[حاله(ع) بعد وفاة معاوية]
وكان منطوياً على القيام بعد أخيه فلم يتمكن من ذلك في أيام معاوية لعظم سلطانه -لعنه الله- وكثرة أعوانه ، فلمَّا توفي معاوية أمر يزيد بن معاوية([60]) إلى الوليد بن عتبة([61]) ـ وهو والي المدينة من قِبَلِ معاوية، ومروان([62]) كالمظاهر له على الأمر ـ (أن خذ الحسين بن علي بالبيعة أخذاً ليس فيه هوادة) وكذلك العَبَادلَة([63]) في قصص شرحها يطول، فلم يتمكن الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام- من المقام في الدنيا بعد الإمتناع من البيعة، وكانت مطالبتهم له -عَلَيْه السَّلام- بالبيعة ليزيد يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، فخرج إلى مكة ودخلها يوم الجمعة لثلاث خلون من شعبان،
__________________
([60]) ـ يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الرجس الخبيث بايع له الناس بعد موت أبيه معاوية في شهر رجب سنة (60هـ)، وكان قد أخذ معاوية الناس على البيعة طوعاً وكرهاً، وكان يزيد سكيراً خميراً فاسقاً ظالماً يلعب بالقردة، وكانت أيامه تسمى الشؤم؛ لأنه قتل فيها ابن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الحسين بن علي وكفى به شؤماً وشناعة، وكذلك قتل من أولاد المهاجرين والأنصار ستة آلاف منهم ثمانين بدرياً في قتلى الحرة التي أباحها ثلاثة أيام قتل فيها الرجال والولدان واغتصبت النساء ونهبت الأموال، وكم له ـ عليه لعنة الله ـ من أعمال سوء يسود لها وجه التاريخ العربي والإسلامي وتوفي إلى لعنة الله وغضبه ونكاله في صفر سنة (64هـ) بموضع يقال له حوارين ودفن بدمشق.
([61]) ـ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب الأموي ، أمير من رجالات بني أمية ، ولي المدينة سنة (57هـ) في أيام معاوية ، فلما مات معاوية كتب يزيد إلى الوليد بأن يأخذ له البيعة على الحسين بن علي ، وعبدالله بن الزبير، ثم عزله يزيد عن ولاية المدينة سنة (60هـ) وجعله أحد رجال مشورته، ثم أعاده سنة (61هـ) وظل والياً عليها إلى أن مات بالطاعون سنة (64هـ) . الأعلام (8/121).
([62]) - مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون بنص رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من أخبث الناس سيرة، وألأمهم وأفسدهم سريرة، قام بالأمر بعد معاوية بن يزيد بن معاوية سنة أربع وستين توفي بالطاعون وقيل قتلته امرأته سنة خمس وستين.
([63]) ـ العبادلة هم: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.

ووردت عليه كتب أهل الكوفة يتلو بعضها بعضاً، حتى بلغت عُدة كثيرة وقُبضت له فيها البيعة، فلما كثر ذلك ورأى تعين الفرض عليه خرج من مكة سائراً إلى الكوفة لثمان خلون من ذي الحجَّة الحرام، وكان قد أنفذ على مقدمته من مكة مسلم بن عقيل([64])، فظهر مسلم بالكوفة داعياً إلى الحسين -عَلَيْه السَّلام- في هذا اليوم ، فتفرق الناس عنه بعد إجتماعهم عليه وأسلموه لعدوّه فقتل -رضي الله عنه- بعد قتال شديد وبلاء عظيم، وبعد أن أعطي الأمان، وقتل -عَلَيْه السَّلام- يوم الجمعة عاشر المحرم من سنة إحدى وستين، وقيل قتل يوم الإثنين وذلك عندنا غير سديد ، والقاتل له عمر بن سعد -لعنه الله - عن أمر عبيدالله بن زياد -لعنه الله-، فوصلوا إليه في أجناد كثيرة من أعداء عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد كان الحسين -عَلَيْه السَّلام- قاطعاً على حدوث ما كان، مستهوناً للموت في إظهار كلمة الحق.
_________________
([64]) ـ مسلم بن عقيل بن أبي طالب: من التابعين من ذوي الرأي والعلم والشجاعة والفضل، بعثه الحسين -عَلَيْه السَّلام- إلى الكوفة لما وردت عليه كتبهم ليأخذ له البيعة فبايعه خلق كثير ثم تخلفوا عنه وغدروا به فأمسك به عبيدالله بن زياد وقتله ثم رمى بجثته من على القصر سنة (60هـ).

[ذكر خروجه(ع) إلى العراق]
لأن في الحديث أنه -صلوات الله عليه- لما أراد الخروج إلى العراق خطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-. ثم قال: (إن هذه الدنيا قد تنكرت([65])، وأدبر معروفها، فلم يبق إلاَّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا ينهى عنه ، ليرغب المرء في لقاء ربِّه، فإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا شقاوة) فقام إليه زهير بن القين العجلي([66]) -رحمه الله تعالى- فقال: (قد سمعت مقالتك هديت، ولو كانت الدنيا باقية وكنّا فيها مخلدين، وكان في الخروج مواساتك ونصرتك لاخترنا الخروج منها معك على الإقامة فيها)، فجزاه الحسين بن علي عليهما السلام خيراً. ثم قال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى .... إذا ما نوى حقاً وجاهد مُسْلما
وواسى الرجالَ الصالحين بنفسه .... وفارقَ مثبوراً وحارب مُجْرما
فإن عشتُ لم أندمْ وإن متُّ لم أُلَمْ .... كفى بك داءً أن تعيشَ وتُرْغما
فهذا، كما ترى، دلالة على أن الموت كان أحب الأمرين إليه في ذات الله -تعالى- وإن لم يخرج معه -عَلَيْه السَّلام- إلاَّ من كانت نيته صادقة في نصرة آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، فلذلك قال:
ما هَالَهُم عِنْدَ القتالِ الزحفُ .... بل شهروا أسيافَهُمْ واصطفُّوا
__________________
([65]) - نخ (ن) : مكرت.
([66]) - زهير بن القين العجلي: كان من أصحاب الإمام الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام-، ومن الشهداء الذين سقطوا شهداء بين يديه رعاية لحرمة الله وحرمة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الذين ضحوا بأنفسهم رخيصة في سبيل الله رحمة الله عليه وعلى إخوانه الذين قتلوا معه.

[بداية المعركة وخطبة الحسين (ع)]
وذلك أن عمر بن سعد([67]) لما وافقهم في تلك العساكر الظالمة الكثيفة، ورتب عساكره مراتبها، وأقام الرايات في مواضعها، وعبَّأ أصحاب الميمنة والميسرة، وقال لأهل القلب إثبتوا، وأحاطوا بالحسين -عَلَيْه السَّلام- من كل جانب حتى جعلوهم في مثل الحلقة ، فعبى -عَلَيْه السَّلام- فئته الصابرة -رحمة الله عليهم- وتقدم أمامها حتى قرب من أصحاب عمر بن سعد فاستنصتهم فلم ينصتوا حتى قال: (ويلكم ما عليكم أن تنصتوا لي ، فاسمعوا قولي ، فإني إنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المؤمنين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاصٍ لأمري غير مستمع لقولي، فقد انجزلت عطاياكم من الحرام، وملئت بطونكم من الحرام ، فطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون، ألا تسمعون)، فتلاوم أصحاب عمر بن سعد ؛ فقالوا: (انصتوا له، فأنصتوا). فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-. ثم قال:
_________________
([67]) ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني ، تولى قيادة الجيوش الظالمة في قتل الحسين بن علي ، ولاه يزيد بن معاوية ، وجعل له ملك الري إن قتل الحسين فباع آخرته بدنيا غيره ؛ فلما قتل الحسين لم يف له يزيد ، وانتقم الله منه قبل أن يصل إلى ما تمناه من مُلك الري ، قتله المختار بن عبيد الثقفي حين خرج يتتبع قَتَلَة الحسين ، سنة (66هـ) بالكوفة . الأعلام (5/47) .

(تباً([68]) لكم أيتها الجماعة وترحاً([69])، أحين إستصرختمونا ولهين([70]) متحيرين ، فأصرخناكم موجزين([71]) مستعدين، سللتم علينا سيفاً في رقابنا، وحششتم([72]) علينا نار الفتن جناها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلباً([73]) على أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم، لغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلاَّ الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منا، ولا رأي ثقيل، فهلا لكم الويلات([74]) تجهمتمونا([75]) والسيف لم يشهر، والجأش([76]) طامن، والرأي لم يستخف، ولكن أسرعتم إلينا كطيرة الذباب، وتداعيتم كتداعي الفراش، فقبحاً لكم وترحاً ؛ فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأولياء، وملحقي العهَّار بالنسب، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمه المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين، وأنتم ابن حرب وأشياعه
________________
([68]) ـ التبُّ والتَّبَبُ والتباب والتبيب والتتبيب : النقص والخسار ، وتباً له مبالغة . تمت قاموس.
([69]) ـ التَّرَح محركة : الهم ، وككتف : القليل الخير ، وبالفتح : الفقر ، والمترَّح من العيش : الشديد، والمترح كمحسن من لا يزال يسمع ويرى ما لا يعجبه . تمت قاموس.
([70]) ـ الوله محركة : الحزن ، أو ذهاب العقل حزناً ، والحيرة والخوف . تمت قاموس.
([71]) ـ الوَجْزُ: السريع الحركة ، والسريع العطاء ، والخفيف في الكلام والأمر . تمت قاموس.
([72]) ـ حَشَّ النار : أوقدها . تمت قاموس.
([73]) ـ ألب القوم إليه: أتوه من كل جانب، والتألب كثعلب: الغليظ المجتمع من الناس. تمت قاموس.
([74]) ـ الويل : حلول الشر . تمت قاموس.
([75]) ـ تجهمه : استقبله بوجه كريه. تمت قاموس.
([76]) ـ الجأش : رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع ، والطامن : الساكن . تمت قاموس.

تعتمدون، وإيانا تخاذلون، أجل والله خَذْلٌ فيكم معروف، سنخت([77]) عليه عروقكم، وتوارثته أصولكم وفروعكم، وثبتت قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شيءٍ، سنخاً للناصب، وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ، وأنتم والله هم ، ألا إن الدعي ابن الدعي([78]) قد ركز بن اثنتين بين القتلة والذلة، وهيهات منَّا أخذ الدنيَّة ؛ أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمَّية، ونفوس أبيَّة، لا توثر مصارع اللئام على مصارع الكرام، ألا قد أعذرت وأنذرت، ألا إني زاحف بهذه الأسرة على قلة العتاد ، وخذلة الأصحاب، ثم أنشأ يقول: "
فإن نَهْزِم فهزامون قُدْمَاً .... وإن نُهْزَم فغير مهزمينا
ألا ثم لا تثبتون بعدها إلاَّ كريث ما يُرْكب الفرس ، حتى تدور بكم الرحى عهداً عهده إليَّ أبي، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71]، {ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ(195)} [الأعراف] ، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)} [هود] .
اللَّهُمَّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث لهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف([79]) يسقيهم كأساً مراً([80])، ولا يدع منهم أحداً إلاَّ قتله بَقَتْلِهِ، وضربه بضربهِ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم، فإنهم غرونا وكذبونا وخذلونا، وأنت ربُّنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير).
_______________

([77]) - السِّنْخ بالكسر : الأصل ومن السن : منبته . تمت ق.
([78]) ـ هو: عبيدالله بن زياد بن أبيه ، من ولاة الأمويين ، من الجبابرة السفاكين، ولد بالبصرة ، ولاه معاوية خراسان سنة (53هـ) ثم نقله إلى البصرة سنة (55هـ) ثم لما مات معاوية أقره يزيد على إمارته سنة (60هـ) تولى توجيه وتعبئة الجنود الظالمة لقتل الحسين - عليه السلام - ، قتله إبراهيم بن الأشتر في خارز من أرض الموصل لما خرج ابن الأشتر طالباً بثأر الحسين سنة (67هـ) وكان يقال لابن زياد (ابن مرجانة) . الأعلام (4/193).
([79]) ـ هو: الحجاج بن يوسف الثقفي، ولد سنة (40هـ) بالطائف ، ولاه عبد الملك بن مروان مكة والمدينة والطائف والعراق ، وكان سفاكاً سفاحاً ظالماً غشوماً ، له أخبار كثيرة تحكي عن ظلمه وغشمه وقساوته ، توفي بواسط سنة (95هـ) وأجري على قبره الماء فاندرس . الأعلام (2/168).
([80])ـ في (ن) مُرَّة .

ثم قال: (أين عمر بن سعد ؛ ادعوا لي عمر، فدعي له وكان كارهاً لا يحب أن يأتيه، فقال: يا عمر وأنت تقتلني تزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الري وجرجان، والله لا تتهنأ بذلك أبداً عهداً معهوداً ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأني برأسك على قصبة قد نُصب بالكوفة يتراماه الصبيان ويتخذونه عرضاً بينهم)، فاغتاظ عمر بن سعد من كلامه. ثم صرف لوجهه عنه، ونادى بأجناده: (ما تنتظرون به؟ إحملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة)، فزحف عمر بن سعد، وكان تحت الحسين بن علي -عليه السلام- فرس رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- المرتجز، فنادى عمر بن سعد غلامه دريداً قدم رايتك. ثم وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى وقال: (إشهدوا لي عند الأمير ـ أي عبيدالله بن زياد ـ أني أول من رماه)، -لعن الله المشهد والشاهد والمشهود له من أولئك- ما أجرأهم على الله وأجهلهم بفضل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فرمى أصحابه كلهم بأجمعهم من كل جهة رشقة واحدة فما بقي أحد من أصحاب الحسين -عَلَيْه السَّلام- إلاَّ أصابه من رميهم سهم لكثرتهم وقلّة أصحاب الحسين -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأنهم -رحمة الله عليهم- كانوا دون المائة، كما يأتي في البيت الذي يلي هذا، وشرح قتالهم مفصلاً يطول، ولكن جملة الأمر أن أصحابه -صلوات الله عليه- ورحمة الله عليهم وأهل بيته رضي الله عنهم تسابقوا إلى الموت دونه إلى أن بقي فرداً وحده، فلم يخضع ولم يتضعضع ؛ بل صار يقاتل قتال اللَّيث عن عرينه ، من عن شماله ويمينه ، يغتنم الفرصة، ويطيل الحملة، ويقصر الحركة ، فيكافؤهم تارة، ويزحزحوه أخرى ، حتى عجب الناس من أمره. ثم نفق الفرس تحته فكان -عليه السَّلام- أنهد راجل([81])، وأصدق حامل، إلى أن أثخن بجراحةٍ قاتلةٍ من سنان ابن أبي أنس النخعي،
_________________
([81]) ـ نهد كمنع ونصر : لعدوه صمد لهم . تمت قاموس.

وتولى الإجهاز عليه خولي ابن يزيد الأصبحي من حِمْير، وهو الذي حز رأسه، وكان شمر بن ذي الجوشن الضبائي ممن تولى ـ أيضاً ـ قتله، وقتل وله ثمان وخمسون سنة، ودفن بدنه في الموضع الذي يزار فيه قبره من أرض نينوى([82])، ووجد في بدنه ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وأربعون ضربة، ووجد في جبَّةٍ دكناء كانت عليه -عَلَيْه السَّلام- مائة وبضعة عشر خرقاً ما([83]) بين طعنة وضربة ورمية، -صلوات الله عليه- ، ولعن قاتليه وخاذليه ومنكري فضله وجاحدي حقه، وليس إستقصاء أخبارهم - عليهم السلام- لأن ذلك يطول ويخرجنا إلى الإسهاب الذي شرطنا إختصاره في ترجمة الكتاب ، ولكنا نذكر ما تدعو الحاجة إليه في أثنائه من التنبيه على فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وذكر أتباعهم وصفة أشياعهم المخلصين الذين فضلوهم على جميع العالمين ؛ ورأوا أن فوات الأرواح بين أيديهم من جملة أصول الدين -رحمة الله عليهم أجمعين-.
_______________
([82])ـ نينوى -بكسر النون-: موضع بالكوفة. انتهى من هامش الشافي.
([83])ـ في (ن) : من .
---

[حكاية عدد أصحاب الحسين(ع)]
[43]
وَهُمْ على ما جاءنا دونَ المائهْ .... كُهُولُهُم في الملتقى والأصبيهْ
فَجَعْلُوا البِيْضَ الرقاقَ أعْصيهْ .... وصَادَمُوا أهلَ الردى والمعصيهْ
كانت عُدَّتهم -رحمة الله عليهم- من الثمانين إلى التسعين فيهم من أهل بيت النبؤة بضعة عشر من أولاد علي وأولاد عقيل وأولاد جعفر -رضوان الله عنهم أجمعين-.
[44]
لو أنكروا فضلَ أبي عبداللهْ .... ما وَهَبُوا تلكَ النفوسَ للهْ
وطَلَبُوا لكلِّ أمرٍ عِلَّهْ .... واتَّخَذُوا للشُّبَهِ المُضِلهْ

[تألم الإمام عليه السلام من أهل عصره]
هذا ظاهر لكل عاقل منصف ؛ لأنهم لو سلكوا مسلك طريقة الناجمة من أهل عصرنا هذا الذي أنكروا فضل العترة الطاهرة، واظهروا للناس أنهم شيعتهم وعلى مذهبهم بزعمهم ، كأنهم لم يعلموا أن إجماعهم -عليهم السلام- منعقد على أنهم أفضل الخلق، وأن الواجب على جميع أهل الملل الرجوع إليهم، والإنقياد لأمرهم، وقد صرح بذلك المرتضى لدين الله محمد بن يحيى في رسائله -صلوات الله عليه- ولا إشكال فيه فيحتاج إلى ذكر مواضعه، فلو كان أصحاب الحسين بن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- وكان يلقب بأبي عبدالله، على مثل رأي من أنكر فضل أهل البيت -عليهم السَّلام- في زماننا هذا ما صبروا معه -عليه السلام- للقتلة الكريهة، والمثلة الشنيعة، وبهذا بلغنا عن قوم منهم أنهم متوجعون لقوم من المؤمنين أصيبوا معنا في عجيب([1]) -رحمة الله عليهم- ويتألمون لهم من الشهادة، ويتأسفون على الحياة التي هي جل همتهم، ولها يعملون أنواع الحيل في المآكل والمشارب ، وما حكى الله - تعالى- الحرص على الحياة إلاَّ عن اليهود كما حكى الله عنهم أنهم أحرص الناس على الحياة، وأن أحدهم يود لو يعمر ألف سنةٍ، وأمَّا المؤمنون فالموت عندهم غير كريه وبذلك وصفهم خالد بن الوليد في كتابه إلى الفرس، وهو طويل، قال في آخره: (فإن لم تقبلوا شيئاً من ذلك فوالله لآتينكم بقوم يحبُّون الموت، كما تحبون الحياة والسلم)، وقد علم من حضر ذلك المقام أن الموت كان إلى أولئك الصَّالحين -رحمهم الله- أحبُّ من الحياة، وأنهم سألونا أن نسأل الله لهم أن يرزقهم الشهادة، واستخرنا الله لنا ولهم، فكان ما كان، وكذلك من حضرنا من جميع الشرق والغرب يعلم علماً يقيناً من حالنا، أن الموت هناك كان من إرادتنا وأنا ما تأخرنا وبيننا وبين أعداء الله -عز وجل- عربي ينطق بالشهادة فوقع تأخرنا لَمّا انتهى الأمر إلى هذه الحال، رعاية للإسلام ، وحدباً على الدين، ورجاء من الله أن يسد بنا ما انثلم، ويجبر
________________
([1]) - وقعة للإمام المنصور بالله عليه السلام مع الغز (الأيوبيين) من أشهر وقائعه وأعظمها.

49 / 63
ع
En
A+
A-