[الكلام في القدر الذي يحتاج إليه من الورع وبقية الشروط]
قلنا: ويُعتبر في ورعه أن يكون قائماً بالواجبات تاركاً للمحرمات؛ وإن شاركه في ذلك كثير، وجاز أن يوجد من يترك المباحات ويعزف نفسه عن الدنيا جملة، ويتخلى إلى الباري بالكلية فذلك لا يقدح في شيءٍ من أمره، ولا يجهل ذلك إلا من أعمى الجهل عين بصيرته، ولبس عليه الشيطان أمره، وأعطى التقليد مقوده ؛ لأن المعلوم أن الحسن بن علي -صلوات الله عليه- ثابت الإمامة، ومن أنكر ذلك فهو من الفاسقين المستحقين للعنة ربِّ العالمين.
وكان غير ممتنع من تناول ما أحل الله له من منكح، ومأكل، ومشرب، وملبس، وهو مع ذلك أفضل الخلق بعد أبيه ممن أعلمنا الله -تعالى- بتفصيل أمره، فكما لم يقدح ذلك في إمامته -عَلَيْه السَّلام- لا يقدح مثله في إمامة غيره من أولاده وأولاد أخيه -عَلَيْه السَّلام-.
وأما السخاء: فيعتبر من ذلك ألا يكون معه من البخل ما يمنعه من إنفاق الأموال التي لله في المستحقين لها من عباده، وإن كان في طبقته من الناس من يؤثر بما حوت يده ولا يقتني شيئاً مما ملكه لنفسه، فذلك غير قادح في إمامته، إذ الإجماع منعقد من أهل العلم أن مثل ذلك لا يجب إعتباره.
وكذلك الشجاعة يجب أن يكون معه منهم من يثبت معه في الحروب ويهتدي لأجله في وقت([40]) زلزال الخوف إلى السياسات، وإن جاز أن يكون في طبقته من هو أقتل منه للأقران ، وأطول منازلة للأبطال ؛ كما يعلم من حال الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- وحال أخيهما محمد بن الحنفية([41]) -عَلَيْه السَّلام-، وأن حالته التي كان عليها لا تقدح في شيءٍ من أمرهما، وكذلك الأشتر النخعي([42])، وعدي بن حاتم([43])، والمرقال([44])، وغيرهم.
_______________
([40]) ـ في (م، ن): أوقات.
([41]) ـ محمد بن الحنفية: هو محمد بن علي بن أبي طالب أبو القاسم المشهور بابن الحنفية، وأمه خولة بنت جعفر بن قيس من بني حنيفة بن نجيم من سبي بني حنيفة في أيام الردة، استولدها محمداً كما ذكر ذلك الإمام المنصور بالله عليه السلام في الرسالة الهادية وغيرها ، ولد عليه السلام لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب أنحله رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- إسمه وكنيته كما روى ذلك الإمام الحسين بن إسماعيل الجرجاني: حدثني مشائخي عن يحيى بن الحسين، حدثني العباس بن عبد العزيز الخطاب، حدثني قيس بن الربيع، عن الليث، عن محمد بن بشر الهمداني، عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- لعلي: ((ياعلي يولد لك غلام نحلته إسمي وكنيته بكنيتي)) فولد له محمد، وكان محمد بن الحنفية كثير العلم والورع، وكان شديد القوة شجاعاً بطلاً،حضر معركة صفين مع أبيه عليه السلام، وقاتل فيها، وكذلك حضر الجمل، وكان حامل راية أبيه، وقاتل قتال الأبطال، وكان معترفاً بفضل أخويه الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- مقدماً لهما محباً لهما، وهما كانا كذلك يحبانه ويكرمانه لمنزلته عند علي بن أبي طالب عليه السلام وشرفه وقدره، وله أخبار كثيرة، وقد غلت فيه طائفة من الإمامية، وقالوا بأنه المهدي المنتظر وأنه لم يمت ، وأنه حي يرزق حتى يملأ الأرض عدلاً، والصحيح أنه توفي سنة ثمانين للهجرة، وقيل إحدى وثمانين، وقيل غير ذلك، والأول أصحّ، وقبره بالطائف رحمة الله عليه ورضوانه. ولمزيد انظر خبر خولة الحنفية -مجموع السيد حميدان.
([42]) ـ الأشتر النخعي، هو: مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن الربيع النخعي كان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر الشيعة وعظمائهم شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين عليه السلام ونصرته محباً له متبعاً، وكان ساعد أمير المؤمنين الأيمن في حروبه وجهاده، شهد مشاهد الوصي جميعها، وكان له في الجهاد فيها الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، فكان يلقي بنفسه في مهالك الحروب، وكان شديد البأس معظماً في الناس رئيساً حليماً فصيحاً شاعراً، وتوفي رحمة الله عليه شهيداً مسموماً سنة تسع وثلاثين متوجهاً إلى مصر والياً عليها من قبل أمير المؤمنين عليه السلام، فلما علم به معاوية أرسل إليه من سقاه سماً، فمات منه قبل أن يصل إلى مصر في القلزم، ولما بلغ أمير المؤمنين وفاته حزن حزناً عظيماً وغم غماً كبيراً لامزيد عليه، وقال فيه: رحم الله مالكاً، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
([43]) ـ عدي بن حاتم بن عبدالله الطائي أبو طريف الجواد بن الجواد قدم على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- سنة تسع وأسلم فأكرمه وفرح بإسلامه، وشهد فتوح العراق وكسرى، وفتوح الشام، وشهد مع علي عليه السلام حروبه، وفقئت عينه يوم الجمل وقتل ابنه، وكان من خلص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ومحبيه ثم نزل الكوفة ومات بها سنة ثمان وستين عن مائة وعشرين سنة في زمن المختار العبيدي.
([44]) ـ المرقال، هو: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري عمه سعد بن أبي وقاص، وأبوه عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- يوم أحد وكلم شفتيه وشج وجهه وكان المرقال من شيعة علي عليه السلام ومحبيه والمجاهدين معه، والمستشهدين بين يديه ولاءاً ونصراً شهد مشاهد الوصي عليه السلام وسقط شهيداً في صفين بعد أن جاهد جهاد الأبطال وصرع حوله فرسان الرجال فعليه رحمة الله ورضوانه، وسمي المرقال لأنه كان يأخذ الراية ويرقل بها إرقالاً أي يسرع بها.
وأما القوة على تدبير الأمر: فأن يكون معه من جودة الرأي وحسن التدبير ما يصلح معه للإمارة ويفزع إليه الأكثر للمشورة،وإن كان في طبقته من يختص من الدهاء بأكثر من ذلك القدر؛ كما يعلم الله([45]) من حال الحسن بن علي -عَلَيْه السَّلام- وقيس بن سعد بن عبادة([46])، وحال الحسين -عَلَيْه السَّلام- وابن عباس -رضي الله عنه-.
وأما صحة البدن: فأن يكون سليماً من الآفات المنفرة، والعاهات المزمنة، وإن كان في الأمة من هو أقوى منه بُنْيَة، وأشد بطشاً؛ كما يعلم من حال الحسن والحسين -عليهما السلام- وأخيهما محمد ابن الحنفية -قدس الله روحه- وأنهما لم يلحقانه في هذا الباب ولم يقرباه، وهذا معلوم لأهل البحث ضرورة، ولم يقدح ذلك في شيءٍ من أمرهما -عَلَيْهما السَّلام-.
فهذا حين إنتهينا إلى ما تمس الحاجة إلى ذكره من الإمامة في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- دون غيرهم، وشرائطها التي يجب إعتبارها، قِبَلَنا على منهاج زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ومن حذا حذوه من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-.
___________________
([45]) ـ في (م، ن): ليست موجودة وهو الصحيح.
([46]) ـ قيس بن سعد بن عبادة بن دُليم أبو عبدالله الخزرجي صاحب شرطة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- كان من ذوي الرأي والدهاء والتقدم صاحب المقامات المشهورة مع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ومع وصيه أمير المؤمنين، ومع ابن رسول الله الحسن بن علي عليه السلام، وكان من أعيان فضلاء الصحابة، وشهد مع أمير المؤمنين جميع مشاهده، وكان صاحب الجهاد المشهور والشجاعة المتناهية، وتوفي سنة ستين للهجرة رحمة الله عليه، وله في صفين والجمل والنهروان الوقائع العظيمة، والمقامات الحميدة.
[ذكر طرف من أخبار الإمام زيد بن علي عليه السلام]
وإذ قد ذكرنا زيداً -عَلَيْه السَّلام- فلنذكر طرفاً من أمره إذ نحن منتسبون في الإعتقاد إليه، تابعون لمنهاجه -عَلَيْه السَّلام-: إذ كان أول من نهج السبيل، وأوضح الدليل، وسبق كافة أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- في عصره إلى منابذة الظالمين، ومباينة الفاسقين، فدخل تحت قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)}[الواقعة] ، ففاز بكونه من المقربين، على جميع العترة الطاهرين.
واختص بجهاد المُخلِّين؛ ففاز بدرجة المجاهدين، إذ الحكيم -سبحانه وتعالى- يقول؛ وقوله الحق: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)}[النساء] .
وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}[الحديد:10] ، وقد أنفق -عَلَيْه السَّلام- قبل الفتح وقاتل، أشد قتال، وعبدَ الله حتى أتاه اليقين، ولم يعلم ذلك من غيره.
والحديث مشهور عن أخيه محمد بن علي -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (هذا سيد بني هاشم)، وسيد القوم أفضلهم وأولاهم بالتصرف فيهم.
وكذلك روينا عن ولده جعفر بن محمد -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (والله ما يرى مثله إلى أن تقوم الساعة، كان والله سيدنا ما ترك فينا لدين ولا دنيا مثله).
وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى أبينا علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- أنه قال: (الشهيد من ذريتي، والقائم بالحق من ولدي، المصلوب بكناسة كوفان، إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم: أُدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون([47])).
ولو روينا ما بلغنا عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعلي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام- وأولاده، وقول من عاصره من أهل بيته فيه لطال الشرح وتباعدت الأطراف.
هذا جدنا عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عَلَيْه السَّلام-، أشهر أهل بيت النبي في زمانه من أولاد الحسن والحسين،وأشدهم إنحرافاً عن الظالمين، وأثقلهم وطأة عليهم، وأوسط أهل البيت نسباً، لجمعه شرف الأمهات إلى شرف الآباء؛ لأنه جمع الفواطم في نسبه؛ أمه فاطمة ابنت الحسين بن علي -عَلَيْه السَّلام-، وجدته فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، وجدته أم علي -عَلَيْه السَّلام- فاطمة ابنت أسد أول هاشمية ولدت لهاشمي وكانت مكينة عند النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، ولم يكن هذا لأحد ممن عاصره من أهل بيت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مع العلم البارع، والورع المانع، إلى سائر خصال الكمال.
___________________
([47]) ـ أمالي الإمام أبي طالب 105، بسنده عن زاذان عن علي ـ عليه السلام ـ.
كان يناظر زيداً -عَلَيْهما السَّلام- في أوقاف علي وفي كثير من المسائل التي تحسن فيها المناظرة، فإذا قام زيد -عَلَيْه السَّلام- إلى دابته بادره عبدالله بن الحسن -عَلَيْهما السَّلام- إليها، وأمسك ركابه، وسوَّى ثيابه، فيعلم الناس بذلك أنه يفضله على نفسه.
وقد روينا عن أخيه محمد بن علي (-عَلَيْهما السَّلام-)، باقر علم الأنبياء، ما قدمنا ذكره، وعن ولده جعفر الصادق -عَلَيْه السَّلام-، فكيف يجوز لأحد يدعي متابعتهم ويخالفهم في إعتقادهم !؟؛ لأن هؤلاء الثلاثة أعيان العترة في عصره -عَلَيْه السَّلام-.
وقد صح تفضيل الجميع له، بما ذكرنا من الجزء اليسير مما علمنا من أقوالهم فيه -عَلَيْه السَّلام-، فقد إتضح لك بهذا القيد أنه أفضل أهل زمانه بشهادة العدول منهم مطابقة للنص الوارد من الله ومن رسوله على تفضيل المجاهدين مرة، وتخصيصه بالذكر أخرى، فهذا هو الكلام المتعلق، بما تقدم، من وجوب قصر الإمامة في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهما السَّلام- دون غيرهم.
[تأكيد لما تقدم من أمر الإمامة]
[38]
فيهمْ([48]) نِصَابُ الأمرِ والإمامهْ .... ليس إلى غيرِهِمُ الزَّعَامهْ
فلا تَخَطَّوا طُرَقَ السلامَهْ .... واستَمِعُوْا مِنْ ربِّكم أَحْكَامَهْ
لا تُخْطِروا الحِسْدَ لكمْ ببَالِ
هذا البيت تأكيد لما تقدم.
و (نصاب الأمر) أصله لأن النصاب في صريح اللغة أصل الشيء، والأمر ها هنا أمر الله، وقد قدمنا الكلام في معنى الإمامة وأنها التصرف العام في الكافة في أمور قد تقدم ذكرها.
قوله: (ليس إلى غيرهم الزعامه): كشف وتوكيد.
قوله: (فلا تخطوا طرق السلامة): يقول: لا تنكبوا طرق الحق إلى غيرها من الطرق التي هي طرق الضلال بالإضطرار؛ لأن الله -تعالى- يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}[يونس:32] .
__________________
([48]) - نخ (ن) : فهم...
قوله: (واستمعوا من ربِّكم أحكامه): يقول: إن الله -تعالى- حكم لهم بذلك دون غيرهم من الناس، وظاهر البراهين على أن الإمامة مقصورة عليهم -عَلَيْهم السَّلام-، وقد قدمنا ذكرها.
قوله: (لا تخطروا الحِسْد لكم ببالِ): يريد بالحِسْد الحَسَد، فأسكن، ومثل ذلك في أشعارهم كثير، قال الطرماح:
وجريت يوم الأسد والدين قد دجى .... عليهم فلم تمنعهم حصلة الصَمْد
وهو لايريد إلا الصمد.
و (البال): هو الفكر، وهو ظاهر في اللغة، فنهى عن حسدهم على ما اختصهم الله -سبحانه وتعالى- من الفضل ووراثة النبوة، ولا ينكر ما خصهم الله -سبحانه وتعالى- من الفضل إلا من حسدهم وأنكر فضلهم، وقد قال في مثل ذلك: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)}[النساء] ، فكانت المضرة على حاسدهم ولم ينقصهم ذلك.
كذلك لا يضر أهل هذا البيت حسد من حسدهم، فجحد حقهم وأنكر فضلهم،؛ بل ضرر ذلك عائد إلى الحاسد.
ثم أكّد ذلك بهذا البيت فقال:
[التحذير من الحسد]
[39]
أتحسُدُونَ الناسَ فَضَلَ الباري .... في الرزقِ والخِلْقةِ والمِقدارِ
وَوَاقِعِ الإقتَارِ والإيسَارِ .... ومَنُّهُ على الجميعِ جاري
بالعدلِ في الإكثارِ والإقلالِ
هذا كالمؤكد لما قبله مما يجري مجراه، ومعناه النهي عن الحسد لمن اختصه الله -تعالى- بشيءٍ من رحمته في خلق، أو رزق، أو شرف، ثم نبَّه على أن الإقتار والإقلال من قبل الله -تعالى- وأن ذلك عدل منه؛ لأنه متفضل في الحالات كلها، والمتفضِّل لا يُتَحَكَّمُ عليه ولا يُعْتَرضُ شاهداً ولا غائباً، ولا ينبغي لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام إنكار شيءٍ من ذلك، وهو عز من قائل يقول رداً على المشركين: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52)}[الزمر] .
ويقول عز من قائل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32)}[الزخرف].
وقال في آية أخرى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)}[الشورى].
فتأمّلوا -رحمكم الله -كيف رتب سبحانه الإحتجاج في هذه الآيات على المشركين؛ فتارة بالتقديم لهم مما لا يمكنهم إنكاره؛ وذلك ظاهر في قوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا}، وتارة لتقريعهم بالعجز عن قسمة رحمته؛ لأنه لا يقدر على قسمتها إلا هو، ثم أخبر بعد ذلك أنه رفع بعضهم فوق بعض درجات؛ وهذا تصريح بما ذهبنا إليه، ثم أخبر أن رحمته في الآخرة خير من جمع مال الدنيا، فحرَّضَ من طريق المعنى على الإنفاق في سبيله.
وقوله: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}([49])[الزخرف:32] ، تنبيه على الإقبال على طاعته وطلب الخير من عنده؛
____________
([49]) - وعاشرها: سأل -أيده الله- عن قوله سبحانه : {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، وعن الغرض وما السخري ؟
الجواب عن ذلك : أن السخري هو : التذلل ؛ سخره الله إذا ذلَّله ، ولما كان من استهزأ بغيره فكأنه استذله قيل تسخره فما تصرف من هذه اللفظة فهو يرجع إلى هذا المعنى .
وذلك أن الحكيم سبحانه أراد ظهور الحاجة في الخلق ليقع الإعتراف بالعبودية ؛ لأن المحتاج لا يكون إلهاً فالغني قد اتخذ الفقير سخرياً لحاجته إليه ، والفقير سخرياً للغني مثل ذلك ، والبعض يحتاج إلى البعض ، الأعلى إلى الأسفل ، والأسفل إلى الأعلى ؛ فإذاً الذي تحق عبادته هو الغني لذاته عن كل ذات، كامل النعوت والصفات سبحانه وتعالى.......
..