[قيامه(ع)]
عدنا إلى محمد بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، فلما كان في زمان أبي جعفر وانتهى في أمر آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى ما انتهى من أسر جميع بني الحسن وهم مصابيح الدجى، وأرباب الحجى، فرقاً([11]) من محمد بن عبدالله وأخيه إبراهيم لما كان يعلم من إرتفاع أمرهما وعظم قدرهما، فدعا محمد بن عبدالله عند ذلك إلى نفسه بعد إستتاره الدهر الأطول، كما قدمنا، وأنفذ الدعاة إلى الآفاق وظهرت دعوته بخراسان، وبايع له جمهور أهل خراسان، وتقوى الحال، وكان قيامه - عليه السلام - وشهر رايته وسيفه في غرة رجب سنة خمس وأربعين ومائه ، وعليه قلنسوة صفراء وعمامة فوقها متوشحاً سيفاً وهو يقول لأصحابه: (لا تقتلوا لا تقتلوا) ودخل المسجد قبل الفجر فخطب الناس، ولما حضرت الصلاة نزل فصلى وبايعه الناس طوعاً ؛ إلاَّ من خطر([12]) له، وكان رياح بن عثمان المري عاملاً لأبي جعفر على المدينة، فلما ظهر أمر محمد بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام- إنهزم إلى دار مروان وتحصَّن فيها وأمر بهدم الدَّرجة فغلب وجيء به إلى محمد بن عبدالله أسيراً فسأله عن أخيه موسى([13])، فقال: (أنفذته إلى أبي جعفر)، فبعث -عَلَيْه السَّلام- جماعة من الفرسان لحقوه وردوه إليه.
____________________
([11]) - فَرَقاً: أي خوفاً، تمت.
([12]) - هكذا في الأصل وأظنه إلا من لا خطر له أي إلا من لا شرف له وقد تكون من الخاطر والهواجس والعبارة صحيحة ، والله أعلم.
([13]) - الإمام موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، من دعاة أخيه النفس الزكية ، وهو الإمام الرابع من أولاد عبدالله بن الحسن الكامل حبسه المنصور ثم أطلقه ثم تخفى إلى أن مات عليه السلام ، في حدود سنة (180هـ) وقبر في سويقة.

[خروجه وبيعته(ع)]
وخرج إلى مكَّة فبويع هناك وعاد إلى المدينة، وكان شعاره: أحدٌ أحد. ووجه أخاه إبراهيم على ولاية البصرة وقبض البيعة فيها ، فبايع إبراهيم من أهلها عشرون ألفاً ، منهم عمرو بن عبيد([14]) ، وأعيان أهل علم الكلام، واجتمعت الزيدية والمعتزلة على هذه الدعوة الشريفة.
[ذكر من بايعه، وموقف أنس بن مالك]
وبايعه جميع أهل بيت النبوءة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام-؛ بل كان أولاد الحسين أولى به في تلك الحال لكون الأكثر من أولاد الحسن في حبس أبي جعفر، وكان جعفر بن محمد([15]) -عليهما السلام- فيمن بايعه واعتذره من الجهاد بين يديه لسنه، فعذره وحللَّه، وجاهد بين يديه ولداه موسى وعبدالله([16]) ابنا جعفر بن محمد -عليهم السلام-، وكذلك حسين وعيسى ابنا زيد بن علي -عليه السلام-، ___________________
([14]) ـ عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء ، أبو عثمان البصري ، شيخ المعتزلة في عصره ومفتيها ، وأحد الزهاد المشهورين ، مولده سنة (80هـ) وكان مشهوراً بعلمه وزهده ، وهو من الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة ، ومن المعتزلة البصرية ، وتوفي سنة (144هـ) بمران ـ بقرب مكة ـ. الأعلام (5/81) الملل والنحل لابن المرتضى (151).
([15]) ـ جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد السبط بن علي أمير المؤمنين ابن أبي طالب، من الأئمة الأعلام، ومن فضلاء أهل البيت وعلمائهم وعبادهم وخيارهم ولد سنة ثمانين للهجرة أمه أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو أحد الأئمة الاثني عشر عند الإمامية، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- سنة ثمان وأربعين ومائة (148هـ) وعمره ثمان وستين سنة، ودفن بالبقيع في قبر أبيه الباقر وجده زين العابدين.
([16]) ـ عبدالله بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بايع الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية وشهد معه الوقعة وبايع أيضاً الحسين بن علي الفخي وشهد معه الوقعة.

وبايعه المنذر([17]) بن محمد بن عبدالله بن الزبير، وابن أبي ذيب([18])، وابن عجلان([19])، ومصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير([20]) وابنه عبدالله بن مصعب([21])،
______________________
([17]) - المنذر بن محمد بن المنذر بن الزبير هكذا ذكره في مقاتل الطالبيين وقال : خرج مع محمد بن عبدالله ، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً ، قد حمل عنه أهل البيت الحديث ، وكان فارساً شجاعاً ، وذكر في المقاتل أن المنذر مر بالحسن بن زيد فعانقه ، فقال الحسن : ما كان مع محمد بن عبدالله فارس أشد من هذا (مقاتل الطالبيين ص250).
([18]) ـ محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب ـ بلفظ السبع ـ من بني عامر بن لؤي، أبو الحارث، تابعي من رواة الحديث من أهل المدينة ، ولد سنة (80هـ) وكان من أورع الناس وأفضلهم ، وكان من رجال العدل والتوحيد ، توفي سنة (158هـ) . الأعلام (6/189) .
([19]) ـ محمد بن عجلان القرشي أبو عبدالله المدني الفقيه الصالح العالم الرباني روى عنه خلق كثير ووثقه أحمد وابن معين وابن عيينة، وأبو حاتم، قال الحاكم: خرج له مسلم في كتابه ثلاث عشر حديثاً كلها شواهد، وكان جيد الذكاء دعاؤه مستجاب، ذكره صارم الدين وعده من ثقات محدثي الشيعة، وكذا ابن حميد، وابن حابس، وكان من رجال العدل والتوحيد كما ذكر ذلك في الشافي.
قال الواقدي : كان ثقة كثير الحديث ، مات بالمدينة سنة (8أو 149هـ) في خلافة أبي جعفر.
([20]) ـ مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير الأسدي وثقه ابن حبان، وقال النسائي لين ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط وضعفه أحمد وابن معين، وكان مصعب من أعبد أهل زمانه عاش إحدى وسبعين سنة وتوفي سنة 157هـ.
([21]) ـ عبدالله بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير ، أبو بكر القرشي الأسدي ، أمير من أهل العدل والورع والشعر والفصاحة ، ولد بالمدينة سنة (111هـ) كان محموداً في ولايته ، جميل السيرة ، مع جلالة قدره ، وعظم شرفه توفي بالرقة سنة (184هـ) . الأعلام (4/138) .

واستفتي مالك بن أنس([22]) في بيعته فأفتى الناس بوجوب البيعة له وقال: (لا حكم لبيعتكم أبا جعفر لأنكم بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين)، فبادر الناس إلى بيعته، واستعمل على السلاح عبدالعزيز بن محمد الدراوردي([23])، وكانت رايته بيد الأفطس الحسن بن علي ابن الحسين -عَلَيْه السَّلام-، وولى قضاء المدينة عبدالعزيز بن المطَّلب المخزومي([24])، وديوان العطاء عبدالله بن جعفر بن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة([25])، وجعل على الشرطة عبدالحميد بن جعفر([26])، ثم بعثه إلى بعض الجهات فولاها عمرو بن محمد بن خالد بن الزبير،
________________________
([22]) ـ مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر بن الحارث الأصبحي أبو عبدالله المدني صاحب الموطأ وأحد الأعلام، وهو صاحب المذهب المشهور بالمالكي أحد الحفاظ إشتهر بولائه لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- كان يفتي الناس بالخروج مع محمد بن عبدالله، وضربه جعفر بن سليمان سبعين سوطاً بسبب الفتوى بذلك، ولد في صفر سنة (93هـ)، وتوفي في ربيع الأول سنة (179هـ).
([23]) - عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي ، الجهني بالولاء ، المدني ، أبو محمد ، محدث نسبته إلى دراورد قرية من قرى خراسان ، روى عنه خلق كثير منهم سفيان الثوري ، وشعبة ، ووكيع وغيرهم ، وروى عن النفس الزكية والصادق وعطاء ومحمد بن كعب وغيرهم .
مولده بالمدينة وبها نشأ وسمع العلم والأحاديث ، وكان ثقة كثير الحديث ، وثقه يحيى بن سعيد القطان، وابن معين ، وأبو حاتم ، قال : صدوق في الحديث ، توفي بالمدينة ، قيل : سنة (186هـ) وقيل : (187هـ) . تهذيب التهذيب (3/447) ، الآعلام (4/25) الطبقات ـ خ ـ، ميزان الاعتدال (4/371) .
([24]) ـ عبد العزيز بن المطلب بن عبدالله بن حنطب المخزومي المدني القاضي ، ولي قضاء المدينة ومكة في زمن المنصور ثم المهدي ، توفي سنة (187هـ) .
ميزان الاعتدال (4/372) تهذيب التهذيب (3/450) .
([25]) ـ عبدالله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري المَخْرَمي ـ براء مهملة ـ، أبو محمد المدني ، من رجال المدينة ، عالماً بالمغازي والفتوح ، كان يؤمل فيه أن يلي القضاء فلم يله حتى مات .
قال في تهذيب التهذيب : قال محمد بن عمر : قال ابن أبي الزناد : لا أحسبه أقعده عن ذلك إلا خروجه مع محمد بن عبدالله بن حسن ، وثقه أحمد وابن معين والحاكم وغيرهم ، توفي سنة (170هـ) بالمدينة . تهذيب التهذيب (3/108) .
([26]) ـ عبد الحميد بن جعفر بن عبدالله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري المدني ، أبو الفضل ، روى عنه خلق، وثقه أحمد ، وابن معين ، وابن القطان ، وذكره ابن حبان في الثقات .
قال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث ، وقال الفضل بن موسى : كان ممن خرج مع محمد بن عبدالله بن حسن، توفي بالمدينة سنة (153هـ) وعمره (70) سنة . ميزان الاعتدال (4/246) ، تهذيب التهذيب (3/304).

فظهر أمره -عَلَيْه السَّلام- ظهوراً شافياً، وغلب أخوه إبراهيم -عَلَيْهما السَّلام- على البصرة وما والاها، وعلى واسط، والأهواز، وأعمال فارس، وهزمت بعوث أبي جعفر مرة بعد أخرى، وتسمى بالإسم الذي سمَّاه به رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- النفس الزكيَّة، والمهدي لدين الله، وخوطب بأمير المؤمنين، وهو أول ([27]) من خوطب به من العترة بعد علي -عَلَيْه السَّلام- وبعده محمد بن جعفر بن محمد([28])، واضطرب منه أمر بني العباس اضطراباً شديداً، وجرت بينه -عليه السلام - وبين أبي جعفر مراسلات ومكاتبات، شرحها يطول([29]) ، كل واحد من محمد -عَلَيْه السَّلام-
________________________
([27]) - قال للإمام أبو طالب (ع) في الإفادة في تاريخ الأئمة السادة (56) في ذكر الإمام محمد بن عبدالله(ع) : وهو أول من ظهر من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخوطب بأمير المؤمنين وبعده محمد بن جعفر بن محمد (ع) انتهى.
([28])- الإمام الصوام أبو علي محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي أمير المؤمنين بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان فاضلاً عابداً شجاعاً سخياً عالماً ، جمع خصال الكمال ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، ودعا إلى الله سبحانه وتعالى بمكة المشرفة سنة مائتين كما حكاه صاحب الطبقات عن الذهبي ، وكان يخرج للصلاة في مكة في ثلاثمائة رجل من الزيدية عليهم ثياب الصوف ، وكان له وقعات كثيرة مع الجنود العباسية ، كان اليد فيها له -عَلَيْه السَّلام- ، ثم أسر في أحد المعارك ووجه إلى المأمون العباسي فتلقاه بالإنصاف ، ثم دس له السم ، وتوفي سنة نيف ومائتين، وقبره بجرجان.
التحف شرح الزلف ص152، الشافي ج1 ص258، الطبقات ـ خ ـ.
([29]) - ذكر ما دار بينهما من المكاتبات والمراسلات السيد أبو العباس الحسني عليه السلام في المصابيح ص(437) والطبري في أحداث سنة (145هـ) (6/496) ، والشهيد حميد في الحدائق الوردية.

وأبي جعفر يعرض على الآخر الدخول في بيعته ويعطيه الأمان على نفسه وأهله وأحبابه وشيعته وأتباعه؛ إلاَّ أن عقود أبي جعفر مطلقة وعقود محمد -عليه السلام- مقيَّدة بالطاعة لله - تعالى- والإنقياد لأمره، والإنصاف من النفس، فانتهى الأمر إلى المحاربة، فوجَّه أبو جعفر إلى محمد -عليه السلام- جنداً كثيفاً عليهم عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس وفيهم وجوه الأجناد، وكبار([30]) القواد، وفيهم حميد بن قحطبة الطائي([31]) -لعنه الله-، فلما صاروا إلى المدينة وحطوا بناحيتها وقد كان -عليه السلام- خندقها أمر إليهم -عليه السلام- رجلاً من الإنصار صليباً ورعاً فصيحاً عالماً، وكان ذلك الرجل كالكاره لقيامه -عليه السلام- والجهاد بين يديه يدعوهم إلى الله -تعالى- وإلى طاعته والدخول في بيعة الإمام المهدي من ذرية نبيئه -صلى الله عليه وسلم وعلى أهله- الهادي بهديه السائر بسيرته، فكان جوابهم لذلك الرجل أن قالوا: (قل لصاحبك والله لو خرج صاحب القبر ـ يعنون النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ـ ينازعنا أمرنا هذا لضربناه بأسيافنا)، فاستبصر ذلك الرجل في دينه وبدأ بدخول بيته فتدَّرع وتسلح وتأهب للجهاد وأتى إلى الإمام - عليه السلام - فأخبر بجوابهم، فلما صحَّ له -عليه السلام- بذلك كفرهم وعنادهم نهض لمحاربتهم ، وعبّأ أصحابه -رحمة الله تعالى عليهم - ففي الحديث أنه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خرج على أصحابه وعليه قميص أبيض وعمامة بيضاء، ورداء أبيض، وجفن سيفه أبيض، ونجاده أبيض، وفرسه أبيض، وغاشية سرجه بيضاء، فقال: (قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم)، فوقع بينهم قتال حمل -عَلَيْه السَّلام- أكثره، ثم خرج مرة أخرى على أصحابه وعليه قبا طاق وهو يقول:
قاتلْ فما بك إنْ جلستَ بدومة .... في ظلّ غرفتها إذا لم تخلّدِ
إنّ امرءاً يرضى بأهون عيشة .... قصُرت مروته إذا لم تزددِ
___________________
([30]) - نخ (ن) : وكفار القواد.
([31]) ـ حميد بن قحطبة بن شبيب الطائي ، أمير من القادة الطغاة ، ولي إمرة مصر سنة (143هـ) ثم إمرة الجزيرة، ووجه لغزو أرمينية سنة (148هـ) ولغزو كابل سنة (152هـ) ثم جُعل أميراً على خراسان فأقام إلى أن مات فيها سنة (159هـ) . الأعلام (2/283) .

وممَّا حفظ عنه -عَلَيْه السَّلام- قوله:
متى أرى لِلْحَقِ نوراً .... وقد أسلمني ظلم إلى ظلمِ
أمنية طال عذابي بها .... كأنني فيها أخو حلمِ
[مقتله وموضع قبره -صلوات الله عليه-]
فقاتلهم -صلوات الله عليه- قتالاً شديداً، ونكى فيهم نكاية عظيمة، وتولى القتال بنفسه، واشتهر مكانه ما قام له بطل إلاَّ أرداه، ولا واجهه فارس إلاَّ صرعه، وكان ربما رد أول ذلك الجند آخره، وأركب هدادته أعجازه وحده -عَلَيْه السَّلام-، وكان حميد بن قحطبة يراوغه ويغري به الأشرار ولا يثبت له إذا قصده -عَلَيْه السَّلام-، وفَعَلَ فعلاً لم يُعلم إلاَّ من جده علي بن أبي طالب -عَلَيْهما السَّلام-، فأشاح إليه جميع العسكر ونضحوه بالسهام من كل جانب فصرع به الفرس في أوساط القوم فاعتوروه بالرماح، وقد قيل إن حميداً في بعض أوقات القتال طعنه طعنة عظيمة في صدره ثم ضربه لما صرع على جبينه، وقيل ضرب على ذقنه وهو راكب فصرع، ووقع الإتفاق على أن حميد بن قحطبة -لعنه الله- حز رأسه، وكان القتال في شهر رمضان للتاريخ المتقدم، فأنفذ رأسه إلى أبي جعفر، واستوهبت أخته زينب جثته من عيسى بن موسى فوهبها إياها فدفن في البقيع، وقبره -عَلَيْه السَّلام- مشهور مزور.
وقد قيل إنه ظهر في قبره آية للناظرين، وذلك أنهم حفروه في أرض صلبة، فلما حفروا قدر ذراع وجدوا القبر ملحوداً مهيئاً على أبلغ ما يكون والمسك يتضوع منه، وهذا غير ممتنع، وقتلت طائفة عظيمة من أهل بيته -عَلَيْهم السَّلام- وأشياعهم -رحمة الله عليهم-.

فلما فرغوا من أمرهم دخل الجند الظالم المسجد للسلام على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وزيارته، ووقف حميد بن قحطبة على الباب ولم يدخل ولم يزر، فقال له عيسى بن موسى أو بعض بني العباس: (ما رأيت أعجب من أمرك يا حميد يضرب الناس آباط الإبل من كل فجّ عميق لزيارة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وتصل أنت إلى باب مسجده فلا تدخل للسلام عليه !!؟، فقال له حميد -لعنه الله- إني لأستحي منه الآن فرغت من قتل ولده ثم أدخل إليه، فقال له: اسكت لا يسمعك الناس)، وقد أصاب عدو الله في خطابه، فانظر إلى إعتراف عدو الله بحرمته مع جرأته على قتله فنقول يا لله من شقوة الفتنة، وتظاهر المحنة، ونسأله شمول الرحمة، وتمام النعمة.
[حكاية صفة أصحاب الإمام النفس الزكية (ع) وصفة أعدائه]
[48]
وَصَحْبهُ مِثْلُ الليُوثِ العاديهْ .... حولَ صريحِ الجَدِّ عالي الناصيهْ
والظَالِمُونَ كالكلابِ العاويهْ .... قَدْ أقبلتْ تسعى بكلِّ ناحيهْ
الهاء في (صحبه) عائدة على محمد بن عبدالله -صلوات الله عليه-؛ ورحمته عليهم، فإنهم كانوا ليوثاً عادية كما ذكر في القافية، أبلوا لله بلاءً حسناً، وقاتلوا قتالاً صادقاً عظيماً، ولكن وكم يكون قتالهم؟ جاءتهم جنود مثل الجبال السُّود، كلما قتلت كتيبة بعثت أخرى، وقاتل معه جميع أهل بيت النبوءة من ولد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- كما قدمنا، وخرج معه جعفر بن محمد -عَلَيْهما السَّلام- بعد أن بايعه فاستأذنه في الرجوع إلى منزله لضعفه وسّنه، فأذن له ووسع له في ذلك بعد أن ودعه وقبَّل رأسه، وقاتل معه ولداه موسى وعبدالله ابنا جعفر بن محمد -عَلَيْهم السَّلام- في جميع حروبه وأعطيا بيعتهما طائعين متقربين بذلك إلى الله -سبحانه وتعالى- فكان أول قتيل من المسودة الفجرة، قتل بين يدي محمد بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام- إشتركا في قتله، وكان جميع أهل البيت ؛ بل جميع بني هاشم يعظمونه من حال صغره إلى وقت ظهوره ويعترفون بحقه، ويقرون بفضله، ويعتقدون إمامته، ويرجون الفرج على يديه.

وروي بالإسناد([32]) إلى عمرو بن الفضل الخثعمي أنه كان قائماً مع أبي جعفر الدوانيقي في زمان بني أميَّة، وغلام أسود، لازم فرساً على باب عبدالله بن الحسن، فخرج محمد بن عبدالله -عَلَيْهم السَّلام- والخثعمي لا يعرفه فلزم فرسه للركوب، فوثب أبو جعفر فلزم ركابه، وسوى عليه ثيابه، فقال عمرو بن الفضل راوي الحديث ـ وكان يعرف أبا جعفر ولا يعرف محمداً ـ من هذا الذي أعظمته كل هذا الإعظام؟ فقال: (أو لست تعرفه !؟، فقال: لا، فقال: هذا محمد بن عبدالله، هذا مهدينا أهل البيت)، فلما صار الأمر إلى بني العباس سخت نفوسهم بفراقه والخروج منه، وسلكوا مسلك بني أميَّة؛ بل زادوا عليهم في قتل هذه العترة الطاهرة، على إظهار كلمة الحق، وطلب إخماد نار الباطل.
_______________________
([32]) ـ روى هذا الخبر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين (212) عن عمير بن الفضل الخثعمي، ورواه أيضاً الإمام أبو طالب في الأمالي (ص134) عن عمير بن الفضل أيضاً ، ولعله الصحيح من اسمه كما ذكره أيضاً في طبقات الزيدية بأن اسمه عمير بن الفضل ، وقال : يروي عن أبي جعفر المنصور ، ومحمد بن عبدالله النفس الزكية .

[بيان سبب تسمية النفس الزكية (ع) بصريح قريش]
وكان -عَلَيْه السَّلام- يسمى صريح قريش لأنه لم يكن في آبائه إلى علي بن أبي طالب -عَلَيْهما السَّلام- من أمه أم ولد ، وجمع الفواطم الكرائم في نسبه، كما قدمنا، آخرهن فاطمة ابنت أسد أم جده علي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أول هاشمية ولدت لهاشمي، وهي كافلة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وكان يدعوها أمًّا، وكانت -رحمة الله عليها- تؤثره -عليه وآله السلام- على أولادها، وقد روينا ذلك عنه، وهاجرت عن أمره هجرة الحبشة، وهاجرت معه إلى المدينة، فلما توفيت بكى عليها بكاءً عظيماً وكفنها في قميصه، واضطجع في لحدها وقال: ((أما تكفينها في قميصي فبرآة لها من النار، وأما اضطجاعي في لحدها فليوسعه الله عليها)) وكبر في الصلاة عليها أربعين تكبيرة، فسُئِل عن ذلك، فقال: ((لأربعين صفاً من الملائكة -عَلَيْهم السَّلام-))([33]).
___________________
([33]) - روى هذا الخبر بكامله السيد الإمام أبو العباس الحسني في المصابيح (119) والإمام أبو طالب في الأمالي في الباب الثاني في فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسن شمائله (28).

51 / 63
ع
En
A+
A-