والحمد: لا يفتقر إلى ذلك، فمن عَظَّمَ غيره ولم يذكر منه نعمة عليه كان حامداً ولم يكن شاكراً.
و(المهيمن): هو الشاهد.
و(المنان): هو المعطي، والعطيَّة: هي المنَّة، و(المن): هو العطاء بغير تنغيص ولا تكدير.
(الطول): هو إتساع القدرة وتمكن البسطة.
(العزة): هي المنَعَة، والتعزز: التمنع، والعزيز: هو الممتنع الجانب.
(والسلطان): هو القدرة ها هنا.
(والجم من كل شيءٍ): هو الكثير، (والنوال): هو العطاء، (والبسط): هو التوسيع.
ومعنى الإحسان والإنعام: واحد.
(الشدق): هو شق الفم، قال بعض الصالحين: (إن من شَقَّ الأشداق، تكفل بالأرزاق)، (واللسان): هو العضو المخصوص المعروف.
(والتقريظ): -بالظاء معجمة من أعلى-: هو المدح والتعظيم بالقول،.
(والسؤال): هو الطلب، وهذه صفة الباري -سبحانه- مع الخلق، فما به مخلوق إلا وقد أحسن إليه بغير مدح ولا طلب، فسبحانه من كريم ما أعظم أياديه، ومتفضل ما أسوأ أدب من يعاديه.
[باب إثبات الصانع]
[2]
مُرَكِّبِ الأرواحِ في الأجسامِ .... مُجرِي الرياحِ مُنْشئِ الغمامِ
كالبُركِ مِنْ سائمةِ الأنعامِ .... مِنْ الحنينِ الجمِّ والارزامِ
فَاعتَبِري يا أُمَّةَ الضَّلالِ
(الأرواح) ها هنا: جمع روح، والروح: هو النفس المتردد في مخارق الحي عند أهل العلم واللغة، ومنبعه من القلب، وليس للإتساع في ذكره ها هنا وجه، وقد قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (صلوات الله عليه)([33]): (وعلق في صدره قلباً، وركب فيه لباً، وجعله وعاء للعقل الكامل، وحصناً للروح الجائل).
_________
([33]) - ذكره الإمام الهادي في كتاب المسترشد ص191 من المجموعة الفاخرة - مطبوع بعنوان: مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي عليه السلام-...

[ذكر طرف من كلام الناس في الروح والعقل]
وإذا قد ذكرنا الروح والعقل فلنذكر طرفاً من كلام الناس فيهما: إذْ قد وقع بين الناس في أمرهما إختلاف.

[الإختلاف في الروح]
إعلم: أن من الناس من نفى أن يقع العلم لأحد من المكلفين بماهيَّة الروح، وتعلق بظاهر قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)} [الإسراء]، مع قولهم: إن الروح أمر واحد.
وفي الناس من يزعم أن في الإنسان نفوساً وأرواحاً، وأن النفوس نامية، وحسية، وشهوانية، وناطقة، وغضبية، وأرواح وقوى، وجواهر بسيطة لا حجم لها ولا كثافة فيها، وكل واحدة لها عمل عندهم، فالنامية تنمي النبات والحيوان، والحسية بها تدرك المدركات، والشهوانية بها تراد المرادات، وبها يطلب الغذاء والمؤانسة والمحافظة، والناطقة بها تحصل العلوم والمعارف، ولا خلاف بين أهل هذه المقالة أن الإنسان إذا مات وذوي الشجر تلاشت هذه النفوس، فلا إعادة فيها أصلاً إلا الناطقة فقد وقع بينهم الخلاف فيها : فمنهم : من قال بتلاشيها، ومنهم من قال تبقى لا في شبح ويستحيل عليها الفناء، وهذا القول ينسب إلى قوم من الأوائل، وربما قال به قوم من الباطنية([34])، وإن كانوا لا يثبتون على قول يستمر حكايته عنهم، إلا أنهم يقولون: إن الذي فينا بعض من كل، فإذا تخلصت الأرواح من الأجساد لحقت العوالم من هذه بعالمها وبقيت بقاء لا انقطاع له وصارت مَلَكاً وصورة روحانية، والجواهر تحير ولا تهتدي المسالك، فتبقى تحت الفلك في حيرة، وهذا قريب من قول بعض الفلاسفة في النفوس وإن لم يحصلوا ذلك التحصيل، والكل عندنا باطل بما يأتي إن شاء الله -تعالى- من الدليل على إثبات صانع موصوف بصفات الكمال، عدل حكيم، بعث فينا رسولاً، لا يجوز عليه الكذب، أخبرنا بالأمور مفصلة، فوجب علينا القول وترك التَكَمُّه([35]) بغير دليل، فحينئذٍ الكلام في هذه المسألة ينحسم([36]) بالكلام في ذات الباريء وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز في ذاته وأفعاله وأحكام أفعاله، وأن ما يدعون من النفس الكلي والعقل الأول لا أصل له، إذ لا طريق من طرق العلم يوصل إليه.
__________
([34]) - الباطنية: فرقة من الفرق التي تنتحل الإسلام وهم في الحقيقة خارجون عن الدين، لإنكارهم الخالق تعالى وإنكارهم المعاد الجسماني وأصول مذهبهم تعود إلى مذاهب الفلاسفة والمجوس وهم من أعظم الفرق ضرراً ومكيدة لأن مذهبهم لايكاد يعرف، لتسترهم وإحداثهم كل وقت مذهباً، وفشا مذهبهم بعد مائتين من الهجرة أحدثه عبدالله بن ميمون القداح وكان مجوسياً تستر بالتشيع ليبطل الإسلام، وسموا الباطنية لدعواهم أن لكل ظاهر باطناً، ويقال لهم الإسماعيلية والقرامطة والمزدكية والتعليمية والملحدة، والباطنية أشهر ألقابهم، ولهم أقوال وخرافات لايسع المقام إحصاؤها وحصرها. الملل والنحل للإمام المرتضى 103، للشهرستاني 1/142، النبذة المشيرة.
وقد رد عليهم الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- في مشكاة الأنوار الهادمة لمذهب الباطنية الأشرار، وكتاب الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام، وكذلك الفقيه العلامة محمد بن الحسن الديلمي في قواعد عقائد آل محمد، وقد طُبِع منه الجزء الذي في الردّ عليهم.
([35]) ـ التكمه: الدخول في الشيء بغير حجة ولا دليل، تمت.
([36]) ـ ينحسم بمعنى ينقطع.
......

فأما النمو فإنما يقع بزيادة الباريء في الأجسام، وإنما اختص الحيوان والنبات لأنه -سبحانه- أجرى بذلك([37]) وجود الحياة وهي المصححة للشهوة والنفرة، والداعي يشمل الأمرين.
وفي الناس من زعم أن الروح في الإنسان الدم وفي كل حيوان، وجعل الروح غير النفس الناطقة، وهذا يروى عن جالينوس، وعمدته: أن الإنسان يموت بنزف الدم وتفريغه منه.
ومنهم من يزعم أن الروح في قلب الإنسان وهو([38]) حي عالم، وهذا يروى عن النظَّام([39]).
ومنهم من يزعم أن الروح جسم لطيف مؤلف تأليف الإنسان إلا أنا لا نراه، وهذا القول يروى عن قوم من الإمامية وأصحاب الحديث.
ومنهم من يقول: إنها خلقت قبل هذه الأجساد وعرض عليها التوحيد لقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، إلى خرافات ينسبونها إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا طريق إلى تصحيحها، ولا مُلجئ إلى الكلام فيها.
فأما هذه الآية في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}[الأعراف:172] فظاهرها يقضي بتقدم الأجساد على الأرواح؛ لأن الظهور لا يكون إلا في الأجساد، فإذا أخرجت منها فهي قبلها، والأصل في تشعب هذه المقالات إهمال العقول، وإطراح الدليل، ومخالفة الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في أمر هذه الأمة بالرجوع إلى أهل بيت نبيها، الذين شهد لهم بملازمة الكتاب، إلى يوم الحساب، وأخبر أن فيهم العلم والصواب؛ لأن أهل هذه المقالة لايجدون إلى ما يدعون منها دليلاً، ولا يهتدون له سبيلا، ولو كان لهم دليل أو شبه([40]) دليل لتكلمنا عليه، فالحمد لله الذي جعلنا لذلك أهلاً، وموضعاً ومحلاً، وكفى بالمذهب فساداً أن لا يقوم عليه دليل.
_____________
([37]) ـ في (ن، م) زيادة: العادة، فلا تفتقر والحال هذه إلا إلى إرادة الحكيم تعالى والإحساس يكفي فيه وجود الحياة.
([38]) ـ الضمير عائد إلى الروح؛ لأن النظام يقول: إن الروح مستطيع بنفسه، حيٌّ بنفسه، وإنما يعجز لآفة تدخل عليه، والعجز عنده جسم كما ذكر ذلك عنه عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفِرَق ص136
([39]) - النظام: هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام البصري المعتزلي يقال: هو مولى، قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في شرح الملل والنحل، قيل: إنه كان لايكتب ولايقرأ وقد حفظ التوراة والإنجيل والزبور مع تفسيرها، قال الجاحظ: مارأيت أحداً أعلم بالفقه والكلام من النظام، وهو من الطبقة السادسة من المعتزلة، انتهى.
وسمي نظاماً لأنه كان ينظم الكلام، وقيل كان خرازاً ينظم الخرز توفي سنة بضع وعشرين ومائتين.
([40]) ـ (ن، م): شبهة.....

[أقوال العلماء في الروح]
فأما قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، فللعلماء فيه أقوال كلها توافق أدلة العقول.
منها: أنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لما ادعى النبؤة وأنكرت قريش ذلك فزعوا إلى اليهود لأنهم أهل الكتاب، فقالت لهم اليهود([41]): إسألوه عن ثلاث مسائل: عن أصحاب الكهف([42])، وذي القرنين([43])، وعن الروح ما هو؟
_____________
([41]) ـ هذا الخبر: رواه ابن إسحاق في المغازي مطولاً، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن هشام في السيرة مطولاً ج1/ 329، والواحدي في أسباب النزول (590) والزمخشري في الكشاف ج2/ 645 في تفسر سورة الإسراء.
والسؤال عن الروح بمفرده صح من حديث ابن مسعود عند البخاري (125) و(4721) و(7297)، ومسلم (2794)، والترمذي في التفسير (5/304) رقم (3141) وقال: حسن صحيح غريب، وأحمد (1/444) و(445)، وابن حبان (98)، والحاكم في المستدرك (2/531) وصححه ووافقه الذهبي، والنسائي في السنن الكبرى (11314) عن ابن عباس، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس (6/62) رقم (8002).
([42]) ـ أهل الكهف، هم: الفئة المؤمنة التي قص الله تعالى قصتهم في سورة الكهف، وكانوا في زمن ملك طاغية يقال له دقيانوس يعبد الأصنام، ويذبح لها، ويقتل من دان بغير ذلك، وكان ينزل قرب الروم فلا يترك أحداً ممن يخالف ملته إلا قتله، وكانت قرية أهل الكهف من قرى الروم تسمى أقسوس، وكان دقيانوس منها، وكانوا أولاد جماعة من أشراف قومه خرجوا وناموا، وكانوا قبل عيسى -عَلَيْه السَّلام-وانتبهوا بعده في زمن ملك صالح يقال له بيدوسيس وكان مؤمناً، ولبثوا في الكهف ثلاثمائة سنة وتسع سنين كما حكى الله في القرآن، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وكانت أسماؤهم: يمليخا، ومكشليتيا، ومشلينيا، وهؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش، ودبرنوش، وشادنوش، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم، وكان إسم الكلب قطمير، ويقال: إن الكهف قريب من الأردن. انظر: سلوة الأولياء للإمام أحمد بن يحيى المرتضى - خ -، الكشاف للزمخشري تفسير سورة الكهف.
([43]) ـ ذي القرنين: عن علي -عَلَيْه السَّلام-: (إن ذا القرنين لم يكن نبياً، ولكن عبداً صالحاً أحب الله وأحبه الله، وناصر الله فنصره الله، فضربوه على قرنه، فمكث ما شاء الله، ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر، وإنما سمي ذو القرنين؛ لأنه المضروب على جانب رأسه)، رواه في البرهان في تفسير القرآن للإمام أبي الفتح الديلمي.
قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى عليه السلام في كتابه (سلوة الأولياء في معرفة سيرة الأنبياء) : واختلف في ذي القرنين وأهل الكهف هل كانوا قبل عيسى أم بعده ؟ والصحيح أن ذا القرنين كان قبله قيل : رأى في النوم أنه لازم بقرني الشمس أي جانبيها فسمي ذا القرنين وقيل : لانتمائه إلى قرني الأرض أي طرفيها، وقيل : كان له كقرني الظبية من ذهب، وقيل : من نحاس، قال نشوان : هو من حمير، قال ابن إسحاق : هو رجل من أهل مصر واسمه مَرّزبا بن مَرْزَبه اليوناني من أولاد يونان بن يافث بن نوح، وقيل : بل هو الإسكندروس من الروم ابن العجوز لا ولد لها غيره، وقيل : إنه ملك بدليل أن عمر بن الخطاب حين سمع رجلاً يدعو ولده يا ذا القرنين فقال : ما كفاكم أن تسموا أولادكم بأسماء أولاد الأنبياء حتى تعديتم إلى أسماء الملائكة، والصحيح الأول.
وحكى في كتاب التيجان أنه كان كافراً وأسلم على يدي الخضر عليه السلام وقيل كان نبياً. ومن حكايات الإسكندر أنه مر بقوم صالحين قبورهم على أبوابهم ولا أبواب على بيوتهم، ولا لهم أمير ولا قاضي ولا فيهم غني ولا فقير ولا يتفاضلون ولا يقحطون فتعجب وسألهم عن ذلك ؛ فقالوا : أما القبور فقربناها لئلا ننسى الموت، وأما ترك الأبواب فلأنه لا خائن فينا، وأما الأمير والقاضي فلأن كلامنا يوفي ما عليه ولا يتعدى على غيره، وأما الغنى والفقر فلأنا لا نرى التكاثر بل نحب المساواة، وأما عدم المفاضلة فلأنا متواصلون متراحمون لا يرى أحد لنفسه فضلاً على غيره، وأما عدم القحط فلأنا لا نغفل عن الاستغفار. قال : فهل كان آباؤكم كذلك ؟ قالوا : نعم، قال: لو كنت مقيماً لأقمت معكم. وأما أهل الكهف فالأصح أنهم خرجوا قبل عيسى وانتبهوا بعده. انتهى.

فإن أجاب عن الجميع فهو كاذب، وإن كف([44]) عن الجميع فهو كاذب، وإن أجاب عن أصحاب الكهف وذي القرنين وأجمل الجواب عن الروح فهو نبي صادق، فأتوا إليه فسألوه، فأمره الله بما حكى في كتابه، وأمسك عن الروح، فلزمت الحجة لله -تعالى- ولرسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الفريقين من قريش واليهود، ولا يمتنع في الحكمة أن يصرفه عن الجواب فيما يعلم الله لحصول مثل هذا الغرض العظيم، كما منع زكريا عن الكلام آية له وقد كان مقدوراً له قبل ذلك.
ومنها: أنهم لما سمعوه يقرأ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ:38]، قالوا: ما هذا الروح الذي يقوم صفاً والملائكة صفاً؟!
فأخبرهم أنه خلق من خلق الله عظيم، فاستعظموا ذلك، فأمره الله -تعالى- أن يجيبهم عن إستعظامهم بقوله : هو {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، أي من خلق ربِّي، لأن الأمر قد يعبّر به عن الخلق يقول: هذا أمر عظيم، كما يقول: هذا خلق عظيم، يقول: ربِّي قادر لذاته، فلا يمتنع عليه ما يشاء فلا تستعظموه، فليس على قدرته عظيم.
ومنها: أنهم لما سمعوا قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)} [الشعراء]، قالوا: من هذا الروح؟! وما صفته؟!
فأمره الله أن يجيبهم بقوله: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء:85].
ومنها: أنه لما سمَّى الله القرآن روحاً بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}[الشورى:52]، سألوه عنه، وأمره الله -تعالى- بإضافته إليه، وأنه لم يأت به من تلقاء نفسه.
___________
([44]) ـ في (ن، م): وإن كف عن الجواب على الجميع.

وقد رأيت لبعض آبائنا صلوات الله عليهم أقوالاً تدل على تبقية الجواب فيه على الإجمال في هذه الآية إتباعاً للظاهر، فإذا سئلوا عن تفصيله أجابوا بما قلناه أولاً كما حكيناه عن الهادي -عَلَيْه السَّلام-.
ولا فرق عند أهل الشريعة بين الروح والنفوس، وطريقهم إلى العلم بذلك السمع من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ}[الأنعام:93]، أجمعوا أن المراد بذلك أرواحهم، وإن كان لفظ النفس يخرج على معان([45]) كثيرة لا يحتمل هذا المختصر الكلام فيها.
____________
([45]) - النفس الروح: يقال خرجت نفسه، والنفس الدم يقال: سالت نفسه، وفي الحديث: ((ماليس له نفس سائلة فإنه لاينجس الماء إذا مات فيه)) والنفس الجسد، ويقولون ثلاثة أنفس فيذكرونه لأنهم يريدون به الإنسان، ونفس الشيء عينه يؤكد به يقال: رأيت فلاناً نفسه وجاءني بنفسه. تمت مختار صحاح.
وزاد في القاموس من معاني النفس: العين يقال: نَفَسْتُهُ بنفس، أي: أصَبْتَهُ بعين، والعظمة، والعزة، والهمة، والأنفة، والإرادة، والعقوبة. تمت.
قال الأمير الحسين بن بدر الدين -عَلَيْه السَّلام- في ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة: أما النفس فإنها تقع على معان منها:
الدم ولذلك سميت المرأة نفساء، ونفست بخروج الدم عنها عقيب الولادة.
وثانيها: بمعنى الروح قال تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93]، أي أرواحكم.
وثالثها: الأنفة يقال لفلان نفس: أي أنفة.
ورابعها: بمعنى الإرادة والشهوة يقال: نفسه في كذا أي: إرادته وشهوته.
وخامسها: بمعنى العين التي تصيب الإنسان يقال: أصابت فلاناً نفس أي: عين.
وسادسها: مقدار الدبغة يقال: جعلت هذا الأديم نفساً أو نفسين من الدباغ.
وسابعها: نفس الإنسان وغيره الذي تكون به الحياة قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون}.
وثامنها: أن يكون إخباراً عن ذات الشيء وعينه فيقال: نفس الرأي وعين الرأي أي: ذاته، ويكون ذلك تأكيداً وتحقيقاً للكلام، انتهى كلامه.

والروح في الشريعة ورد أيضاً في المعاني([46]) التي قدمنا ذكرها إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان لم يفد إلا ما ذكرنا.
فأما من طريق العقل: فقد تقرر في العقول أن الحي بحياة لا يكون حياً إلا لمعنى يحلُّه وأن ذلك المعنى لا بد له من شروط ولوازم: منها: ما هو ثابت بمجرى العادة من القديم سبحانه، ومنها: ما يجب حصوله ولا بد منه من جهة العقل، وموضع تفصيل الكلام في هذا كتب الكلام البسيطة فلا وجه لذكره ها هنا.
____________
([46]) - المعاني التي يطلق عليها الروح في الشريعة هي: النفس، والقرآن، وعيسى بن مريم عَلَيْه السَّلام، وجبريل -عَلَيْه السَّلام-، والوحي، والنفخ، وأمر النبوة، وحكم الله تعالى وأمره. تمت من القاموس.
وإذا أضيف إلى الإنسان لم يفد إلا معنى النفس.
---

[الكلام في العقل وماهيته]
فأما الكلام في العقل وماهيته:
فالكلام فيه يقع بيننا وبين قوم من الأوائل([1]) والمنجمين([2]) وأصحاب الطبائع([3]) في ثلاثة وجوه:
في محدثه، هل هو مختار أو موجب؟
وفي ذاته، ما هي؟ وفيه هل يحل أم لا يحل؟، وإن حل فأين محله؟
فأما تسميته، فالأمر فيها فيما يخص الإنسان أهون، ولكن يعظم في مدبر العالم؛ لأن من الأوائل من زعم أن المدبر جوهر بسيط يعلم ذاته ويعلم ما دونه جملة وتفصيلاً، ولا يعلمه مفصلاً إلا هو، فلإحاطته بالأشياء سمي عقلاً، وربما عبروا عن النفس بالعقل الثاني، كما أن العلة في النفس هي العقل الأول، فإذا كان ذلك كذلك لم يمتنع ما قالوا، بل وجب أن نُسمّي ما به يَعلمُ الإنسانُ نفسَه، وما يشاهده، وما ينهيه إليه الدليل، وما يتسق به التدبير عقلاً، ونحن لا نسلّمه ؛ لأن الأسامي المعتمدة شرعية ولغوية، ولا دليل في الشرع على تسمية الباريء -سبحانه- عقلاً، ولا في اللغة على ما يأتي بيانه، وكل ما لا دليل عليه يجب القضاء بفساده، ولا يترجح إثباته على نفيه، فسقط.
وفيهم مَنْ يقول: ما في الإنسان من العقل -مع الإختلاف في حلوله ومحله وما هيته- جزء منه -أعني من العقل-.
ومنهم مَنْ يقول: أثر منه.
__________________
([1]) ـ الأوائل: هم الفلاسفة.
([2]) ـ المنجمون: هم القائلون بالنجوم، وهي في أصل اللغة الظهور يقال: نجم الشيء إذا ظهر، وفي عرفها الكواكب. وهم القائلون بتأثير النجوم، ويجعلونها عللاً وأسباباً تؤثر في الأبدان والأنفس على زعمهم وافترائهم، وهي أحد الفرق الكفرية التي أنكرت الصانع جل وعلا، وقد ذكر المؤلف -عَلَيْه السَّلام- كثيراً من أقوالهم وافتراءاتهم، وذكر الرد عليها في عدة مواضع. انظر الملل والنحل للإمام المرتضى 76.
([3]) - الطبائع: المراد بها: الماء والنار والأرض والريح.وأصحاب الطبائع هم الفلاسفة، ومن قال بقولهم من الباطنية، والمطرفية، وغيرهم وهم كل من أضاف التأثير إلى الطبع.

فأمَّا أهل النجوم: فيضيفون السداد من الأمور، وما نسميه عقلاً، إلى تأثيرات الكواكب، وسعادة الموالد في أصل الخلقة.
وأما أصحاب الطبائع: فأضافوا العقل الحاصل للعاقل أو فيه - على حسب الخلاف في ذلك - إلى إعتدال المزاج على غاية الكمال، فحينئذٍ تتولد هذه القوة المميزة على قدر الإعتدال في الكمال والنقصان، وهي التي سميت عقلاً.
[ذكر قول أهل الحق في بيان العقل]
والذي ذهب إليه أهل الحق من الأئمة الأعلام -عليهم أفضل السلام-، والمحصِّلون من علماء أهل الكلام : أن العقل مجموع علوم يحدثها الله -تعالى- في الإنسان من أول نشوئه إلى لزوم التكليف له شيئاً بعد شيءٍ فإذا كملت كمل عقله، وإن لم تكمل لم يكمل عقله، وإن لم تحصل فلا عقل له، وإن حصل بعضها دون بعض فهو ناقص العقل([4]).
فمنها: أصول لا بد من حصولها لمن أراد الحكيم، سبحانه، تكليفه.
ومنها: زيادات يختص بها من يشاء من عباده كما قال سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:105]، فلولا ذلك لم يكن للآية معنى، ولا بد من ذكرها بمشيئة الله، سبحانه وتعالى، أولاً، ثم نعقبه بالدليل على صحة ما نذهب إليه فيها.
[بيان علوم العقل الموصلة إلى معرفة الله -تعالى-]
إعلم: أن أول علوم العقل التي يصح بها الوصول إلى معرفة الله -تعالى- علم الإنسان بنفسه وأحوالها؛ من كونه مشتهياً ونافراً، ومتألماً وظاناً، وعالماً بالشيء أو جاهلاً له، أو قاطعاً أو مجوزاً، إلى غير ذلك مما يعلمه كل عاقل من أحوال نفسه، فهذا أول ما يحصل، ثم يترتب عليه ما نذكره.
ثم بعد ذلك العلم بالمشاهدات، لأن العلم بالغير فرع على العلم بالنفس.
ثم بعد ذلك العلم بأن النفع حسن إذا تجرد عن المضار في الحال والمآل، وأن الضرر قبيح إذا تجرد عن المنافع في الحال والمآل، ويتصل بذلك العلم بأن لفعله به إختصاصاً لوقوفه على دواعيه حتى يمكنه الإعتذار من قبيحه، والإزدياد من حسنه، دون فعل غيره.
___________________
([4]) ـ في (ن): ناقص كلمة العقل.

ثم يتبع ذلك العلم بأحكام الأفعال: وهو أن الحسن يستحق عليه المدح، والقبيح يستحق عليه الذم.
ثم يتبع ذلك علم البدايه([5]): وهو أن العشرة أكثر من الخمسة، وأن المعلوم لا يخلو من كونه موجوداً أو معدوماً، وأن الموجود لايخلو من كونه قديماً أو محدثاً، وما شابه ذلك.
ثم يتبع ذلك العلم بمقاصد العقلاء في الأمور التي تنبيء عن التعظيم وعن الاستخفاف بشرط المشاهدة، والعلم بالمواضعة، فهذا مما تختلف أحوال العقلاء فيه، في البطء في معرفته والسرعة، ولا بد من حصوله لكل عاقل، ومن لم يحصل له فهو ناقص.
ويتبع ذلك العلم بمخبر الأخبار المتواترة؛ لأن من أخبرنا عن نفسه، أنه لا يعلم صحة قول الناس إن في الدنيا مكة وخراسان، وغيرهما من البلدان، وإن محمد بن عبدالله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لم يعلم صحة دعواه للنبوءة ومجيئه بالقرآن، ودعواه أنه معجزة له، وحجة على من خالفه، يعلم نقصان عقله، أو كذبه في قوله، ومن ذلك الذكر للأمور القريبة العهد العظيمة، وما تقدم من أفعاله الجلية نحو تنقله في البلدان، وحفظه لما يكثر درسه من العلوم، وهذا تختلف أحوال العقلاء في بعضه في البطء والسرعة، وبه يمتاز([6]) العقل المُوجب للتكليف، عن كل من كمل فيه ما تقدم ذكره، ولهذا إحتج بعض علماء أهل العدل على أهل التناسخ([7]) بأنا لو كنا في هياكل غير هذه الهياكل، وتصرفنا في الدنيا بأنواع التصرف؛ قبل هذه البنية التي نحن فيها، لذكرنا ذلك؛ إذ ذكر مثل ذلك من تمام العقول، فلما لم نذكره والحال هذه قطعنا على بطلان ما قالوه، وبمثل هذا نقطع على أن مالنا وأهلنا هم([8]) الذين نشاهدهم، وإن جاز أن يخلق الله [تعالى] مثلهم ويسترهم عَنَّا ومن شك في ذلك استنقصنا عقله، ومن أهل العلم من جعل هذا من علم العادات، ورأيُنا ما ذكرنا؛ فهذه علوم إلاهية؛ لايمكن العاقل دفعها مع بقاء عقله.
_____________________
([5])- المراد بالبداية هنا: البديهة والجبلة.
([6]) ـ في (ن، م): تمام العقل.
([7]) - أهل التناسخ : قال بالتناسخ بعض الكفار وبعض من ينتحل الإسلام كالروافض، وأول من أحدثه فيهم رجل يقال له: أحمد بن حائط، وله جهالات خرج بها عن الإسلام، زعموا أن الروح تنتقل في الهياكل؛ فالمثاب يتلذذ؛ والمعاقب إلى بهيمة يتألم، وأنكروا البعث، إلى غير ذلك من الجهالات، انتهى من المنية والأمل شرح الملل والنحل. قال في كتاب الحور العين : وقال أصحاب التناسخ -منهم جمهر بن بختكان الفارسي ومن قال بقوله: بدوام الثواب والعقاب، فالثواب انتقال أرواح المحسنين إلى الأبدان الإنسية، والعقاب انتقال أرواح المسيئين إلى أبدان البهائم والسباع والهوام. انتهى.
([8]) ـ في (ن، م): وأهلنا الذين

5 / 63
ع
En
A+
A-