو على غير الصفة المتقدمة صبَّ الحسنان الطاهران - عليهما السلام - على خرطومه العصي، و(خرطومه): أنفه ومقدم وجهه كما ورد في الخبر عن الصادق المصدوق -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من قوله: ((والحسن والحسين يوردان شيعتنا، ويطردان أعداءنا فيضربانهم ضرب الإبل الهيم )) ، وذلك عنوان العذاب الأليم، والخلود في الجحيم، وتجريع الحميم، نعوذ بالله من عذابه، ونسأله المصير إلى كريم ثوابه.
________________________
([62])ـ في (ن): كأسه...
[صفة باغض العترة ومنكر فضلها عند انصرافه من موضع الكرامة إلى موضع الندامة]
[58]
وَرُدَّ مَلْعُوناً شقياً خائبا .... قَدْ صَدَعَ السِّبطان مِنْه الحاجبا
فَانصَاعَ مَلْهوفاً حَزيناً نادبا .... إذْ لمْ يؤدِّ في الوِدَادِ الواجبا
هذه صفة باغض العترة ومنكر فضلهاعند إنصرافه من موضع الكرامة إلى موضع الندامة.
(والملعون): هو المبعد المطرود.
(والشقي): هو الخاسر الذي لا يظفر بمراده بعد الإلحاح في طلبه ـ هذا في الأصل ـ وهو نقيض السَّعيد ؛ لأنه الظافر بمراده بغير طائل كلفة ـ هذا في الأصل ـ.
و(السِّبطان): هما الحسنان -صلوات الله عليهما- ولما كانت ولادتهما نبوية نقل إسمهما من أولاد يعقوب، كما سميا شبر وشبير بإسم ولدي هارون لمشابهة علي -عَلَيْه السَّلام- لهارون في الخلافة والشركة في الأمر، وذكر صدع الحاجب إستدلالاً وإن لم يرد تفصيله في الخبر؛ لأنه لا يُصَدُ عن الماء مع شدة الظمأ، وتلهب الأحشاء، إلا بهوان ظاهر، وشر قاهر.
و(الإنصياع): هو الإنعطاف بسرعة من المخوف المفاجيء.
و(الملهوف): الذي بلغ به الظمأ غايته.
و (الحزين): معروف،و زيادة كشفه: أنه المغموم المهموم، وهو في الأصل مأخوذ من الصعوبة، ولهذا قيل للمكان الصلب حَزْن، كما أن السرور مأخوذ من الأسرَّة ، وهي الأماكن السهلة المطمأنه.
و(النادب): هو المعلن البكاء ، الذاكر بلسانه موجبات الشجى، أخذ من الندب وهو الشق، فكأن فاعل ذلك يشق قلب نفسه وسامعه.
قوله: (إذ لم يؤدِّ في الوداد الواجبا): لأن محبَّة أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- واجبة على كل مسلم لقول الله -تعالى- آمراً لنبيئه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ، فمن لم يخصصهم بالمودة فقد ظلم رسول الله أجره، وظالم رسول الله أكبر الظلمة وشر الفاسقين.
وقد روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي([63]))) . وهذا ـ كما ترى ـ أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فلولا تخصيص الله -تعالى- لهم بالفضل لما قرن -عليه وآله السلام- حبَّهم بحب الله -تعالى- وحبِّه -عليه وآله السلام-، يعقل هذا كل مستبصر لم يطمس الران قلبه.
________________________
([63]) ـ أخرجه الإمام المرشد بالله في الأمالي (1/152) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما - ، والحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين (78).
[بيان صحة ما تقدم من أخبار الحوض]
[59]
هذا أخذناهُ بإسنادٍ قويّ .... وقَدْ نَظَمنَاهُ على حرفِ الرويّ
إنِ ارعَوَى عن الضَلالِ مُرْعَوي .... فالناسُ قسمان سعيدٌ وغوِي
يريد بهذا ما تقدم من خبر الحوض وطرد أعداء العترة -عَلَيْهم السَّلام- وحضور الأشهاد على العباد وهم محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على الحوض، أخذ ذلك كله بأسانيد([64]) قويه تنتمي إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذي لا يجوز إعتراض الشك في شيءٍ ممَّا جاء به. وألفاظ البيت ظاهرة، زيادة كشف ذلك: أن (الإرعواء) هو الرجوع في الأصل.
________________________
([64]) ـ أخبار الحوض متواترة شهيرة رواها الجم الغفير من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وشيعتهم وغيرهم من العامة وروي بألفاظ مختلفة وفي مواقف متعددة وسنذكر بعضاً من تلك الروايات:
فمنها: ما أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/370) عن أبي هريرة وجابر بن عبدالله قالا: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((علي بن أبي طالب صاحب حوضي يوم القيامة فيه أكواب كعدد نجوم السماء وسعة حوضي ما بين الجابية إلى صنعاء)) قال: رواه الطبراني في الأوسط (1/68) رقم (188) .
ومنها: ما رواه أيضاً الهيثمي (9/138) عن عبدالله بن إجارة بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- وهو على المنبر يقول: (إني أذود عن حوض رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بيدي هاتين القصيرتين الكفار والمنافقين كما تذود السقاة غريبة الإبل عن حياضهم) قال: ورواه الطبراني في الأوسط (4/44) رقم (5153).
ومنها: ما رواه المحب الطبري في الرياض النضرة (2/211) عن علي -عَلَيْه السَّلام-، قال: (لأذودن بيدي هاتين القصيرتين عن حوض رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- رايات الكفار والمنافقين كما يذاد غريب الإبل عن حياضها)، قال: أخرجه أحمد في المناقب.
ومنها: ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/135) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((يا علي معك يوم القيامة عصى من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي))، قال: رواه الطبراني في الأوسط، ورواه أيضاً ابن حجر في تهذيب التهذيب (3/284).
ومنها: ما رواه أيضاً في مجمع الزوائد (9/176) عن أبي هريرة أن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، قال: يارسول الله أيما أحب إليك أنا أم فاطمة؟ قال: ((فاطمة أحب إلي منك، وأنت أعز علي منها، وكأني بك وأنت على حوضي تذود عنه الناس وإن عليه لأباريق مثل عدد نجوم السماء)) ورواه الطبراني في الأوسط (5/380) رقم (7675).
و(الغوي): مجاوزة الحد، وأصله في الفصيل يجاوز الحد في الرضاع فيهلك ، أو يشفي على الهلاك، فاستعير لمن يجاوز أمر الله ؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك.
و(حرف الروي): هو ما تنبني عليه القصيدة، وهو مطلق ومؤسس، وله تفاصيل لا وجه لذكرها ها هنا.
[بيان أن بغض أهل البيت (ع) سبب هلاك أكثر الناس]
[60]
لم يُهلِكِ الناس سوى بغضانا .... لو ساعدونا وَرِثُوا الجِنَانَا
ونالوا الغِبْطَةَ والأمانَا .... وفَارَقُوا الذِّلَّة والهوانا
يقول إن هذه الأمة لو اتبعت هداتها من أهل بيت نبيئها -عليه وآله السلام- لسلكوا لهم المنهاج الواضح ، وقصدوا بهم العلم اللائح، ولَما عال فيهم مسلم، ولا ضهد معاهد، ولجرت الأمور على سننها ، وما عاقها عائق من غاياتها ، ولَما ضلّ ضال في دين الله ، ولا عشا عاشٍ عن ذكره، ولا انقلب أحد من المسلمين بسهم غبين، وقلب حزين، ولكان اليتيم هويداً، والمؤمن سعيداً، والكافر طريداً سليباً، والباطل قصياً([65]) غريباً، ولكنهم بغضوا هداتهم ، ورفضوا ولاتهم من عترة نبيهم ، وفلك نجاتهم -صلوات الله عليهم- وألحدوا في فضلهم،
_______________________
([65])ـ في (ن): قضاءً.
واستغنوا عن علمهم بجهلهم، فشردوا في الآفاق، واشتد عليهم عقد الخناق، والعترة ممحصة بالحوادث، وأعداؤهم ممحوقون بالكوارث ، قد رضوا بالدنيَّة، ورغبوا عن قسمة السويَّة، فما أصابهم من ذلك فهم جناته على نفوسهم. قال العليم القدير: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30)} [الشورى] .
و(الغبطة): ما يغبط عليه الإنسان.
و(الأمان): نقيض الخوف، وهو معروف ظاهر.
و(الذلّة): نقيض العزّة، وقد قدمنا الكلام في معناهما في الجزء الأول من هذا الشرح بدليله.
و(الهوان): هو الإستخفاف، والتنكيل بالفعل والقول لا يكون هواناً حتى يكون كذلك.
[بداية قصة من نازعه وأنكر عنده فضل أهل البيت (ع) وهو بزعمه مظهر للتشيع]
[61]
كم عايَنَتْ عيناي يوماً شيعي .... في أُهبةِ المنقطعِ المُطِيعِ
مُطَامِناً للظَّهَرِ في الرُّكُوعِ .... لا يَرفَعُ الصوتَ مِنْ الخُشُوعِ
(كم) ها هنا: نقيض كم في قوله: (وكم لنا من ناصر في الشيعة)، لأن هذا مبتدأ قصة من نازعه وأنكر عنده فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وهو بزعمه مظهر للتشيع، ولم يعرف معنى هذه التسمية، ولِمَا وضعت في الأصل ، مع أنه ـ والله محمود ـ لم ينكر فضل العترة -عَلَيْهم السَّلام- إلاَّ شذاذ من ضلال الأمَّة وطواغيتها ، الذين يتسترون من الناس بإسم التشيع وهو منهم على مثل ليلة القدر، كيف يكون شيعياً لآل محمد -عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم- من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وقبس العلم بزعمه عن غيرهم، وقد كانت هذه المقالة لا يجتريء أحدٌ عن إظهارها مع دعوى التشيع إلاَّ في زماننا هذا، فإنها قد فشت، وظهرت وتظوهر عليها وأعلنت، ورفع أهلها الحشمة في إظهارها، فصار الذاب عنها كثيراً، والداعي إليها جماً غفيراً. وأشد ما تكون نار البدعة صعوداً أقرب ما تكون جموداً، ونحن في زمان فترة أصبح لها الإسلام غريباً، والحق حريباً، فأذكرنا ذلك ما روينا عن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((بعثت بين جاهليتين: أخراهما أعظم من أولاهما))([66]) . وليس عظم أخراهما إلاَّ لتماليهم على بغض العترة الطاهرة، وإنكار حقها، وسفك دمائها، فيديلها الله منهم، ويبني فوق الكواكب قباب فخرها، ثم يرفعها سبحانه -وتعالى- مكرمة إليه، ويختار لها ما لديه، ويعاجل منكري فضلهم بالعقاب كما ذكره سبحانه في الكتاب: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)}[الأنعام].
___________________
([66]) - رواه الإمام المرشد بالله في الأمالي (2/277) بسنده إلى علي -عَلَيْه السَّلام- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((بعثت بين جاهليتين أخراهما شر من أولاهما)).
وقد قال النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في مثل ذلك: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فإذا زال أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون، وإذا زالت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون))([67]) . فربُّنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
قوله في صفة منكر فضلهم إنه (في أهبة المنقطع المطيع): لأن حاله كانت كذلك، لباسه الصوف، وظاهره التقشف والتنظيف، وذلك أعظم في الفتنة، وأشد في المحنة. ثم وصفه (بالمتطامن) في الركوع لأنه يحسن أعمال العبادة في الظاهر، وإن محقها بالإعتقاد الباطن.
ووصفه (برفع الصوت) لأن حال أكثر من أنكر فضل العترة -عَلَيْهم السَّلام-، كذلك يماوتون أصواتهم في الكلام، لينفذ سحرهم في العوام، فيلقنوهم بغضة آل محمد البررة الكرام -عليه وعليهم أفضل السلام- وإنكار ما جعل الله -تعالى- لهم من الفضل على جميع الأنام. وقد قال أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في مثل ذلك: (قطع ظهري إثنان: عالم فاسق يصد الناس عن علمه بفسقه، وذو بدعة ناسك يدعو الناس إلى بدعته بنسكه).
________________________
([67]) - قال الإمام الحافظ الحجة الولي مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى- في لوامع الأنوار (ط2) (100، 101): أخبار النجوم والأمان شهيرة رواها الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام وكتاب معرفة الله والإمام الرضا علي بن موسى الكاظم بسنده المتصل عن آبائه (ع) والإمام أبو طالب ، والإمام الموفق بالله، والإمام المرشد بالله، والإمام المنصور بالله (ع) بأسانيدهم وصاحب جواهر العقدين عن سلمة بن الأكوع ، وقال : أخرجه مسدد وابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبري في ذخائر العقبى عن سلمة أيضاً، وصاحب الجواهر أيضاً عن أنس قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون)). قال : أخرجه ابن المظفر من حديث عبدالله بن إبراهيم الغفاري.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((النجوم أمان لأهل السماء)) ..الخبر بلفظ ما تقدم أخرجه أحمد في المناقب وهو في ذخائر العقبى بلفظ: قال : وعن قتادة عن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب الشيطان)) قال : أخرجه الحاكم وقال الحاكم في المستدرك : هذا حديث صحيح الإسناد . انتهى المراد .
[62]
لَمّا ذَكَرْتُ عندهُ آل النبي .... لَفّفَ أطرافَ القِنَاعِ يحتبي
وقالَ لي دَعْ عنكَ ذِكْرَ المنْصبِ .... فالفضلُ في مذهبِنَا أمرٌ غَبِي
هذا تفصيل لحال من تقدم ذكره يقول: ما اختص الله -سبحانه وتعالى- به العترة الطاهرة من الفضل العظيم، والشرف الجسيم، الذي جعلهم -عَلَيْهم السَّلام- له أهلاً، وقرارة ومحلاً، وعقد لهم على جميع البشر الولاية والإمارة، ضاق لذلك صدر المنتحل التشيع الخاشع، ونفد صبره، وجمع للحبوة قناعه، وأظهر من إعتقاد فضل العترة الطاهرة إمتناعه، وقال: (دع ذكر المنصب)، وما المنصب؟ هذا أمر لا نعرفه في مذهبنا ولا نعتقده ، ونسي أن مذهبه وإعتقاده لا يكون حُجَّة على الحُجَّة عليه وعلى جميع البشر من الأسود والأحمر، أهل الحسام والمنبر، والصفا والمشعر، والمقام والمنحر. جعلهم الحكيم، سبحانه، أعلاماً للحُجَا ، وأقماراً للدجى، فتصلب في دفاع الحُجَّة، وشمر عن ساقه ليخوض اللجَّة.
فقلنا: فقد قال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فيهم: ((قدِّموهم ولا تقدَّموهم، وتعلموا منهم ولاتعلموهم ولا تخالفوهم فتضلوا ولا تشتموهم فتكفروا)) . فنفض رأسه وأظهر شماته.
وقال: ما أهل البيت إلاَّ ناس من الناس، و على هذا مضت الشيوخ الأكياس.
قلنا: إنهم وإن كانوا كذلك فإنهم في الناس بمنزلة الرأس من الجسد، وبمنزلة العينين من الرأس، لا يصلح جسد لا رأس له، ولا رأس لا عين فيه، والناس مع إستوائهم في الإنسانية معادن وأجناس، كالذهب والفضة والحديد والنحاس، ألا ترى أن الإنسان الواحد مجموع أعضاء أفضلها الرأس.
قال: هذا لا يجوز في مذهبنا.
قلنا: هذا من ذلك، إن من أعاد الضمير في مذهبنا إلى نفسه وهو من غير أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- فقد إرتكب عظيماً ، وامتطى خطباً جسمياً، فلا تمحق هذه العبادة بالإنكار فضل أدلة الدنيا وشفعاء الآخرة ، فتشدد إستكباراً ، وازداد مع تلطفنا في الدعاء فراراً، فتأملوا الإحتجاج -رحمكم الله- فأكثر لفظه وجميع معناه قد كان بيننا وبين من أنكر الفضل ممن تقدمت صفته.
[حال من تقدمت صفته بالخشوع وانخفاض الصوت لما ذكر له فضل أهل البيت (ع)]
[63]
وخفَّ بعد الحلمِ والوقارِ .... وقامَ لي مُنْتَصِباً يُمَاري
بحُجَّةٍ دائمةِ العثارِ .... ساقطةٍ في وسطِ المضمارِ
من تقدمت صفته بالخشوع وانخفاض الصوت خف لما ذكر له فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ورفع صوته بإنكاره، وكذلك سمعناه، والله على ما نقول وكيل.
قوله : (بعد الحلم) يريد في ظاهر الحال لأنه لما رآه خاشعاً متواضعاً ظن أنه لا ينكر فضل الهداة إلى سبيل الرشاد، والولاة في العباد والبلاد، فلو كان ما ظهر من حاله حلماً حقيقياً لم يلحقه من الحق خفه.
و(المماراة): هي المنازعة والمخاصمة والمجادلة.
ومعنى قوله: (قام لي): يريد ؛ قام إلي كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}[المطففين] ، معناه ـ والله أعلم ـ إلى ربِّ العالمين.
ووصف حُجَّته بأنها (دائمة العثار) لأنه يجادل بالباطل ليدحض به الحق، لذلك عثرت حُجَّته ، وبطلت في لجة بحر الحق مجته.
و(المضمار): هو المكان الذي يجري فيه خيل الحلبة، وهي عشر: منها سبع: ترحا، وثلاث تقصى، وتقلا، ولا وجه لذكر أسمائها ها هنا، وكان أصل المضمار صيغة الخيل للسباق أربعين يوماً بتفاصيل يطول شرحها، فلما كان نهاية تلك الأعمال إرسالها في ذلك المكان سُمِّي مضماراً ، وللجدال غايات ، وللكلام فرسان ، فلما كانت حجة المخالف في الفضل لا تصل إلى غاية الحديث التي يبين فيها أمر المحق من المبطل، بل يتضح لأهل العقول فسادها في أوَّل وهلة وصفها بالعثار والسقوط في وسط المضمار ، وكذلك كانت الحال.