[ذكر وقعة با خمرى التي قُتل فيها إبراهيم بن عبدالله(ع)]
عدنا إلى تفسير البيت:
قوله: (باخمرا): يريد ؛ الموضع الذي كانت فيه الوقعة بين إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن -صلوات الله عليهم-، [وبين أبي جعفر الخليفة العباسي الثاني([42])] وذلك أنه كان داعياً لأخيه محمد بن عبدالله النفس الزكية -صلوات الله عليهما- في البصرة وما والاها، وقبض له البيعة هنالك، فلما قتل -صلوات الله عليه- في المدينة - أعني النفس الزكية-وإبراهيم -عَلَيْهما السَّلام- على الجملة التي حكيناها عنه داعياً وقد غلب على البصرة والأهواز وما والاهما، وطرد عمال أبي جعفر منهما بلغه -عَلَيْه السَّلام- نعي أخيه أول يوم من شوال سنة خمس وأربعين ومائة، وهو يريد أن يصلي بالناس صلاة العيد، فصلى بالناس، ثم رقى المنبر وخطب وذكر قتله، ونعاه إلى الناس، وتمثل بهذه الأبيات:
أبا المنازل يا عبر([43]) الفوارس من .... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم .... أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه ولم أسلم أخي لهم .... حتى نموت جميعاً أو نعيش معا
________________
([42]) - ما بين القوسين زيادة لتتميم الكلام.
([43]) - المنازل على صيغة اسم الفاعل بضم الميم من تنازل الأقران في الحرب وعبر مثله بضم العين: القوي الذي يشق ما يمر به يقال: ناقة عبر أسفار، أي قوية، انتهى من حاشية في الشافي، قال في آخرها: انتهى عن خط شيخنا مجد الدين المؤيدي أدام الله آثاره ونفع بعلمه.
ثم بكى -عَلَيْه السَّلام-، ثم قال: (اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أن محمداً إنما خرج غضباً لك ونفياً لهذه النكتة السوداء، وإيثاراً لحقك فارحمه، واغفر له، واجعل الآخرة خيراً مرداً ومنقلباً من الدنيا).
ثم بَكَى وبَكى الناسُ، فلما نزل بايعه بالإمامة علماء البصرة، وفقهاؤها، وزهادها، وبايعه المعتزلة مع الزيدية، ولم يتأخر عن بيعته من فضلاء البصرة أحد، إلا أن المعتزلة إختصوا به مع الزيدية، ولزموا مجلسه، وتولوا أعماله، واستولى على واسط وأعمالها، والأهواز وكورها، وعلى أعمال فارس، وكان أبو حنيفة من دعاته سراً ولم يقطع مكاتبته، وشرح أمره -عَلَيْه السَّلام- يطول، واعتذر إليه أبو حنيفة([44]) بودائع كانت للناس عنده في الجهاد بين يديه -عَلَيْه السَّلام- فعذره، وكانت مدة إمامته -صلوات الله عليه- عن هذه الجملة شهرين، ثم توجه إليه أبو جعفر([45]) في أول ذي الحَجَّة الحرام،
______________
([44]) - أبو حنيفة: النعمان بن ثابت التميمي فقيه العراق وصاحب المذهب المشهور بالحنفي، ولد سنة ثمانين وكان عالماً فقيهاً ورعاً زاهداً عابداً ذا شأن عظيم وخطر جسيم، وكان من أهل المحبة والولاء لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وأخذ علمه عن الإمام الأعظم زيد بن علي بلا واسطة، وأخذ عن الباقر محمد بن علي، وجعفر الصادق وعبدالله بن علي بن الحسين والحسن بن الحسن المثنى وعبدالله بن الحسن الكامل، وتواتر بأن أبا حنيفة كان يفتي بالخروج مع محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن الحسن الكامل وبايع لهما، وقام أيضاً بنصرة الإمام زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان ذلك هو سبب موته سمه أبو جعفر المنصور في شهر رجب سنة خمسين ومائة رحمة الله عليه.
([45]) - أبو جعفر المنصور، هو: عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس الهاشمي الدوانيقي ولد بالشراة في ذي الحجة سنة (95هـ) وهو الخليفة الثاني من خلفاء بني العباس بويع له في ذي الحجة أيضاً سنة (136هـ)، كان عالياً من المسرفين والطغاة المتجبرين سفاكاً لدماء العترة الزكية كم قتل من أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في عصره، وتوفي في ذي الحجة سنة (158هـ) عن ثلاث وستين سنة وشهور، وكانت مدة ولايته (22سنة).
فلقيه -عَلَيْه السَّلام- وعلى ميمنته عيسى([46]) بن زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- وعلى ميسرته برد بن لبيد اليشكري، وأنفد أبو جعفر على مقدمته عيسى بن موسى([47])،, وعسكر عظيم، فالتقوا ببا خمرا بين البصرة والكوفة فوقع بينهم قتال، شرحه يطول، إنتهى الأمر فيه إلى هزيمة الميمنة من أصحاب عيسى بن زيد -عَلَيْه السَّلام-،و ثبت إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- في القلب والميسرة، فبينا هم في القتل جاءه سهم فأصاب جبينه فاعتنق -عَلَيْه السَّلام- فرسه واحتوشته الزيدية وأنزلوه عن فرسه وأخذه بشير الرحال([48]) فأسنده إلى صدره حتى قضي -عليه السلام- وبشير يردد: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)}[الأحزاب] ، وأدارت الزيدية عليه دائرة فكانوا مثل سور الحديد إلى أن نفد عامتهم ورق جمهورهم، فلما انقضت بقيتهم وُجِدَ -عليه السلام- ميتاً في أوساطهم، وقتل بشير الرحال على رأسه -صلوات الله عليه، ورحمة الله على بشير-.
فقد رأيت كيف أدى الإعتراف بفضلهم إلى الموت بين أيديهم، وأن منكر فضلهم يكون غامساً ليده في دمائهم ودماء أشياعهم؛ لأن علة الإنحراف عنهم والحرب لهم هو إنكار فضلهم وجحدان حقهم.
______________
([46]) - عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان مولده سنة تسع ومائة، وأمه أم ولد كان يلقب بمؤتم الأشبال لأنه لما انصرف من وقعة باخمرى عرضت للناس لبوة معها أشبالها فمنعت الناس الطريق فأخذ سيفه ودرقته وبرز لها وقتلها فقال بعض خدمه : يا سيدي أيتمت أشبالها ، فقال : نعم ؛ أنا مؤتم الأشبال، كان من عيون العترة وفضلائها في عصره، ومن المشار إليهم في وقته، وكان صاحب علم كثير وورع ودين ويقين وبصيرة، شهد معركة باخمرى مع إبراهيم بن عبدالله وكان صاحب رايته، ولما قتل إبراهيم بن عبدالله توارى في أيام أبي جعفر المنصور، وتوفي أيام المهدي متوارياً وكانوا يخافون منه الخوف الشديد، وكان عيسى -عَلَيْه السَّلام- يقول: والله لأن يبيتن ليلة واحدة خائفاً مني أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس، وبذل له أبو جعفر الأمان فأبى ولم يقبل وتوفي بالكوفة وله ستون سنة عام تسع وستين ومائة.
([47]) - عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس الهاشمي أبو موسى ، ابن أخي السفاح ولد في الحميمة سنة (102هـ) ونشأ بها، كان من القواد العباسيين السافكين لدماء عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، كم جيش من جيوش الضلالة قد قادها إلى محاربة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، ولاه السفاح الكوفة سنة (132هـ) ، وجعله ولي عهد المنصور أبي جعفر ، ثم استنزله أبو جعفر سنة (147هـ) وجعله ولي عهد ابنه المهدي، ثم خلعه المهدي سنة (160هـ) بعد تهديد ووعيد {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام:129]، توفي بالكوفة سنة (167هـ). [الأعلام للزركلي (5/109)].
([48]) - بشير الرحال: كان من أتباع الأئمة الأعلام، ومن خلصان الشيعة الكرام، كان أحد علماء وفقهاء المعتزلة عالماً زاهداً يضرب به المثل، وسمي رحالاً لكثرة ترحاله إلى الحج، استشهد مع الإمام إبراهيم بن عبدالله بباخمرا سنة خمس وأربعين ومائة رحمة الله عليه.
[ذكر وقعة أتوه التي أسر فيها المرتضى محمد بن الهادي يحيى(ع)]
و (صحرا أتوه): هي تربتها، (وأتوه([49])) هذه هي موضع معروف في مشرف بلد همدان قريباً من مكان مشهور يقال له مدر([50])، وكانت الحروب بين الهادي -عَلَيْه السَّلام- وبين إبراهيم بن خلف ([51]) -لعنه الله- فيها، وكانت اليد في ذلك اليوم للظالمين ومتعهم الله -سبحانه- إلى حين، وأملاهم إن كيده متين، وهو يوم عظمت فيه البلوى على المؤمنين، وهو اليوم الذي أُسر فيه المرتضى لدين الله محمد بن يحيى([52]) عليه السلام، وقتل عامة الطبريين،
____________
([49]) - أتْوَه: بلدة حميرية من بلاد أرحب عيال أبو الخير . مجموع بلدان اليمن وقبائلها (1/56).
([50]) - مدر: بلدة مشهورة في بلاد أرحب شمال صنعاء على مسيرة يوم . مجموع بلدان اليمن (2/698).
([51]) - إبراهيم بن خلف بن طريف بن ثابت الكباري الحاشدي ، كان يلقب الوقاف ، من فرسان اليمن وأهل الشوكة ، ناصب الإمام الهادي وعارضه وحاربه في وقعات عديدة ، وله مع آل يعفر ملوك اليمن وقعات وملاحم ، قتل في جبل (جرابي) من مغارب صنعاء ، وحز رأسه وأرسل إلى آل يعفر ، وذلك في محرم سنة (292هـ) .
([52]) - المرتضى لدين الله جبريل أهل الأرض محمد بن يحيى الهادي إلى الحق بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، ولد -عَلَيْه السَّلام - سنة ثمان وسبعين ومائتين ، وأمه فاطمة بنت الحسن بن القاسم كان عالماً أصولياً متبحراً وفقيهاً بارعاً، دعا إلى الله تعالى بعد وفاة أبيه الهادي إلى الحق سنة ثمان وتسعين ومائتين، وقام بحروب مع علي بن الفضل القرمطي ، ولما شاهد من أحوال الناس وتغير طرائقهم بعد موت الهادي عن طريق السداد والصلاح ومجاهرة كثير منهم بالمناكير وإظهار الفساد تخلى عن الأمر بعد قدوم أخيه الناصر أحمد بن يحيى من الحجاز، فسلم له الأمر وتوفي -عَلَيْه السَّلام- سنة عشر وثلاثمائة، وله إثنتان وثلاثون سنة، ودفن إلى جنب أبيه -عَلَيْهما السَّلام-، التحف الفاطمية شرح الزلف الإمامية للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى190، الإفادة في تاريخ الأئمة السادة169، الشافي، الحدائق الوردية - خ - اللآلي المضيئة - خ -.
وقد كان الهادي -عَلَيْه السَّلام- عزم على الترجل للموت فكره عليه ذلك الطبريون وقالوا: (أيها الإنسان لا تفعل فإنَّا طلبنا أمراً فوجدناه وهو الشهادة، وإن في المسلمين منَّا العوض، وإن قتلت فلا عوض للإسلام عنك)، وقال له ولده محمد بن يحيى -عَلَيْهم السَّلام-: (أيها الإنسان لا تفعل فإنك اليوم إن قتلت إنهد ركن الإسلام، وإن قتلنا فإن الله يعيضك بنا) فلم يزالوا به حتى تأخر عنهم -عَلَيْه السَّلام- وقال: (أفارقكم فراق، والله غير ساخ بفراقكم)، فتأخر إلى ورور فقتلوا عن آخرهم -رحمة الله تعالى عليهم- وأسر محمد بن يحيى في نفر يسير([53]).
_____________
([53]) - وثاني عشرها: سأل أيّده الله عما روينا في الشرح من تأخر الهادي -عليه السلام- عن ولده المرتضى لدين الله -عليه السلام- يوم أسره ، وعن أصحابه -رضي الله عنهم- وذكر أيده الله أن للهادي -عليه السلام - في ذلك شعراً موجوداً في كتاب سيرته ينكر ذلك معناه أنه لو حضرهم لدافع حتى يموت ؛ فكيف ذلك ؟
الجواب عن ذلك : أن الخبر الذي رويناه صحيح ولا إشكال فيه ولا روي عن شك ؛ لأن أسر المرتضى -عليه السلام- كان في (أتوه) والهادي -عليه السلام- لم يتخلف من نهوضه من ورور فأقام فيه أياماً ، ثم أتى علم بخروج القوم وكثرة من جمعوا من أحزاب الضلال فنهض إلى (أتوه) لكونها أحصن ؛ فما راعه إلا وصول القوم -لعنهم الله- في جنود لا يحصى عديدها ، ولا ينادى وليدها ، قائدهم إبراهيم بن خلف ، فنشبت الحرب بين الفريقين ، وكان دعام بن إبراهيم الأرحبي في خيل عظيمة ؛ فأمر إليه الهادي -عليه السلام- يسأله المعونة ببعض خيله فكره.
ودل العدو رجل من أهل خيوان -لعنه الله- على مكان طلعت منه جنودهم حتى صاروا من خلف الهادي -عليه السلام- فلما رأى ذلك ثنى رحله للنزول ؛ فقال الطبريون -رحمهم الله- :ما تريد؟ قال: أقاتل معكم حتى نموت جميعاً. قالوا: هذا أمر طلبناه فوجدناه، ولك بنا من المسلمين عوض، وليس للإسلام عنك عوض.
وقال له المرتضى -عليه السلام- : أيها الإنسان إنك اليوم إن قتلت انهد ركن الإسلام ، وإن قتلنا فإن الله يعيضك بنا مثلنا أو من هو خير منا .
فقال -عليه السلام- : أفارقكم والله فراق غير ساخ بفراقكم ؛ وتأخر نظراً للإسلام وتحرياً لمصلحة الدين ، لا جبناً ولا فشلاً ، والقوم يطعنونه برماحهم وينحيها بسوطه ؛ لأن رمحه كان قد فات ، وكان عمر الرمح في يده -صلوات الله عليه- قصيراً ، فقال له بعض أصحابه : يا سيدي سل سيفك ، فقال : ما كنت لأسله إلا أن أضرب به .
وفرقت الهزيمة الناس ، وكان المرتضى -عليه السلام- في خيل فوثب فهوى ، فقصر مهره لضعف كان فيه ، فصعق به المكان وصاحبه كانت فيه غشي منها ، وأسر معه محمد بن سعيد -رحمه الله- في جماعة.
وشعر الهادي -عليه السلام- على أنه لم يعلم به ولو كان في جهته فكذلك كانت الحال ، ولو كان في جهته لم يسلمه ، وكان يفعل ما قال ؛ لأنه لا يتهم في قوله -عليه السلام- ؛ فعذره -عليه السلام- حق .
فأما أنه أسر في يوم آخر فهذا ما لم يقل به أحد من أهل المعرفة ، وإنما عند جهال الشيعة الذين عزلوا نفوسهم عن مراس الحرب ، وتفرغوا للطعن على أئمة الهدى ، أن الإمام لا ينهزم ولا يتأخر عن مقامه ولا يجوز له ذلك ، وهم لا يعرفون الآثار ، ولا باشروا الحال ، فيعلموا أحكام المحال ، وتصرف النزال في انحياز النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلى شعب أحمد :
فلولا صعود الشعب عاود أحمد ولكن نجا والسمهري شروع
وعلي -عليه السلام- يوم طغيان جنود أهل الشام في بعض أيام صفين انحاز إلى جانب ربيعة وأرجف الناس أنه -عليه السلام- قتل إلى أن علموا بمكانه فجاءه الرؤساء يهنئونه ويهنئون ربيعة بانحيازه إليهم ثقة بهم ، ولو شرحنا ما يتعلق بهذا الباب لطال.
والقوم فتح لهم الباب ، وقيل : ادخلوا، فجعلوا يطلبون من أي مكان يتسورون ليروا أن هناك طريق أخرى ، وما سوى الباب طريق لمن يريد الصواب .
وإقامته -عليه السلام- في ورور سنة وزيادة ، والقوم يكاتبونه على تخليص ولده، ويرجع إلى صعدة، فكره وطمع بالنصر من قبائل همدان فلم ينصروه ، فراح إلى صعدة وولده -عليه السلام- في صنعاء ، ثم نقل إلى بيت بوس ببيت اليافعي على يدي ابني يعفر ، ثم نقل إلى شبام، ثم أطلق منها ، وليس الغرض الإقتصاص وإنما أردنا زيادة بيان ، وقاد بعض الحديث بعضاً ، والسيرة عندنا مضبوطة ولعلها النسخة الثانية من الأولى ، أو الثالثة بالرواية الصحيحة ، وإقرار آبائنا -رضي الله عنهم- بها ؛ فنعوذ بالله من الشك بعد اليقين ، ونسأله سلوك سبيل المتقين .
فانظر إلى معرفة أشياعهم بحقوقهم الإلهية كيف حملتهم على الإستهانة بالموت وإستصغار خطره، فلو كان ذلك لعملٍ لكان في العاملين كثرة؛ لكنها حقوق سماويَّة إلاهية، لشخوص معينة مرضيَّة، هادية، مهدية، وكيف لا يكونون أهل ذلك وهم دعوة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وذريته ونسل إسماعيل وزرع إبراهيم -عليه السلام-، فتأمل -رحمك الله- بعين بصيرتك في أي الصفوف يكون منكر فضلهم، أفي صف أوليائهم، أم في صف أعدائهم؟،لأن أعداءهم ما حاربوهم إلاَّ بجهلهم بحقهم، وإنكار فضلهم، وإن وقع لغرض آخر في بعض الحالات فالجهل بفضلهم أصل لذلك كله.
[22]
ثم بِيَحْيَى في بلادِ البَهْلَوَانْ .... إذْ أنْزلُوهُ مِنْ شَمَاريخِ القِنانْ
وَفِعْلِ نَصْرٍ نَجْلِ سَيَّارِ الهُدَانْ .... بسِبط زيدِ الخيرِ يومَ الجوزجانْ
قوله: (يحيى): يقول: يكون - أيضاً - منكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- مشاركاً للظالمين فيما فعلوه بيحيى ؛ لأن علة إساءتهم إليه وتخلف من تخلف عنه إنكار فضله، وجحدان حقه، وحق أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-.
[ذكر طرف من أمر الإمام يحيى بن عبدالله(ع)]
ويحيى المذكور ها هنا، هو يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وأمه قريبه بنت عبدالله ويعرف بذبيح ابن أبي عبيد بن عبدالله بن زَمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي، وكان -عَلَيْه السَّلام- متقدماً في أيامه جماعة أهل بيته في العلم والفضل، قد روى حديثاً كثيراً عن أخيه محمد، وعن جعفر بن محمد -عَلَيْهم السَّلام- وعن أبان بن تغلب([54])، وروى عنه جماعة من أهل العلم، منهم مخول بن إبراهيم([55])،
____________
([54]) - أبان بن تغلب بمثناة فوقية، ثم غين معجمة ساكنة ولام مكسورة فموحدة: أبو سعيد الكوفي القاري، من ثقات محدثي الشيعة الأثبات له رواية واسعة، روى عن أعلام العترة كالإمام زيد بن علي، وأخيه الباقر، والصادق وغيرهم من أعلام الشيعة.
وروى عنه أيضاً الإمام يحيى بن عبدالله، وعباد بن العوام الواسطي وغيرهم، وتوفي سنة أربعين ومائة، وروى عنه أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني، وأخرج له البخاري ومسلم والأربعة، قال فيه الإمام الحافظ الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي - أيده الله تعالى-: هو من الأعلام الثقات، انظر لوامع الأنوار ج2 / 343، وج3 / 226.
([55]) - مخول بن إبراهيم بن مخول بن راشد النهدي الكوفي عده السيد صارم الدين من ثقات محدثي الشيعة، وكان من أصحاب يحيى بن عبدالله -عَلَيْه السَّلام-، حبسه هارون الرشيد مع جماعة من أصحاب يحيى بن عبدالله في المطبق بضع عشرة سنة حتى ضعفت ساقاه، قال في الطبقات: والظاهر أنه بقي إلى سنة ثلاث وتسعين ومائة، انتهى - الفلك الدوار، رأب الصدع 3/ 1840، مقاتل الطالبيين 405، الطبقات / خ -.
وبكار بن زياد([56])، ويحيى بن مُساور([57])، وعمرو بن حَمَّاد([58])، وكان جعفر بن محمد -عَلَيْه السَّلام- أوصى إليه، وإلى ابنه موسى، وإلى أم ولد له، وكانت وصيته -عَلَيْه السَّلام- مشتركة بينهم، وكان -عَلَيْه السَّلام- يلي أمر تركاته وأصاغر أولاده مع موسى، وكان -عَلَيْه السَّلام- حسن الوجه، فارساً، شجاعاً، وكانت له مقامات مشهورة في مبارزة الأعداء وقتل الأبطال مع الإمام الحسين بن علي صاحب فخ، وسيأتي حديثه فيما بعد إنشاء الله -تعالى-، جال -عَلَيْه السَّلام- في البلدان يطلب مراغماً ينشر منه أمر الله، ويدعو فيه إلى دينه، حتى ذكر أنه بلغ بلاد الترك وغيرها فأعجزه ذلك، ثم صار تأخره إلى بلاد الديلم وطلع جبلاً من جبالها ودعا إلى دين ربِّه، وكان في سبعين من أهل بيته وأشياعهم، وكان هارون فزعاً من أمره، مذعور القلب من هيبته لما يعلم من شهامته وفضله، وإجماعه على إظهار كلمة ربِّه.
______________
([56]) - ذكره الإمام أبو طالب في الإفادة في تاريخ الأئمة السادة (75) .
([57]) - يحيى بن مساور التميمي ، عن أبيه والصادق والإمام الحسين الفخي وغيرهم ، وعنه حرب بن الحسن وعبدالعزيز بن إسحاق وحسن بن حسين العرني ، كان يحيى بن مساور من رجال الزيدية بايع يحيى بن عبدالله ، وكان قد أعطاه يحيى ثلاث بدر ثم إن يحيى احتاج فقال لابن مساور : احتل لي في ألف دينار فقال : ابعث برسول ومعه بغل فوجه إليه ابن مساور بالثلاث البدر فقال له يحيى : ما هذا؟ قال: هذا الذي أعطيتني علمت أنك ستحتاج فقال : خذ بعضه . فقال ابن مساور : لا والله ما كان الله ليراني آخذ على حبكم درهماً واحداً . انظر الجداول (خ) .
([58]) - عمرو بن حماد بن طلحة الكوفي أبو محمد النقاد عده السيد صارم الدين، وابن حميد، وابن حابس من ثقات محدثي الشيعة، وثقه غير واحد، توفي سنة إثنتين وعشرين ومائتين في شهر صفر.
[بيان السبب في أخذ يحيى بن عبدالله (ع) وقتله]
فكان قد بذل الأموال للتجسس عن أخباره في وقت إستتاره؛ حتى ظهر في الديلم في سبعين رجلاً فوجه إليه الفضل بن يحيى([59]) في خمسين ألف مقاتل نخبة، من وجوه الأجناد، وشياطين أهل الفساد، فتغرب -عَلَيْه السَّلام- في مكانه ، وأعمل الفضل أنواع الحيل في إخراجه من هناك إزالة للتهمة عن نفسه، فقد كان سعي به إلى هارون في حال إستتاره أن الفضل يعرف مكانه، ويحب كتمانه، فكاتب ملك الديلم وأخذه بالترغيب والترهيب، وكانت إمرأة ملك الديلم غالبة عليه فأشارت عليه بخذلان يحيى -عَلَيْه السَّلام-؛ بل القيام عليه إن امتنع من النزول إليهم،
______________
([59]) - الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد وأخوه من الرضاعة، وأحد مستشاريه توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة (193هـ).
فلما رأى ذلك -عَلَيْه السَّلام- علم أنه لا طاقة له بحربهم جميعاً، فراسل الفضل في الوثاق له من هارون، وانعقاد الصلح، وغمد السيف، فأمر له هارون بكتاب بخط يده فيه من العهود([60]) والمواثيق والأيمان المغلظة والشهود ما لا مزيد عليه، فنزل -عَلَيْه السَّلام- عند ذلك وجرت أمور شرحها يطول،
____________
([60]) - كتاب الأمان الذي وجه به هارون الرشيد إلى يحيى بن عبدالله ذكره أحمد بن سهل الرازي في أخبار فخ-منشورات مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية- وذكره الإمام المنصور بالله في الشافي، ونسخة الأمان هي:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب أمان من أمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب ليحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ولسبعين رجلاً من أصحابه، أني أمنتك يايحيى بن عبدالله والسبعين رجلاً من أصحابك بأمان الله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم من سرائر العباد ما يعلم من علانيتهم، أماناً صحيحاً جائزاً صادقاً ، ظاهره كباطنه ، وباطنه كظاهره، لايشوبه غل ولا يخالطه غش يتعلله بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، فأنت يايحيى بن عبدالله والسبعون رجلاً من أصحابك آمنون بأمان الله على ما أصبت أنت وهم من مال أو دم أو حدث على أمير المؤمنين أو على أصحابه وقواده وجنوده وشيعته وأهل مملكته وأتباعه ومواليه وأهل بيته ، وأن كل من طالبه أو طالب أصحابه بحدث كان منه أو منهم من الدماء والأموال وجميع الحقوق كلها وما استحق الطالب على يحيى بن عبدالله وأصحابه السبعين فعلى أمير المؤمنين هارون بن محمد ضمان جميع ذلك وخلاصه حتى يوفيهم حقوقهم أو يرضيهم بما شاؤا بالغاً ما بلغت تلك المطالبة من دم أو مال أو حد أو قصاص، وأنه لايؤاخذه بشيء كان منه أو منهم مما وضعنا في صدر كتابنا هذا، ولا يأخذه وإياهم بضغن ولا ترة ولا حقد ولا وَغَر بشيء مما كان منه من كلام أو حرب أو عداوة ظاهرة أو باطنة مما كان منه من المبايعة والدعاء إلى نفسه، وإلى خلع أمير المؤمنين هارون، وإلى حربه.
وأن أمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب أعطى يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب والسبعين رجلاً من أصحابه عهداً خالصاً مؤكداً وميثاقاً غليظاً واجباً وذمة الله وذمة رسوله وذمة أنبيائه المرسلين وملائكته المقربين ، وأنه جعل له هذه المواثيق والذمم له ولأصحابه في عقدة مؤكدة صحيحة لابراءة له عند الله في دنياه وآخرته إلا بالوفاء بها وأني قد أنفذت ذلك لك ولهم ورضيته وسلمته وأشهدت الله وملائكته على ذلك، وكفى بالله شهيداً، وأنك وإياهم آمنون بأمان الله ليس عليك ولا عليهم عتب ولا توبيخ ولا تبكيت ولا تعريض ولا أذى فيما كان منك ومنهم إذ كنت في مناواتي ومحاربتي من قتل كان أو قتال أو زلة أو جرم أو سفك دم أو جنايةٍ في عمدٍ أو خطأ أو أمرٍ من الأمور سلف منك أو منهم في صغير من الأمور ولا كبير في سرٍ أو علانيةٍ، ولا سبيل إلى ما جعلت لك من أماني ولا إلى نكثه بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب وأني قد أذنت لك بالمقام أنت وأصحابك أين شئت من بلاد المسلمين لاتخاف أنت ولا هم غدراً ولا ختراً ولا إخفاراً حيث أحببت من أرض الله، فأنت وهم آمنون بأمان الله الذي لا إله إلا هو لا ينالك أمر تحاذره من ساعات الليل والنهار، ولا أدخل عليك في أماني غشاً ولا خديعة ولا مكراً، ولا يكون ذلك مني إليك بدسيس ولا جاسوس، ولا إشارة ولا معاريض ولا كناية ولا تصريح، ولا شيء مما تخافه على نفسك من حديد ولا مطعم ولا مشرب ولا ملبس ولا أضمره لك، وجعلت لك ألا ترى مني انقباضاً ولا مجانبة ولا ازدراء، فإنْ أمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب نقض ما جعل لك ولأصحابك من أمانهم هذا أو نكث عنه أو خالفه إلى أمر تكرهه أو أضمر لك في نفسه غير ما أظهر أو أدخل عليك فيما ذكر من أمانه لك ولأصحابك إلتماس الخديعة أو المكر بك أو نوى غير ما جعل لك الوفاء به، فلا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وزبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر طالق منه ثلاثاً بتة، وأن كل مملوك له من عبد أو أمة أو سرية وأمهات أولاد أحرار وكل امرأة يتزوجها فيما يستقبل فهي طالق، وكل مملوك يملكه فيما يستقبل من ذكر أو أنثى فهم أحرار وكل مال يملكه أو يستفيده فهو صدقة على الفقراء والمساكين، وإلا فعليه المشي إلى بيت الله الحرام حافياً راجلاً، وعليه المحرجات من الأيمان كلها، وأمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله خليع من إمرة المؤمنين والأمة من ولايته براء ولا طاعة له في أعناقهم والله عليه بما أكد وجعل على نفسه في هذا الأمان كفيل وكفى بالله شهيداً، انتهى.