هذا الحكيم، سبحانه، يقول مصرحاً: إنه فضل بعض خلقه على بعض، فما الموجب لأن يركب هذا المركب، حراسة للمذهب الذي لم يؤخذ عن عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، الذين هم الوصلة إلى الله، وأحد هاديي الأمة، ولا يوجد عليه شاهد من كتاب الله -تعالى- الذي هو الشاهد الآخر وبأيدي العترة الطاهرة زمامه، وهم تراجمته وحكامه، هذا لا يسع عاقلاً لمثل ذلك الغرض ركوبُه، وليس إذا كره المفضول أن يجعل الله -تعالى- فوقه من خلقه أحداً بفعل الله -سبحانه- له ذلك، ولا تكون كراهته قادحة في حكمة الحكيم، ولا حاملة لأهل العقول على إرتكاب أحد باطلين عظيمين .
إمَّا أن الله -تعالى- ظالم في ذلك، وهذا باطل ؛ لأن حد الظلم، قد قدمنا ذكره في باب العدل، وهو مفقود في فعله تعالى ؛ بل كل أفعاله حسنة جميلة، محبوبها ومكروهها.
والباطل الثاني: إنكاره أن يكون التفضيل من فعله، وقد صرح بفعله في كتابه العزيز، فيكون هذا رداً لكتابه، ومخالفة لأمره، وهذا باطل عظيم ينتهي بصاحبه إلى الكفر بإجماع العترة الطاهرة، كما قدمنا، وقد أدى إلى هذين الباطلين، كما ترى، إنكار تفضيل الله لمن يشاء من عباده بما شاء من أنواع رحمته، فيجب القضاء بفساده ؛ لأن ما أدى إلى الباطل فهو باطل، ويكون فرض المفضولين الرضاء والتسليم ليعطيهم الله -تعالى- أجر الراضين، المُسَلِّمِين، الصابرين، ويجب على الفاضلين الشكر والإنصاف ليؤتيهم أجر المنصفين الشاكرين، هذا الذي يجب أن تلقى به أفعال الحكيم، وهو مغن عن التقحم في حفر المهالك، والتورط في حبائل الضلال.
وقد صرح بقولنا هذا جدُّنا القاسم بن إبراهيم -صلوات الله عليه- وسيأتي قوله عند ذكره -عَلَيْه السَّلام-.
وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[المؤمنون:71] ، والحجج على هذه المقالة كثيرة في كتاب الله -تعالى- وأحكام الشريعة، وحجج العقول، وقد جعلنا من كل شيءٍ من ذلك في كتابنا هذا شطراً كافياً لمن أنصف نفسه ولم يكابر عقله، ولم يعم العجب بصيرته.
[الإحتجاج على من جعل الفضل جزاء على العمل]
[12]
لو كَانَ أَجْرَاً كانَ بَعدَ الإكمالْ .... إذْ ذاك من شَرْطِ حُقُوقِ العُمَّالْ
ولم يَزَلْ مِنْ حَالَةٍ إلى حَالْ .... ولم تَشُبْهُ رَائِعَاتُ الزِلزَالْ
وهذا نوع ثانٍ في الإحتجاج على الفضل ؛ لأن قوماً من منكري فضل العترة الطاهرة يقولون إنَّ الفضل يكون جزاءً على العملِ، فأبطل ذلك بما لا ينكره أحد من أهل المعرفة بالأحكام الشرعية، وهو أن هذا الفضل لو كان جزاء على عملهم ما استحقوه إلا بعد فراغهم من الطاعة، وذلك لا يكون إلا عند الموت؛ فكانوا لا يكونون فضلاء إلا في تلك الحال، ومعلوم خلاف ذلك ؛ لأن من أنكر فضل الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- في حالٍ كَفَرَ، ومن أنكر فضل العترة الطاهرة - عليهم السلام - ومفاضلة الله -تعالى- بين عباده فَسَقَ بالإتفاق، ولم يبعد تكفيره لرده نصوص الكتاب العزيز التي لا يصح تأويلها على ذلك إلا بالتعسف، وكذلك تفضيل الله تعالى، - أيضاً - لبعض خلقه على بعض من المتعبدين وغير المتعبدين كما قدمنا ذكره.
قوله: (إذ ذاك من شرط حقوق العمَّال): يقول: كل أجير لا يستحق الأجرة إلا بعد الفراغ من عمله، وذلك ظاهر في الشريعة، فلذلك ألزمناهم إياه، ثم عقب ذلك بأنه لو كان أجراً من قِبَلِ الله -تعالى- لما زال ؛ لأن الأجر من قبله سبحانه -وتعالى- هو الثواب، والثواب يستحيل زواله لملازمته إستحقاق التعظيم وذلك لا يجوز...
قوله: (ولم تشبه رائعات الزلزال): يقول: لم تختلط به المنغصات الرائعات من الخوف، والمحن، وتجدد التكليف بالشكر على المحبوب، والصبر على المكروه؛ لأن من حق الثواب أن يكون خالصاً من كل شائب كما وصفه الله -تعالى- في كتابه العزيز بقوله: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48)}[الحجر] ، ومعلوم وجوب الشكر والتعبد على أهل الفضل في الدنيا، وخروجهم عن حق ما فضلهم به فيها.
ولأنه لو فضلهم مكافأة على أعمالهم لم يخل ذلك من أحد أمرين:
إمَّا أن يسقط عنهم شكره -تعالى- وذلك كفر بالإتفاق ؛ لأن من أسقط الشكر عن أحد من الفاضلين مع بقاء التكليف فقد خالف ما علم من دين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة.
وإما أن يوجب عليهم الشكر على الثواب والأجر، وذلك باطل ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الأجر من جملة البلوى، وذلك خارج عن قول أهل العلم، ولأن العبد الصَّالح سليمان -صلوات الله عليه- قد صرح بأن الذي خصه به ربُّه من الفضائل من جملة البلوى، ألا تسمع إلى ما حكى الله -تعالى- عنه من قوله: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40)}[النمل] .
ولأن ذلك كان يؤدي إلى وجوب الشكر على أهل الجنَّة ؛ لأن أكثر ما هم فيه ثواب بلا خلاف فكان يؤدي إلى أن التعبد لم ينقطع عنهم مشقةً بالموت، وخلاف ذلك معلوم من دين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة.
ولأنهم لو تعبدوا لم يخل الحال من أحد أمرين باطلين:
إمَّا أن يقوموا بما كلفوا من ذلك فتلحقهم المشقة في دار الآخرة، وقد نفى الله -تعالى- ذلك عنهم بقوله: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)}[فاطر] .
أو لا يقومون بذلك فيكونون قد أخلوا بواجب فيستحقون الخروج من الجنَّة والمصير إلى النار، وخلاف ذلك معلوم من دين النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ضرورة، والله -عز من قائل- يقول: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48)}[الحجر] ، فقد رأيت ما أدت إليه هذه المقالة الفاسدة من الجهالات العظيمة، وتبين أن هذه الدار دار البلوى ؛ لا دار الجزاء وأن دار الجزاء أمامنا، وأن الجزاء لا يلزم عليه تكليف آخر دون تفضيل الله -تعالى- لمن فضل في هذه الدنيا يتعلق به تكليف الشكر على الفاضلين، وتكليف الصبر على المفضولين، ولم يقل أحد من المسلمين إن هذه الدار دار مكافأة وجزاء ؛ وإنما قال ذلك أهل التناسخ، وهم لا حقون بفرق الكفر، من حيث أثبتوا ما علم من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- خلافه.
[بيان أن دار الجزاء هي دار الآخرة]
[13]
دَارُ الجزا يا قومِ دارُ الآخرهْ .... إنَّا أخذنا عَنْ بحارٍ زاخرهْ
أولَ ما دِنَّا بِهِ وآخرَهْ .... فَلَمْ تكن صَفْقَتُنَا بِخَاسِرهْ
هذا تأكيد لما بيناه أولاً من أن دار الجزاء هي دار الآخرة، وهذا مذهب أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأتباعهم خاصة، وسائر المسلمين عامة، أن دار المكافأة والثواب على الطاعات هي دار الآخرة لا دار الدنيا ، وإنما خالف في ذلك أهل التناسخ، والأمر فيهم ما قدّمنا ، وهذا المذهب علمناه من دين آبائنا بالنقل المتواتر فكان العلم به ضرورياً، وعلمناه بأدلة العقول، ولأن المعلوم من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن هذه الدار دار بلوى لا دار جزاء، ومنزل ترح لا منزل فرح، وهو - أيضاً - معلوم من دين آبائنا -عليهم السلام- مشحون به تصانيفهم وآثارهم.
وشبههم -عليهم السلام- (بالبحار) لكثرة علمهم وسعة فهمهم، وهم كذلك وفوق ذلك -قدس الله أرواحهم-...
وتمثيل العَالِم بالبحر جائز في اللغة، وقد كان ابن عباس -رحمه الله تعالى- يسمى البحر لكثرة علمه، وقيل مثل ذلك في عبدالله([56]) بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب.
ويريد بقوله: (أول ما دِنَّا به): أصول الدين من علوم التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، ومعرفة النبوءة والإمامة وتوابعهما، (وآخره): يريد ؛ ما تعبدنا به بعد تلك الأصول التي قدمنا ذكرها من معرفة خطاب الله -تعالى- وخطاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وحقائقهما، ومجازهما، ومعانيهما، وأقسامهما، وأحكامهما، وكيفية استعمال ذلك، والواجب علينا في كل نوع من أنواعه، وما يجب علينا في أقوال عترته -عَلَيْهم السَّلام- وأفعالهم، وأحكام ذلك.
وكذلك الكلام في أقوال مجموع أمته وأفعالهم، وكيف حمل الحوادث على ما قدمنا ذكره، وما الواجب علينا فيما لم نجد له أصلاً معيناً مما تقدم نحمله عليه، ومَن يجب الرجوع إليه معيناً في معرفة ذلك؟ ومَن يجب عليه الرجوع؟ وما القول، والحكم فيما لم يدخل تحت الجملة المتقدمة؟ وقد أفردنا لذلك كتاباً برهناه بأدلة شافية، وبسطنا القول فيه إلى حدّ الحاجة، ورسمنا ذلك الكتاب بـ (صفوة الإختيار)، وكان اسمه، بحمد الله، مطابقاً لمعناه، فمن أراد معرفة شيءٍ من ذلك طلبه فيه.
وكان أخذنا، ما قدمنا ذكره، من أصول التعبد وفروعه من آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- نقلاً ومشافهةً، وعرضنا ذلك على الأدلة الواضحة فكان أخذنا عن أفضل العدول، بأوضح الدليل.
___________
([56]) - عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-.
كان عبدالله وحيد عصره ونسيج دهره من أعيان العترة، وفضلائها، وعلمائها، وممن إجتمعت فيه شروط الإمامة وتوفرت لديه خصال الزعامة ، وهو أحد الذين اجتمعوا في دار محمد بن منصور المرادي وبايعوا الإمام القاسم بن إبراهيم بعد أن طلبوا من عبدالله بن موسى القيام فأبى، وهم: أحمد بن عيسى بن زيد، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، والقاسم بن إبراهيم، ومحمد بن منصور المرادي، وعبدالله بن موسى وقصتهم مذكورة في لوامع الأنوار الجزء الثاني 6.
كان متخفّياً في أيام المأمون إلى أن سُمّ علي بن موسى الرضا، ثم كاتبه المأمون لأن يظهر نفسه ليجعله مكان علي بن موسى ويبايعه، فأجابه برسالة طويلة منها:
فبأي شيء تعتذر فيما فعلته بأبي الحسن صلوات الله عليه يعني - علي بن موسى الرضا - أبالعنب الذي أطعمته حتى قتلته به، والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة ..إلى أن قال : فعلمت أن كتاب الله أجمع كل شيء فقرأته فإذا فيه : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فلم أدر من يلينا منهم فأعدت النظر فوجدته يقول : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، فعلمت أن علي أن أبدأ من قرب مني فتدبرت فإذا أنت أضر على الإسلام والمسلمين من كل عدو لي لأن الكفار خرجوا منه وخالفوه فحذرهم الناس وقاتلوهم وأنت دخلت فيه ظاهراً فأمسك الناس وطفقت تنقض عراه عروة عروة فأنت أشد على الإسلام ضرراً ...إلى آخرها وهي مذكورة في مقاتل الطالبيين 498، ولم يزل -رضي الله عنه- متوارياً إلى أن مات في أيام المتوكل العباسي رحمة الله عليه، نعي إلى المتوكل وفاة عبدالله بن موسى صبح أربع عشرة ليلة من وفاته ونعي إليه أحمد بن عيسى فاغتبط بوفاتهما وسر سروراً عظيماً؛ لأنه كان يخافهما خوفاً شديداً ويهابهما مهابة عظيمة لما يعلمه من فضلهما وانتصار الشيعة الزيدية بهما، فما لبث بعدهما إلا أسبوعاً ثم قتل.
فعلى هذا تكون وفاة عبدالله بن موسى في ليلة سابع شهر شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، أنظر: التحف شرح الزلف للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى154، المقاتل 498، طبقات الزيدية، الشافي، رأب الصدع (3/ 1742).
---
[بيان اتصال علوم أهل البيت(ع) بآبائهم]
(فلم تكن صفقتنا بخاسرة): والصفقة هي البيعة.
وقد أخبرني والدي([1]) -قدس الله روحه- وكبار إخوتي -رحم الله الماضي منهم، وتولى رعاية الباقي- ونحن يومئذٍ أغيلمة صغار نحفظ ما نسمع - بمذهبه ودينه، وأنه الذي عليه آباؤه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ثم نهانا -رضي الله عنه وأرضاه- عن المعصية لله -تعالى- وأمرنا بتوقيره ، وحفظ ما يجب من حقه تعالى، ثم قال: (يا بني اعرفوا ما أنتم فيه ومَنْ وَلَدَكُمْ، فما أعلم بينكم وبين أبيكم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلا إماماً سابقاً، أو عبداً صالحاً مقتصداً)، ثم أرجى الأمر في نفسه، وكانت حاله -رضي الله عنه- أشهر من أن تخفى فما زال كلامه -قدس الله روحه- ووجهه نصب عيني إلى يومنا هذا ولن يزال بمشيئة الله -تعالى-.
__________________
([1]) - والد الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- هو حمزة الجواد بن سليمان البر التقي بن حمزة المنتجب بن علي المجاهد بن حمزة الأمير القائم بأمر الله بن الإمام النفس الزكية أبي هاشم الحسن بن الشريف الفاضل عبد الرحمن بن يحيى نجم آل الرسول بن عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن الإمام ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم الغمر بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبه بن الحسن الرضا بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، أمه فاطمة بنت محمد بن عبدالله بن أحمد بن بركات بن أحمد بن القاسم بن محمد، كان جامعاً لخصال الخير من العفة والطهارة والسخاء والعلم وشرف النفس وحسن الخلق، له حفظ في أصول الفقه وبراعة في الشعر والفرائض وعلم الكلام والنحو ويعرف علومها، وكان ممن يشار إليه لنصرة الدين، وجهاد الظالمين، وكان كثير البركة أينما توجه، قال فيه القاضي العلامة جعفر بن أحمد بن عبد السلام: هو رجل فاضل عالم كامل لو دعا إلى القيام بالحق أو إلى الجهاد في سبيل الله لأجبنا دعوته، واعتقدنا إمامته.
وكان أهله وبنو عمومته مجمعين على فضله وورعه، وروي أن حمزة بن سليمان كتب إلى الأمير الكبير شمس الدين يحيى بن أحمد يعرض عليه الدعوة فرجع إليه جوابه: إنا في هذا الأمر على سواء فإن قمت أجبناك، وكان يلقب بالجواد لكرمه، ويحكى أنه لقيه ضيف ولم يكن معه شيء فعمد إلى رداءه فشقه واشترى به للضيف طعاماً، وفيه يقول الإمام المنصور بالله عليه السلام في كلمة له لما لامته امرأته في سماحته فقال :
فإن أبي أوصى بنيه بخطه .... ولست بناسٍ للوصية من أبي
وباع تراثاً من أبيه لضيفه .... وشق فصول البرد غير مكذب
قال في الحدائق الوردية : ومن ورعه ما أخبرنا به بعض الأخوان كثرهم الله عن الأمام المنصور بالله أنه ضرب في رجله يوم الشرزة فبقي عقيراً فمرت به دواب ما استجاز الركوب على أحدها وفي تلك الحال الرخصة جائزة، قال في المستطاب : مات حمزة بن سليمان في جهة حجة بمَبْيَن وقبره خارج مَبْيَن حجة مشهور مزور .
وكذلك رأينا كتاب أبيه سليمان بن حمزة([2]) -قدس الله روحه- إليه بمثل ما أوصى ([3]) إلينا وحكى لنا، وسليمان هذا هو المبرز على من عاصره من أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في جميع خصال الفضل من الشجاعة، والكرم، والزهد، والعبادة، والمختص بزيادة في كمال الجسم والعلم حتى جرى ما خصه الله -تعالى- به من الجمال والكمال مثلاً؛ يخبرنا بذلك أكابر أهلنا، ومن خالطهم من ثقات شيعتنا، وشخصت العيون إليه، وحيت حياة الدين على يديه، فحالت المقادير بينه وبين ذلك، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)} [الأحزاب]،
_________________
([2]) - هو الأمير سليمان التقي بن حمزة المنتجب بن علي المجاهد بن حمزة الأمير القائم بأمر الله بن الإمام النفس الزكية أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن الفاضل بن يحيى بن عبدالله العالم بن الحسين الحافظ بن القاسم ترجمان الدين، كان من فضلاء آل محمد ونبلائهم، وكان من أهل الصلاح والمعرفة والديانة الكاملة، وكان ممن يؤهل للإمامة والزعامة، ولما توفي رحمة الله عليه قال يعقوب وإسحاق ابنا محمد بن جعفر لما بلغهما وفاته: الآن يئسنا من القائم من أهل بيت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في عصرنا، فقيل لهما: هل كان يصلح لهذا الأمر؟ فقالا: نعم، وكان له أهلاً، ولما توفي اجتمع قدر ثمانين من رؤساء الشرف وعلماء المسلمين على قبره فتذاكروا فيمن يصلح للإمامة فقالوا: ما كان لها إلا سليمان بن حمزة.
([3]) - نخ (ن) : أوصل.
واستقصاء([4]) هذا الباب في آبائنا -عَلَيْهم السَّلام- يخرجنا إلى الإسهاب، وإنما نذكر الطرف من ذلك لننبه أهل البصائر على طرق الرشاد، وأدلة الهدى، وما علمت من سامعي كلام والدنا -رحمه الله- من الإخوة -رحم الله ما ضيهم وعصم باقيهم- إلا الإنقطاع في طاعة الله والإيثار لمرضاته، فأخذنا منه -قدس الله روحه- ما حكى لنا من مذهب آبائه -عَلَيْهم السَّلام- تلقيناً، فلما بلغنا حد التكليف فزعنا إلى النظر في الأدلة والبراهين فوجدنا الحق ما أمرنا به ودلنا عليه -رضي الله عنه وأرضاه- وعرفنا آثار آبائنا إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم وعليهم- وأحوالهم، وأقوالهم، ومهاجراتهم، والأهم من صفة خلوقهم، وأسماء أمهاتهم، ومواضع قبورهم، وما ظهر على الناس من بركاتهم، وأمهاتنا المطهرات التي هي أمهاتهم، وما كان فيهم من الخيرات، وهم مع ذلك لحم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ودمه، وذريته، ولولا خشية التطويل لذكرنا كل والد منهم -سلام الله عليهم- بما يختص به من الكمال مفصلاً، فمن أين يكون غيرنا أولى بالحق منَّا !؟، أم كيف يجتريء عاقل يروي لنا عنا !؟.
______________
([4]) - وقد ذكر الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في كتاب الشافي في معرض جوابه على فقيه الخارقة إسناد مذهبه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وذكر آباءه أباً فأباً، وقد رأينا إتماماً للفائدة وإكمالاً لهذا البحث العظيم ذكر ذلك الكلام مع شيء من الإختصار، فنقول وبالله نصول:
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عَلَيْه السَّلام- بعد ذكر أبيه حمزة بن سليمان، وجده سليمان بن حمزة، وتفصيل أحوالهما على نحو ما ذكر في هذه الرسالة، فقال:
ثم أبوه حمزة، ولم تطل أيامه بل مات في حياة أبيه علي، قال في الحدائق الوردية: وأما حمزة بن علي فإنه مات غلاماً صغيراً قد بلغ العشرين، انتهى. فكان علي الكافل لسليمان تربية وتهذيباً وتعليماً، وتأديباً ونشر العلم له ولغيره، وكان من العلم والفضل بمحل عظيم، وجاهد في الله عز وجل إحتساباً لا سبقاً ولو ادعى السبق لكان غير بعيد منه، ومدت إليه الأعناق وشاع ذكره في الآفاق، وجاءت إليه رسالة الإمام أبي طالب الأخير (ع) من الديلمان يحضه على القيام في أرض اليمن، وفي رسالته إليه:
(فليطحن الخيل بالخيل، في عسكر كالليل، له ردع كردع السيل) ومن الأشعار التي حرض بها على القيام شعراً لمسلم اللحجي من حِلالهِ من شظب، والقصيدة قال فيها:
مرت على القارة في سحرة وسامت الشمس ببشر وثيق
...إلى قوله:
وقائلة ذيبين مسرورة لم يشرب الخمر ولا هاجه ولا دعا ساقيه في سحرة قم فانصر الحق وأجل الهدى لما التقت بالهاشمي العتيق صوت حمامات بوادي العقيق قم هات صرفاً من عصير المقيق فأنت بالمرجو منها خليق
وكان أوحد أهل عصره علماً وزهداً وورعاً وعبادة مع السعة العظيمة في الأرزاق التي أنفقها في طاعة الله، ونشر مذهب العدل والتوحيد في أهل عصره وفي أيامه تقوى مذهب الزيدية في حياته ورد على المخالفين للحق من الفرق الضالة.
قلت : المراد بها الفرقة الطبيعية المطرفية الغوية المرتدة.
قال في الحدائق الوردية : وأما علي بن حمزة رضوان الله عليه ، فكان من عيون أهل عصره وأفاضل أبناء دهره ، يؤمّل للإمامة ويصلح للزعامة ، وهو أحد الخمسة الذين جمعهم عصر واحد يصلحون للإمامة ذكر ذلك مصنف سيرة الإمام المتوكل على الله عليه السلام ..إلى قوله : وكان عالي الصيت نبيه الذكر يُقْصَد بالمديح ويثيب عليه بالجوائز السنية فمما روي فيه قول شاعر وفد إليه من صنعاء يقال له علي بن زكري:
دع الشعر وامدح خير هاشم عنصراً فتى فاضل يسمو على الناس كلهم غياث اليتامى مشبع الضيف باذل الـ نرى الناس أفواجاً لدى سوح داره انتهى. علياً حمام الضد عند التكافح بعلم وعقل في البرية راجح عطايا لغاد في الأنام ورائح كحجاج بيت الله حول الأباطح
وأمه أم ولد من مولدات المغرب كانت تعد من الفاضلات وجاءت بالطاهرين والطاهرات، فهذا علي وحاله ما ذكرنا.=
تابع الحاشية رقم ([4])
______________
= قلت: وتوفي علي بن حمزة في شوال سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقبره بذيبين مشهور مزور، وهو في الجهة الغربية من جامع الإمام المهدي أحمد بن الحسين الشهيد.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وأخوه يحيى وكان من أهل الكمال والشرف، وأختهما زينة الشريفة الفاضلة التي انتشر فضلها في مخاليف اليمن، وضربت بها الأمثال وظهرت آثار بركتها في الآفاق ورأيت كتاب وصيتها فعددت ولاتها من خدامها والمتخدمين لله عز وجل لها من فضلاء المسلمين فعددت أربعين والياً على أربعين مخلافاً، ومخاليف اليمن ثمانون مخلافاً كما تعلم إن كنت تعلم، وقامت في أمور الدين بكثير من مدارس ومصالح وجبر عائل وبسط نائل، وكانت من أهل العلم والمعرفة رضوان الله عليها.
وأبوه حمزة بن أبي هاشم النفس الزكية والسلالة المرضية الذي أقر بفضله الموالف اختياراً، والمخالف اضطراراً، وعندنا علومه وتصانيفه -عَلَيْه السَّلام-، وعلى مقاله في أصول الدين حذونا، وبهديه اقتدينا ورده على الفرقة الضالة من المجبرة القدرية والمبتدعة الطبيعية .
قلت: هي المطرفية الغوية.
قال -عَلَيْه السَّلام-: وغيرهم من ضلال البرية، وكان في أيام الصليحي وجرت بينهما مكاتبات ومراسلات ومحاربات إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: فدافع عن الإسلام بيده ولسانه وسيفه وسنانه إلى أن ذاق الحمام في رهج القتام صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر.
قال في الحدائق الوردية : وقتل في المعركة عليه السلام في المنوى آخر سنة تسع وخمسين وأربعمائة في أيام علي بن محمد الصليحي وكان عليه السلام يقاتل يوم قتله وهو يقول :
أطعن طعناً ثائراً غباره طعن غلام بَعُدت أنصاره
وانتزحت عن قومه دياره
إلى قوله : وعجل الله تعالى انتقام قاتله علي بن محمد الصليحي فلم يحل عليه الحول حتى قتله سعيد بن نجاح في شهر ذي القعدة لسبعة أيام خالية منه سنة ستين وأربعمائة وقتل معه بنو عمه وسبيت حرمه، انتهى.
قلت: وقبره -عَلَيْه السَّلام- في بيت الجالد من أعمال أرحب.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وعلومه سلام الله عليه مشهورة وتصانيفه معلومة ورده على الفرقة الضالة ظاهر، وقد احتج بذلك الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن الهادي -عَلَيْه السَّلام- على من خالف.
وأخذ العلم عليه بنوه السادة الفضلاء جدنا علي بن حمزة، وكان أشبههم به علماً وهدياً، وولده الحسين بن حمزة، وهو فقيه آل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في عصره لاينازع عند من يعتني بأمر أهل هذا البيت الشريف فيما ذكرنا من أمره وأمر الفضلاء من إخوته فقد كانوا جميعاً فضلاء مشهوري الشرف ديناً وشجاعة وعلماً وكرماً.=
تابع الحاشية رقم ([4])
______________
= وأخذ العلم عن أبيه السابق الداعي إلى الله الملقب بالنفس الزكية، والقائم بأمره أبي هاشم [هو الحسن بن عبد الرحمن]، وكانت أمه زينة بنت عبدالله بن الحسن بن عبدالله بن عمر بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهم السَّلام-، وملك صنعاء واستقرت أعماله في المخاليف وخرج من صنعاء بمكيدة ابن مروان وابن الضحاك وابن المنتاب، ودخلها مرة أخرى وله تصانيف في العلم معروفة فيها علومه ودينه المأخوذ عن آبائه عليه و-عَلَيْهم السَّلام-، ولم تطل أيامه -عَلَيْه السَّلام- بل مات لسنة ونصف من قيامه ومشهده بناعط مشهور مزور.
قلت: وكان قيامه ودعاؤه إلى نفسه سنة ست وعشرين وأربعمائة، ولعل وفاته على ما ذكره الإمام الحجة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أبقاه الله سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: ودخل اليمن في أيام بني الضحاك فتزلزلت منه أقدام الظالمين فما نفس عنهم الخناق إلا وفاته، فأخذ العلم عن أبيه عبد الرحمن، وكان نسيج وحده شرفاً ومجداً، وهو المعروف بالشريف الفاضل، وأمه مُرِّيَّة من مرة غطفان، وأخذ العلم عن أبيه يحيى بن عبدالله، وأمه أم ولد رومية، وأبوه يحيى نجم آل الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وشرفه لايجهله أولوا الشرف، وأخذ العلم عن أبيه عبدالله بن الحسين.
قلت: وأمه فاطمة بنت الحسن بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام-.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: ولا يعرف في جميع أنساب الطالبيين وفي مشجراتها وشعرها وكتبها وجرائدها إلا بالعالم، ولا يوجد ذلك لغيره وكفى بذلك شاهداً بفضله، وكذلك رأيناه في الكتب الخارجة من خزانة صاحب بغداد وفيما كان من مصر وغيرهما من الأقطار.
وله كتاب الناسخ والمنسوخ لايوجد في الكتب الموضوعة في الناسخ والمنسوخ مثله، وأصوله في العدل والتوحيد معلومة في تصانيفه، ومما استدلت به الزيدية المهدية على إمامة يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق -عَلَيْه السَّلام- تسليم أخيه عبدالله بن الحسين العالم الأمر له واعتقاده إمامته وجهاده بين يديه.
قلت: وهو المعروف بصاحب الزعفرانة لرؤيا رآها بعض الصالحين، وذلك أنه كان يترك زيارة عبدالله بن الحسين فرآه وهو يقول له: لم لاتزورني ولا يوجد في هذه التربة أطهر مني، ولا نبت في قبره الزعفران غيري، ذكر ذلك في مطلع البدور وكانت وفاته بعد الثلاثمائة وقبره بصعدة في المشهد اليحيوي المقدس مشهور مزور.
قال الإمام -عَلَيْه السَّلام-: وهو أخذ العلم عن أبيه الحسين بن القاسم الحافظ وروايته عنه ورواية الهادي في الأحكام يقول: أخبرني أبي عن أبيه عن جده حتى يرفعه إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وهو أخذ العلم عن أبيه القاسم ترجمان الدين وفضله أشهر من أن يخفى.
قلت: وسيأتي للإمام -عَلَيْه السَّلام- في هذه الرسالة تفصيل بعض أحواله -عَلَيْه السَّلام-.
...إلى قول الإمام: والقاسم بن إبراهيم أخذ العلم عن أبيه إبراهيم الغمر وهو الملقب طباطبا ويضرب به الأمثال في الكمال في رواية أنساب الطالبيين وهو بعض شعرائهم:
أمدح قَرْمَاً طالبياً أغلبا بحراً فراتياً وسيلاً وعوبا
كأنه القاسم أو طباطبا
وله قصص في الفضل طويلة.=