[بيان حكم المنكر لفضل أهل البيت(ع)]
[4]
ثُمَّ عَصَى قَائِمَنَا المَشْهُوْرَا .... وَقَالَ لَسْتُ تَابِعَاً مَأمُوْرَاً
مُحْتَسِبَاً لأمْرِكُمْ مَقْهُوْرَا .... لَكَانَ مَلْعُوْنَاً بِهَا مَثْبُورَاً
معنى هذا البيت أن المخالف لأهل البيت في إنكار فضلهم، على الصفة التي ذكر في البيت الأول من الصيام، والصلاة، والتقزز([27]) في الطهارة الذي جعله كثير من الناس ديناً.
(ثم عصى) قائم أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- لكان بذلك ملعوناً لعيناً ولم تغن عنه عبادته من الله شيئاً.
ومعنى(الملعون): المبعد عن رحمة الله تعالى.
(مثبورا): خاسراً.
و (القائم المشهور): هو الإمام، ومن قوله الإعتراف بفضل نفسه وأهله من عترة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، لولا ذلك لما وجب قصر الإمامة عليهم وادعاء إرث النبوءة لهم.
و (التابع المأمور): هو المتصرف لمالكه فيما أراد، قال النابغة:
ليهن بني ذبيان أن بلادهم .... خلت لهم من كل مولى وتابع
وأهل الحقائق من أهل الإيمان يفتخرون بأهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مواليهم وسادتهم، ويتميزون بذلك على جميع الفرق؛ وذلك ظاهر في شعر الشعراء منهم، وتصنيف العلماء فيهم، ولولا ظهور ذلك ومحبة التخفيف لذكرنا منه طرفاً.
وقد أتبع ما تقدم بحكم من أحكام منكر فضلهم وهو قوله:
_____________
([27]) - التقزز: التنطس والتباعد من الدنس، تمت مختار الصحاح.....
[يبان مصير منكر فضل أهل البيت(ع)]
[5]
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الجَحِيْمِ الحَامِيَهْ .... وأمُّهُ فيها يَقِيْناً هَاوِيَهْ
وَمَا الذي يُدْرِيْ الجَهُولُ مَا هِيَهْ .... نَارٌ تُصَلِّيهِ بِهَا الزَّبَانِيَهْ
(الجحيم): هي النار العظيمة، وكذلك الجحام، والجحمة، وشواهدها في اللغة ظاهرة من النظم والنثر، ولا معنى لذكرها، ولا أعظم من نار الله -تعالى- التي خلقها من غضبه، نعوذ بالله منها ومن قول يؤدي إليها.
و (الحامية): صفة النار، و(أمُّه) ها هنا: رأسه، وهذه صفة منكر فضل آل محمد -عليه وآله السلام-، العادل عن منهاجهم، الراجع في طلب الرشاد إلى سواهم ، لفتنة عبادة أو محبة أو تعمد معصيته لغرض من الأغراض، ولكن أعداء الله في النار، قد صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ(94)}[الشعراء] ، والكبكبة مضاعفة الكب، والكب في أصل اللغة: إلقاء الشيء على رأسه.
قوله: (وما الذي يدري الجهول ما هيه): لتعظيم الخطب كما جرت بذلك عادة العرب في خطابهم، ولا شك في عظم ما هنالك، نعوذ بالله من شره، ونسأله المصير إلى خيره.
ثم جلي ذلك بقولنا: (نارٌ تصليه بها الزبانية): معنى تصليه: تقلبه، مأخوذة من تصلية الشواء بالسَّفُّود وما شاكله، فمرة على وجهه، ومرة على ظهره، وذلك بما قدمت يداه، وما ربُّك بظلام للعبيد.
و (الزبانية): هم الملائكة -عَلَيْهم السَّلام- الموكلون بعذاب أهل النار، وسموا زبانية لزبيهم أهل النار في النار، والزبي: هو الدفع الشديد، وأصله في الناقة: تزبي ولدها وحالبها؛ أي تدفعهما، وقد نقل إلى الحرب والأصل في ذلك ما ذكرنا.
ومما يدل على ما قلنا من مصير المتخلف على أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- إلى النار لإنكار فضلهم قول النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) ، فقد ظهر لك أنَّا لم نقطع على منكر فضلهم إلا بدليل واضح، وبرهان لائح...
[بيان فضل أولاد النبي(ص) على سائر العرب والعجم]
[6]
إنَّ بَنِيْ أَحْمَدَ سَادَاتُ الأُمَمْ .... بِذَا لَهُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ حَكَمْ
مَنْ أَنْكَرَ الفَضْلَ لِأُذْنَيْهِ الصَمَمْ .... مَنْ عِنْدَهُ الدُّرُ سَواءٌ والحِمَمْ
قوله: (بني أحمد): يريد؛ أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وأحمد من أسماء النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبذلك سمي([28]) في بشارة عيسى بقيامه وظهوره.
وقوله: (سادات الأُمم): يريد؛ مقدمات الخلق وأولي الأمر في العر ب والعجم وذلك الفضل المبين، وقد دللنا على ذلك في إثبات الإمامة لهم -عَلَيْهم السَّلام- دون غيرهم.
ومما يؤيد ذلك ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((قال لي جبريل: يا محمد طُفت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر أهل بيت أفضل من بني هاشم([29]))) ولا شك أن آل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أفضل بني هاشم، فما ظنك بمذهب أدى إلى رد شهادة جبريل، ثقة الملك الجليل، سبحانه وتعالى، وأنكر به فضل أفضل الخلق !!؟، فنعوذ بالله من الزيغ بعد الهداية ومواقعة أسباب الردى.
______________
([28]) - وذلك في قوله تعالى حاكياً عن عيسى -عَلَيْه السَّلام-: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6)} [الصف].
([29]) - أخرجه أحمد بن حنبل في المناقب، والمحاملي، والذهبي عن عائشة، وابن عساكر، وأخرجه أبو العباس الحسني في المصابيح - خ -، وأخرج نحوه أيضاً باختلاف يسير، والمرشد بالله في الأمالي (1/156)، والبيهقي في الدلائل، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/220)، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط (4/373) رقم (6285).......
ولأن أهل البيت مجمعون بحيث لا يعلم خلافه أنهم أفضل الناس، لولا ذلك لما أوجبوا على الأمة الرجوع إلى أقوالهم ، والإقتداء بأفعالهم.
وإجماعهم حجَّة، كما قدمنا، وهذا - أعني إعتقاد فضل أهل البيت -عليهم السلام- - مذهب الزيدية خصوصاً، وطبقات الشيعة عموماً، ولم يعرفوا من بين أهل الفرق إلا بذلك، وبما يؤدي إليه مما ينبني عليه، وذلك أنهم اعتقدوا فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وأخذوا الدين عنهم بالأدلة، وأوجبوا على سائر الخلق مشايعتهم على ذلك، فسموا شيعة؛ وذلك ظاهر؛ ولأنهم لو لم يعتقدوا فضلهم لم يصغوا إلى كلامهم كما فعل غيرهم من الناس،و لا يعلم خلاف في عموم ذلك فيهم -عَلَيْهم السَّلام- إلا مع الروافض الظالمين، والنواصب الكافرين، نعوذ بالله من حالهم أجمعين.
وقد قال الله -تعالى- رداً عليهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:32] ، وأهل البيت مجمعون أنهم المرادون بهذه الآية،وإجماعهم حجَّة، كما قدمنا، فأخبر أنهم صفوته من خلقه، وصفوة كل شيءٍ أفضله، فلذلك قضينا بأنهم أفضل الخلق ، ومن هناك قلنا في القافية : (بذا لهم ربُّ السموات حكم): لأن خبره تعالى حكم يعلم ذلك جميع أهل الأصول، ولذلك أوجبوا الحج بقوله: [على الناس: {حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران:97] ، وهذا، كما ترى.
قوله: (من أنكر الفضل لأذنيه الصّمَم)، دعاء عليه بذلك، وهو واقع لامحالة؛ لأن الله -تعالى- قد أخبر أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً، وهو تعالى لا يخبر إلا بالحق...
..
والدعاء بالواقع جائز كما حكى([30]) الله -تعالى- عن الملائكة -عَلَيْهم السَّلام- أنهم يدعون إليه بالمغفرة للذين تابوا واتبعوا سبيله التي نهج لعباده ، ولا شك في أن ذلك واقع من قبله لعدله وحكمته، ولا شك أن من أنكر فضل أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام-، وجحد حقهم، ولم يعط بمودتهم أجر جدهم -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان الصمم أهون ما يستحق من العقوبة؛ لأن الله -تعالى- توعده بنار جهنم على لسان نبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
[الوعيد لأعداء أهل البيت(ع)]
وقد روينا عن أبينا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((من كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنَّة([31]))) ولا يعلم أشد لهم عداوة، ولا أعظم مكيدة لدين الله ونبيئه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ممن أنكر فضل عترته وساوى بينهم وبين غيرهم.
___________
([30]) - كما حكى ذلك في سورة غافر في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8)وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)}.
([31]) - هذا الحديث له شواهد كثيرة تدل على معنى الخبر دون لفظه، وقد روى نحوه بلفظ يقرب من هذا اللفظ مع اختلاف يسير الإمام المؤيد بالله في الأمالي عن أنس بلفظ: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي فليس من الله ولا من رسوله في شيء))، ولنذكر بعض الشواهد التي تدل على هذا الحديث باختصار:
فمنها: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم والمعين عليهم ومن سبهم أولئك لاخلاق لهم في الآخرة ولايكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا عن علي -عَلَيْه السَّلام-، وأخرجه أيضاً الإمام أبو طالب في الأمالي بزيادة: ((ولا ينظر إليهم)) وبدون: ((ومن سبهم))، وأخرجه بلفظ الإمام أبي طالب صاحب شمس الأخبار، وأخرجه ابن النجار أيضاً بلفظ الصحيفة.
ومنها: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إشتد غضب الله وغضب رسوله على من أهرق دم ذريتي، أو آذاني في عترتي))، أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا، وأخرجه ابن النجار عن أبي سعيد بلفظ: ((والله اشتد غضبه على من أراق دمي أو آذاني في عترتي))، وأخرجه ابن المغازلي والديلمي عن أبي سعيد والبزار عن ابن عمر، وثَمَّ شواهد كثيرة لايسع المقام حصرها...
هذه أمية على مجاهدة جاهليتها لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بالحرب والمنابذة وقود العساكر إليه([32]) حتى أظهر الله دينه وهم كارهون، فتستروا بالدين وصدورهم قد باض فيها النفاق وفَرَّخَ ودَرَجَ وعَشَّشَ، ثم كان منهم ما كان من قتل عترته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وحمل بناته، كالسبي المجلوب إلى الشام قد أنكر ذلك بعضهم واعترف بفضلهم حتى قال:
سمية أضحى نسلها عدد الحصى .... وبنت رسول الله ليس لها نسل
واستقصاء أخبارهم يشط بنا عن الغرض.
_______________
([32])- في (ن) : عليه...
[بيان حال العارف بفضل أهل البيت(ع)]
وكان من يتحقق منهم يبطن ويشارك أهل العلم في الطلب لا ينكر فضلهم إمَّا خوفاً من الله، وإمَّا إحتساباً على نفسه من إنكار شيءٍ يعلم ضلاله في إنكاره.
فمن ذلك: ما روينا بالإسناد([33]) الموثوق به عن عبدالله بن الحسن([34]) -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (دخلت على عمر بن عبدالعزيز([35]) فخلى بي فقال: يا أبا محمد إن رأيت أن ترفع ما فوق الإزار، قلت: ما تريد إلى هذا رحمك الله؟، قال: فإني أسالك، قال: فرفعت، فجاء ببطنه حتى ألزق ببطني، ثم قال: إني أرجو أن لا تمس النار بضعة مسَّت بضعة من رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
_____________
([33]) - ذكره الإمام أبو طالب في الأمالي (ص125)، وروى نحوها أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل (169).
([34]) - ستأتي ترجمته قريباً إن شاء الله تعالى.
([35]) - عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص أبو حفص الخليفة العادل من بين تلك الشجرة الخبيثة كان رجلاً صالحاً وخليفة عادلاً عاصره فضلاء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- كعلي بن الحسين زين العابدين، وعبدالله بن الحسن الكامل وغيرهم من الفضلاء، وأثنوا عليه خيراً، ولم يكن في بني أمية كلها من يقول بالعدل والتوحيد غيره وغير يزيد بن الوليد الملقب الناقص، وكان له مآثر حسنة، وأعمال طيبة.
فمنها: أنه قطع السب لأمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- في جميع الآفاق ووضع بدلاً منها: إن الله يأمر بالعدل والإحسان...إلخ، ورد فدك على أولاد فاطمة عليها السلام، وأيضاً أدنى أهل الدين والصلاح، وباعد أهل الفسق والعصيان وله آثار جميلة تدل على فضله وعلو منزلته.
ومن آثاره أيضاً وأفعاله الحميدة وصله لأهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- ومواساتهم وتأمينهم، فقد روي أنه كان يصل جعفر بن محمد بالذهب في جراب السمن والعسل وهذا دليل التقية. ولد سنة إحدى وستين في العام الذي قتل فيه الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وبويع بالخلافة سنة تسع وتسعين، وتوفي بخناصرة لستٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وأوصى أن يدفن في قطعة أرض ورثها من أمه في دير سمعان، وقبره هناك مشهور.
[بيان حال مُنْكر فضل أهل البيت(ع)]
فقد رأيت أن منكر فضلهم يكون أسوأ حالاً من بني أمية، وكيف يجوز لك والنبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يقول: ((أيها الناس أوصيكم بعترتي أهل بيتي خيراً فإنهم لحمي وفصيلتي فاحفظوا منهم ما تحفظون مني([36]))) ، ومما يجب أن يحفظ منه توقيره، وتعظيمه، وتفضيله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- على جميع الخلق، وكذلك يجب توقيرهم، وتعظيمهم، وتفضيلهم على سائر الخلق، وهذا ظاهر لا يسع خلافه.
ثم قال بعد ذلك مؤكداً: (من عنده الدر سواء والحمم) يقول: " من ساوى بين أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وغيرهم من أجناس العرب والعجم فالدر عنده والحمم في منزلة واحدة ".
والدرة: جوهرة عزيزة نفيسة معروفة، وقد قدمنا ذكرها في باب النبوءة.
(والحمم): سود النار بعد خمودها، وبينهما بون بعيد، قال الشاعر:
أشجاك الربع أم قِدَمُه .... أم رماد دارس حممه
ومن انتهى إلى التسوية بين الدر والحمم فقد انتهى في الجهل، وأجهل منه من ساوى بين عترة محمد (صلى الله عليه وسلم وعليهم) وبين غيرهم من الناس؛ لأنهم لم يرد على المساواة بين الدُّر والحمم وعيد، وقد ورد على المساواة بينهم وبين غيرهم وإنكار فضلهم من الله ومن رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- الوعيد.
____________
([36]) - رواه الإمام أبو طالب في الأمالي عن ابن عباس (130) .....
[بيان أن الله تعالى فاضل بين خلقه]
والعلم بأن الله فاضل بين خلقه ظاهر لكل منصف لم يكابر عقله ويؤثر هواه على هداه؛ لأنا نعلم تفضيل الله -تعالى- للحيوان بالحياة علىالجماد، وفضل الحيوان الناطق على البهائم بالنطق، وفضل العاقل من الناطق بالعقل على غير العاقل، وفضل بعض البهائم على بعض؛ فضل الفرس على الحمار، وجعل الله -سبحانه- لذلك حكماً في الشريعة الشريفة، فروينا عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: ((ما خصَّنا رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- من دون الناس إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمير على الخيل))([37]) ، وإنما قال ذلك -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وخصّ به أهل بيته لما في إرتباط الخيل من الفضل، لأمره سبحانه بذلك في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل ِ}[الأنفال:60] ، وقد بينا أن التعبد على أهل البيت أشد، وقد علم منهم ومن شيعتهم في الوضوء ما لم يعلم من أحد من الفرق.
______________
([37]) - رواه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني -عَلَيْه السَّلام- في شرح التجريد والإمام المتوكل على الرحمن أحمد بن سليمان -عَلَيْه السَّلام- في أصول الأحكام ، والأمير الناصر للحق الحسين بن محمد -عَلَيْه السَّلام- في الشفاء كلهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ، ورواه الإمام علي بن موسى الرضا في صحيفته بسنده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة وأمرنا بإسباغ الوضوء وأن لا ننزي حماراً على عتيقة)).......
وأما أكل الصدقة والإمتناع من إنزاء الحمير على الخيل فخاص لهم دون غيرهم لما علم الله في ذلك من المصلحة، ولعل من لا بسطة له في العلم منهم لا يعلم كراهة إنزاء الحمير على الخيل لهم، هذا وجه هذا الخبر الشريف.
وكذلك فضَّل الناقة على الشاة، وجعل لذلك حكماً في الشريعة في الهدي والدِّية، فأقامها مقام عدد كثير.
وكذلك في مقاسم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وبَسْطُنا الكلام في ذلك يخرجنا عن الغرض، وكل هذا التفضيل إبتداءً.
وكذلك فضَّل بعض الحيوان العاقل الناطق على بعض؛ فضَّل العرب على العجم، والحر على العبد، وأهل البيت الرفيعة على من دونهم وإن استووا في الأعمال، وجعل لذلك حكماً في الشريعة، وقد أوضحه أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في الكفاءة.
وكذلك فضل الذكور على الإناث، وينطق بذلك كتابه في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء:34] ، وهذا واضح.
وفضَّل بعض الإنسان على بعض؛ فضَّل الرأس على سائر الجسد، وفضَّل الوجه على سائر الرأس، وجعل لذلك أحكاماً في الشريعة، وهذه الأمور ظاهرة لا ينكرها إلا من غلب الران على قلبه، وألبَّ العناد والخذلان بلبِّه ، فنعوذ بالله من عمى القلوب ، ومعصية علام الغيوب.
[القول بإنكار فضل أهل البيت (ع) يغضب منه الجبار]
[7]
قَد قَالَ مَنْ أَنْكَرَ فَضْلَ الأَخْيَارْ .... أَعنِي بَنِيْ بِنْتِ النبي المُخْتَارْ
مَقَالَةً يَغْضَبُ مِنْهَا الجَبَّارْ .... ليس لِحُكْمِ اللهِ فيها إِنْكَارْ
يريد بالمقالة التي ذكر في هذا البيت ما بيَّن في البيت الثاني، وهو ما يأتي إنشاء الله تعالى...