و (الرجس): هو الخبيث النجس من كل شيءٍ، وأصله في اللغة: ما تنفر النفوس عن قربه.
و (الداعر): مختلط الأصل بأعراق رديَّة، وهو ظاهر كثير في النظم والنثر.
و (الخب): الذي لا لبَّ له ولا معرفة.
و (المكابرة): نتيجة من جميع ما تقدم.
وقد صح لك أن منكر حقهم خبيث الأصل، ولا يقتلون إلا من كان كذلك، ولا يقاتلهم ـ أيضاً ـ ويقتلهم إلاَّ من أنكر فضلهم، فقد رأيت إنكار فضلهم إلى ما يؤدي، فيجبُ على كل عاقل الإحتراز من مثل ذلك.
[29]
ولا فِعالَ([37]) النَّاصرِ بن الهادِي .... يومَ نُغْاشٍ في ذوي الفسادِ
إذْ صيَّرَ القومَ كَصَرعَى عادِ .... بالسُّمْرِ والمُرْهَفَةِ الحدادِ
[ذكر طرف من أمر الإمام الناصر أحمد بن يحيى (ع)]
(الناصر) ها هنا: هو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، وأمه وأم أخيه المرتضى لدين الله فاطمة بنت الحسن بن القاسم بن إبراهيم، كان -عَلَيْه السَّلام- جامعاً لخصال الإمامة، متقدماً في الفقه والسياسة، بطلاً شجاعاً، وتصانيفه ورسائله وكتبه ومسائله موجودة مشهورة، ولم يبلغنا لأحد من آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- مثل سياسته وصبره على تقويم الرَّعية باللين والشدة فاستقامت قوانين أمره حتى لحق -عَلَيْه السَّلام- بربِّه ظاهراً على أعدائه.
_____________________
([37]) - فعال : معطوف على قوله عليه السلام : لا أنسَ في نورود فعلَ الناصر، معطوف على مفعول أنسى .
[ذكر يوم نغاش]
و (يوم نغاشٍ([38])): هذا بينه وبين عبدالحميد القرمطي، وأولاد النجار الكوفي؛ الذي جلب مذهب الباطنية إلى اليمن ونشره من مَسْوَر([39]) فإنها كانت دار هجرته، وكان عبدالحميد هذا طلع من ناحية مَسْوَر في عساكر لا يحصى عديدها من تهَامة([40]) والمغارِب([41])، وكانت مقالة القرامطة قد ظهرت وطمت وكان منطوياً على إزالة رسوم الدين ، وأركان الشرع التي شادها الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عَلَيْه السَّلام-، فحرمه الله أمنيته في ذلك وأماته بغصته.
______________
([38]) ـ نُغاش ـ بضم النون ـ: موضع في جبل عيال يزيد شمالي عمران . مجموع بلدان اليمن (2/742).
([39]) ـ مَسْوَر : ناحية من أعمال حجة . مجموع بلدان اليمن (2/708).
([40]) ـ تهامة : موضع معروف ، وهو القسم الواقع بين جبال اليمن والبحر من جهة الغرب والجنوب، ويقال له غور اليمن ، وتهامة واسعة من جنوب اليمن ما بين الشرق والغرب ، ومن غربي اليمن ما بين الجنوب والشمال على مسافة شهر أو يزيد .
فيدخل في اسم تهامة نواحي عدن وأبين ولحج وما إلى ذلك من البلاد الواقعة جنوب اليمن . انظر مجموع بلدان اليمن وقبائلها (1/156) للحجري اليماني.
([41]) ـ المغارب : بلد من ناحية صَعْفَان من بلاد حراز وأعمالها . الحجري (2/715).
[تفصيل الوقعة]
لأنه لما صار إلى ظاهر البَوْن في تلك الأجناد الطويلة العريضة تلقته جنود النَّاصِر -عليه السلام- من أنصار الحق وأكثرهم هَمْدَان، وقائدهم إبراهيم بن المحسن العلوي العباسي([42])، وسائر الأمراء راجعون إلى أمره، فالتقوا في موضع يعرف بنغاش في ظاهِر لغابَه، وكان عدة المحقين تقرب من أربعة آلاف، فأمَّا الظالمون فلم ينحصر عددهم، فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً لم ير قبله مثله، وقال رجل من قواد هَمْدَان([43]) لأصحابه: (يا معشر هَمْدَان أنتم أنصار الحق، وأجناد الأئمة، وعلى أيديكم تقع فتوح المحقين، فوالله لإن لم أنظر إلى هذه المضارب ـ وكانت مضارب الظالمين قبالهم ـ خرقاً في أيديكم من آخر نهاري هذا ما العيش بعيش، ولا الحياة بحياة، فكونوا عند ظني)، فأعادوا عليه قولاً جميلاً وأثنى عليهم وقال: (فإني لا أزال أتقدم فلا تأخروا عني وأنا ألزمكم عهد الله من رآني صريعاً لا وقف عليَّ، ولا أعلم أحداً من المؤمنين بمصرعي حتى تكون أيديكم العليا)، فوفى -رحمة الله عليه- بما قال وصرع، ووفوا بما ألزمهم من التقدم، ووفى الله -سبحانه وتعالى- بما وعدهم به من النصر في قوله: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173)}[الصافات] ، فقتلوهم بإذن الله، وقتل منهم خلق كثير لم ينحصر عددهم ؛ إلاَّ أن بعض من حضر تلك الوقعة من كبار المؤمنين لا أدري أحمد بن محمد السَّوداني الصَّايدي أو غيره، إلتبس عليَّ إسمه، قال: (وقَّفْتُ فرسي في بعض تلك الأماكن في حال تلك الحُطَمة فشهدت على شعاب تجري دماً، ورأيت ظبياً مقتولاً، قال: وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى ظبياً مقتولاً أو ظبيين في مكان آخر).
_________________
([42]) ـ إبراهيم بن المحسن بن الحسين بن علي بن عبدالله بن الحسن بن عبدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان شجاعاً مقداماً له أخبار وملاحم مع القرامطة مع الناصر أحمد بن الهادي -عَلَيْه السَّلام-، وكان صاحب رايته، ولاه الإمام الناصر كثيراً من المناطق مثل المشرق والجوف الأعلى وغيرها، ثم ولي له أيضاً ريدة والبون وكان من خيار أنصار الإمام الناصر، وممن يثق به ومن خواصه.
وكان من أمراء الناصر -عَلَيْه السَّلام- أيضاً:
أحمد بن محمد بن الضحاك بن العباس الهمداني، قال في مطلع البدور: العلامة الخطير، الأمير الشهير، زعيم الجنود الناصرية، حتف الطائفة القرمطية، ثقة أمير المؤمنين...إلى قوله: كان من فصحاء الناصر وأهل الثقة عنده والزعامة، وجودة الرأي وصدق المودة، ومن عظماء الأقدار، انتهى، ولم يذكر وفاته.
وكان منهم أيضاً: عبدالله بن عمر الهمداني رحمه الله رئيس العصابة، وسهم الإصابة ، ليث العرين، وحتف القرين، صاحب المناقب والمقانب، الأسد الباسل مؤلف سيرة الناصر للحق أحمد بن الهادي، كان عالماً عاملاً مقداماً في كل فضيلة مجرباً، يقود العساكر، له الوقائع الغر التي تشهد بوفائه وشجاعته وإقدامه ونصره لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وكان عبد الحميد القرمطي يتجرم منه كثيراً.
وكان منهم أيضاً: عبدالله بن محمد السعدي كان من أفاضل أصحاب الإمام الهادي -عَلَيْه السَّلام- وأخيارهم وذوي السابقة والمساعدة، وأهل البصائر، وهو من بني سعد بن بكر، وكان له المنزلة الرفيعة عند المرتضى محمد بن الهادي ، وكان أحد قواد العساكر الناصرية يوم نغاش ، وأبلى بلاء حسناً، وكان من أهل السن العالية، وجرح في ذلك اليوم جراحة مثخنة، وكان يقول لأصحابه اثبتوا وإذا مت فهذا محل قبري.
([43]) ـ في الحدائق الوردية : هو شعيب بن محمد السبيعي الأرحبي.
ونجى عبدالحميد هائماً وأولاد النجار كذلك على أفراسهم، وأتى الناصِر -عَلَيْه السَّلام- فاستولى على المغَارِب جملة سهولها وجبالها، ورحضها من دنس شركهم، واستخفافهم بالشريعة إلى يومنا هذا، وظهر أمر الله وهم كارهون، وكان السبب الموجب لتعطيل الشرائع، وجحدهم بالصَّانع؛ إنكارهم لفضل العترة الطاهرة، واستغناءهم بأنفسهم عنهم، وبعلومهم بزعمهم عن علومهم، فلحقهم من أمر الله ما لحقهم من خسارة الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، والحظ الغبين.
وذكر ذلك يقول: لا يمتنع في حكمة الله -تعالى- أن يؤيد من عترة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في هذا الوقت رجلاً يطفيء نار الكفر ويخمد جمرة الأشرار، ويرحض بالجهاد بين يديه درن الأوزار، فينقلب المُنكر لفضلهم عارفاً، والنافر عنهم آلفا، فما ذلك عليه بعزيز، وكيف لا يكون والنبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول، وهو الصادق فيما قال : ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) ، فنسأل الله بلوغ أسباب الخير، وحسم مواد الشر، والصلاة والسلام على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
[بيان كثرة وقائع الإمام الهادي إلى الحق(ع)]
[30]
وَكَمْ ليحيى ذي الأيادِي السابِقهْ .... مِنْ حَمْلَةٍ نحوَ الأعادي صَادِقهْ
كأنها فَوقَ الطغاةِ صَاعقهْ .... مَشْفُوعَةٍ برجفةٍ وبارقهْ
يحيى ها هنا هو يحيى بن الحسين أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين، وقد تقدم الكلام في شيءٍ من أمره في مسألة الإحتجاج بقوله في مفاضلة الله بين عباده وتفضيله لمن شاء من خلقه، وإن كانت فضائله -عَلَيْه السَّلام- مشهورة ، وأيامه مذكورة .
(والحملة الصادقة) هي التي لا يرجع صاحبها من دون العدو بل تَصِلُهُ وتنكى([44]) فيه وكانت تلك عادته -عَلَيْه السَّلام-، وقد كان يُعَدُّ لألف إنسان.
__________________
([44]) ـ نكى في العدو: قتل فيهم وجرح، تمت صحاح.
لأن في الحديث أن القرامطة -لعنهم الله- لما اشتدت شوكتهم، ووفرت جماعتهم، وكثرت عدتهم، وتجهز -عَلَيْه السَّلام- لقتالهم رأى من أصحابه ميل الإنكسار لقلة عددهم وكثرت عدوهم، وكانت عدة أصحابه في ذلك الوقت ألف مقاتل بين فارس وراجل، فقال: أتجبنون عن لقاء عدوكم وأنتم ألفا رجل !؟
فقالوا: إنما نحن ألف واحد.
فقال: أنتم ألف وأنا أقوم مقام ألف وأكفي كفايتهم، فعلموا صدق مقاله، لما علموا من حميد فعاله، وصدق قتاله، واشتدت قلوبهم، وانبسطت وجوههم، وأنسوا من وحشتهم، لما نبههم على أمر كانوا في حكم الغافلين عنه، فقال له أبو العشائر عند ذلك: يا ابن رسول الله ما في الفرسان أشجع منك، ولا في الرجالة أشجع مني، فانتخب ثلاثمائة من الرُّجَّلِ والفرسان وبيت بنا القوم، فاستصوب رأيه وفعل ذلك فقتلهم قتلة هائلة، وهزمهم هزيمة مجلية.
وكذلك فإن العساكر لما توالت عليه بريدة وهو في قلة من أصحابه، فلما جاؤهم من كل جانب وظنوا أنهم قد أحيط بهم، إنهزمت رجالته -عَلَيْه السَّلام- الجبل، وخيله القاع نحو النقيل، فبقي وحدهُ في عدة يسيرة من خاصة أصحابه، فحملوا من ناحية، وحمل من ناحية غير مستوحش ولا منكسر ؛ بل تلقى تلك الجموع بنفسه، وعمدتُه يقينُه، فما قام له فارس إلاَّ صرعه، ولا صمد بكتيبة إلاَّ كشفها وبددها، وأركب آخر ذلك الجمع أوله، وكان قتاله في ذلك اليوم بسيف جده علي بن أبي طالب، فلما رأى أصحابه هزيمة تلك الجنود وكانوا قد أيسوا منه -عَلَيْه السَّلام- تعاطفوا فأتوا وهو على أحسن حال فأكبوا عليه تقبيلاً وإستحلالاً ، فحللهم ولحق بهم القوم، فما زال السيف فيهم إلى قرية الغَيل([45]) وكان فيها عسكرهم فتحصن فيها باقيهم ورجع -عَلَيْه السَّلام- موفوراً، فمما روي من قوله في ذلك اليوم قوله -عَلَيْه السَّلام-:
_____________
([45]) ـ الغيل : قرية في حاشد تعرف بغيل مغدِف. مجموع بلدان اليمن (2/627) .
الله يشهد لي وكل مثقّفٍ .... بالصبر والإبلاء والإقدامِ
حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني .... أرويت حديه نجيع طغامِ([46])
علاًّ ونهلاَّ في المواقف كلها .... طلباً بثأر الدين والإسلامِ([47])
حتى تذكر ذو الفقار مواقفاً .... من ذي الأيادي السيد القمقامِ([48])
جدّي علي ذي الفضائل والنهى .... سيف الإله وكاسر الأصنامِ
والأمر فيه -عَلَيْه السَّلام- ظاهر جداً، وكان معظم حروبه مع آل يَعْفُر وآل طَريف، ومع بني الحارث بن كعب.
عدنا إلى تفسير الألفاظ:
(الصاعقة): صوت عظيم يخلقه الله -سبحانه وتعالى- وربما أهلك به من شاء من خلقه كما قال سبحانه: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}[الرعد:13] .
و (الرجفة): هي حركة الأرض.
و (البارقة) معروفة: وهي نار يوجدها الله -تعالى- في السحاب للتخويف والإعتبار كما قال تعالى: {يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}[الرعد:12] ، معناه: لتخافوا عقابه، وتطمعوا في رحمته وثوابه، فهذه أمور هائلة من أمر الله -تعالى- فإذا اجتمعت كان الأمر فيها أعظم، والرَّوع منها أشد، فمثل حمله -عَلَيْه السَّلام- على أعداء الله بمجموع هؤلاء لعظم موقعها في القلوب ، وشدة نكايتها عند الوقوع، وكذلك كان الأمر في شدته -عَلَيْه السَّلام-.
_______________
([46]) ـ الطغام: أوغاد الناس الجمع فيه والواحد سواء، تمت مختار.
([47]) ـ العل: الشربة الثانية ونهلاً الشربة الأولى، والمراد الضربة الثانية بعد الأولى.
([48]) - القَمْقام ويضم : السيد والآمر العظيم . تمت ق.
[بحث يتطلب التدبر والإستماع في من يدَّعي ماليس له]
[31]
أَقُولُ قَوْلاً فافهَمُوا تَأوِيلَهْ .... واستَمِعُوا هُدِيتُمُ دليلهْ
واتبِعُوا لترشَدُوا سَبِيلهْ .... فما طَريقُ الحقِّ بالمجهُولهْ
هذا قول أراد به الإصغاء لما بعده، والنظر في دليله، وإتباعه بعد صحة الدليل وظهوره.
و (السبيل): هي الطريق، وفيه تقديم وتأخير وهو جائز، ومثله في القرآن موجود، معناه: إتبعوا سبيله لترشدوا.
و(الطريق المجهول): هو الذي لا أعلام عليه، وهي طريق الباطل ؛ لأن طريق الحق قد نصب الله -سبحانه- ورسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والعترة الطاهرة -سلام الله عليهم- عليها الأعلام من الأدلة والبراهين.
[32]
ما قولكمْ في مُؤمِنٍ قوّامِ .... مُوحِدٍ مُجتهدٍ صوَّامِ
حِبرٍ بكلِّ غامضٍ علاَّمِ .... وذكرُهُ قد شاعَ في الإسلامِ
هذا إلزام لازم لمن قال لا فضل إلاَّ بعمل، قال: فما تقول في عامل أكمل كل عمل، وفهم كل علم، وشاع ذكره لأحواله هذه في الإسلام، يريد في بلاد الإسلام.
[33]
لم يبقَ فنٌّ مِنْ فُنُونِ العلمِ .... إلاَّ وقد أضحى لهُ ذا فَهْمِ
وهو إلى الدِيْنِ الحنيفِ ينْمِي .... مُحَكَّمُ الرأي صَحِيحُ الجسمِ
معنى هذا البيت قريب من معنى الأول ؛ لأنه فصَّل تلك الجملة المتقدمة، وهو يريد بالجميع: أنه قد أحرز خصال الكمال التي تعتبر في الأئمة -عليهم السلام- في باب العلم، والعمل، وجودة الرأي، وصحة الجسم، ولم يبق إلاَّ أمر واحد وهو المنصب، فإن أوجبوا إعتباره أقرٌّوا بالفضل ضرورة، وإن لم يوجبوا إعتباره لحقوا بالخوارج وكان الكلام على الجميع واحداً، وظهر أن نسبتهم إلى أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- غير مستقيمة، وأنها إنما وضعت للتستر من الناس وتلبيس الحال، وهذا لا يغبى على عاقل منصف.
[34]
ومالهُ أصْلٌ إلى آلِ الحسنْ .... ولا إلى آلِ الحسينِ المؤتمنْ
بَلْ هُو مِنْ أرفع بيتٍ في اليمنْ .... قَدِ استوى السرُّ لديهِ والعلنْ
يقول: هو من أفضل بيت من قَحطَان ؛ لأن لفظ اليمن إذا أطلق أفاد أبناء قحطان في العُرف وسموا بإسم بلادهم ؛ لأن إسمها اليمن، يقول مع ذلك تأكيداً للبيان لهم: إن هذا العامل العالم الذي تقدم ذكره من أرفع بيت في أبناء قَحطَان، وقَحطَان أحد قبيلتي العرب المعظمين على سائر أجناس الناس عند من كان له معرفة بالعلوم وتحصيل في الآثار ، والقبيل الثاني نِزَار ، وهذان القبيلان كنفا الدنيا شرفاً ، وعدلاها رجاحة ، فلم يبق على هذا القول، لمن قدمنا ذكره، شيءٌ من خصال الكمال إلاَّ ولادة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ثم قال ظاهره وباطنه سواء في إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى.
[35]
ثم انبرى يَدعو إلى الإمامهْ .... لنفسهِ الوَاجِبَةِ القوَّامَهْ
ثَمَّتَ أجرى بالقضا أقْلاَمَهْ .... وأنفذت أسيافهُ أحكامَهْ
يقول: لما كملت فيه هذه الخصال، التي تقدم ذكرها، إدعى الإمامة لنفسه، وشهر سيفه، وأنفذ به أحكامه، وفعل ما يفعله الأئمة من أهل بيت النبوءة -عَلَيْهم السَّلام-.
[36]
وقَطَعَ السارقَ والمحُاربا .... وسلَّ للعاصينَ سيفاً قاضِبَا
وقادَ نحو ضِدِّهِ المقانِبَا .... وبثَّ في أرضِ العِدَا الكتائبَا
هذا تأكيد لما تقدم من السؤال والإلزام، وتفصيل مجمله لينكشف الأمر فيه، فمعناه يقول: إن هذا، المقدم الذكر، أقام الحدود، وقطع (السارق والمحارب)، وشهر على عصاته (السيف القاضب) ـ أي القاطع ـ، (وقاد المقانب): وهي العساكر الكبار التي تقرب من الدوسر، ولا وجه لبسط الكلام في اللغة ها هنا، وبث السرايا في أرض أعاديه، وألزم جنده غزو معاديه، هذا موضع السؤال الذي يلحق المنصف فيه بصنف أهل الهدى، والمكابر بصنف أهل الضَّلال.
[37]
ما حُكْمُهُ عِندَ نُفَاةِ الفضْلِ .... لما تناءا أصْلُهُ عن([49]) أصلِي
ولم يكنْ مِنْ مَعشرِي وأهلِي .... أهلِ الكِسَا مَوضِعِ عِلْمِ الرُّسْلِ؟
هذا موضع السؤال والإلزام.
________________
([49])ـ في (ن): من .
فإن قالوا: هو مصيب فيما فعل، مطيع لله -عز وجل-، وأعماله كلها صحيحة، لحقوا بالخوارج عند من كان أمرُهُمْ عنده ملتبساً، وإلاَّ فلسنا نشك أن من أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- خارجي، وخرجوا ظاهراً من المذهب الذي انتسبوا إليه، وادعوا أنهم عليه، وكنا نحتج عليهم بالحجة على أولئك.
وإن قالوا: هو مخط فيما فعل، عاصٍ لله -عز وجل-؛ فقد أصابوا فيما قالوا وخرجوا من المذهب الفاسد في أنه لا فضل إلاَّ بعمل، وعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأن الحكمة بيده يؤتيها من يشاء، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] .
فهذان أمران لا بد من القول بأحدهما، أهونهما ترك المذهب الذي لا دليل عليه، والرجوع إلى الحق الذي لا شك فيه، وترك الكبر الذي هو أصل المعاصي، والإعجاب بالعمل الذي هو رأس الفتنة، والرضى بحكم من لا يسع سخط شيء من حكمه محبوباً كان أو مكروهاً، ومعنى البيت ظاهر.
(نفاة الفضل): هم الذين يعرفون بالعداوة للعترة الطاهرة.
(ومعشره وأهله) آل محمد -صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين- وهم آل الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-، وقد تقدم الكلام في أمر الكساء وما خصَّهم الله -تعالى- في أمره به من الفضل العظيم والبركة الشريفة.
وقوله: (موضع علمِ الرسلِ): لما روينا عن والدنا علي ابن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: ((إعلموا أن العلم الذي أنزله الله -تعالى- على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيئكم فأين يتاه بكم عن علم تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة هؤلاء مثلها فيكم)) ، في خبر يطول يأتي فيما بعد إنشاء الله تعالى.