[نفي الإمامة عمن أغلق بابه وأرخى ستره]
وأما نفي الإمامة عمن أغلق بابه، وأرخى ستره: فلأنَّا لا نريد الإمام إلا لسد الثغور، ورأب الثلم، وسياسة الرَّعية وتفقد أحوالها، وأخذ الحقوق، وإقامة الحدود، وتجييش الجيوش، وحفظ بيضة الإسلام، ومعلوم أنه مع التغيب والإنكتام وإرخاء الستر وطول الحجاب لا يتمكن من أكثر ما ذكرنا فينتقض الغرض بإمامته؛ لأن وجود الإمام على الحد الذي ذكروه لا يزيد على وجود جبريل وميكائيل؛ لأن كل واحد منهم محق قد توارى عنا؛ ولأن العترة الطاهرة قبل حدوث هذه الأقوال الجائرة قد أجمعوا على أن الإمام إذا احتجب عن رعيته ولم ينفذ أمورهم، ويُقَوِّم أوَدَهم([13])، ويغني سائلهم، ويقسم بينهم فيئهم، خرج عن كونه إماماً؛ لأنه لا يراد لغير ذلك من الراحة والدَّعَة، وكيف يكون إماماً من نام الضحوات، وسكن إلى اللذات !!؟، كلا؛ حتى ينعقد نقع الخميس([14]) على جبينه، ويذُب عن المسلمين كما يذُب الليث عن عرينه([15])، فيصدع ببسالته قلوب المعاندين، ويرأب بشهامته صدع الدين، على منهاج أبي السبطين وولديه -صلى الله وملائكته عليهم وعلى من سار بسيرهم من أولادهم البررة ؛ كأبي الحسين زيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ومن حذا حذوه من العترة الطاهرة عليهم جميعاً أفضل السلام-.
____________
([13])ـ أوِدَ الشيءُ اعْوَجّ وبابه طرب. تمت (م.ص).
([14]) ـ الخميس: هو الجيش لأنه خمس فرق: المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والساقة. تمت قاموس.
والنقع: هو الغبار.
([15]) ـ العرين: مأوى الأسد الذي يألفه. تمت قاموس، ومختار صحاح.
[الكلام في أن الإمام لا يجب كونه معصوماً]
وأما الكلام في أن الإمام لا يجب كونه معصوماً: فقد دخل بعض الكلام فيه تحت الكلام في نفي ظهور المعجز على يديه.
ومما يحرر ذلك أنا نقول: لم قلتم بعصمته؟.
فإن قالوا: لنعرف المصالح.
قلنا: المصالح لا تعرف إلا من جهة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-، كما قدمنا، ولا يجوز أن يعرفنا الإمام مصالح أخر لعلمنا ضرورة من دين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أن شرعه لا ينسخ كما علمنا أنه خاتم الأنبياء.
فإن قيل: إنَّا نوجب عصمته؛ لأنَّا لو لم نقل بها جوزنا خيانته للمسلمين.
قلنا: فهذا يوجب العصمة في القضاة وأمراء الإمام، وأحد لم يقل بذلك.
فإن قيل: إن الإمَام مُغن عن عصمتهم؛ لأنه يثبتهم إذا زاغوا، وليس كذلك هو؛ لأن يده فوق أيدي الكافة فلا تثبت له إلا العصمة.
قلنا: ما قلتموه لا يوجبها؛ لأن خيانته للأمة لا تخلو إمَّا أن يكون فيما يخصه وأمور الشريعة منه سالمة، أو يكون في أمور الشريعة الطاهرة.
فإن كانت في الوجه الأول، وكانت بينه وبين ربِّه لم يضرنا ذلك ولم يظلم إلا نفسه كما حكى الله -سبحانه- في مثله من العترة بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)}[فاطر] .
وإن كانت خيانته في الأمر الثاني؛ وهو تغيير شيء من الشريعة المعلومة: فيد الله وأيدي الأمة فوق يده، وأبطلوا إمامته، وخرجوا من بيعته، ولم يلزمهم الإنقياد لأمره.
فإن غلب على شيءٍ من أمور المسلمين، كان حكمه في ذلك حكم غيره من المتغلبين، وخرج عن دائرة الأئمة الهادين المهتدين، فلا وجه للقول بعصمته كما ترى، فنسأل الله التوفيق والهدى من الله.
وإذ قد فرغنا من الكلام في بطلان مذهب المخالفين من الخوارج والمعتزلة والإمامية ومن انضاف إليهم من شذاذ الأمة والمنتسبين إليها من الناصبين للإسلام المكائد بالدخول فيه إيهاماً من غير حقيقة لإظهار الله -سبحانه وتعالى- كما وعد على يد نبيئه دينه على الدين كله، والله -تعالى- متم نوره ولو كره الكافرون، وكيف يتم مرام الكائدين، وقد جعل الله في كل وقت من الأوقات من أهل نبيئه الصادقين وأتباعهم من المستبصرين - صلى الله عليه وعليهم أجمعين- من يَفُلَّ شباهم ويخبر الناس أنباءهم، وذلك ثابت فيما روينا عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله([16]))) والحمد لله الذي جعلنا رجوماً لشياطين هذا الدين، ورد بنا عنه كيد الكائدين، حمداً كثيراً.
[الكلام في وجوب قصر الإمامة على أولاد البطنين واشتراط المنصب]
فلنتكلم على صحة مذهبنا كما وعدنا معتمدين على الإستعانة بالله -تعالى- والإستهداء له لما يقرب منه ويوجب الزلفة لديه إنه قريب مجيب: وقد تقدم ذكر مذهبنا بكماله في أن الإمامة بعد علي وولديه الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-، مقصورة على من قام ودعا من أولادهما المنتسبين بآبائهم إليهما، وهو جامع لخصال يجب إعتبارها بعد هذا المنصب الشريف هي: العلم، والورع، والشجاعة، والسخاء، والفضل، والقوة على تدبير الأمر بالعقل والرأي، والسلامة من الآفات المانعة من ذلك كزيد بن علي -عَلَيْه السَّلام- ومن حذا حذوه من العترة الطاهرة -عَلَيْهم السَّلام-.
________________
([16]) ـ رواه الإمام أبو طالب في الأمالي بسنده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي -عَلَيْهم السَّلام- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..الحديث (92).
ولنا في اعتبار هذا المنصب الشريف مسلكان:
أحدهما: أن نقول: قد بينا فساد أقوال المخالفين بالنص وجواز الإمامة في جميع الناس، وقول من قال إنها مقصورة في قريش، ولم يبق من أقوال الأمة سليماً من الفساد إلا هذا القول، فلو قيل ببطلانه لخرج الحق عن أيدي الأمة وذلك لا يجوز؛ لأنهم الأمة المختارة الوسطى، والله -سبحانه- لحكمته لا يختار من يخرج الحق من يده.
وإن شئت الإحتجاج على هذا الوجه، قلت: قد فسد القول بجوازها في جميع الناس؛ وهو قول الخوارج، وفسد القول بثبوت النص؛ وهو قول الإمامية ومن تبعها، فوجب إعتبار المنصب.
وأهل المنصب فرقتان:
فرقة هم القائلون بأن منصبها جميع قريش؛ وهم المعتزلة ومن طابقهم، وقد تبين فساد قولهم.
وفرقة قالوا بأنها مقصورة في ولد الحسن والحسين؛ وهم الزيدية الجارودية، فلو بطل قولهم - أيضاً - لخرج الحق عن أيدي جميع الأمة وذلك لا يجوز لمثل ما قدمنا.
والمسلك الثاني؛ أن نقول: قد أجمعت الأمة، بعد بطلان قول أصحاب النص وقد بطل، بما قدمنا، على جوازها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-، واختلفوا فيما سواهم، والإجماع آكد الدلالة.
أما أنهم أجمعوا على جوازها فيهم، واختلفوا فيمن سواهم؛ فذلك ظاهر؛ لأن من قال بجوازها في الناس كلهم؛ وهم الخوارج، قال بجوازها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- على أبلغ الوجوه، إذ هم من الناس؛ بل هم من خيرهم.
ومن قال بقصرها في قريش فقد قال بجوازها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- إذ هم من قريش؛ بل هم من خيرهم، فمن قصرها في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- كان، كما ترى، قد أخذ بموضع الإجماع، وتنكب طريق الخلاف؛ إذ الإمامة شرعية فلا يؤخذ دليلها إلا من الشرع، وقد اجتمعت أدلة الشرع من الكتاب الكريم والحجَّة منه، قد قدمناها في أول الكتاب في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(21)}[الطور] ، وأنهينا التعليق في ذلك إلى غايته التي تعلقت بها الحاجة هنالك.
وفي قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج:78] ، وبينا القول كذلك فيه بياناً شافياً.
[ذكر خبر الثقلين ودلالته على الإمامة]
ومن السنة الشريفة، والأدلة منها كثيرة، على ما ذهبنا إليه، متظاهرة؛ ونحن نذكر منها دليلاً واحداً كافياً كالشاهد لقولنا، والممهد لما يطابقه، وذلك قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) ، وهذا الخبر مما أطبقت الأمة على نقله واعترفت بصحته([17]) فجرى مجرى الأخبار في أصول الشريعة كالصلاة والصوم وما شاكل ذلك.
وأما الكلام في كيفية الإستدلال به على قصر الإمامة في ولد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام-؛ فوجوه: _______________
([17]) - سيأتي تخريجه...
أحدها: ما تضمن الخبر من وجوب التمسك بهم للتخويف من الضلال، فوجبت متابعتهم، والمتابعة لا تعقل إلا في القول والعمل، وذلك يتضمن معنى الإئتمام، والإئتمام فرع على الإمامة، فثبت بذلك أن الإمامة مقصورة فيهم، فوجب التمسك بمن تمت له الشروط منهم على سبيل البدل، فكانت بذلك مقصورة فيهم.
ومنها: أنه قرنهم بالكتاب، والكتاب يجب الرجوع إليه في إتباع أوامره والإنزجار عن نواهيه، وفيه محكم ومتشابه ومنسوخ، وفيهم -عَلَيْهم السَّلام- ظالم لنفسه، ومخطيء في التأويل، وسابق بالخيرات.
والظالم لنفسه بمنزلة المنسوخ؛ وهو المصرح بالمعصية، والمخطيء في التأويل هو الداخل في المذاهب الخارجة عن الحق؛ وهو بمنزلة المتشابه، والسابق بالخيرات هو الإمام ومن اقتدى به وهو بمنزلة المحكم يجب الرجوع إلى أوامره والإنزجار لنواهيه، وذلك معنى الإمامة، فوجب بذلك قصر الإمامة فيهم كما وجب قصر الأحكام الشرعية على الكتاب؛ لأنها الأدلة على إتباع السُّنة والإجماع وسائر الشرعيات على الترتيب.
ومنها: أن المتبع لهم في باب الإمامة مع كمال الشروط آمِنٌ من مواقعة الضلال؛ لإخبار من يوثق به فيما قال؛ وهو النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-؛ لأن (لن) لنفي الأبد، وقد نفى الضلال عن الكافة بمتابعتهم أبداً، ولايجوز للعاقل العدول عن الظن الأقوى إلى الظن الأضعف، فكيف بحال العدول عن العلم إلى الظن !!؟، فيجب بذلك قصر الإمامة عليهم -عَلَيْهم السَّلام-؛ لأن مثل ذلك لم يوجد في غيرهم، وكونهم عترة النبيء -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- مجمع عليه، وضم غيرهم إليهم مختلف فيه، والمجمع عليه يجب اتباعه، والمختلف فيه ينتظر فيه الدليل.
..
[معنى العترة، ومَنْ هم العترة؟]
ولأن أهل الكتب الكبار في اللغة قد ذكروا أن العترة مأخوذة من العتيرة؛ وهو نبت تشعبت عن أصل واحد شبه به أولاد الرجل وأولاد أولاده لتشعبهم عنه([18])؛ ولأن اللفظ إذا أطلق سبق إليهم دون غيرهم، وذلك دليل على أنهم عترة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- دون غيرهم، فإن عنى بذلك غيرهم كان مجازاً.
____________________
([18]) ـ قال في تخريج الشافي للمولى العلامة نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله:
قال ابن الأثير عترة الرجل: أخصّ أقاربه، قال: والعامة تظن أنها ولد الرجل خاصة، وأن عترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ولد فاطمة هذا قول ابن سيده.
قلت: الولد هو الأخص فظن العامة أصاب الواقع فلا يجوز لك إيهام خطئهم، قال ابن الأعرابي: عترة الرجل ولده وذريته وعقبه من صلبه، قال: فعترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- ولد فاطمة البتول.
وقال المنصور بالله الحسن بن محمد كقول الإمام عبدالله بن حمزة هنا أن العترة مأخوذه من العتيرة وذكره في المجمل لابن فارس، وفي الغريب لابن قتيبة وقد قال في كتاب العين حاكياً عن العرب: عترة الرجل هم ولده وولد ولده.
وقال الناصر الأطروش عليه السلام: إنما سماهم عترة؛ لأن الولد عند والده أطيب ريحانة من عترة المسك، ولهذا تقول العرب للولد ريحانة أبيه، ولا شك أن عترة المسك أطيب من الريحانة، فسمى رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أولاده بأطيب الطيب، وجعل ذلك لهم صفة غير مشتركة، والناصر غير متهم في العربية، وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- في الحسن والحسين: هما ريحانتاي من الدنيا، من رواية علي عليه السلام، وأبي أيوب، وأبي بكرة، وابن عمر...إلى قوله: وقد مضى ذكر قول علي عليه السلام، وقد سئل عن العترة في قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- وعترتي، فقال: (أنا والحسن والحسين والأئمة إلى المهدي لايفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- حوضه) أخرجه أبو جعفر القمي عن جعفر بن محمد، عن آبائه -عَلَيْهم السَّلام-، وهذا تفسير باب العلم والحكمة، ومن للأمة فيما اختلفت فيه من بعد نبيئها فافهم ، ثم إنه لاخلاف بين الأمة أن ولد الرجل وولد ولده عترة له، ومن عدا ذلك مختلف فيه، فلا بد من دليل على كونه حقيقة فيه والأصل عدم الإشتراك والحمل على المجاز أولى من الإشتراك، قال ابن أبي الحديد: وعترة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- رهطه الأدنون ولا يصح قول من قال: وإن بعدوا...إلخ ما ذكره في التخريج، انتهى.
ولأن إجماعهم منعقد على أنهم عترة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- دون غيرهم، وأن الإمامة مقصورة فيهم -بعد بطلان قول أهل النص- وإجماعهم حجَّة كما قدمنا، يجب الرجوع إليها وهم أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- بعرف الشريعة وبوضع اللغة - أيضاً - الأصلي لاستواء البنين والبنات في أصل اللغة في النسبة إلى الأب، وهم أولاد ابنته المعصومة، المطهرة، المفضلة على سائر نساء العالمين، وهم ذووا أرحام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
ولأن إجماعَهم، وهو حجَّة كما قدمنا، ثابتٌ على أنهم أولاد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-.
[وأيضاً فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا إبني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما([19]))) .
___________________
([19]) ـ أخرجه الإمام الهادي إلى الحق في الأحكام، ورواه جمال الدين علي بن الحسين بن عز الدين في نهج الرشاد بسنده إلى المؤيد بالله، وأخيه أبي طالب وأبي العباس الحسني بسندهم إلى الإمام يحيى بن محمد المرتضى عن عمه الناصر أحمد بن يحيى بن الحسين عن أبيه الهادي إلى الحق عليه السلام عن أبيه الحسين عن القاسم عن أبيه إبراهيم عن أبيه إسماعيل عن أبيه إبراهيم عن أبيه الحسن عن أبيه الحسن عن أبيه علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- أنه قال: ((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما))، وأخرج نحوه ابن عساكر والحاكم عن جابر، وأخرج نحوه أيضاً عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن فاطمة الزهراء عليها السلام وعن جابر ويشهد له حديث عمر بن الخطاب عنه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((كل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا أبوهم وعصبتهم)) أخرجه أحمد بن حنبل، والدارقطني، والطبراني، والكنجي، وأبو نعيم، والطبري، وأبو صالح المؤذن والحافظ عبد العزيز الأخضر، وابن السمان، وأخرجه الطبراني والخطيب، وأبو يعلى عن فاطمة الزهراء عليها السلام ومثله أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أنس، انتهى من التخريج بدون ترتيب.
وقوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((إن الله -تعالى- جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي في صلب علي([20]))) .
وقد دل على صحة نسبتهم إليه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- قولُ الله جل جلاله في عيسى -عَلَيْه السَّلام- حين نسبه إلى إبراهيم في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ}([21])...إلى آخر الآية [الأنعام:84]، وليس إلا من بنته، وهذا دليل واضح على صحة بنوتهما له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ]([22]).
فهم عترته بهذه الوجوه جميعها التي يوصل النظر في بعضها إلى العلم، فكيف بمجموعها !!؟، فقد صار اتباعهم واجباً.
_________________
([20]) ـ أخرجه الطبراني، وابن عدي، والكنجي، وابن المغازلي عن جابر، وأخرجه الخطيب، والحاكم أبو الخير القزويني، والكنجي عن ابن عباس، وأخرجه صاحب كنوز الطالب عن العباس، ورواه في كتاب الأخبار لأبي الحسن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن صالح بن علي بن عطية الأصم بسنده إلى العباس، ورواه بهاء الدين علي بن أحمد الأكوع بسنده عن جابر، وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن عبدالله بن يزيد الأنصاري، انتهى من التخريج باختصار يسير.
([21])- وهي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(84)وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ(85)وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ(86)وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(87)} [الأنعام]، ومحل الشاهد في هذه الآية في قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} حيث ذكر عيسى ونسبه إلى إبراهيم عليه السلام وأثبت أنه من ذريته، مع أن عيسى عليه السلام لا أب له؛ فنسبه إلى إبراهيم عليه السلام بواسطة أمه، وأثبت له البنوة كما أثبتها لسائر الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- المنتسبين إليه من قبل الأب، وهذا ظاهر بصريح الكتاب.
([22]) ـ ما بين القوسين من قوله: وأيضاً فقد قال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-...إلى قوله: دليل واضح على صحة بنوتهما له، غير موجود في (م، ن)، تمت.
وقصر الإمامة فيهم أحد اصول أقوالهم المهمَّة، وغيرهم من الأمة وقريش لم يرد في بابهم ما يوصل إلى الظن فضلاً عن العلم؛ ولأنه قد قيد الخبر في بابهم بقوله: ((أهل بيتي)) وخصهم بما ظهر بلا اختلاف من حديث الكساء حتى أن أم سَلمة -رحمة الله عليها- جاءت لتدخل معهم فدفعها وقال: ((مكانك وإنك على خير، ثم قال: اللَّهُمَّ إن هؤلاء عترتي أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) ومن احتج بهذا الخبر على وجه من الوجوه لم يفرق بينهم وبين أولاد الحسن والحسين -عليهم السلام- إلى سائر الأعصار، ولم يدخل معهم أحد من أولاد علي -عليه السلام- ولا غيرهم([23]) من بني هاشم، ولولا هذا الخبر وكون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب معهم تحت الكساء وإشراك النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم- معهم لما قضينا بأن عليًّا -عَلَيْه السَّلام- من العترة.
فإستعمال لفظ العترة في أولاد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- حقيقة، لما قدمنا، مجاز في أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- بدلالة هذا الخبر، وقد صار في علي -عَلَيْه السَّلام- لكثرة الإستعمال حقيقة، وخطاب الحكيم بالمجاز جائز في الحكمة جواز الخطاب بالحقيقة على ما ذلك مذكور في مواضعه من أصول الفقه.
[ذكر الدليل على حجيَّة إجماع الأمة]
وأما أن إجماع الأمة حجَّة: فلقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(115)}[النساء].
ووجه الإستدلال بهذه الآية: أن الله -تعالى- توعد على مخالفة سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول، وهو سبحانه بحكمته لا يتوعد على الإخلال بفعل إلا وذلك الفعل واجب، وذلك يقضي بأن إجماعهم حجَّة؛ لأنَّا لا نريد بالحجَّة إلا ما يجب الرجوع إليه ولا يجوز العدول عنه.
_____________
([23])ـ أي أهل الكساء.