[نص كلام الإمام القاسم (ع) في التفضيل]
وقد صرح بالقافية بموضع الحجَّة من كلامه وهو قوله -عَلَيْه السَّلام- في أول كتاب (تثبيت الإمامة) من تصنيفه -عَلَيْه السَّلام- فقال فيه بعد التسمية: (الحمد لله فاطر السموات والأرض، مفضل بعض مفطورات خلقه على بعض ؛ بلوى منه للفاضلين بشكره، واختباراً للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره، ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله، وليذيق المفضولين بسخط إن كان منهم في ذلك من تنكيله، ابتداء في ذلك للفاضلين بفضله، وفعلاً فعله بالمفضولين عن عدله؛ لقوله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)}[الأنبياء] ) فهذا تصريح منه -عَلَيْه السَّلام- بالمفاضلة بين خلقه، وبأنه ابتدأهم بذلك، وبأنه أوجب على الفاضلين الشكر وعلى المفضولين الصبر، وأن المفضولين إن سخطوا حكمه وقسمه في ذلك نكلهم، وأن الفاضلين إن شكروا زادهم في الآخرة وأعطاهم ثواب الشاكرين، وهذا مذهبنا بغير زيادة ولا نقصان قد أجمله -صلوات الله عليه- في هذا الفصل، فالحمد لله الذي جعلنا من ذريته، وهدانا لسلوك منهاجه، فالواجب على العاقل إنصاف نفسه، وتصفّح قول هداته وأئمته، وإمعان النظر في كتاب ربِّه، والإقتداء بالمستحفظين من عترة نبيئه -صلى الله عليه وعليهم أجمعين-.
وكلام القاسم -عَلَيْه السَّلام- في الفضل والمفاضلة كثير ولكنا ملنا إلى الاختصار ، وفيما ذكرنا كفاية لأهل العقول والأبصار، ومن احتججنا بقوله من الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- فإنما ذكرنا من كلامه فصلاً أو فصلين لمبدأ بغرض الذي قدمناه، ومن لم ينتفع باليسير لم ينتفع بالكثي،ر وضوء البارق يشير بالنوء المطير.
[كلام الإمام محمد بن القاسم(ع) في التفضيل]
[15]
ثُمَّ ابنُهُ ذو الشَّرفِ الأصِيلِ .... محمدٌ ذو الفهمِ والتحصيلِ
حَقَقَ في الثَالِثْ مَنَ الأُصُولِ .... قولاً يُزيلُ مذهبَ الجَهُولِ
عقب كلام القاسم -عَلَيْه السَّلام- في أن الله -تبارك وتعالى- يفضل من يشاء من عباده بما شاء من أنواع التفضيل، ويمتحن من يشاء من عباده بما شاء من أنواع الإمتحان، وأن ذلك كله حكمة، وأن الإعتراض عليه -سبحانه- في ذلك لا يجوز بقول ابنه محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام-.
[ذكر طرف من أمر الإمام محمد بن القاسم (ع)]
وقد كان لمحمد بن القاسم([16]) -عَلَيْه السَّلام- من العلم والفضل ما برز به على أهل زمانه من العترة الطاهرة وغيرها، وهو أشهر من أن يحتاج إلى كشف شيءٍ من أمره،
_____________
([16]) - محمد العابد بن القاسم ترجمان الدين بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغَمر بن الحسن الشبه بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-، كان من أورع أهل زمانه، وكان إذا تكلم لم يتكلم أحد من أولاد علي بن أبي طالب إلا بعد كلامه، وكان يتنزه عن أكل أموال السلطان، وعن كثير مما يأتي من القوم، ويتورع عن ذلك كله.
وعن الحسين بن القاسم، قال: سمعت أبي القاسم بن إبراهيم يقول: صحبت الصوفية أربعين سنة، ودرت الشرق والغرب، ولم أر رجلاً أبين ورعاً من ابني محمد، وكان قد باع لله نفسه، فخرج إلى الحيرة هو وأخوه سليمان فنزل على أشهب بن ربيعة صاحب العدن فبايعه وأخذ له بيعة كثيرة، وكان له بيعة باليمن، وأخذ له بن الجروي بيعة بمصر وكتب إليه وهو في الحجاز يخبره بمن بايع له وبكثرة أنصاره، فلم ير التخلف بعد ذلك فخرج إلى مصر، ثم ورد عليه كتاب ابن الحروي وهو في الطريق يعلمه أن جيوش بني العباس قد ضبطت البلاد، وأن كل من بايعه قد ذهب ونكث بيعته ولم يكن صحبه من الحجاز إلا شرذمة تقل عن مكافحة العساكر فرجع غير مختار للرجوع، وكانت له بيعة بطبرستان وبيعة بكرمان، وكان حريصاً على القيام مجتهداً غير متوان، ولكنه علم من أهل دهره كثرة الغدر والإخلاف في كل أمر حتى كبرت سنه ولزمه المرض في ركبتيه فزال عنه فرض القيام عند ذلك وهو في ذلك الوقت كان عمره نيفاً وثمانين سنة، وكانت وفاته -عَلَيْه السَّلام- سنة إحدى وثمانين ومائتين ويكون مولده قبل المئتين بقليل أو رأسها وقبره بجوار والده بالرس. انتهى من طبقات الزيدية الكبرى ج2 ، وكتاب التنيبه والدلائل للإمام القاسم بن علي العياني عليه السلام (خ).
هؤلاء إخوته الفضلاء النجباء الحسن([17])، والحسين([18])، وسليمان([19])، أولاد القاسم بن إبراهيم -عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام- لم يعرف لأحد منهم في أنواع العلم ما عرف له -عَلَيْه السَّلام-، وهو الذي روى عن أبيه القاسم -عَلَيْه السَّلام- كتاب -الفرائض والسنن- وفقهاً كثيراً،
____________
([17]) - الحسن بن القاسم بن إبراهيم: كان من خيار أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- قال الإمام القاسم العياني في التنبيه والدلائل : وكان فقيه أهل زمانه مع ما كان يذكر عنه من بصره بالأمور وحسن جواره للجيران ورحمته للأيتام، كان بالمدينة سيداً رئيساً، ثم خرج إلى اليمن مع ابن أخيه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عَلَيْهم السَّلام- وتوفي هناك وقبره في قبة الإمام الهادي جنب قبر الإمام الهادي وولده المرتضى في تابوت واحد.
([18]) - الحسين بن القاسم بن إبراهيم: كان يلقب بالعالم والحافظ، وهو والد الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، وكان عالماً فاضلاً معدوداً في قدماء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وكان وحيدا في أهل بيته وتوفي رحمة الله عليه في أواخر الثلاثمائة، وقبره في الرس مع والده القاسم -عَلَيْه السَّلام- في مشهد واحد.
([19]) - سليمان بن القاسم بن إبراهيم الرسي سكن المدينة، وكان من خيار أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وعلمائهم وفضلائهم.
وكان ممَّا زاد في يقين محمد بن عبيدالله العلوي العباسي([20]) -رضي الله عنه- ومن كان معه من أهل العلم لما وصلوا لإستنهاض الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- إلى أرض اليمن أن عمَّه محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- أمره بالتقدم في الصلوة بهم وامتنع يحيى بن الحسين -عَلَيْه السَّلام- من ذلك فتقدم محمد -عَلَيْه السَّلام- فصلى بهم ثم استحل بعد ذلك من يحيى بن الحسين وقال: (ما كان لي أن أتقدمك)، ولما توجه إلى أرض اليمن سأله خرقة من الغنائم يصلي عليها، فارتفع لذلك الشك في أمره -عَلَيْه السَّلام-، وازدادوا بصيرة ويقيناً لما يعرفون من علم محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- وفضله ، وتأسف على فوت الجهاد بين يديه لسنه وضعفه، وأكثر ما حكيناه([21]) عن محمد بن القاسم -عَلَيْه السَّلام- مذكور في سيرة الهادي -عَلَيْه السَّلام-،
______________
([20]) - محمد بن عبيدالله بن عبيدالله بن الحسن بن عبيدالله بن أبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السلام العلوي العباسي ، أبو جعفر ، كان عالماً فاضلاً شجاعاً ورعاً ، من خيار أصحاب الإمام الهادي عليه السلام ، كان والياً له على نجران ، وقتله بنو الحارث بنجران في وقعة تشبه وقعة الطّف وقتل معه جماعة من أهل بيته ، رحمة الله عليه ورضوانه. وقد بلغ الحقد والانتقام والجرأة الغاية ويكفي في ذلك قول الشاعر القرمطي حيث ارتجز وهو يحز رأس أبي جعفر محمد بن عبيدالله العلوي :
شفيتُ نفسي وبلغتُ مأربي .... ولا أبالي بعد ذا ما حلَّ بي
من سخط الله ومن لعن النبي
انظر التحف شرح الزلف (180).
([21]) - نخ (ن) : حكينا.
وقد كان في قول القاسم -عَلَيْه السَّلام- كفاية، ولكنَّا أردنا مظاهرة أقوال آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ليعلم المستبصر اللبيب أنَّا على منهاجهم نلقطه لقطاً، وأن من إنتسب إلى آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- ورفضنا جعل ذلك تدليساً لأمره، وتلبيساً على العوام بمكره، وأنه كما خالفنا - أيضاً -مخالف لآبائنا -عَلَيْهم السَّلام-، وإنما انتسب إليهم إلحاداً في الدين، وتمويهاً على ضعفة المسلمين.
[نصُّ كلام الإمام محمد بن القاسم(ع) في التفضيل]
وقد صرّح في القافية بموضع كلامه -عَلَيْه السَّلام-، وهو الأصل الثالث من الأصول السبعة([22])، وأنه -عَلَيْه السَّلام- قال في معنى قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)}[الفجر] ، وقال -عَلَيْه السَّلام-: (يا هذا أكرمك لتظلم عباده، وتفسد في بلاده، ما هذا جزاء من أكرم) هذا كلامه -عَلَيْه السَّلام- فنبه على أن حقَ المكرِم الشكرُ فطابق قوله قول أبيه -عَلَيْهما السَّلام-.
______________
([22]) - الأصول السبعة ويسمى الأصول الثمانية من أعظم مؤلفات الإمام محمد بن القاسم (ع) في الأصول ، وقد طبع باسم (الأصول الثمانية) ولدينا منه نسخة مخطوطة . ونص كلامه هذا في ص(45) من المطبوع وفيه زيادة وهذا نصه :
[يا هذا أكرمك لتعصيه وتفسد في أرضه وتظلم عبيده ، ما هذا يستحق من أكرم ؛ ثم ساق الآية وقال بعدها : أهانك يا هذا لينتفع أو يدفع عن نفسه بإهانتك ضرراً ، جل وعلا ، أليس هو الغني الحكيم العزيز الذي لا يحتاج ولا يذل ، والحكيم لا يفعل القبيح ، وأي قبيح أقبح من إدخال الإهانة على غير مستحقها ، لا ولكن جهلوا الله سبحانه فجهلوا أفعاله ، وإنما يبتلي العباد بهذين الوجهين لأن ذلك مصلحة لهم وإن كانوا لا يعلمون ، كالجدب والخصب، والصحة والمرض ، والقوة والضعف ، والسواد والبياض ، والشرف والدون ، فمن صبر على ما لا يحبه أُجِر ، ومن شكر على ما يريد أُجِر ، لأن الدار دار بلوى ، وليست دار البقاء ، ولا دار الجزاء ، فلا يكون فيها محن ولا ابتلى].
ثم قال -عَلَيْه السَّلام-: ({وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)}[الفجر] ، يا هذا أهانك لتجلب إلى نفسه نفعاً، أم تدفع عنها ضرراً، أليس هو الغني، والغني لا يحتاج!؟ أليس هو الحكيم، والحكيم لا يفعل القبيح !؟، لا والله ولكن جهلوا الله -تعالى- فجهلوا أفعاله، وإنما يبتلي عباده بهذين الفعلين من الغنى والفقر، والصحَّة والسقم، والجدب والخصب، والبياض والسواد، والحسن والسماجة، والشرف والدون؛ لمصلحتهم وإن كانوا لا يعلمون) وهذا الفصل وإن صرّح فيه - عليه السلام- بأنه ابتلى عباده بالشرف والدون، وهو الذي يزيد في المفاضلة والفضل، فقد صرح فيه بأقوال أخرى مما يخالفنا فيها منكروا الفضل وهي المفاضلة في الرزق، والخلق، والإمتحان بالصحة والسَّقم ؛ لأنه -عَلَيْه السَّلام- صرح بأن الغنى والخصب، والبياض، والصحة، والحسن، والشرف من فعله تعالى، وأن نقائضها من الفقر، والسقم، والجدب، والسواد، والسماجة، التي هي الشواهة، والدون من فعله - أيضاً - تعالى، وأن الجميع مصلحة في الدين، فإن من جهل ذلك فهو جاهل بالله -سبحانه وتعالى- لأنه إذا عَلِمَ اللهَ -سبحانه وتعالى- وعلم أن له داراً يعيض فيها الممتحنين، ويثيب الشاكرين، علم أن المحنة من قِبله، وأن النعمة التي أوجبت الشكر من عنده تعالى، وأن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة تقضي العقول بحسنه، ولا تمنع الحكمة من فعله ؛ لأن الحكمة لا يجب قصرها عند من يعرفها على المحبوب دون المكروه؛ بل ربما تقع في المكروه أكثر.
ألا ترى أن أكثر المشتهيات قبيح، وأكثر المكروهات حسن، ولا يجهل ذلك إلا من جهل الله -تعالى- كالثنوية ومن طابقها، فأمَّا المعترفون بالوحدانية فما علم بينهم خلاف قبل حدوث هذا القول، فيجب على العاقل التيقظ، وتعرف أقوال الأئمة، وطرائق الصالحين، واختلاف العلماء، والنظر في أدلة العقول، وإطراح التقليد، ليعلم أين تقع قدمه؛ لأن الزلة في الدين عظيمة، ومن دحضت قدمه فيه فلا قرار له دون النار، نعوذ بالله منها، وقد طابق كلام محمد بن القاسم، فيما ذهبنا إليه، كلام أبيه -صلى الله وسلم عليهما-.
[كلام الإمام الهادي إلى الحق (ع) في التفضيل]
[16]
ثُمَّ الإمامُ الأسَدُ الهَصُورُ .... أبو الحسينِ العالمُ المشهورُ
قد قال قولاً يَعْتَليهِ النورُ .... وهو بما يَقُولُهُ خَبِيرُ
[ذكر طرف من أمر الإمام الهادي إلى الحق (ع)]
أراد بمن ذكر في هذه القافية: الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم([23]) -عَلَيْهم السَّلام-، وهو مشهور الحال، محمود الفعال، مجموع الطرفين والحُسْنُ -عَلَيْه السَّلام- ؛ لأن أمَّه أم الحسن بنت الحسين بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -عليهم السلام- وولد في المدينة، وحمل حين ولد إلى جده القاسم بن إبراهيم - صلوات الله عليه - فوضعه في حجره المبارك، وعوذه، وبرك عليه، ودعا له، وقال لأبيه: (بم سميته؟، قال: بيحيى، قال: هو والله يحيى صاحب اليمن)، وإنما قال بذلك لأخبار رويت في أمره وصفته قد ذكرت في سيرته، وفضائله كثيرة أضربنا عن ذكرها لشهرة الحال فيه -عَلَيْه السَّلام-.
وقوله في الفضل والمفاضلة كثير جداً، وكتبه وتصانيفه مشهورة، وأقواله على صحة ما ذهبنا إليه موجودة، ولكنا نذكر من ذلك طرفاً ينبه من كان له بصيرة، على تتبع أقواله -عَلَيْه السَّلام-، والنظر فيها.
______________
([23]) - الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ولد بالمدينة المطهرة سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد ذكر الإمام قصة حمله إلى جده القاسم، وكان -عَلَيْه السَّلام- أسدياً ، أنجل العينين ، غليظ الساعدين ، بعيد ما بين المنكبين والصدر ، خفيف الساقين والعجز وكان قيامه -عَلَيْه السَّلام- سنة ثمانين ومائتين وكانت له خرجتان إلى اليمن، الخرجة الأولى في عام قيامه، والخرجة الثانية في عام أربعة وثمانين ومائتين؛ لأنه عاد في الخرجة الأولى؛ لأنه شاهد من بعض الجند أخذ شيء يسير من أموال الناس، فلما عاد نزل بأهل اليمن الفتن والشدائد، ثم عاودوا في الطلب وتضرعوا إليه فساعدهم إلى ذلك، وكان له مع القرامطة نيف وسبعون وقعة كانت له اليد فيها كلها وخطب له بمكة سبع سنين، ووردت فيه آثار نبوية وأخبار علوية تدل على فضله:
منها: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وقد أشار بيده إلى اليمن: ((سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى الهادي يحيي الله به الدين))، وقد شهد الموالف والمخالف بفضله، وأجمع جميع العترة على إمامته ونهايته في الفضل والعلم، كيف لا وقد يسر الله له علم الجفر، وكان له من الشجاعة وقوة القلب ما يقهر به الأبطال ويصد به الشجعان، وقد كان معه سيف أمير المؤمنين ذو الفقار، وظهرت بركته باليمن، وأحيا الفرائض والسنن، وأقام عمود الدين وزلزل عروش الظالمين، وأباد الطغاة والمشركين، وفتح صعدة ونجران وخيوان وصنعاء وذمار وحيسان وبعث عماله إلى عدن ودوخ ملوك اليمن، وطرد الجنود العباسية من صنعاء ومخاليف اليمن، ونزل إلى تهامة، وكان عابداً زاهداً يحيي الليل بالصلاة والعبادة، وتوفي -عَلَيْه السَّلام- شهيداً وهو في ثلاث وخمسين سنة ليلة الأحد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين ومائتين، ودفن يوم الإثنين في قبره الشريف المقابل لمحراب جامعه الذي أسسه بصعدة.
انظر الشافي 1/ 303، التحف شرح الزلف للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى167، الحدائق الوردية - خ -، اللآلي المضيئة - خ -، الزحيف - خ -، تتمة المصابيح لعلي بن بلال.
[نصُّ كلام الإمام الهادي(ع) في التفضيل]
فمن ذلك ما ذكره -عَلَيْه السَّلام- من كتاب (الفوائد) وقد سأله ابنه المرتضى -عليهما جميعاً أفضل السلام- عن التفاضل في الأجسام فقال: (وأمَّا ما ذكرت من التفاضل في الأجسام، فكل ذلك حكمة من ذي الجلال والإكرام، ولو لم يخلق الله الناقصَ، والأقطعَ، والأعورَ، والزَّمِنَ، لما عرف الكامل قدر ما أولاه الله من كماله، والله -تعالى- لم يكلف الناقص من العبادة إلا بقدر ما أعطاه من جوارحه، فنقصه ليعتبر به غيره، وأثابه في الآخرة بقدر ما نقص من جسمه.
أو لا ترى أن الحكيم في فعله لا يُسأل عن شيءٍ من إثبات حكمه، فإذا شهد لله -تعالى- أنه حكيم فالحكيم لا يفعل فعلاً إلا بحكمة).
فهذا تصريح منه -عَلَيْه السَّلام- لا يغبى على عاقل منصف بإثبات الإمتحان، والعوض، والإعتبار، كما بينَّا في الآلام في باب العدل، وأن المحبوب والمكروه من ذلك حكمة ، فانكشف لكل عاقل أنصف لنفسه أنَّا على منهاج آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- وأن من انتسب إليهم إنما انتسب للأغراض التي قدمنا من تلبيس الحال ، وخديعة الجهال؛ لأنه -عليه السلام- بين أن الله -تعالى- المتولي للمفاضلة بين عباده، وأنه لا ينبغي لأحد الإعتراض على الله -سبحانه- في شيءٍ من فعله مكروهه ومحبوبه، لثبوت حكمته، ولا يسأله لم فعل؟ لأنه قد ثبت كونه حكيماً، والحكيم لا يفعل إلا الحكمة، فالذي يقول كان يفعل كذا، ولم يفعل كذا، ولم يقل كذا، يطلب أن يكون إلهاً ثانياً، وذلك لا يجوز.
وقد بينَّا أن الإله واحد في مسألة واحد، وقد قال سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] ، لأن كثرة الآلهة توجب أن ينقم البعض على البعض، وذلك يوجب المغالبة واختلاف الأغراض، والعقول السويَّة لا تمنع من مخالفة الحكيم بين عباده، ولا يحسن الإعتراض عليه.
ألا ترى في الشاهد أنَّا لو عرفنا رجلاً بين أظهرنا بالحكمة، ورأيناه يترك أهل العلل عنده في جهات مختلفة؛ فمنهم من يتركه مكاناً عالياً، ومنهم من ينزله مكاناً هابطاً، ومنهم من يوسع عليه في القوت، ويأمره بالإنتهاء إلى مبلغ شهوته، ومنهم من يُطعمه حلواً، ومنهم من يُطعمه مراً، ومنهم من يُحرمه الماء، ومنهم من يبيح له شربه، إلى غير ذلك، لما حسن منا الإعتراض عليه في شيء من ذلك ولا حسن - أيضاً - لمن أتاه بالحنظل أن يقول لم لاتسقني العسل عوضاً من هذا؟ ولم أمرتني بالإمتناع من أكثر المعايش وقربتها إلى غيري؟ والله -تعالى- أولى أن تسلم له الحكمة([24])، وأن لا يعترض عليه في شيءٍ من فعله، وكل من أنكر ذلك لم يمكنه الإنفصال عن (شبهة([25])) اليهود -لعنهم الله تعالى- لأنهم قالوا إن الله -تعالى- سوى بين عباده في التعبد، وإن المخالفة فيه توجب البَدا عليه، وهو لا يجوز.
قلنا: أمَّا البدا فلا يجوز عليه لعلمه بجميع المعلومات، وأما المساواة في التعبد فلا تجب ؛ لأن التكليف إنما وقع لمصالح العباد، ولا يمتنع في علمه إختلاف المصالح بالأشخاص والأوقات، وكذلك مخالفته -تعالى- بين عباده في الأرزاق، والأحوال من الصحة والسقَم، والشباب والهرَم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، لمصالح يختص بعلمها مفصلة، ونحن نعلم على سبيل الجملة أنها حكمة لوقوعها من جهة الحكيم تعالى، وقد صرح بذلك الهادي -عَلَيْه السَّلام- فيما رويناه عنه في الفصل المتقدم.
_______________
([24])ـ في (ن) : حكمته.
([25])ـ في (ن، م) : شبه.