وعظم حال الفضل عند هارون، وارتفعت عنه التهمة في باب يحيى -عَلَيْه السَّلام-، ومدح الفضل على ذلك بمدائح كثيرة منها شعر:
سعى الناس في إصلاح ما بين هاشم .... وأعياهم الفتقُ الذي رتق الفضلُ
كأن بني العباس في ذات بينهم .... وآل علي لم يكن بينهم ذحل([61])
ومنها:
ظَفِرْتَ فلا شُلتْ يدٌ برمكيةٌ .... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين إلتئآمه .... فضجوا وقالوا ليس بالمتلائم
وشرح هذا الباب يطول ومحبتنا الإختصار.
فلما وصل إلى هارون تلقاه بالبشاشة والبشر، وأعطاه مالاً خطيراً، فأخذه -عَلَيْه السَّلام- وراح إلى المدينة فقضى منه ديون الحسين بن علي الفخي -صلوات الله عليه-، ووصل أرحامه ، وفرق على أهل بيت النبوءة - عليهم السلام- من ولد الحسن والحسين خصوصاً، وعلى المسلمين عموماً باقيه، ثم نُكِسَ هارون بعد ذلك على رأسه، فأمر من أزعجه -عَلَيْه السَّلام- من المدينة، وحبسه إلى أن مات،
________________
([61]) - الذَّحْل: الثأر ، أو طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة أُتيت إليك ، أو هو العداوة والحقد ، جمعه : أذحال وذحول . تمت قاموس.
واختلف في موته فمنهم، من قال: قتله، ومنهم من قال: ضيق عليه في الطعام والشراب حتى مات، بعد أن رأى في الزبيري([62]) من أمر الله ما يكون حجَّة عليه يوم القيامة.
_____________
([62]) - الزبيري، في كتاب أخبار فخ وخبر يحيى بن عبدالله هو: بكار بن مصعب الزبيري ، وفي الإفادة وغيرها هو عبدالله بن مصعب الزبيري صاحب الوشاية بيحيى بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، وذلك أن الزبيري إدعى على يحيى بن عبدالله أنه دعاه إلى بيعته وقد ذكر هذه القصة أحمد بن سهل الرازي في كتابه أخبار فخ، ويحيى بن عبدالله، وذكرها أيضاً أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين برواية تقرب من رواية الرازي، وسنورد القصة بتصرف وإختصار من كتاب أحمد بن سهل الرازي(99):
وذلك أن هارون الرشيد دعى يحيى بن عبدالله فجيء به مكبلاً في الحديد وعنده بكار بن مصعب، وكان هارون يميل إليه لسعايته إليه بآل أبي طالب، فلما دخل يحيى بن عبدالله قال هارون: هاها، وهذا يزعم أيضاً أنا سممناه، فقال يحيى: ما معنى يزعم هذا؟ وأخرج لسانه مثل السليق فتربد وجه هارون واشتدّ غضبه، فقال له يحيى عند ذلك يا أمير المؤمنين إن لنا منك قرابة ورحماً ولسنا بترك ولا ديلم فإنا وأنتم أهل بيت واحد فأذكرك الله بقرابتنا من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- علام تعذبني وتحبسني؟ فرَّق له هارون وهم بتخليته، قال: فأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين لاتسمع كلام هذا فإنه شاق عاص، ودار بينهما خطاب وحوار، ثم قال يحيى بن عبدالله لهارون: والله ما سعى هذا بنا إليك نصيحة منه لك، ولكن عداوة منه لنا جميعاً إذ قصرت يده سعى بنا عندك كما سعى بك عندنا من غير نصيحة منه لنا يريد أن يباعد بيننا ويشتفي من بعضنا بعضاً؛ لأنا أهل بيت رسول الله دونه، لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبدالله، فقال: فعل الله بقاتله وأنشدني فيه مرثية عشرين بيتاً وقال لي: إن خرجت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، فتغير وجه الزبيري وأسود وأقبل عليه هارون، فقال: ما يقول هذا يا بكار؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قاله حرف واحد، فأقبل الرشيد على يحيى، فقال: تحفظ من أبيات القصيدة، قال: نعم، وأحفظ القصيدة التي حث فيها أخي على القيام، فأنشده يحيى -عَلَيْه السَّلام-:
إن الحمامة يوم الشعب من دثن .... هاجت فؤاد محب دائم الحزن
إني لآمل أن ترتد إلفتنا .... بعد التدابر والشحناء والإحن
وتنقضي دولة أحكام قادتها .... فينا كأحكام قوم عابدي وثن
قد طال ما قد بروا بالجور أعظمنا .... بري الصناع قداح النبل بالسفن
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتكم .... إن الإمامة فيكم يابني حسن
إلى آخر القصيدة.
وأنشده قوله:
قل للمشنئ والمقصي داره .... تربت يداك أطلها مهديها
فلتدهمنك غارة جرارة .... شعواء يحفز أمرها علويها
بكتيبة وكتيبة وكتائب .... حسنية يحتثها حسنيها
وأنشده:
يا صاحبي دعا الملامة واعلما .... أن لست في هذا بألوم منكما
وقفا بقبر ابن النبي وسلما .... لابأس أن تقفا به وتسلما
قبر تضمن خير أهل زمانه .... حسباً وطيب سجية وتكرما
رجل نفى بالعدل جور بلادنا .... وعفا عظيمات الأمور وأنعما
ضحوا بإبراهيم خير ضحية .... فتصرمت أيامه وتصرما
وهي قصيدة طويلة، وأنشده أيضاً قصيدة أخرى.
فقال الزبيري: والله الذي لا إله إلا هو - وأمَرَّها غموساً - ما قلت من هذا شيئاً، فقال يحيى: أتأذن لي استحلفه، قال الرشيد: شأنك فاستحلفه على ما تريد، فأقبل يحيى على الزبيري، فقال:
قل: برأك الله من حوله وقوته، ووكلك إلى حولك وقوتك إن كنت قلت هاتين المرثيتين والمديح الأول، وفي رواية أبو الفرج الأصفهاني، فقال: قل: برئت من حول الله وقوته، واعتصمتُ بحولي وقوتي وتقلّدت الحول والقوة من دون الله استكباراً على الله واستغناء عنه واستعلاء عليه إن كنتُ قلت هذا الشعر، فامتنع عبدالله من الحلف بذلك، فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع: يا عباسي ماله لايحلف إن كان صادقاً هذا طيلساني علي وهذه ثيابي لو حلفني أنها لي لحلفت، فرفس الفضل بن الربيع بكار بن مصعب برجله وصاح به: احلف ويحك - وكان له فيه هوى - فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرتعد، فضرب يحيى بين كتفيه، ثم قال: يا مصعب قطعت والله عمرك والله لاتفلح بعدها أبداً، فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام فتقطع ومات في اليوم الثالث، فحضر الفضل بن الربيع جنازته ومشى معها، ومشى الناس معه، فلما جاءوا به إلى القبر ووضعوه في لحده وجعل اللِّبن فوقه انخسف القبر فهوى به حتى غاب عن أعين الناس، فلم يروا قرار القبر، وخرجت منه غبرة عظيمة، فصاح الفضل التراب التراب، فجعل يطرح التراب وهو يهوي ، ودعا بأحمال الشوك وطرحها فهوت، فأمر حينئذ بالقبر فسقف بخشب وأصلحه وانصرف منكسراً، فكان الرشيد يقول للفضل بعد ذلك: رأيت يا عباسي ما أسرع ما أديل ليحيى بن عبدالله من ابن مصعب، انظر مقاتل الطالبيين ص398، وأخبار فخ ص238، والشافي ص235، وغيرها.
فمن أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- كان شريكاً للديلم في الخذلان، ولهارون -لعنه الله- في الطغيان والعدوان، وإنما ينجو بالتحذير من حذِر، وينتفع بالترغيب من رغب.
(وبلاد البهلوان) هي بلاد الديلم.
قوله: (وفعل نصرٍ): يريد بذلك نصر بن سيار([63])، وهو العامل على خراسان من قبل مروان الأخير، الملقب بالحمار([64]).
_______________
([63]) - نصر بن سيار بن رافع بن ربيعة الكناني ، كان شيخ مضر بخراسان ، وأحد ولاة الأمويين على تلك النواحي، ولي إمارة خراسان سنة (120هـ) وولي بلخ ، وما وراء النهر، وكان متجبراً سفاكاً للدماء توفي سنة (131هـ).
([64]) - مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي ، أبو عبدالملك ، يعرف بالجعدي وبالحمال ، آخر ملوك بني أمية في الشام ، ولد بالجزيرة ، لقب بالحمار لجلادته ، وبالجعدي لأنه أخذ الزندقة عن (الجعد بن درهم) وكان زنديقاً، بويع له في صفر (127هـ) وكان لا يراعي من أمر الدين شيئاً ، على منهاج سلفه في انتهاك حرمة الإسلام ، وهو الذي خرج ملك بني أمية من يديه إلى بني العباس ، ولم يزل مضطرباً مدة ولايته ، قتله صالح بن علي ، وعامر بن إسماعيل المرادي سنة (132هـ) وحمل رأسه إلى أبي العباس السفاح . الشافي (1/191) .
---
[ذكر طرف من أمر الإمام يحيى بن زيد (ع)]
و (سبط زيد): يريد؛ ولد زيد الخير، وأحسب أن السِّبط أعجمي مُعَرب، (وزيد الخير)، هو: زيد بن علي -عليه السلام-، وسبطه ولده يحيى بن زيد -عليه السلام- ويكنى أبا عبدالله، وقيل أبو طالب يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه ريطة بنت عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام-، مثل أبيه -عليهما السلام- في الشجاعة، وقوة القلب في مبارزة الأبطال، وله مقامات مشهورة أيام ظهوره بخراسان في حروبه، من قتل الشجعان الذين قاتلوه، والنكاية في طلاعة الذين قابلوه، كان أبوه -عليهما السلام- لما أصيب أوصاه بجهاد أعداء الدين، ومنابذة الظالمين، فلما توفي أبوه -عليهما السلام- وكان من أمره، ما سيأتي ذكر الأهم منه مفصلاً عند ذكره -عليه السلام-، خرج من الكوفة في عشرة من خواص أبيه -صلوات الله عليه- متنكراً، فتنكبوا القرى، وتزيوا بزي الصوفية، وكان الحال إذا اشتدّ عليهم في أمر الطعام عدل بعضهم إلى القرى فاستطعم له، وتوجهوا إلى خراسان، فدخل خراسان وانتهى إلى بلخ فنزل على الحريش بن عبدالرحمن الشيباني، وكان الحريش من خلصان الشيعة ، فآواه وكتمه، وهو -عليه السلام- مجمع على الدعاء إلى سبيل ربِّه، والجهاد في سبله([1]) ، وقد حاز خصال الكمال التي تصح بها الإمامة على حداثة سنه، فإنه قام لثمان وعشرين سنة من مولده، واشتغلت بنو أميه بأمره، واشتد عليهم خطبه؛ لما علموا من فضله، وشهامته، ورفاعة بيته، وميل قلوب الصَّالحين إليه، فكتبوا بطلبه إلى الآفاق، وبذلوا الأموال في تقصص آثاره، فظفروا بعلم القصة في طريقه ومنازله، فأمر يوسف بن عمر([2]) إلى نصر بن سَيَّار يخبره بأمره وصفته وحليته، وقال: هو قطط الشعر حين إستوت لحيته.
_______________
([1]) - في (ن): سبيله.
([2]) - يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم الثقفي، أبو يعقوب ، أمير من جبابرة الولاة في العهد الأموي، ولاه هشام بن عبد الملك اليمن ، ثم نقله إلى ولاية العراق وخراسان ، كان يضرب به المثل في التيه والحمق ، فيقال : أتيه من أحمق ثقيف.
قال الذهبي : كان مهيباً جباراً ظلوماً ، قتل شر قتلة سنة (127هـ) . الأعلام (8/243).
[ذكر موقف الحريش الشيباني]
فكتب نصر بن سَيار إلى عامله على بلخ عقيل بن معقل الليثي فذكر له أنه في دار الحريش الشيباني، فطالبه عقيل بتسليمه منه، فأنكر أن يكون عارفاً بمكانه، فضربه ستمائه سوط فلم يعترف، فقال: (والله لا أرفع السوط عنك إلاَّ أن تعترف أو تموت)، فقال حريش -رحمه الله-: (والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتهما عنه، فاصنع ما بدا لك) فلما خشي ابن لحريش يقال له: قريش على أبيه القتل دس إلى عقيل بأنه يدله على يحيى -عَلَيْه السَّلام- إن أفرج عن أبيه، فدلهم عليه فأخذوه من عنده وحملوه إلى نصر بن سَيَّار فقيده وحبسه وكتب بخبره إلى يوسف بن عمر، فكتب يوسف بخبره إلى الوليد بن يزيد، فكتب إليه الوليد يأمره بالإفراج عنه وترك التعرض له ولأصحابه، فكتب يوسف إلى نصر بما أمره به، فدعاه نصر وحل قيده وقال: لا تثر الفتنة، فقال له -عَلَيْه السَّلام-، ولم يمنعه ما هو فيه من قول الحق: وهل فتنة في أمَّة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أعظم من فتنتكم التي أنتم فيها من سفك الدماء والشروع فيما لستم له بأهل؟، فسكت عنه نصر وخلى سبيله.
[دعوته(ع) وجهاده]
فخرج من عنده وتوجه إلى بيهق وأظهر الدعوة هناك، فبايعه من أهلها سبعون رجلاً وانضم إليهم من غيرها نفر، فكانت عدة من انضم إليه يسيرة، فكتب نصر إلى عمرو بن زرارة بقتاله، وكتب إلى قيس بن عبَّاد عامل سرخس، و إلى الحسن بن زيد عامل طوس في الإنضمام إلى عمرو لحرب يحيى -عَلَيْه السَّلام-، فاجتمعوا، وبلغت عدتهم زهاء عشرة الآف، فخرج -عَلَيْه السَّلام- إليهم في جماعة من أطاعه وهم يسير فقاتلهم فلم يثبتوا له وانهزموا وأذرع فيهم القتل، وقتل عمرو بن زرارة، واستباح عسكرهم، وأصاب دواب كثيرة، وخرج من بيهق إلى جوزجان ونزل قرية من قراها يقال لها: أرغوية، ولحق به جماعة من عساكر خراسان، وبقي على أمره مُدَيْدَةً يسيرة مظهراً للعدل، طامساً لرسوم الجور، مجتهداً في إظهار أمر الله، فكان من قوله هناك قوله:
يا ابن زيد أليس قد قال زيد .... من أراد([3]) الحياة عاش ذليلاً
كن كزيد فأنت مهجة زيد .... واتخذ في الجنان ظلاً ظليلاً
ومن قوله - أيضاً -:
خليلي عني بالمدينة بلغا .... بني هاشم أهل النهي والتجاربُ
رفع المصرع والشعر قافيته مرفوعة، وله وجه في العربية؛ لأن الواو تكون ها هنا للإستئناف لا للعطف فيكون التقدير في ذلك، معروفة لهم أو فيهم؛ لأنه قال بعده:
فحتى متى مروان يقتل منكم .... سراتكمُ والدهرُ فيه العجائبُ
لكل قتيلٍ معشرٌ يطلبونه .... وليس لزيدٍ بالعراقينِ طالبُ
_________________
([3]) - في (ن): من أحب.
[خبر مقتله وصلبه(ع)]
وتقصّي أخباره يطول شرحها، فنهاية الأمر في ذلك: أنهم وجَّهوا إليه ثانياً جيوشاً جمة كثيرة العدد والعدة، فظهر إليهم -عَلَيْه السَّلام- وقاتلهم قتالاً شديداً ثلاثة أيام بلياليها، ونكى فيهم نكاية عظيمة بيده، وانقرض في هذه المدة أكثر أصحابه، وما تمكنوا من الوصول إلى جانبه إلى أن أتته نشابه وقعت في جبينه رماه بها رجل يقال له عيسى من موالي عنزة فطلب في القتلى فوجده سورة بن محمد الكندي قتيلاً فحز رأسه وحمل إلى مروان الحمار، وكان قتله في شهر رمضان عشيَّة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، وصلب بدنه على باب مدينة الجوزجان، ولم يزل مصلوباً إلى أن ظهر أبو مسلم([4]) بخراسان فأنزله وغسله وكفنه ودفنه بأنبير، ومشهده هناك معروف مزور، وتتبع أبو مسلم قتلته فقتل أكثرهم وأخذ الرَّجلين الذين رماه أحدهما وحز رأسه الآخر فقطع أيديهما وأرجلهما وقتلهما وصلبهما، وأمر بتسويد الثياب، وأمر أن يناح عليه ثلاثة أيام، وروي أن في تلك السنة التي أصيب فيها -عليه السلام- ما ولد غلام ذكر في خراسان إلا سُمِّي بيحيى إعظاماً له -عليه السلام-، وفضائلة لا تحصى.
ووجه ذكره -عليه السلام- وقصته التنبيه على أن منكر فضل أهل البيت -عليهم السلام- يشارك نصر بن سَيَّار وأعوانه فيما ركبوا من الجرم العظيم، والخطب الجسيم، بقتله -عَلَيْه السَّلام- وقتاله؛ لأنهم لو اعترفوا بفضلهم، وأقرُّوا بحقهم، ما حاربوهم ولا بسطوا أيديهم بالسوء لهم، فانظر إلى ما يؤدي إنكار فضلهم من المصائب في الدين التي لا تنجبر.
_______________
([4]) - أبو مسلم، هو: عبد الرحمن بن مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية، وقائد الحركة ضد الدولة الأموية رافعاً شعار الأخذ بثأر أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وكان من القواد المشهورين قتله أبو جعفر المنصور سنة 137هـ.
[23]
وَشَارَكَ الأشرارَ في الكُناسَهْ .... لما نَفَوْا عَنْ جِسْمِ زيدٍ رأسَهْ
ونَزَعُوا لا قُدِّسُوْا لِبَاسَهْ .... ثم أطَافُوا حَوْلَهُ الحِرَاسَهْ
[ذكر طرف من أمر الإمام زيد بن علي(ع)]
زيد هذا هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، وأمه أم ولد إسمها جيدا، وكانت من أفاضل النساء -رحمة الله عليها- وقيل ثمنها ثلاثون ألف درهم، ولد سنة خمس وسبعين من الهجرة الطيبة، وكان -عَلَيْه السَّلام- أبيض اللون، أعين، مقرون الحاجبين، تام الخَلق، طويل القامة، أقنى الأنف، كث اللحية، أسود الشعر؛ إلاَّ أن الشيب قد كان خالط عارضيه، وكان يشبه بأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في الفصاحة والبلاغة والبراعة، ويعرف في المدينة بحليف القرآن، وقد روي عن خالد بن صفوان([5]) أنه قال: (إنتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي، لقد شهدته عند هشام بن عبدالملك وهو يخاطبه وقد تضايق بهشام مجلسه)، وفضائله -عَلَيْه السَّلام- لا تنحصر بالتعداد، ولا تمل بالترداد([6])، وسيأتي من ذكرها طرف فيما بعد إنشاء الله تعالى.
_________________
([5]) ـ خالد بن صفوان بن عبدالله بن الأهثم، واسمه سنان الأهثم؛ لأنه ضُرب بقوس فهثم فمه، المنقري الأهثمي تابعي جليل القدر أدرك زمن عثمان، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة كان خطيباً مصقعاً وبليغاً مفوهاً، مشهور بالبلاغة والأدب، روى عن الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- كتاب مدح القلة والكثرة وغيره ولما بلغ عمر بن عبد العزيز وفاته، قال: ثلمة في الإسلام، توفي سنة تسع وتسعين وقيل سنة مائة.
([6]) - نخ (ن): على الترداد.
[دعوته وجهاده]
قام -عَلَيْه السَّلام- من الكوفة بعد أن بث الدعاة في الآفاق واستجاب له خلق كثير من الناس، فأحوج إلى الخروج قبل انتظام أمره لوقوف يوسف بن عمر الثقفي -لعنه الله تعالى- على مكانه، وكان ظهوره ليلة الأربعاء لسبع بقين من المحرم، وكان موعده لأصحابه بالظهور في أول ليلة من صفر سنة اثنين وعشرين ومائة، واتفق خروجه من دار معاوية بن إسحاق الأنصاري([7])، وانضَّمت إليه طائفة عظيمة وتخلف قوم وانسل آخرون من الزحف فقال -عَلَيْه السَّلام-: (أظنهم فعلوها حسينيَّة) فعاد إلى القتال وراوحه ثلاثة أيام، وصارح بشعار رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، واستنصف في كل يوم من عدوه ؛ بل ظهر له الفضل عليهم ، وشهر مكانه -صلوات الله عليه-، فكان كأنَّه اللَّيث المغضب ما صد كتيبة إلاَّ كسرها.
[ذكر مقتله -ونبشه- وصلبه- وبعض كراماته(ع)]
إلى أن كان آخر يوم الجمعة، وقد اشتد عليه وعلى أصحابه الأمر، وملكت عليه الكوفة، ودخلتها الأجناد العظيمة، وفي الحيرة مع يوسف بن عمرو -لعنه الله تعالى-، أجناد متكاثفة، وقد قسم أصحابه -عَلَيْه السَّلام- فرقتين؛ فرقة بإزاء أهل الكوفة، وفرقة بإزاء أهل الحيرة، جاءه سهم فأصاب جبينه رماه به داود بن سليمان بن كيسان من أصحاب يوسف بن عمر، وغشي العسكرين الليل فراح كل إلى مكانه، فحُمل -عَلَيْه السَّلام- إلى دار في سكة البريد جريحاً وقد كان قال لأصحابه: (إدخلوا في دار معاوية بن إسحاق، فقالوا: إنك قد شهرت فيها ونخشى الطلب)، فأدخلوه الدار التي ذكرنا وجاؤه بطبيب فذكر له أنه يخشى عليه الموت إن نزع النَّصل، فأوصى -عَلَيْه السَّلام- ولده يحيى -قدس الله روحه- بجهاد أعداء الدين، والدعاء إلى سبيل ربِّ العالمين، وأمر بما يأمر به مثله، ثم قال للطبيب: (إنزع النَّصل، فنزعه وفاضت نفسه -صلوات الله عليه وسلامه-.
___________________
([7]) ـ معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري السلمي من خلص أصحاب الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-، واستخفى في داره وقتل معه في المعركة وصلب أيضاً.
وتراجع أصحابه في أمره، فمنهم من أمر بإلقائه في الفرات، فكره ذلك عليهم ولده يحيى -عَلَيْه السَّلام-، ومنهم من أشار بقطع رأسه والإحتفاظ به وطرح جسده في القتلى فكره ذلك ـ أيضاً ـ، فأجمع رأيهم بعد ذلك على قبره في ساقية نَحَّوْا عنها الماء، فلما فرغوا من الصَّلاة عليه ودفنه أجروا الماء فيها ليخفى قبره -صلوات الله عليه- ولم يقدروا أن أحداً إطلع عليهم في شيءٍ من أمرهم، وكان ذلك بعين غلام لرجل قصَّار سندي، فلما كان من الغد صاح يوسف بن عمر -لعنه الله- من دل على زيد بن علي فله من المال كذا وكذا، فدل عليه ذلك الغلام فنبشوه وقطعوا رأسه وأمروا به إلى هشام بن عبدالملك([8]) ، وصلبوا بدنه بالكناسَة([9])، ووكلوا به حرساً([10])، وجردوه من ثيابه، فكانت العنكبوت تنسج على عورته فيهتكون نسجها بالرماح، ومَرَّت إمرأة مؤمنة وهو على تلك الحال فألقت عليه خمارها فجاء تنين فوزره بالخمار، ومرت إمرأة أخرى ممن أنكر([11]) فضله وفضل أهل بيته فحقرته بإصبعها فغابت إصبعها في كفها.
_______________
([8]) ـ هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص المرواني الأموي ، من خلفاء الدولة الأموية الجبابرة طاغوت هذه الأمة الأحول الذميم، والكافر اللئيم بنص الرسول الكريم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان جباراً عنيداً ظالماً طاغياً غشوماً تولى الخلافة سنة (105هـ)، وتوفي بالرصافة رصفت عليه النار كما قال إمام الأبرار -صلوات الله عليه- سنة (125هـ)، وكانت الرصافة على أربعة فراسخ من الرقة غرباً يسكنها في الصيف. الشافي (1/187) ، الأعلام (8/86).
([9]) ـ الكناسة موضع سوق من أسواق الكوفة، ويقال: إن فيها اليوم مسجداً وتابوتاً في موضع صلب الإمام زيد بن علي ويعرف بموضع صلب الإمام زيد.
([10]) - وروى السيد الإمام أبو العباس الحسني عليه السلام في المصابيح ص(399) بسنده عن إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي قال : قال جرير بن عبدالحميد : كانت خشبة زيد بن علي يحرسها أربعون رجلاً.
([11])ـ في (ن) : ينكر .