بنا([2]) ما انهاض، ويجعلنا من النقم الكبار على أعدائه، والمنن الجسام على أوليائه، واقتدينا في ذلك بجدنا الهادي -عَلَيْه السَّلام- في يوم أتوه وما يشاكله من الأيام، فنسأل الله -تعالى- التوفيق.
فهذه حال أتباع العترة وأحبائهم([3])، ولقد تأسف كثير من إخواننا -نسأل الله توفيقهم على فوت مثل ما لحق إخوانهم- وتمنوا أنهم رزقوه، ونعم الرزق على الحقيقة ؛ لأن الشهادة ثمن الجنَّة.
قوله: (وطلبوا لكل أمرٍ علَّهْ) كما فعل كثير من أهل عصرنا هذا الذين أنكروا فضل العترة الطاهرة، وزعموا أنهم أولى بالحق منها حتى أن القائم إذا قام قالوا لا نتبعه لأنه لايرى برأينا، وعكسوا في ذلك الواجب، إذ الواجب عليهم الرجوع إلى رأيه، والإنقياد لأمره، وهذا كما ترى رأي الخوارج ؛ لأنهم قاموا على أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأنه لم يرجع إلى رأيهم، فعلة الخلاف في هذا قديمة، فالواجب على العاقل التيقظُ وتركُ التقليدِ، والمناقشةُ والتفتيشُ عن أصول البدع لتنجو بترك ما هلك به سواك، وتسعد بما شقي به غيرك، فهذه التجارة المفيدة.
فأمَّا الناجمون في عصرنا هذا الذين لا يوجبون طاعة قائم، ولا يعدم فيهم له على إظهار كلمة الحق لائم، فهم فتنة كما حكى الله -تعالى- عن أمثالهم بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(4)}[المنافقون] ، لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر ، إلاَّ إذا درت معايشهم، وسلموا في أمور دنياهم، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ونعوذ بالله من سوء الإختيار، وعمل يوجب الخلود في النار.
_____________________
([2]) - نخ (ن) : لنا.
([3])ـ في (ن): أحبابهم.

[تسليم أصحاب الحسين الفضل لأهل البيت(ع)]
[45]
بَل سَلَّمُوا الفضلَ لأهلِ الفضلِ .... واستَهْدَفُوا من دُونِهم للقتلِ
واعتَمَدُوا الضربَ بِكُلِّ نَصْلِ .... مُقَدَّمِ الصُّنْعِ حديثِ الصَّقْلِ
هذا صدر من ذكر من قد تقدم ذكره من أشياع العترة وأتباعهم المعترفين بحقهم، المقرين بفضلهم على جميع البشر بعد أبيهم وجدهم، فسلموا الفضل لهم، وهم بحمد الله أهل الفضل الباهر ، والشرف الظاهر، وإن أنكر الملحدون ، وعَنَدَ الجاحدون، وكيف ينكر فضل قوم لا تتم الصلاة إلاَّ بذكرهم ، ولا تنال النجاة إلاَّ بإتباع أمرهم؟
فقال في صفة أتباع أمرهم -رحمة الله عليهم-: (إنهم استهدفوا من دونهم للقتل)، يريد أنهم تقدموا فصاروا بمثابة الهدف المنصوب للسهام والرماح والسيوف، وذلك أن الأمر لَمّا اشتد عليهم -رحمهم الله تعالى- جعلوا يتنافسون في التقدم إلى الله -تعالى- خيفة أن يروا في عترة نبيهم - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ما يسؤهم من الجراح والقتل؛ يريدون بذلك إيجاب حقهم، وإظهار فضلهم، وصلة جدهم، وأمرهم بذلك أكابرهم ، ونعم الأكابر كزهير بن القين، ومسلم بن العوسجة، وحبيب بن مظاهر، وأبي ثمامة، وأمثالهم -رحمة الله عليهم- فإنهم ما سفك لأحد من أهل بيت نبيهم -صلوات الله عليهم- دم ومنهم عين تطرف، ولا نفس تعرف.
قوله: (واعتمدوا الضرب بكل نصلِ) لأنهم -رحمة الله عليهم- إستسلموا للموت، فحكموا ظباة السيوف، واستهونوا الأمر المخوف.
والنصول من أسماء السيوف في أصل اللغة، وهذا الإسم يعم في أصل اللغة كل حديدة مطبوعة رقاً مستطيلاً أو إلى الطول. (ومتقدماتها) خيارها ؛ لأنه لا يبقى منها إلا ما أشتهر قطعه، وعظم نفعه.

وقوله: (حديث الصّقلِ): يقول: إنها لا تعب من الفتاق والصقال فذلك أعظم بحالها، وفي الحديث أن الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام- سَنَّ سيفه في الليلة التي قتل في صبيحتها وهو يقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليل .... كم لك بالإشراق والأصيلِ
من ميت وصاحب قتيل .... والدهر لا يقنع بالبديلِ
وكلّ حيّ سالك السبيلِ
فقالت له أخته زينب -رحمة الله عليها-: (أراك تخبرنا أنك تغصب نفسك، فقال -عَلَيْه السَّلام-: لو ترك القطا ليلاً لنام)، يريد أن بني أميَّة لو تركوا المناكير وسفك الدماء وأخذ الأموال من غير حلها لوسعه التخلف عن جهادهم وبذل مهجته في حربهم.
[ذكر وقعة الإمام الشيهد زيد بن علي(ع)]
[46]
وَصَحْبِ زَيدٍ عند بابِ الحِيرَهْ .... إذ أخلصُوا للخالِقِ السَّرِيْرَهْ
وكافَحُوا الضِّدَّ على بَصِيرَهْ .... فَوَرِثُوا مَمَالِكاً خَطِيرَهْ
(زيد المذكور) ها هنا هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وقد تقدم طرف من ذكره -صلوات الله عليه-، وهو أول من نهج السبيل في جهاد الظالمين بعد الحسين بن علي -عَلَيْهما السَّلام-، وكان خروجه -عَلَيْه السَّلام- لسبع بقين من المحرم سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان شعاره شعار رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: "يا منصور أَمِتْ"، واشتمل ديوانه -عَلَيْه السَّلام- على أسماء خمسة عشر ألفاً من أهل الكوفة، سوى من بايع دعاته في جميع البلدان فوفى من الخمسة عشر من أهل الكوفة خمسة آلاف([4])، ونكث الباقون، ووقع خروجه في أيام هشام بن عبدالملك -لعنه الله-.
___________________
([4]) - ثم لم يف من هؤلاء الخمسة الآلاف إلا مائتين واثني عشر كما ذكر ذلك أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين عن سعيد بن خثيم الهلالي أحد أصحاب الإمام زيد عليه السلام.

[السبب في خروج الإمام زيد(ع)]
وكان سبب خروجه عليهم ما أظهروا من المناكير، وارتكبوا من الفواحش والآثام، وعطلوا من شرائع الإسلام، وارتكبوا من إنتقاص محمد -عَلَيْه السَّلام- وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وذلك لما روينا أن زيداً -صلوات الله عليه- دخل على هشام -لعنه الله تعالى- وفي مجلسه يهودي من أعداء الله يسبّ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فنهر زيدٌ -عَلَيْه السَّلام- اليهودي، وقال: (أولى لك يا كافر أما والله لو تمكنت منك لأختطفنّ روحك) ، فقال هشام -لعنه الله -: (مهٍ يا زيد لا تؤذ جليسنا)، فخرج زيد -عَلَيْه السَّلام- وهو يقول: (والله لو لم أكن إلاَّ أنا ويحيى ابني لأجاهدنَّهُ حتى أفنى)، فلما بلغ الكوفة يريد المدينة منطوياً على الخروج عليهم لزموه أهل الكوفة ؛ بل ردوه من القادسية وبايعوه، وكان من الأمر ما كان.

[صفة مخرجه(ع)، ومخرج أصحابه]
فخرج -عَلَيْه السَّلام- على بغلة شهباء، وعليه عمامة سوداء ، وبين يدي قربوس سرجهِ مصحف، والقراء والفقهاء محيطون به، والرايات والألوية تخفق على رأسه وأصحابه -عَلَيْه السَّلام- في أهبة جميلة وشارة حسنة ، وعدة كاملة، لم تر العيون أحسن منها، وهو يقول -عَلَيْه السَّلام-: (أيها الناس أعينوني على أنباط أهل الشام فوالله لا يعينني أحد عليهم إلا رجوت أن يأتي يوم القيامة آمنا حتى يجوز على الصراط ويدخل الجنَّة، والله ما وقفت هذا الموقف حتى علمت التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه والحلال والحرام بين الدفتين)، ثم سار حتى انتهى إلى الكناسة فحمل على جماعة من أهل الشام كانوا بها. ثم سار إلى الجبانة ويوسف بن عمر -لعنه الله- مع أصحابه على التل، فحمل عليهم -صلوات الله عليه- كأنه اللَّيث المغضب، فقتل منهم أكثر من ألفي قتيل بين الحيرة والكوفة، وقسم أصحابه فرقتين: فرقة بإزاء أهل الكوفة، وفرقة بإزاء أهل الحيرة، بعد أن لزمت عليه الكوفة، وبلزوم الكوفة تواهن أمره -عليه السلام-، وكان خروجه يوم الأربعاء للتاريخ المتقدم، وهو كاره للخروج في ذلك الوقت، ولكنه عجل بالخروج لَمّا اشتد عليه الطلب وخاف أن يوقف على مكانه وهو منفرد عن أصحابه فقاتل الأربعاء والخميس والجمعة نال منهم يوم الأربعاء والخميس أكثر ممَّا نالوا منه -عَلَيْه السَّلام- لأنه قتل يوم الأربعاء من ذكرنا، وقتل يوم الخميس من فرسانهم أكثر من مائتين.

[مقتله(ع)]
فلما كان يوم الجمعة كثر في أصحابه الجراح واستبان الفشل ودخل من ضعفت بصيرته المصر بعد أن عقد لمن تأخر عنه -عَلَيْه السَّلام- الأمان، فثبت معه -عَلَيْه السَّلام- أهل البصائر -رحمة الله عليهم- فما زالوا يساقون الأعداء كوؤس الموت دون إمامهم إلى غسق الظلام، فرجعت الجنود الظالمة إلى مراكزها وانجلت الحرب عن الإمام -عَلَيْه السَّلام- جريحاً، وأهم ما كان فيه -عَلَيْه السَّلام- سهم وقع على([5]) جبينه وهو الذي كانت فيه وفاته -صلوات الله عليه- من قتيل ما أكرمه على الله، ورحم أصحابه الصابرين من عصابة ما أحبها لله وأنصحها وأعرفها بفضل عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
ومن طرائف كلامه -عَلَيْه السَّلام- في حال القتال: أنه لَمّا رأى المتسللين من أصحابه الذين لا بصيرة لهم قال: (أحسبهم فعلوها حسينيَّة).
وفضله -عَلَيْه السَّلام- وفضل أتباعه -رحمة الله تعالى عليهم- ظاهر، ولو لم يكن فيه إلاَّ ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى الحسين بن علي : أن أباه علياً -عَلَيْه السَّلام- أخبره "أنه يخرج في ذريته رجل إسمه زيد، فيُقتل فلا يبقى في السماء ملك مُقرب ، ولا نبي مرسل ، إلاَّ تلقى روحه يرفعه أهل كل سماء إلى سماء وقد بلغت، يبعث هو وأصحابه يتخلّلون رقاب الناس يقال: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق([6])" فلو لم يكن غير هذا الخبر لكان فيه كفاية لكل ذي بصيرة.
_________________
([5])ـ في (ن): في.
([6]) ـ رواه الإمام أبو طالب في الأمالي (106)، والإمام الهادي في كتاب معرفة الله عز وجل بلفظ مقارب (60).

[بيان وجه ذكر الإمام (ع) لآبائه (ع)]
ووجه ذكرنا لآبائنا -عَلَيْهم السَّلام- وأتباعهم -رحمة الله عليهم- وذكر طرف من أيامهم وقتالهم تبيين فضلهم -عَلَيْهم السَّلام- وفضل أتباعهم بإتِّباعهم؛ لأنهم لولا اعترافهم بفضلهم وتفضيلهم على نفوسهم ؛ بل على جميع الخلق، ما بذلوا بين أيديهم مهجهم، ولا عرضوا للسفك دماءهم، فهم عندنا اليوم وغداً عند الله -تعالى- صلحاء الأُمَّة لإخلاص مودتهم أهل هذا البيت الشريف المخصوص من الله -تعالى- بالتشريف.
والأخبار في زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- أكثر من أن نأتي عليها في مثل هذا الكتاب وميلنا إلى الإختصار، وقد أوضحت لك أن إنكار فضلهم أصل للتخلف عن الجهاد بين أيديهم ؛ بل أصل للإنكار عليهم أفعالهم وتخطئة من تابعهم، فنعوذ بالله من الضَّلالة بعد الهدى، وسلوك مسلك الردى.
[ذكر وقعة أحجار الزيت للإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية(ع)]
[47]
ولستُ أَنْسَى صَاحِبَ المدِيْنَهْ .... ونَفْسَهُ الزاكيةَ الأمينَهْ
لَمّا حَمَى عَنِ الطغاةِ دِيْنَهْ .... ونصَّ للبيضِ الظبا جبينَهْ

[ذكر طرف من أمر الإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله (ع)]
(صاحب المدينة) ها هنا: هو أمير المؤمنين محمد بن عبدالله النفس الزكيَّة، وأبوه عبدالله ؛ يعرف بالديباج([7]) بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -عليهم السلام-، يكنى أبا القاسم، وقيل أبو عبدالله، وأمه هند بنت أبي عُبيدة بن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن عبدالمطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن لؤي بن غالب، حملت به -عليه السلام- أربع سنين، وكانت أمه -عليها السلام- هذه من كوامل النساء، وكان جدها زمعة بن الأسود([8]) أحد أزواد الركب من قريش وهم ثلاثة: أحدهم زمعة، والثاني: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس([9])، والثالث: أبو أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، فهؤلاء الثلاثة من قريش يسمون أزواد الركب، ما كان أحدٌ يأخذ منهم زاداً في طريق ولا يدعونه طالت السفرة أم قصرت، قَلَّ الناس أم كثروا، فسموا لذلك أزواد الركب. ففي الحديث: أن أبا هند، وهو عبدالله أبو عبيدة بن عبدالله لما مات جزعت عليه جزعاً شديداً، وكان ـ أيضاً ـ من أجود العرب،
__________________
([7]) - الظاهر أن لعبدالله بن الحسن (ع) لقبين أحدهما الكامل والثاني الديباج ويدل عليه قول الشاعر :
هلا كففتم عن الديباج ألسنتكم ...إلخ.
كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم.
([8]) - زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، يكنى أبا حكيمة ، كان من أشراف قريش ، كان يدعى زاد الركب ، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان من الكافرين المؤذين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقتل يوم بدر كافراً قتله أمير المؤمنين علي عليه السلام شرح نهج البلاغة (13/10).
([9]) - مسافر بن أبي عمرو (اسمه ذكوان) بن أمية بن عبد شمس ، شاعر من أشراف بني أمية وساداتهم وأجوادهم في الجاهلية ، نشأ بمكة ، ووفد على النعمان بن المنذر فأكرمه وجعله من خاصة ندمائه ، وكان صديقاً لأبي طالب في الجاهلية . الأعلام (7/213).

وكان ممن تفضل عليه من الشعراء محمد بن بشر، فلما كان ذلك قال عبدالله بن الحسن -عَلَيْه السَّلام- لمحمد بن بشر هذا: إن هنداً قد جزعت على أبيها فقل أبياتاً تسليها بهنَّ عنه وتعزيها، فقال: قد فعلت، فقال: قم وأسمعها إياها، فدخل عبدالله -عَلَيْه السَّلام- وهو معه فاستنصتهم له فأنصتوا ولا يدري -عَلَيْه السَّلام- ما قد قال، فقال:
إذا ما ابن زاد الركب لم يمس نائياً .... قفا صفر لم يقرب الفرس وابرُ
فقومي اضربي يا هند عينيك أن تري .... أباً مثله تُنمى إليه المفاخرُ
وكنت إذا ما شئت سُميت والداً .... يزين كما زان اليدين الأساورُ
وقد علم الأقوام أن بناته .... صوادق إذ يندبنه وقواصرُ
فضجَّت بالبكاء وجواريها، وجعل محمداً الشاعر يصيح - أيضاً -، فقال له عبدالله -عليه السلام-: (يا عدو الله دعوتك تعزيها فهيجتها على البكاء، فقال: وبما كنت عسى أن أعزي بنت زاد الركب من يعزيني أنا عنه، لا والله لا أُعَزِّي عنه، ولكن آمر بالحزن عليه، وأحض على ذلك) ، ولم يكن ذكر هذا من غرضنا ولكن الكلام ذو شجون، وهذا تنبيه لأهل العقول أن المخالفين لنا لا يعلمون من علم آبائنا إلاَّ ما فاض عنا، فكيف ينصبون نفوسهم لمخالفتنا لولا صلابة الوجوه وارتفاع الحشمة من أكثر أهل الزمان؟، والله تعالى المستعان.
[صفته(ع) وتسميته]
وكان -عَلَيْه السَّلام- آدم شديد الأدمة، له شامة بين كتفيه تشبه شامة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
ويسمى: صريح قريش لجمعه بين شرف الأمهات إلى شرف الآباء، هذه أمُّه التي قدمنا ذكرها، وجدته أم أبيه فاطمة بنت الحسين بن علي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيدالله، وجدته فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- سيدة نساء أهل الجنَّة، وفاطمة بنت أسد جدته أم أبيه علي ابن أبي طالب -عَلَيْهما السَّلام-، كانت من خيرات النساء، وقد قدمنا ذكرها، ولم يجتمع لأحد من آل النبي غيره -عَلَيْه السَّلام- هذه الأمهات، وهو أول قائم من آل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على بني العباس،

وكان قيامه في دولة عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس([10]) الملقب بالمنصور، المكنى بأبي جعفر، وكان -عَلَيْه السَّلام- جامعاً لخصال الإمامة من العلم، والورع، والسخاء، والشجاعة، والفضل، والزهد، والقوة على تدبير الأمر ؛ بل كان فيه -عليه السلام- من كل واحدة من هذه الخصال فوق ما يجب إعتباره في الإمامة ؛ لأنه لم يعلم من أحد من فرسان العرب أنه نكى نكايته، ولا قاتل قتاله بعد جده علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، وكان خطيباً مصقعاً ، إستتر أكثر دهره في آخر أيام بني أميَّة وأول أيام بني العباس، وكان أهل البيت مجمعين على إمامته قد بايعوه مراراً ، ولم يتمكن من الخروج لظهور أمر الظالمين، حتى كان أبو جعفر هذا فيما يروى ممن بايعه قبل مصير الأمر إلى بني العباس، وبنوا العباس يومئذٍ لا يطمعون بشيءٍ من الأمر إلاَّ من تحت أيدي العترة، فاعجب في المقادير، ولعمري إن مصير الأمر إليهم كان مثل الإختلاس ؛ لأن ظهورهم، بزعمهم، كان للطلب بثأر زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- حتى انتظم لهم الأمر واجتمعت إليهم الشيعة، فلما تمكنوا أضافوا الأمر إلى أنفسهم ورفضوا العترة ؛ بل قتلوا الأئمة والأعيان، وأعانهم على ذلك جنود الشيطان، ممن أجزلوا له العطايا من الحرام، وملأوا يديه من الحطام.
_______________
([10]) ـ تقدمت ترجمته.

50 / 63
ع
En
A+
A-