ونذكر([50]) هذا ليعلم السامع أنَّا ما ذكرنا فيهم -سلام الله عليهم- لفظة إلاَّ لأثر من سنة أو كتاب، أو دليل عقلي، أو إجماع جلي، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] ، {وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(112)} [الأنبياء] ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)} [الشعراء].
ثم بين ما عند جدوده -عَلَيْه السَّلام- الذين لا يجوز خلافهم لأحد يريد البقاء على الإسلام، فعقب ذلك بحكمه عندهم -عَلَيْهم السَّلام-.
[ذكر الذي عند جدوده الأئمة (ع) في هذا المدعي ما ليس له]
[38]
أمَّا الذي عِنْدَ جُدُودِي فِيْهِ .... فيَنْزَعُونَ لِسْنَهُ مِنْ فِيهِ
ويُؤْتِمُونَ جَهْرَةً بَنِيْهِ .... إذْ صارَ حقَّ الغيرِ تَدَّعِيهِ([51])
لما فرغ من الإلزام المتقدم المعرض بجواب المخالف، إمَّا بالرجوع إلى الحق، أو التمادي في الباطل، ذكر الذي عند أجداده -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأنهم قدوة أهل الإسلام، وسادة الأنام، وصفوة الله -تعالى- من الخاص والعام، وسفينة النجا، وأقمار الدجى، وغاية الأمل بعد الله -تعالى- والرجا، وهم الذابون عن الدين، والمجاهدون للمعادين والمعاندين، فمن إدعى الإمامة لنفسه من غيرهم فقد إعتدى، وفارق أهل الهدى، وحل لقائم آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قتاله وقتله،
____________________
([50]) - نخ (ن): وذكرنا.
([51]) ـ في (م، ن): يدعيه.

ومن حل قتله جازت المثلة به إذا رأى الإمام ذلك صلاحاً، كما فعل الهادي -عليه السلام- ذلك في قتلى بني الحارث بن كعب إذ قتلهم في مدينة الهِجَر من نَجرَان، وعلقهم بعراقيبهم في الأشجار، وفعل ذلك إقتداءً بالنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ؛ لأنه لما ظفر بالعُرَنِيين([52]) الذين أخذوا إبل الصدقة وقتلوا رعاتها ، سمل أعيانهم وتركهم في الحَرة حتى ماتوا،والمثلة التي نهى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عنها هي التمرد الذي لا يحل، فأمَّا ما فعل لأمر يعود على الدين بالتقوية فهو جائز فيما يرى، وقد عفا النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عن قريش وعن المثلة بهم إستعطافاً لقلوبهم، وهو أعلم بالمصالح في الدين.
و (اللسن) واللسان واحد كما يعلم في الدهن والدهان.
وقوله: (إذ صار حق الغير): يعني به الإمامة ؛ لأن الله -تعالى- جعلها لورثة الكتاب من عترة نبيئه -صلوات الله عليهم-، بما قدمنا من الأدلة في مسألة الإمامة من الجزء الأول من كتابنا هذا في مسألة أن الإمامة مقصورة عليهم.
__________________
([52]) ـ أخرج الأمير الحسين بن بدر الدين في الشفاء 3/ 361، قال: خبر وروي أن أناساً من عُكلٍ وعرينة قدموا المدينة على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وتكلموا بالإسلام فقالوا: يانبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا المدينة، فأمر لهم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا في ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- واستاقوا الذود، فبلغ النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسملوا أعينهم وقطعوا أيديهم فتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم، انتهى.
والعرنيين منسوبون إلى حي من العرب يقال له عرينة بضم العين غير معجمة، وفتح الراء واشتق لهم هذا الإسم من العرنة بالعين المكسورة وسكون الراء وفتح النون وهو الرجل الخبيث الذي لا يطاق.
وأخرجه أيضاً البخاري في الحدود (12/111) رقم (6802) ، ومسلم في القسامة (3/1296) رقم (9/1617)، والطبراني في الأوسط (4/120) رقم (5418).

[حكم أعماله الصالحة التي تقدمت]
[39]
وأحبَطَ الأعمالَ تلكَ الصالحهْ .... بهذهِ الدَّعوى الشَّنَاعِ الفاضحهْ
وهي لأَرْبَابِ العقولِ واضحهْ .... بالحججِ الغُرِّ الكبارِ اللآئحهْ
يقول: من تقدمت صفته بأفعال الخير من العلم والعمل وسائر الخصال التي ذكرنا ولم يكن من أهل بيت النبوءة - عليهم السلام- ثم ادعا الإمامة لنفسه، حبطت أعماله لكونه من غير نصاب الإمامة بدعواه هذه الفاضحة، وخروجه على أئمة الحق ، من هداة الخلق، ولا أفضح فيما نعلمه من دعوى الإنسان ما ليس له، وذلك واضح لأهل العقول إذا نظروا في الدليل.
[إشارة إلى أن الصادّ عن العترة الطاهرة لا يضر إلا نفسه]
[40]
إن لم يكونوا في الهدى حُيَارَى .... واستَعْمَلوا العقولَ والأفكارا
ولم يلوُّوا رؤسهُمْ فِرَارَا .... ويَقْرِنُوا الياقوتَ والأحجارا
هذا قولٌ عماده النصفة، ومن تدبره علم إختصاصه بهذه الصفة ؛ لأن من لم يتحير في الهدى، واستعمل فكره في الإحتراز من أسباب الردى، ولم يلو رأسه حين يدعى إلى هداته، وسفن نجاته، كما روي في عبدالله بن أُبي بن سلول -لعنه الله-، وكان من كبار الأوس وأهل الرئاسة فيهم، وكان رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إذا فرغ من الخطبة يوم الجمعة قام عبدالله بن أُبي بن سلول فقال: (يا معشر الأوس والخزرج قد خصصتم بما لم يخص به أحد من هجرة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إليكم، ونزوله بين أظهركم ، فتابعوه وامنعوه وقاتلوا بين يديه من قاتله من الناس،

فلما كان من يوم أحد خرج النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في لقاء المشركين، فلما صار عدو الله في شق النخيل رد قريباً من ثلث الناس وكانوا ألفاً، فنهاهم عبدالله بن عمرو، وأبو جابر([53]) بن عبدالله صاحب حديث الشاة فلم ينتهوا ، فقال: يغني الله عنكم، فلما رجع النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وخطب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قام مقامه الذي كان يقومه، فقام إليه جماعة من الأنصار وأقعدوه وأزعجوه [وقالوا له([54])]، وما تحريضك في نصر رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقد خذلته وخذَّلت عنه الناس فخرج غاضباً من المسجد، فلقيه جماعة من قومه فسألوه فقص عليهم القصص، وقال: لما قمت لتأييد أمر صاحبهم، أقعدوني كأني قلت بجراً -هذه الرواية، ولم يقل هجراً- قال أصحابه: فارجع ليستغفر لك رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - وتتوب إلى الله فلوى رأسه مستكبراً ، وصد عن الهدى متجبراً، فما ضر إلاَّ نفسه) فأشار إلى أن الصادَّ عن العترة الطاهرة لا يضر إلاَّ نفسه، وإن لوى رأسه متكبراً مستغنياً بنفسه، كما فعل المخذول، عبدالله بن أُبي بن سلول، خسر سعيه وأغناه الله عنه.
______________
([53]) - في الأصل أبو خالد وهو غير موافق ، ولعله غلط من النساخ وأن الصحيح ما أثبتناه ؛ لأن المشهور أن صاحب حديث الشاة هو جابر بن عبدالله الأنصاري ، والقصة في أمالي الإمام أبي طالب ص(33) ، وأبوه : هو عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، وذكر الطبري في تاريخه (3/12) أنه هو الذي نهى عبدالله بن أُبيّ عن الرجوع. استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد . فليتأمل.
([54])- ما بين القوسين زيادة ساقطة في الأصل.

ثم عقب ذلك ببرهان واضح وهو أن من قرن الياقوت بالأحجار ، وساوى بينهما في جميع الأحوال ، لم يتمكن من الفرق الجلي بين العترة الطاهرة وغيرها من الناس، وهذا يتمكن منه من لم يعم العجب وعبادته بصره ، واستخدم عقله وفكره، وأدام في الأدلة نظره، ولم يلو رأسه عن هداته، الذين أمره الله -تعالى- بسؤالهم، ونهاه عن منابذتهم وجدالهم، فقال لا شريك له: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83] ، وهذه الآية في رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفي أهل بيته من بعده لا يعلم لها وجهاً غير ذلك يكشف عنه الدليل([55]).
ويريد في قوله: (ويقرنوا الياقوت والأحجار): يقول: من لم يبلغ به الجهل إلى أن الياقوت والحجر في منزلة واحدة، وأن الله -تعالى- لم يفضل أحدهما على الآخر، فهو متمكن من الإستدلال والرجوع إلى الحق، والإعتراف بفضل آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ومن بلغ به عمى الجهل أو تعامي الفتنة إلى أنهما سواء ، فذلك لا يرجع إلى حق أصلاً، ولا يكون لهداية الله -تعالى- وتوفيقه أهلاً.
_________________
([55]) ـ ذكر الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل لقواعد التفضيل (1/148ـ 149) في الآيات النازلة في أهل البيت - عليهم السلام - في بيان معنى قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، عن علي - عليه السلام - قال : قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- : ((شركائي الذين قرنهم الله بنفسه وبي أنزل فيهم : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، فإن خفتم تنازعاً في أمرنا ؛ فأرجعوه إلى الله والرسول وأولي الأمر، قلت : يا نبي الله ، من هم ؟ قال : أنت أولهم)) .
ورواه أيضاً عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - أنه سئل عنها ؛ فأجاب أنها نزلت في علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأهل بيته .
وذكره الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي - عليه السلام - في البرهان في تفسير القرآن في الجزء الأول (ص89) في تفسير هذه الآية في معنى أولي الأمر ، قال : يعني الأئمة من ولده القائمين مقامه ، الحاملين ما حمله من أعباء الأمور، وسد الثغور ...إلخ.

[41]
وتَجْعَلُوا العَبْدَ شَبِيهاً بالنبي .... في عَقْلِهِ وجِسْمِهِ والمنْصِبِ
ما الليْثُ عِنْدِيْ فاعْلَمُوا كالثَعْلَبِ .... وإنْ غَدَا كِلاهُمَا ذا مخْلَبِ
هذا شبيه بالأول يقول: من لم تبلغ به العماية عن طرق الهداية إلى أن لا فرق بين العبد المملوك الذي لا يقدر على شيءٍ وبين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- المالك الذي ملكه الحكيم سبحانه كل شيءٍ، ولم يفرق بينه وبين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في جسمه المعتدل المخصوص بالكمال، وعقله الزائد على عقول الرجال، كما روى لي من أثق به عن والدي -رحمه الله- بإسناده رفعه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((أوتيت من العقل تسعة وتسعين جزءاً، وأوتي الناس جزءاً واحداً، فأمرني الله بمشاركتهم فيه، فقال عز من قائل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] ))، ومنصبه الذي طال المناصب، واستحقر لؤي بن غالب ، وكان من هامات العرب بمنزلة السَّنَام من الغارِب، فمن ساوى بينه وبين العبد الزنجي الذي جعله الشرع الشريف أرذل أجناس العبيد ، كما يعلم فيمن تزوج إمرأةً على عبدٍ من أرذل طبقات العبيد أوجبنا عليه عبداً زنجياً، ولو تزوج على عبد من أعلى أجناس العبيد أوجبنا رومياً، وهذا ظاهر، فالمساوي بين من ذكرنا وبين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لا يتمكن من الرجوع إلى الحق، واتباع ما عليه أشرف الخلق ؛ لأن أكثر ما لزمه صيرورته بين أمرين أهونهما ترك وجوب المساواة على من بيده الإنشاء ، وله فعل ما يشاء ، وذلك هو الواجب فلا وجه للإمتناع منه.

ثم عقب ذلك بقوله: (ما الليث عندي فاعلموا كالثعلب): وتحسب أن يكون كذلك عند جميع العقلاء إلى آخر القافية ؛ لأن من هذه الفرق الجاحدة فضل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وفضل عترته من بعده وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، من سمعناه يقول بلا حشمة لوهن الإسلام ولا حياء ، إن العبد والنبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عند ولادتهما في الفضل سواء، ونسي عدو الله أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لما ولد خرَّ ساجداً([56])، واحتفت به الملائكة -عليهم السلام-، وأشرقت الآفاق، وكثرت النجوم، ورجمت الشياطين، ومنعوا من الإستماع، وغسّلته الملائكة -عليهم السلام- بماء من ماء الجنَّة، وظهرت فيه دلائل الإرهاص للنبوة، ولا أحداً من الأحرار في العرب والعجم فُعِل له مثل ذلك بل في جميع العباد، وأكثر ظنّي أن هذه الأمور التي خصّ بها -عليه السلام- عند ولادته عند منكري فضله -عليه السلام- وفضل عترته -قدس الله أرواحهم- من اليهود وسائر الفرق، منكرةٌ مجهولةٌ ومن جهل شيئاً عابه، وهذا نوع من أنواع الجهالة بحق النبيء -صلى الله عليه وآله-.
______________
([56]) - وثالث عشرها: سأل أيده الله عما روينا من سجود نبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يوم مولده، ثم عقله أولاً عبادة وغيرها ، وما الفائدة إن كان غير مكلف ، وأحد لا يقول بتكليف في تلك الحال؟
الجواب عن ذلك : أن خواص الفضل لنبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كثيرة ، لو شرحناها لطال الشرح ، وهذا من أول خواصه -عليه وعلى آله السلام- ولا مانع من كمال عقله في تلك الحال، لتكون من خواصه ويكون سجوده بإلهام ؛ لأن التعبد بالشرع لا يكون إلا عن وحي ، فيكون زوال العقل عقيب السجود لانتظام الحكمة .
وهذا لا يستبعده من يعلم أن الله يحكم ما يشاء ، ويختار ما يريد ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ويكون ذلك القدر عبادة وشكراً ، وحمداً لله سبحانه وذكراً ، فنحمد من وفّقنا بمعرفة حمده وشكره ، واختصنا بجليل إحسانه ، وغمرنا بصافي بره ، وجعل أفضل ذلك لهداية الإيمان ، والتوفيق لاعتماد الدليل والبرهان ، وجعلنا من الذرية المرضية ، والعترة الطاهرة الزكية ، حمداً كثيراً .
فهذا ما اتفق في هذه المسائل على قدر الإمكان وترادف الأشغال ، وضيق المجال، ومن الله نستمد الهداية في البداية والنهاية . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

والنوع الثاني أني سمعت من يقول: لي خمس أصابع وللنبي خمس أصابع، فبم فضله الله -تعالى- علينا؟ وبنى على هذا القول ما جانسه، ولذلك نبَّه كل عاقل متأمل بأن (الثعلب) لا يساوي (الليث) في قوة قلبه، وشدة بنيته، وما خصه الله -تعالى- به من الهيبة والجرأة ، لا يساوي حالك ـ أيضاً ـ حال النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وإن كان لك ما ذكرت من الأصابع فبين الأمرين بَون بعيد، يعرفه كل ذي عقل رشيد، وهذا وما شاكله وإن كان ممَّا لا يشتغل العلماء بذكره، والتنبيه على إنتهاك سر قائله وستره ، فقد ألجت الضرورة إلى إيراده ؛ لأن جواب مثل هذا الهتير([57]) التبسم والإستخفاف ، وإعمال السياط في الأطراف ، فإن نجع([58]) وإلاَّ رجع إلى قواطع الأسياف.
____________
([57])- الهتير ، هو : الجاهل الأحمق المجادل بالباطل .
([58]) ـ نجع كمنع ، نجع الوعظ والخطاب فيه : دخل فأثر . تمت قاموس.

ثم تأسف على أنصار العترة عليهم السلام ، ورضي الله عن أنصارهم من جميع الأنام، الذين عرفوا فضلهم ، ولم يطلبوا العلل للتخلف عنهم ، بل إستهانوا الموت الأحمر ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقال:
[ذكر وقعة الطف للحسين بن علي بن أبي طالب(ع)]
[42]
يا لهفَ نَفْسِي إنْ شَفَانيْ لهفُ .... على حُمَاةٍ قَدْ حَواهَا الطَّفُ
ما هَالهمْ عِنْدَ القِتَالِ الزَّحْفُ .... بَلْ شَهَروا أسيافهم([59]) واصْطَفُّوا
(اللَّهف): ما يقع في القلب من حرارة الوجد ، فتأسف على موت أهل البصائر من أنصار هذه العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام- الذين أحبوهم لحب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبذلوا مهجهم دونهم لله سبحانه، وذلك فرع أصله الإعتراف بفضلهم ، والمعرفة بحقهم ، فكيف يُطمَع في ثمر فرع قد قُطِعَ أصله؟، وكيف تُرجَى نُصرةُ قوم جحدوا الفضل والنصاب، ووراثة الكتاب ، وقطعوا بين العترة الطاهرة وبين أبيهم محمد -عليه وآله السلام- الأسباب والأنساب ، الذي أخبر وهو الصادق الذي لا يكذب أنها لا تنقطع في موقف العرض والحساب، فيا لها مصيبة في الدين ما أطمها، وحادثة في الإسلام ما أهمها.
________________
([59]) - نخ : سيوفهم.

[ذكر طرف من أمر الإمام الحسين بن علي (ع)]
و(الطفُّ) الذي ذكره: هو المكان الذي قتل فيه أبو عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- وأشياعه وأهل بيته -عَلَيْهم السَّلام-، وهو قريب من فرات الكوفة في بقعة حمراء يقال لها كربلاء، وهو مشهور لعظم الحادثة فيه إلى الآن.
[ذكر تاريخ ولادته وصفته]
وأمه فاطمة بنت رسول الله (-صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعليها)، ولدته -عَلَيْها السَّلام- بعد ولادة الحسن عليهما السلام في شعبان لخمس خلون منه، من سنة أربع من الهجرة الطاهرة، وعلقت به -عَلَيْها السَّلام- بعد ولادة أخيه الحسن -عَلَيْهما السَّلام- بخمسين يوماً، وكان بين ولادة أخيه وبين العلوق به -عَلَيْه السَّلام- طُهر واحد، وأمر النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بحلق شعره في اليوم السابع، وتصدق بوزنه فضة، وعق عنه كبشاً.
وكان يُشْبه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من سُرته إلى قدميه، وكان أبيض اللَّون جداً حتى روي أنه كان -عَلَيْه السَّلام- إذا قعد في موضع فيه ظلمة أهتدي إليه لبياض جبينه ونحره، وكان إماماً بالنص من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وقد تقدّم ذكره في باب الإمامة.

48 / 63
ع
En
A+
A-