[بيان أن التفضيل علامة التشيع]
فأمَّا من يدعي التشيع وهو منكر لفضلهم ، فإنه من دعواه هذه على مثل ليلة الصَّدَرِ([47]) رحلته أوشك من حلوله، ومع إدعاء من ينكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- أنه زيدي؛ بل أنه أحق بهذا الإسم يكون أبلغ العجب ؛ لأن الزيدية معروفة بين الفرق ؛ بتفضيل آل محمد على جميع الخلق، لا يناكرون في ذلك، ولا ينكر منهم، وكيف ينكرون فضل مهبط الوحي، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، وسفينة نجاة الأمة ، كما روينا بالإسناد الموثوق به عن أبي ذر([48]) -رحمه الله- أنه قال وهو آخذ بباب الكعبة:
_______________
([47]) - الصَّدَر محركة : اليوم الرابع من أيام النحر . تمت قاموس.
([48]) - أبو ذر الغفاري: اختلف في إسمه والصحيح عند أصحابنا ومحققي المحدثين: جندب بن جنادة، وسماه رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- عبدالله، من السابقين الأولين في الإسلام ، لازم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى توفي ثم سكن المدينة، كان من كبار الصحابة وفضلائهم ونجبائهم، وكان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق، وسئل عنه علي -عَلَيْه السَّلام-، فقال: (ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس، ثم أوكأ عليه فلم يخرج منه شيئاً) شهد له رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بقوله: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر)) وكان صريحاً يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، وكان كثير الرواية لمناقب أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وفضائل علي -عَلَيْه السَّلام-، وكان يذم معاوية ولا يخاف منه، ونفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لأجل شكوى معاوية منه، وتوفي أبو ذر رحمه الله سنة إثنتين وثلاثين ولم يعقب، انظر الإستيعاب لابن عبد البر 4/، الطبقات - خ - لوامع الأنوار للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى(3/ 198)ط2، رأب الصدع (3/ 1783)...
(أيها الناس من عرفني فأنا من قد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر؛ سمعت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول : ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها هلك)) ([49]) ولم تختلف الأمة في هذا الخبر ، ولا في صدق لهجة أبي ذر ، لإخبار النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - بذلك ، فكان خبر النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- فيه دليل على عصمة أبي ذر فيما يتعلق بباب القول ، فإذا كان ذلك كذلك فأي وجه لإنكار فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- إلا الشقاوة والعداوة التي لا تقدح في شيءٍ من أمر الله -تعالى- وفضل أهل هذا البيت لا تحصى شواهده، ولا تخفى على محصنات كرائم النساء، ومؤمنات عفائف الإماء، فكيف تخفى على شيوخ العلماء!!؟.
____________
([49]) - أخرجه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام (1/40)، والإمام علي بن موسى الرضا في الصحيفة (464)، والإمام محمد المرتضى في كتاب الأصول، والإمام أبو طالب في شرح البالغ المدرك، والإمام المرشد بالله (1/151)، والإمام أبو عبدالله الموفق بالله.
ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 343)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ورواه أيضاً في (3/ 150) من طريق عن حنش الكناني ، ورواه في كنز العمال (6/ 216) ، وقال: أخرجه ابن جرير عن أبي ذر، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/2168)، وقال: رواه البزار والطبراني في الثلاثة - أي الكبير والصغير والأوسط (5/112) رقم (3590) -، ورواه علي بن سلطان في مرقاته (5/61)، وقال: رواه أحمد - يعني ابن حنبل - وأبو نعيم في الحلية (4/306) ، والخطيب في تاريخه (12/19) ، والمناوي في كنوز الحقائق (132)، انظر فضائل الخمسة (2/ 64)، وقال الإمام الحجة الحافظ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى في لوامع الأنوار (1 / 95)ط1: وقد أخرجه - أي حديث السفينة - من المحدثين الحاكم في مستدركه، وابن الأثير في نهايته، والخطيب إبن المغازلي في مناقبه، والكنجي في مناقبه، وأبو يعلى المحدث في مسنده والطبراني في الثلاثة، والسمهودي في جواهر العقدين، وأخرجه الإسيوطي في جامعيه، وأخرجه الملا، وأخرجه ابن أبي شيبة، ومسدد، وهو في كتاب الجواهر للقاسم بن محمد اليمني المعروف بالشقيفي، وهو في ذخائر المحب الطبري الشافعي، وأخرجه غيرهم ممن يكثر تعدادهم، انتهى.
وقد روينا بالإسناد الصحيح عن عمّنا علي بن الحسين زين العابدين -صلوات الله عليه- أنه كان إذا ترعرع أولاده اشترى لهم الجواري، فاشترى أمّ زيد بن علي([50]) -عَلَيْه السَّلام- لبعض أولاده ثم أمر بها تعْرض عليه، فامتنعت من ذلك فسُئلت عن سبب الإمتناع، فقالت: أريد الشيخ - تعني علي بن الحسين -عليه السَّلام- فقيل: وما تريدين منه [فإنه صوّام نهاره، قوّام ليله، متى يتفرغ إليك، فقالت : قد رضيتُ، لأني سمعتُ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال([51])]: ((كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)) ([52]) فأحبّ ذلك من مثله؟ فكره أخذها -عَلْيه السَّلام- ، فقالت : سألتُك بحقّ رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إلا أخذتني ، فأخذها -رحمة الله عليها- فجاءت بزيد بن علي -عَلَيْه السَّلام-.
فقد صح لك أن هذه الأَمَة (رحمة الله عليها) أعلم بأقوال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وآثاره، وأعرف بحق العترة الطاهرة من الشيخ الذي أسندت إليه إنكار فضلهم -عَلَيْهم السَّلام- بنسبة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، والحجج في ذلك أكثر من أن تحصى في هذا الكتاب.
___________
([50]) - وحادي عشرها: سأل أيّده الله عن الخبر عن أم زيد -رحمها الله- في اختيارها لأبيه -عليه السلام- دون الأولاد لأجل النسب وهم فيه سواء.
الجواب عن ذلك : لأنها إنما أرادت لمجموع الأمرين ، ونسب علي -عليه السلام- كان أحب إليها من سبب أولاده لما كان قد ظهر من صلاحه -عليه السلام- والحديث في كل سبب ونسب ، وفي حديث آخر زيادة وهو : ((كل سبب ونسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي -وفي الزيادة- وصهري)).
ومن ذلك؛ علي بن الحسين -عليه السلام- أقعد إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- معنى القعود : أن يكون أقرب بأب أو أبوين إلى الجد الأول ، وهذا مما يناقش فيه العارفون من أهل هذا البيت .
قال أحدهم : والله لو أعطيت بقعودي من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الدنيا بما فيها ما قبلت . يريد بقربي إليه بجد أو جدين .
ولكم يا أولاد المطهر في هذا الباب النصيب الأوفر ؛ لأنكم اليوم أقربنا إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إنما أنساكم وسواكم هذا الحال مذهب أهل الضلال ، ، الذين نفوا الشرف بالفضل، وأنكروا حرمة قرابة الأهل ؛ فنعوذ بالله من حالهم ، ونسأله أن يعجل عليهم نزول حكم أفعالهم ، ونصلي على النبي وآله فليس نسب علي بن الحسين -عليه السلام- من رسول الله مثل نسب أولاده لأن القرب كلما التصق كان أفضل ، ولكل فضل ، وبعضه فوق بعض ؛ فاعلم ذلك موفقاً .
([51])ـ ما بين القوسين ساقط في جميع النسخ لدينا، وهو زيادة من أمالي الإمام أبي طالب عليه السلام ص(102) ؛ لأن القصة مروية فيها.
([52]) - حديث: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة...إلخ، روي بألفاظ مختلفة فممن رواه: الحاكم في المستدرك 3/ 158، وأبو نعيم في الحلية 7/ 314، والهيثمي في الزوائد 8/ 216، وابن حجر في صواعقه 138، وقال: رواه البزار، ورواه المحب الطبري في ذخائره ص6، ورواه في فيض القدير للمنياوي 5/ 20، وقال: أخرجه الطبراني، والحاكم، والبيهقي عن عمر، وأخرجه الطبراني أيضاً عن ابن عباس، وعن المسور في الكبير (3/45) رقم (2635)، والأوسط (5/70) رقم (6609)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/176)، ورواه في كنز العمال 1/ 98، وقال : أخرجه ابن النجار، ورواه أيضاً 7/ ص42، وقال: أخرجه أبو داود الطيالسي، وأحمد بن حنبل، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والحاكم، وابن أبي شيبة عن أبي سعيد، انظر فضائل الخمسة 2/ ص69.
قوله: (يقول هذا إن شكى وإن عتب) يقول لأنه يجب علينا قول الحق، وقد تقدم الدليل على أنه حق من الله -سبحانه- ورسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- والعترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-، وإن شكى الرافض إلى إخوانه، وفزع الناصب إلى أعوانه ، فقد تعبدنا الله بالبيان عند كل بدعة ، وذلك ثابت فيما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام، وليًّا من أهل بيتي موكلاً يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله)) ، ولا شك أنه يجب على الوكيل المبالغة فيما وكل فيه، والإجتهاد بمبلغ وسعه ، وكلنا نسأل الله -تعالى- التوفيق بإعلان الحق وتنويره، وإعلانه: إظهاره، وتنويره: بيانه وإن لامَنا كل لائم، واعترضنا كل آثم.
ثم سأل المخالف سؤالاً إن أنصف في جوابه قضى بالحق على نفسه، وآخر القافية معناه ظاهر ؛ لأن الكل يعلم أن الله -تعالى- فضل الرأس على الذَّنَب، وجعل لذلك حكماً في الشريعة، وخص الرأس بما لم يخص به الذنب من خصال الشرف، فلا معنى لإنكار تخصيص أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- بالفضل فقال:
[9]
هَلْ عِنْدَهُ إِذَا أتاهُ المُنْتَسِبْ .... بِنَسَبٍ غَثِّ الجُدُودِ مُحتَجِبْ
مُلَفْلَفٍ([53]) مِنْ كُل أوبٍ مُضْطَرِبْ .... مِثْلُ صَمِيْمِ آلِ عَبْدِ المُطَّلِبْ؟
ألزم المخالف المنكر فضل أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بإنتسابهم إلى البيت الرفيع الذي عمّ بيوتات العرب نوراً ، وطالها مجداً وشرفاً، هل إذا انتسب عنده منتسب (بجدود غثة) -يريد مهينة ساقطة لا تعرف إلا من لسان ذاكرها لغموضها ودناءتها.
___________
([53]) - في (م، ن): ملفف...
قوله (ملفلف([54]) من كل أوبٍ): يقول مجموع من كل جهة، الأب من جانب وضيع، والأم من جانب مثل ذلك، هذا موضع الإلزام، يقول مَنْ هذا حاله وصفته يماثل من هو من صميم آل عبدالمطلب -عَلَيْهم السَّلام- {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(29) } [الزمر] ، لا؛ ما يستويان إلا عند من ركب متن العناد، وأظهر في أرض الله الفساد.
[بيان أن الفاضل يكون من جنس المفضل عليهم]
[10]
وهَل لَدِيْهِ قِطعةُ الرصَّاصِ .... كَالذَّهَبِ المُسَبَّك الخُلاصِ؟
وَكُلُّهُ جِسمٌ بِلا اختِرَاصِ .... مَالَكَ إنْ أنصفتَ مِنْ مَنَاصِ
هذا إلزام على قولٍ سمعناه من أهل هذه المقالة المنكرة فضل آل محمد -صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين- وذلك أنّا سمعنا منهم من يقول في إحتجاجه على إنكار فضلهم: نحن ناس وهم ناس، وربما خصص فقال: أنا إنسان وهو إنسان فمن أين هو أفضل مني؟، وربما قال: لي يدان وله يدان، ولي عينان وله عينان.
وهذا، كما ترى، إحتجاج من لا معرفة له بالعلم ؛ لأنَّا نعلم أن النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - إنسان وله يدان ورجلان ، ومن اعتقد أنه في الفضل مثله فقد كفر، ولذلك قلنا: هذا إستدلال خارج عن طريق أهل العلم ؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى الكفر ، وما هذا حاله لا يعتمد عليه بل يجب التباعد عنه ، وكما هو مؤد إلى الكفر في حق النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- هو مؤدٍ إلى الفسق في حق أهل بيته ؛ لأن من اعتقد بذلك أنه مثلهم، ولا فضل لهم عليه، ولا يتبعهم، ولا يسلك منهاجهم فسق بلا اختلاف بينهم -عَلَيْهم السَّلام- في ذلك، فقد تبين لك أن بين أهل الأيدي، والأرجل، والأعيان، فرقاً كثيراً.
______________
([54]) - في (م، ن): ملفف...
وربما احتج بحجة تقرب من الأولى في الفساد وذلك أنَّا سمعنا منهم من يقول: نحن مُتَعَبَّدُون، وهم مُتَعَبَّدُون، فمن أين لهم فضل علينا؟، ونسي أنهم مُتَعَبَّدُون بأمره، وهو مُتَعَبَّد بالإئتمار، وهم متعبدون بزجره، وهو متعبد بالإزدجار، وهم -عليهم السلام- رعاته، وهو رعيتهم، إن تعدى الموضع الذي أساموا فيه تعدى وعصى.
ولا شك أن الراعي أفضل من المرعي بلا اختلاف، وما أحسن قول أبي قيس في مثل ذلك بيت:
ليس قطاً مثلُ قطي .... ولا المرعي في الأقوام كالراعي
فبين التعبدين بون بعيد، وقد ألجأت الضرورة إلى ذكر مثل هذه الأقوال المكشوفة العورات.
[بيان أن المماثلة في وجه مخصوص لا توجب المماثلة في كل وجه]
فإن قيل: إنَّا نريد أنهم تُعبِّدوا بالصلوات الخمس، والحج، والصيام، كما تُعُبِّدنا.
قلنا: ذلك وإن كان كذلك فقد خصوا من التعبد بما لم تخصُّوا به، وهو ما ذكرنا من تقويم الأمة، وسد ثغورها، وسياسة جمهورها، وإقامة الحدود فيها، وأنتم من ذلك بمعزل، وإن لم تعينوهم على ذلك فالنار ، وإن علمتموه بين أيديكم وأرجلكم فالعار والشنار، وغضب الجبَّار.
وحرمت عليهم الزكوة حتى تعبدوا بأن يأكلوا الميتة دونها، وأُحلت لمن اتبعهم منكم في الإعتقاد، فأين المقاربة في التعبد فضلاً عن المساواة...
فأما الإتفاق في وجوه مَّا فذلك لا يلحق المفضول بالفاضل، ألا ترى أن هذا المخالف قد استوى، ولله المثل الأعلى، هو والحمار في أن كل واحد منهما لا تستقيم حياته في مجرى العادة إلا بالمأكل والمشرب، ولم يجب عندنا بذلك أن يكون مثلاً للحمار، لما خصه الله من جنس الإنسانية والعقل إلى غير ذلك من نعمه العامة على الكافرين والشاكرين كما قال، وهو أصدق القائلين: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ(83)}[النحل] ، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)}[النحل] ، فهذا المنكر لفضلنا خالفنا، فنحن نعلم أن عليه من نعم الله ما لا يسعه كفره من تفضيله له على الحمار وعلى غيره من الحيوان، ولهذا يجب عليه الشكر كما يجب علينا الشكر لتفضيل الله لنا على كافة البشر بولادة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وفرضه لمودتنا على كافة عباده، واستخلافه لنا في بلاده، وبيَّن ذلك في القافية بأن المماثلة في وجه مخصوص لا توجب المماثلة في كل وجه.
ألا ترى أن الذهب والرصاص قد اشتركا في الجسمانية، وهو أن كل واحد منهما طويل عريض عميق، يشغل الحيز عند الوجود، واختص الذهب بخواص من فعال الله -تعالى- منها: أن النار لا تنقصه، وأن التراب لا يبليه، وأن الله حببه إلى عباده، وجعله مفتاحاً لكثير من حاجاتهم، وأحل به الفروج، وأسقط به الدماء، إلى غير ذلك، والرصاص لا يبلغ تلك الرتبة وإن كان له نصيب من النفع، كذلك أنت أيها المخالف، الطالب، مماثلة العترة الطاهرة بزعمك بما ذكرت من الوجوه الفاتحة باب الجهالات وإن أنعم الله عليك بشيءٍ من نعمه، فإن من شُكْرِها أن لا تنكر تفضيله لما فضل من خلقه إبتداءً ، ولمن فضل.
[بيان أن التفضيل مهواة دحضت فيها قدم إبليس لعنه الله]
واعلم ؛ أن هذه مهواة، دحضت فيها قدم إبليس -عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين من الملائكة والناس أجمعين- وذلك أنه أنكر تفضيل الله -تعالى- لآدم -صلوات الله عليه- إبتداءً، وهذا كفر، إعتقد أنه أفضل منه ؛ لأنه خلق من النار وآدم -عَلَيْه السَّلام- خلق من الأرض، وهذا جهل.
أمَّا أن إنكاره كفر: فلأنه أوجب على الله أن لا يفضل بعض خلقه على بعض، فكفر لأجل ذلك، ثم أضاف إلى هذا الكفر جهلاً آخر وهو أن النار أفضل من الأرض، والنار وإن اختصت بنوع من الخواص ، أو نوعين أو ما يزيد على ذلك قليلاً من النفع ، فليس فيها ما في الأرض من الخواص، والمنافع الجليلة الأخطار، والدلائل على الواحد الجبَّار ؛ لأن الأرض مسجد أنبياء الله، ومتجر عباده، ومهبط وحيه، وميدان السباق إلى رحمته.
ومنها: الأنهار، والثمار، والأزهار الرائقة، والحدائق المبهجة الفائقة.
ومنها: أحلى المأكولات وهو العسل، وأعذب المشروبات وهو الماء، وأطيب المشمومات وهو المسك، وأشرف الملبوسات وهو الحرير.
ومنها: الأمثال المرغبة في النعيم الدائم، مما ذكرنا ومما لم نذكر، من اللؤلؤ والمرجان، والدر والياقوت والعقيان، والفضة والكافور.
وما لو تتبعناه لأخرجنا من الإختصار، فمن أين تكون النار كما ذكر عدو الله -عليه لعنة الله- مثلاً للأرض، فضلاً عن أن تكون خيراً منها كما اعتقد عدو الله الجاهل؟ فقد رأيت الإعتراض على الحكيم في حكمته إلى ما يؤدي ، فتدبر موفقاً ما ذكرنا، فإنه يفضي بك إلى برد اليقين ولذّة العلم، ويخرجك عن دائرة المقلدين ، وأهل الحيرة المتلذذين الذين نبذوا هداتهم.
[بيان أن من لم يرض بحكم الله راكب مركب إبليس لعنه الله]
ولم يرضوا بهذه المصيبة حتى أضافوا إليها ما هو أعظم منها، وهو أنهم مثلهم، وربما يتعدى ذلك منهم من يختص بضرب من الصفاقة والوقاحة فيركب مركب إبليس -لعنه الله- في أنهم أفضل من أهل عصرهم من عترة نبيئهم [صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم] ويحتج لذلك بكثرة عبادتهم كما فعل الملعون ، وقد قيل إن من إحتجاجه -لعنه الله- في إنكاره لابتداء الله لآدم بالتفضيل أنه عبَدَ الله من قبله بستة آلاف سنة، ونسي عدوّ الله أن العبادة لله لا تتم إلا بالتسليم لأمره، والرضاء بقضائه وحكمه، فقد رأيت كيف قاد هذا الخلاف إلى كل جهالة ، وأنه أصل لكل ضلالة، فنسأل الله -تعالى- العصمة والرحمة.
[11]
قَدْ نَصَّ ربِّي في الكتابِ المُنْزلِ .... نصاً جليَاً لأخِ العَقْلِ الجَلِي
يُعْرَفُ مِنْ مُبَيَّنٍ ومُجْمَلِ .... ولم يُقَيِّدْهُ بِشَرْطِ العَمَلِ
هذا نوع من الإحتجاج في تفضيل بعض خلق الله على بعض بشيءٍ من نصوص كتاب الله -تعالى عز وجل- لا يدفعها منصف لنفسه.
وقد نصّ الله -تعالى- على تفضيل بعض خلقه على بعض في كتابه العزيز (نصاً جلياً) لمن كان له (عقل) سوي، وذلك موجود في (مبين) كتاب الله -تعالى- (ومجمله)، وهذا الكتاب لا يتسع لإيراد جميع ذلك وتبيين المجمل بحده وحقيقته، وكذلك المبين بحقيقته وحده، فإن مكن الله -تعالى- من تفسير كتابه أفردنا للمحكم، والمتشابه، والمنسوخ، والعام، جزءاً وشرحنا فيه شرحاً بليغاً شافياً حقائقه ودلائله، وفصوله ومسائله، وعَيَّنَّا الآي في ذلك بألفاظه ومواضعه، وذكرنا أحكامه ووجه حكمة الله -تعالى- في الخطاب به، ولا نستثني في ذلك إلا بمشيئة الله -تعالى- وعونه، وتوفيقه، ولطفه، ونحن نذكر ها هنا من حجج الكتاب العزيز ما يشهد بصدق دعوانا، ويوقظ العاقل، ويرشد الجاهل ممن كانت علة عناده لهذه العترة الطاهرة لم تستحكم...
فأما من قد تمحضت لهم -عَلَيْهم السَّلام- عداوته، فقد غلبت عليه شقاوته، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)}[الأنعام] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)}[النمل] .
قال الله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:105] ، وقال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[البقرة:253] ، وقال سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)}[الأنعام] ، وقال سبحانه: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)}[الإسراء] ، فهذا تصريح من الله -تعالى- كما ترى، بتفضيله لبعض النبيئين على بعض، ولم يذكر في ذلك عملاً، فإثبات العمل يكون زيادة في الكتاب العزيز، والزيادة فيه كفر بالإتفاق.
وصرح بالتفضيل بلفظ آخر، وهو رفع الدرجات ؛ لأنه يعود في المعنى إلى ما تقدم، لأن من رفع الله درجته فقد فضله بلا بد([55])، ولا نعلم بين أحد من علماء آل محمد -صلوات الله عليهم- في عصرنا ولا قبلنا ولا بين أحد من علماء شيعتهم إختلافاً في أن من ردّ نصاً من ظواهر كتاب الله -تعالى- كفر، ولهذا قضوا جميعاً بكفر الباطنية وردتهم، لردهم لظواهر النصوص، وتعسفهم في تأويلها، فما الملجيء إلى الدخول في بابهم، لولا عمى البصائر.
______________
([55]) - بلا بُدّ: لا محالة . تمت قاموس.